............ تفسير ابن باديس ..............
﴿في مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير﴾
للإمام العلامة: "عبد الحميد محمد ابن باديس الصنهاجي" (١٣٠٨ - ١٣٥٩هـ)
جمع وترتيب:
د. توفيق محمد شاهين جامعة الأزهر،
محمد الصالح رمضان أستاذ بوزارة التربية الجزائرية،
علق عليه وخرج آياته وأحاديثه أحمد شمس الدين.
دار الكتب العلمية
بيروت- لبنان
_________
الكتاب به أخطاء مطبعية تم إصلاحها ووضع التصويب بين [[معكوفتين]].
1 / 1
جميع الحقوق محفوظة
لدار الكتب العلمية
بيروت- لبنان
الطبعة الأولى
١٤١٦هـ/١٩٩٥م
دار الكتب العلمية بيروت لبنان.
1 / 2
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
مقدمة
الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين وأصحابه الكرام المنتجبين.
أما بعد؛ فلا شكّ أن المسلمين اليوم، أكثر من أي يوم آخر، بحاجة ماسّة إلى التوجّه المباشر نحو القرآن الكريم لاستنباط معانيه وفهم ألفاظه ومبانيه، بعيدًا عن ربقة التقليد وجمود التفكير الذي قد يكون أحد أهم الأسباب التي أدت بهم إلى ما هم عليه اليوم من حالة مزرية ووضع لا يحسدون عليه.
والإمام عبد الحميد بن باديس- ﵀ واحد من مجموعة من المصلحين المسلمين الذين دفعوا العقول في هذا الاتجاه؛ كان أولهم في القرن الماضي جمال الدين الأفغاني، ثم تبعه الإمام محمد عبده، ومن بعدهما جاء في هذا القرن الشيخ رشيد رضا والإمام ابن باديس. وقد رأى هؤلاء الأئمة أن الخلاص من التخلف والتبعية لا يكون إلاّ باتخاذ الإسلام منهجا للحياة في كل زمان وكل مكان؛ ولا يكون ذلك إلاّ بانتهاج سبيل القرآن علما وعملا.
وقد بين الإمام ابن باديس في تفسيره- الذي نضعه بين يدي القارئ الكريم- مختلف نواحي القيم الإسلامية الواجب اتباعها؛ فركز على مقاصد القرآن الكريم التي يمكن تلخيصها بما يلي:
أولا: الناحية العقيدية التي تتناول الجانب الإيماني بالله والرسل والملائكة واليوم الآخر.
ثانيا: الناحية الأخلاقية التي يدعو القرآن إلى التلبس بها لتهذيب النفوس وتزكيتها.
ثالثا: الناحية الحياتية العملية، وهي التي تتناول الأحكام التي تنظم علاقة الفرد بربه وبنفسه وبغيره من الأفراد وبمجتمعه ككل.
وأسفنا الوحيد هو أن هذا التفسير لم يأتنا كاملا، فاقتصرنا منه على ما وصلنا؛ وما الكمال إلاّ لله وحده.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
أحمد شمس الدين
بيروت- لبنان
1 / 3
تعريف بالإمام عبد الحميد بن باديس*
تمهيد
في الوطن الإسلامي والعربي حيوية كامنة لا يغلبها شيء، وتلك دلالة تدعو إلى التفاؤل والثقة ... فبعد أن عاش الاستعمار الفرنسي في الجزائر أطول من عمره، كان لا بد له من أن يصطدم بشعب الجزائر الباسل في معركة فاصلة، وخاضتها الجزائر صابرة مجاهدة، في حرب ضارية دامت أكثر من سبع سنوات، وقدمت فيها أكثر من مليون شهيد، فكانت الحرية كاملة سابغة، وكان النصر لذيذا وعزيزا.
والخطوط العريضة في تقسيم التاريخ الجزائري، منذ الاحتلال حتى اليوم يمكن أن تذكر على هذا النحو:
١ - فترة التحول والفرنسة التي أرادها المستعمر لمحو الشخصية الجزائرية والقضاء على اللغة العربية والدين الإسلامي منذ الاحتلال في يوليو سنة ١٨٣٠هـ، حتى الحرب العالمية الثانية سنة ١٩٣٩م.
٢ - وفترة استرداد هذه الشخصية والمحافظة عليها، والكفاح من أجلها طوال مدة الاستعمار.
٣ - وفترة الصمود للثورة الكبرى في أول نوفمبر سنة ١٩٥٤م، التي كانت فيها الجزائر مع الله فكان الله معها، وحرصت على الموت فوهبت لها الحياة ثم انبلج نور الحرية الصادق في مارس سنة ١٩٦٢م، وأصبح الجزائريون أحرارا كما خلقهم الله، وأعزة كما أرادهم الإسلام.
وسواء أكانت الشخصيات تخلق المواقف، أو العكس من ذلك .. فقد برز خلال تلك الفترة شخصيات فذة ورائدة، أدت دورها ببسالة وإقدام، ولقنت الدنيا أعظم الدروس، وضربت أروع الأمثال، ومن أبرز هؤلاء:
١ - الأمير عبد القادر الجزائري، الذي قاد ثورة الجزائر من سنة ١٨٣٢م حتى سنة ١٨٤٧م.
٢ - وبو معزة، الذي قاد ثورته سنة ١٨٤٤م.
_________
* كتب هذا التعريف توفيق محمد شاهين.
1 / 5
٣ - وبو بغلة، وثورة سنة ١٨٥٢، واستمرت خمس سنوات، ولعبت فيها المجاهدة (لالا فاطمة) دورا بطوليا عظيما.
٤ - والمقراني، وثورته سنة ١٨٧١م.
٥ - وشقيق المقراني (بو مزراق)، وثورته سنة ١٨٧٢م.
٦ - وأولاد سيدي الشيخ، وثورتهم التي امتدت من سنة ١٨٦٨م حتى سنة ١٨٨١م.
٧ - وبو زيان، وثورته سنة ١٩١٤م.
وغير هؤلاء كثيرون وكثيرون، من الجنود المجهولين، والشهداء الخالدين. وإذا كنا لا نستطيع لهم إحصاء، فحسبهم أن إحصاءهم في السماء مع الأبرار والصديقين والأنبياء.
ولا عجب في ذلك، فهم أحفاد خالد بن الوليد، وسعد بن أبي وقاص، وعقبة بن نافع الفهري، وطارق بن زياد، والأمير عبد القادر، والمقراني.
وجاء في إثر هؤلاء الزعماء الذي مهدوا للثورة الكبرى، وحافظوا طويلًا على شخصية الجزائر العربية المسلمة، وقادوا النهضة في نواحيها المختلفة؛ العلامتان: عبد الحميد بن باديس، والشيخ محمد البشير الإبراهيمي. إذ جلس الأول للتدريس، والجهاد المضني، والإرشاد والوعظ، وخلق الرجال أكثر من ربع قرن، كانت خيرا وبركة على الجزائر والإسلام، فمن هو ابن باديس؟
مولده ونشأته:
عبد الحميد بن محمد المصطفى بن مكي بن باديس الصنهاجي، ولد سنة (١٣٠٨هـ/١٨٨٩م) من أسرة معروفة بالعلم والجاه والثراء.
وكان والده ملجأ الخائفين، وكان من أبرز الرجال في قسنطينة، وكان درعًا حصينًا لولده، أبعد عنه كيد الاستعمار، ودافع عنه طويلًا. ويحكي ابن خلدون: أنه اجتمع أربعون عمامة، من أسرة باديس في وقت واحد، في التدريس والإفتاء والوظائف الدينية.
والأسرة تنحدر من الصنهاجيين، وهي قبيلة ملك وسلطان، اشتهر منها المعز بن باديس. وأسرة باديس تنتمي إلى الطريقة القادرية.
حفظ عبد الحميد القرآن الكريم على الشيخ محمد المواسي، ثم اختار طريق العلم، فأسلمه والده إلى العالم الورع التقي حمدان الونيسي، فرباه على العلم والفضل والأدب، وأوصاه بالابتعاد عن الوظيف، وقراءة العلم للعلم لا للرغيف.
وتزوج سنة ١٩٠٤م، وأنجب ولدا أسماه إسماعيل، حفظ القرآن وحضر العلم، ثم توفي وهو صغير، ولم ينجب غيره.
وارتحل إلى جامع الزيتونة في تونس سنة ١٩٠٨م لطلب العلم وتتلمذ على صفوة علمائه الشيخ محمد النخلي القيرواني، والعلامة محمد الطاهر بن عاشور، وكان لهذا فضل تكوينه الأدبي
1 / 6
واللغوي. والشيخ محمد الخضر حسين، والشيخ الصالح النيفر، وغيرهم من أفاضل علماء جامعة الزيتونة.
وتخرج من الزيتونة سنة ١٩١٢م بشهادة عليا (التطويع).
وذهب إلى الحج سنة ١٩١٢، والتقى في المدينة المنورة بشيخه المهاجر حمدان الونيسي، والشيخ البشير الإبراهيمي، وتدارسوا وضعية الجزائر وضرورة إنشاء "جمعية العلماء المسلمين الجزائريين"، وإن تأخر إنشاؤها حتى سنة ١٩٣١م.
وزار لبنان وسوريا ومصر، في طريق عودته، وأجازه الشيخ بخيت من كبار علماء الأزهر بشهادة العالمية من الأزهر الشريف.
السمات الأساسية في شخصيته:
كان ابن باديس أبيض اللون مشربا بحمرة، كث اللحية، نحيل الجسم، واسع العينين، نافذ النظرات، زاهدا عفيفا، متسامحا ورعا، رفيقا متفائلا، أوابا توابا، يعفو عمن أساء إليه، صارما في الحق، له شجاعة نادرة، وصبر على العمل، جهوري الصوت حسن السمت، نظيف الهندام، في بساطة محببة.
لا ينطق إلاّ في حق، ولا يسكت على باطل، يرد على معارضيه بطول نفس وسعة صدر، ويتناول الموضوع فيجلي جميع أطرافه، محافظا على مواعيده، ومنظما لأوقاته ذاكرا للقرآن، ومتذكرا للسنة في فراغه وراحاته.
له كثير من صفات الأفغاني، والشيخ محمد عبده.
وعلى الجملة، فهو شخصية غنية ثرة فياضة مؤثرة متأثرة:
لَيْسَ عَلَى اللهِ بِمُسْتَنْكِرٍ ... أَن يَّجْمَعَ العَالَمَ فِي وَاحِدٍ
العوامل التي أثرت فيه:
من أهم العوامل التي أثرت في تكوينه.
١ - أساتذته الذين سبقت الإشارة إليهم، وغيرهم. إذ غرسوا فيه خلق العلماء، وتواضع الحلماء، وصفات القادة والمصلحين.
٢ - أسرته وبيئته، ويحدثنا عن ذلك زميله في الجهاد، الشيخ البشير الإبراهيمي:
«الشيخ عبد الحميد بن باديس، من أعلم علماء الشمال الإفريقي ولا أغالي، وباني النهضات العلمية والأدبية والاجتماعية والسياسية بالجزائر ... وبيت ابن باديس في قسنطينة بيت عريق في السؤدد والعلم، ينتهي نسبه في سلسلة كعمود الصبح إلى المعز ابن باديس، مؤسس الدولة
1 / 7
الصنهاجية الأولى، التي خلفت الأغالبة على مملكة القيروان، ومدت ظلها على شرق الجزائر حينا من الدهر».
٣ - وتأثر بالحركة الإصلاحية للأفغاني ومحمد عبده، واقتفى أثرهما، وسلك طريق الشيخ عبده في التربية والتعليم، والإصلاح الديني واللغوي. وأعجب بحركة (المنار) والشيخ رشيد رضا، وبعض تلاميذه يقولون: إنه سمع من الشيخ محمد عبده حينما زار الجزائر ودرس بها بعض الدروس، حين عودته من المنفى في باريس.
٤ - وتأثر بابن تيمية وسلفيته، ويعتبره بحق المجدد الواعي والمصلح في شيخوخة الفكر الإسلامي.
٥ - وتأثر وأثر في كثير من زملائه المخلصين العاملين معه مثل: الشيخ البشير الإبراهيمي، والشيخ الطيب العقبي، والشيخ العربي التبسي، والشيخ مبارك الميلي وغيرهم.
٦ - فضلا عن أن نفسه كانت خيرة، وهمته عالية، وعقله مستنيرا، وقلمه سيالا، ومعلوماته وفيرة ومنظمة، وبديهته حاضرة، وذكاءه وقادا.
٧ - واتخذ من القرآن الكريم، والسنة الشريفة نبراسا ومنهاجا، وتملكه الفضل والنبل، وأسره الخير والفضل.
إمكانياته وجهوده:
إمكانياته كبيرة، وجهوده عظيمة، أعطى الجزائر الكثير، واكتفى بالقليل قوتا ومتاعا، ومن جوانب جهوده، ما يلي:
١ - كان في الحق عاصفة لا تهدأ إلاّ إذا انتصر العدل، وفي الخير نفحة لا تسكن إلاّ إذا تنفس الإحسان.
٢ - وهو مدرس ماهر، لا يكل ولا يمل، يدرس من بعد صلاة الفجر إلى صلاة العشاء مع قسط ضئيل للراحة والصلاة والغداء، ثم يعظ الناس في مسجده بعد صلاة العشاء إلى ما شاء الله، لأنه أشفق على ينبوع الثقافة الإسلامية أن يصد تياره ما تراكم فيه من غثاء وحطام، فانبرى بالتدريس والإصلاح ليجعل للإسلام النقي الواضح قولا في كل مسألة، ورأيا في كل معضلة، وتوجيها في كل قصد.
ودرس في الجامع الأخضر في قسنطينة من سنة ١٩١٣م حتى لقي ربه في إبريل سنة ١٩٤٠م.
٣ - وهو كاتب ممتع، وسلفي النزعة في كتابته، ومهذب في كتاباته، قليل السخرية بالأعداء والمبغضين، ولكن قلمه فيهم أمضى من السنان، وأسلوبه من السهل الممتنع، تدرج أسلوبه حتى
1 / 8
بلغ منزلة رفيعة، له بصر بالأدب وباع في اللغة وفقهها، محب للأدب القديم والحديث، يرتجل الشعر على البديهة ولكن شعره أقل جودة بكثير من نثره.
وصفه شاعر الجزائر المجيد الشيخ محمد العيد بقوله:
يراعك في التحرير أمضى من الظبا ... وأقضى من الأحكام أيان يشهر
قبست من القرآن مشعل حكمة ... ينار به السر اللطيف ويبصر
ولا يتكلم ولا يدرس إلاّ بالعربية الفصحى، غير متكلف فيها، ولا متقعر.
٤ - وهو فقيه من الطراز الأول، خبير بمذهب مالك، متفقه على غيره من المذاهب ويمقت التعصب لمذهب معين، وله فتاوى عظيمة، تحس منها أنه إهاب مليء علما منظما.
٥ - وهو مفسر ممتاز، له استقلاليته في الفهم والرأي، يقرأ التفاسير، ثم يجعل من عقله مصفاة لها، فلا يخرج منها إلاّ ما صح ونفع، ولاءم العصر، وصدق الخبر، مع حسن عرض، واستنباط واع، واستنتاج للعبرة، وحث على سنة، وإخماد لبدعة، في أسلوب عصري، وتطويل غير ممل، وإيجاز غير مخل.
فسر القرآن الكريم كله في خمس وعشرين سنة، أي ما يوازي مدة نزوله، واشتغل بتأليف الرجال عن تأليف الكتب، فلم يبق من تفسيره سوى هذا القدر الباقي في مجالس التذكير، مما كان ينشر في مجلة الشهاب، وهناك فرق كبير بين التفسير الخاص لطلابه، والعام في الوعظ والإرشاد، وما كان يكتب في مجالس التذكير ليقرأه العام والخاص. وهكذا اجتمعت عنده عدة الجهاد والاجتهاد، وأنار الله بصيرته، فأحيا شريعة، وأقام مجتمعا، وأنقذ شرفا وأمة ولغة.
٦ - وهو محدث بصير، شرح موطأ مالك ﵁ كله، ولم يبق من هذا الشرح أيضا إلاّ ما جمعناه في كتاب بعنوان: "من هدي النبوة" وهذا يشهد له بطول الباع، والفهم التام لسنة الرسول ﷺ.
٧ - وهو أديب ذواقة، يعشق الأدب القديم والحديث، وينقده، ويعطي لطلابه وزائريه زبدة ما قرأ، ويوازن بين شعر وشعر، وينشر الملح والطرائف وله باب في الشهاب بعنوان "من أحسن القصص والأدب" جمع فيه بين كل طريف وظريف.
٨ - وهو صحفي وقور، هادئ رزين، يختار الموضوع، ويحدد المشكلة ويصف الدواء ويهتم بمصالح المسلمين في جميع أنحاء الدنيا، ومشاكل بلاده في المقام الأول، ويقرأ الصحافة المحلية والأجنبية ويشيد بالصحافة الإسلامية، ويحمل على الباطل في غير هوادة، وينتصف للحق أينما كان.
وأصدر المجلات الآتية: "المنتقد"، و"السنة"، و"الصراط"، و"الشريعة"، و"البصائر"، وأنشأ "الشهاب". وكان قويًا في الحق، ولم يطق الاستعمار ذلك، فعطل كل صحفه، وبقيت الشهاب طويلًا حتى جاءت الحرب العالمية الثانية.
1 / 9
٩ - وهو مرب من الطراز الأول: أسس المدارس الابتدائية الحرة العربية في طول البلاد وعرضها، ودعا إلى تعليم البنت الجزائرية، وأخذ بيد تلاميذه وأبنائه، وعين النابهين منهم في المدارس المذكورة بأجر ضئيل يفي أو لا يفي بضروريات الحياة. ويحث المواطنين على احترامهم، ومساعدتهم، وكان لوالده فضل كبير في هذا الميدان.
١٠ - وأسس النوادي في العواصم الجزائرية لنشر الثقافة والتربية الدينية والوطنية.
١١ - وأسس "جمعية العلماء المسلمين الجزائريين" وانتخب رئيسًا لها طول حياته، تقديرًا لخدماته وجهوده، وكفاءته.
١٢ - ونقى الدين من البدع والخرافات والأباطيل، وحمل على البدع حملة شعواء ولم تأخذه في الحق لومة لائم، حتى عاد للدين صفاؤه ونقاؤه.
١٣ - ونشر الكتب السلفية القيمة، وعمل على إحياء الكتب العربية القديمة، واحتفل باللغة العربية لتحيا رغم أنف الاستعمار.
١٤ - وأسس جمعية التجار المسلمين، والجمعيات الاقتصادية لإنعاش الاقتصاد والمحافظة على الثورة ودعا أبناء الوطن إلى ولوج باب التجارة بشتى الطرق.
١٥ - وأسس "الميتم الإسلامي": (جمعية رعاية الأيتام) والجمعيات الخيرية لإنقاذ الطفولة والنشء من التشرد والضياع.
١٦ - واشتغل بالسياسة، وخاض حقلها في براعة وذكاء، وناهض الاستعمار وما مالأه طول حياته رغم المغريات والمرهبات. وكان يحتج باسمه الخاص في أحرج المواقف، وباسم جمعية العلماء في المواقف العادية، حفظا للجمعية وصونا لها من القلاقل، وتفاديا لها من الغلق والكيد والبطش.
١٧ - وأنشأ مطبعة عربية في قسنطينة طبعت صحفه ومجلاته، وما يحييه ويختار من كتب ومنشورات.
١٨ - وعني بتأسيس الكشافة الإسلامية، والمنظمات القومية.
١٩ - وأنشأ جمعية الشباب الفني للموسيقى والفنون الجميلة!!
٢٠ - وهو خطيب مفوه، شبهه بعضهم بـ "ميرانت، وميرابو".
٢١ - وجعل معهده فرعًا لجامع الزيتونة، واعترفت له الزيتونة بذلك تقديرًا لعلمه وفضله وجهوده.
٢٢ - وأرسل طلابه إلى الأزهر، أو إلى جامعة الزيتونة أو إلى جامعة القرويين في المغرب، فعادوا علماء عاملين في الجزائر.
1 / 10
تلكم هي أهم الخطوط البارزة في جهاده، ذكرناها مجملة في هذه العجالة.
منهاج ابن باديس العلمي وصعاب لقيها:
خلق المستعمر أوزارًا كثيرة، ولذا كان على ابن باديس أن يبدأ من الصفر:
فجلس للتدريس في قسنطينة متطوعًا ابتغاء وجه الله منذ (١٩١٣م- ١٩٤٠م). وتسامع الناس به، فتقاطروا إليه يتعلمون دينهم ولغتهم، حتى ضاقت بهم قسنطينة، وأقض ذلك مضاجع الاستعمار، وحث على التعليم وإنشاء المدارس وسارعت الأمة إلى تلبية الدعوة، وبنت حوالي ١٧٠ مدرسة حرة عربية، كان فيها ما يزيد على خمسين ألف طالب وطالبة، فهو لم يملك ولم ير سلاحا أقوى من تعليم المغلوبين المستضعفين، يقودهم إلى النصر المبين.
وفي سنة ١٩٢٢م تأكد الشيخ أن الطرقية المنحرفة في الجزائر سبب من أسباب البدع والخرافات، ومساعدة المستعمر، فرأى مناوأتها ومنازلتها وجهًا لوجه، وحمل عليها حملات قاسية، وأنشأ لذلك جريدة (المنتقد) ومن اسمها يظهر غرضها، فكانت نارًا ونورًا، ولكن المستعمر أخرس الجريدة بسرعة، وأصدر الشيخ غيرها.
وفي مقالاته الصحفية ردد كثيرًا أن مقومات الجزائر ثلاثة: الإسلام، والعربية، والأرض الجزائرية بحدودها. ودعا إلى وحدة المغرب العربي الكبير (من طرابلس الغرب حتى المحيط الأطلسي). ودعا إلى القومية العربية، ووحدة الوطن العربي الكبير، وأشاد في كل مناسبة بالعرب والعربية والإسلام والوطنية.
وعاونه المجيدون والنابهون من أصدقائه وأبنائه الطلاب، وانبثوا في أنحاء التراب الوطني، يحملون رسالة العربية والإسلام، فما انقضت مدة حتى كان الفوج الأول من تلاميذه مستكمل الأدوات من فكر صحيحة، وعقول نيرة، ونفوس طامحة، وعزائم صادقة، وألسن صقيلة، وأقلام كاتبة، وكانت تلك الكتائب الأولى من تلامذته هي طلائع العهد الجديد الزاهر.
وإن "لعبد الحميد بن باديس" منة على كل من يحمل بين جنبيه روحا جديدة أو فكرة سديدة من أبناء الجزائر أينما كانوا، لا فرق في ذلك بين طلاب العلم، وبين غيرهم من طلاب الحياة في جميع فروعها.
ورأى ابن باديس أن مصائب الجزائر هي: الاستعمار الضاري، المعتمد على الحديد والنار. والاستعمار الروحي الذي يمثله بعض مشايخ الطرق المضلين أو الجاهلين المتغلغلين في الشعب والممالئين لفرنسا.
فخطب ابن باديس وحاضر، وكتب وناظر وناقش وجادل في الصحافة، والمساجد، والأندية، والمحافل والأسواق .. ونادى بضرورة تعليم الصغار ولو في بيوت آلهم، وطالب برد أوقاف المسلمين التي استولى عليها المستعمر، احترامًا لشرط الواقف، وليكون للمسلمين عزة وكرامة، ولتنفق في سبيل الله الذي أوقفت من أجله، ونادى باستقلال القضاء، وحرية التعليم،
1 / 11
وإباحته للجنسين، وعدم التدخل الحكومي في تعيين رجال الدين. ولم يعرض الإسلام كقطعة من التاريخ، للعرض وليست للمس، وإنما عرضه حيا يوائم الحياة القائمة ويواكبها في واقع الأحياء.
ولم يكن طريقه مفروشًا بالورود، وإنما كان محفوفا بالمخاطر والأهوال، ولكنه توكل على الله، واعتمد عليه، وعمل بوصية شيخه أحمد الهندي حينما قال:
«أذكر أنني- ابن باديس- لما زرت المدينة المنورة، واتصلت فيها بشيخي الأستاذ حمدان الونيسي، وشيخي أحمد الهندي، أشار علي الأول بالهجرة إلى المدينة، وقطع كل علاقة لي بالوطن، وأشار علي الثاني وكان عالما حكيما بالعودة إلى الوطن، وخدمة الإسلام والعربية فيه بقدر الجهد. فحقق الله رأي الشيخ الثاني، ورجعنا إلى الوطن بقصد خدمته. فنحن لا نهاجر، نحن حراس الإسلام والعربية والقومية ... في هذا الوطن» ..
وتصدى له الاستعمار، وحماه والده كثيرا وطويلا في أول الأمر، ولكن والي قسنطينة ضغط على والده، ليجبر ولده على السكوت وقبول وظيف كبير ديني، ويترك ما هو فيه ... وهدده والده بالمقاطعة، وقبلها عبد الحميد وفضل المقاطعة على الوظيف والسكوت، وقال لوالده: «لا اتصال لنا بعد اليوم إلاّ ما يوجبه الإسلام». وهكذا عاش مخلصًا في القول والعمل، وجريئًا وحرًا في الرأي، صافي النفس والقلب.
وأصدر "شوطان" وزير داخلية الجزائر قرارًا في مارس سنة ١٩٣٨م بمنع تعليم العربية في الجزائر، واعتبارها لغة أجنبية، فشرد القراد ٩/ ١٠ من أبناء الشعب، لولا أن استمرت مدارس جمعية العلماء مفتوحة رغم العنت والإرهاق والتضييق، فكانت نافذة للرحمة والعلم ... ويعتبر عبد الحميد بن باديس زيادة الضغط على الجمعية أمارة نجاحه، ونجاح زملائه، إذ يقول: «إنا بالأمس حين لم نلتفت هذه اللفتة إلى ماضينا وقوتنا السماوية ما كنا نرهب أحدا، ولا نستطيع أن نشعر بوجودنا أحدا. أما اليوم فبهذه اللفتة القصيرة إلى تراثنا المجيد استطعنا أن نعلن عن وجودنا، ونخيف بعد أن كنا نخاف». وأبى أن يسلم مدرسة التربية إلى فرنسا إلاّ إذا مات في هذا السبيل.
ويعلن الكردينال "لا فيجري" سنة ١٩٣٠: «أن عهد الهلال في الجزائر قد غبر، وأن عهد الصليب قد بدأ، وأنه سيستمر إلى الأبد».
فيعلن ابن باديس تأسيس جمعية العلماء المسلمين سنة ١٩٣١م، لا على أساس تعصبي ولكن على أساس تعايش سلمي.
ويهدد الوزير الفرنسي، وفد المؤتمر الإسلامي سنة ١٩٣٦م بأن «لدى فرنسا مدافع طويلة» ويرد عليه ابن باديس بأن لدينا مدافع أطول و«إنها مدافع الله».
وكان يتمنى أن يرى التعليم العالي في الجزائر، ويفتح كلية لذلك، فكان يقول لزملائه: «أنا أستكفيكم في كل أمر يتعلق بالكلية إلاّ الاستعمار فأنا أكفيكموه، فخلوا بيني وبينه».
1 / 12
وعندما لاحت نذر الحرب العالمية الثانية، وطلب من جمعيته أن ترسل برقية تأييدا لفرنسا قال ابن باديس: «لن أمضيها ولو قطعوا رأسي» وترفض أغلبية الأعضاء، ثم يعلن ابن باديس: «ولو كان أغلبيتكم تؤيد إرسال البرقية ما كنتم ترونني في مجلسكم هذا بعد اليوم» ثم قال: «تقطع يدي، ولا أوافق المجرم على إجرامه، والظالم على ظلمه».
وهكذا عاش من نفسه الكبيرة في جيش، وإن خيل أنه إنسان.
ويستدعيه حاكم قسنطينة (الفرنسي) والحرب الثانية على الأبواب، ليسأله عن مصيرها ومصير الجزائر معها؟
وفي موقف صلب، وتقريع مؤلم، وتوبيخ بين، يجيبه ابن باديس:
«إن الجزائر ثلاث طبقات: طبقة الأكثرية وقد قتلتم إحساسها بالحياة، فهي لا تفرق بين فرنسا وبين ابن باديس.
وطبقة الأقلية الواعية، وقد ملأتم أفواهها بعظم الوظيف تلوكه بين أشداقها وهي تحسب أنه غذاء.
وطبقة المعزولين (يقصد أعضاء جمعية العلماء المسلمين المضطهدين المطاردين) يعيشون للمستقبل، ولا خطر منهم على دولتكم اليوم» ثم انصرف الشيخ.
وتضيق به الطرقية والاستعمار، فيوعزون إلى مجرم بالترصد للشيخ ابن باديس لقتله ليلا بعد انصرافه من مسجده، ويشهر المجرم السكين على الشيخ ويمسك الشيخ بتلابيب المجرم والسكين في يده، ويتقاطر الناس لنجدته، ثم يعفو الشيخ عن الجاني، لأنه جاهل، ولأنه آلة في يد غيره.
ويسجل هذا الحادث في قصيد طويل شاعر الجزائر الشيخ محمد العيد، فيقول في مطلعه:
حَمَتْكَ يَدُ المَوْلَى وَكُنْتَ بِهَا أَوْلَى ... فَيَا لَكَ مِنْ شَيْخٍ حَمَتْهُ يَدُ الَمْولَى
وتنبأ بإعلان الثورة الكبرى على فرنسا، وعبأ لها الجهود، وأشار إلى جبال (أوراس) الحصينة، وقال لأبنائه وطلابه: «من هنا تبدأ الثورة».
بل وحدثني بعض أصدقائه وطلابه، بأنه بايع بعضهم فردا فردا، استعدادا للتعبئة ولإعلان الجهاد الإسلامي والحرب ضد فرنسا، ولكن المنية عاجلته.
وهكذا ظل ابن باديس طول حياته مجاهدا، فكان الحركة التي لا تهدأ في خدمة الإسلام بالتعليم والتوجيه، ولا نظن عالما من علماء العصر- في وقته- بذل من الفكر والجهد في إعلام كلمة الله، وإنقاذ تراثنا وتوجيه مجتمعنا ما بذل هذا الإمام العظيم.
1 / 13
آثار ابن باديس:
أثر عنه قوله: «شغلنا تأليف الرجال عن الكتب». ولم يخلف لذلك كتبا كثيرة، ولكن ما خلفه فيه قوة وعظمة، وأصالة وتجديد، وكفاح مجسد لجهاد هذا الإمام في سبيل الله والوطن.
وكان الاستعمار يحرق كل مجلة يعز عليها إبان الثورة، أو كتابات عربية، ومن ثم فقد ضاعت كتابات كثيرة لابن باديس غير أن بعض الغيورين والمحبين دفن بعض هذه المجلات في التراب، وبعد سبع سنوات ونصف كشف عنها، فبقي البعض، وأكلت الأرضة والأتربة والطين البعض الآخر .. غير أن المجلات الباقية وفيها آثاره الباقية، أمكن أن نستخلص منها ما يلي:
١ - تفسير ابن باديس في مجالس التذكير ................................... طبع سنة ١٩٦٤م
٢ - من الهدي النبوي .................................................... طبع سنة ١٩٦٥م
٣ - رجال السلف ونساؤه ............................................... طبع سنة ١٩٦٥م
٤ - عقيدة التوحيد من القرآن والسنة .................................... طبع سنة ١٩٦٤م
٥ - أحسن القصص ...................................................... لم يطبع بعد
٦ - رسالة في الأصول .................................................... لم يطبع بعد
٧ - مجموعة كبيرة من المقالات السياسية، والاجتماعية، جمعت مع بعض ما سبق، وطبعت في كتاب.
٨ - مجموعة خطب ومقالات ابن باديس، طبعت في كتاب سنة ١٩٦٦م.
وتلاميذ ابن باديس اليوم في الجزائر هم عمد النهضة وعمادها، وهم الذين اصطلوا بنيران الثورة الجزائرية الكبرى، وكثير منهم كان الوقود لها.
وكثير منهم اليوم يفخر بأنه من تلامذة ابن باديس، وتحتفل الجزائر بذكراه في كل عام تخليدا لذكراه.
وعلى الجملة لم تذهب جهود ابن باديس سدى، لأنه لم يكن علما على شخص، وإنما كان علما على ثروة ضخمة من علوم القرآن، وفنون السنة تجمعت، وتمحصت، وعرفت طريقها الحق منذ تطوع من الزيتونة، وتصدر للجهاد، فنهض برسالته حفيا وفيا لا يتبرم بها، لأنها حاجة نفسه، ولا يتخفف منها لأنها رسالة حياته، فخلد في الحياتين:
حياة الناس بالذكر الحسن، وفي الباقية بما قدم من صالح الأعمال.
وفاته:
وبعد حياة حافلة بجلائل الأعمال، لقي عبد الحميد بن باديس ربه- راضيا مرضيا- في ٨ من ربيع الأول سنة ١٣٥٩هـ (١٦ من إبريل سنة ١٩٤٠م) إثر مرض قصير لم يطل، وحامت الأقاويل حول موته:
1 / 14
فقيل: إنه مات مسموما، وقيل بل كان موته طبيعيا.
وهكذا الشأن في موت العظماء. وبكته الجزائر كلها، والمغرب العربي، وخرجت الجزائر تشيعه إلى مثواه الأخير -رغم ظروف الحياة القائمة- في قسنطينة، ودفن بها في احتفال مهيب.
﵀ رحمة واسعة، وأمطر عليه شآبيب رحمته ورضوانه، وجزاه عن الإسلام وأهله، وعن عارفي فضله أحسن الجزاء.
الجمعة ٩ من ذي الحجة سنة ١٣٩٠هـ
٥ من فبراير سنة ١٩٧١م
توفيق محمد شاهين
1 / 15
خصائص التفسير الباديسي (*)
الحاجة إلى القرآن:
القرآن كتاب الإنسانية العليا، استشرفت إليه قبل أربعة عشر قرنًا حين ضامها أبناؤها فعقلوها، فارتكسوا (١) في الحيوانية السفلى، فأخلدوا إلى الأرض، فأكثروا فيها الفساد، فأنزله الله من السماء ليصلح به الأرض وليدل أهلها المستخلفين عليها من بني آدم، على الطريق الواصلة بالله، ويجدد ما رث (٢) من علائقهم به.
وما أشد شبه الإنسانية اليوم بالإنسانية قبل نزول القرآن، في جفاف العواطف، وضراوة الغرائز، وتحكم الأهواء، والتباس السبل، وتحكيم القوة، وتغول الوثنية المادية.
وما أحوج الإنسانية اليوم إلى القرآن، وهي في هذا الظلام الحالك من الضلال، وقد عجز العقل عن هدايتها وحده، كما عجز قديمًا عن هدايتها، لولا تأييد الله له بالأمداد السماوية من الوحي الذي يقوي ضعفه إذا أدركه الوهن، ويصلح خطأه إذا اختل ميزانه.
وكما أتى القرآن لأول نزوله بالعجائب المعجزات في إصلاح البشر فإنه حقيق بأن يأتي بتلك المعجزات في كل زمان، إذا وجد ذلك الطراز العالي من العقول التي تفهمته، وذلك النمط السامي من الهمم التي نشرته وعممته، فإن القرآن لا يأتي بمعجزاته ولا يؤتي آثاره في إصلاح النفوس إلاّ إذا تولته بالفهم عقول كعقول السلف، وتولته بالتطبيق العملي نفوس سامية وهمم بعيدة كنفوسهم وهممهم.
أما انتشاره بين المسلمين بهذه الصورة الجافة من الحفظ المجرد، وبهذا النمط السخيف من الفهم السطحي، وبهذا الأسلوب التقليدي من التفسير اللفظي- فإنه لا يفيدهم شيئًا، ولا يفيد بهم شيئًا، بل يزيدهم بعدا عن هدايته، ويزيد أعداءهم استخفافًا بهم، وإمعانًا في التكالب عليهم، والتحكم في رقابهم وأوطانهم.
_________
(*) كلمة كتبها العلامة الشيخ البشير الإبراهيمي قدم بها لآيات من سورة الفرقان، وهي التي جمعها المرحوم السيد "أحمد بوشمال" وطبعها عام ١٣٦٧هـ.
(١) هبطوا.
(٢) ما بلي.
1 / 16
ولو فهمنا القرآن كما فهمه السلف، وعملنا به كما عملوا به، وحكّمناه في نفوسنا كما حكموه، وجعلنا أهواءنا ومشاربنا تابعة له، وموزونة بميزانه، لو فعلنا ذلك لكنّا به أعزة في أنفسنا وأئمة لغيرنا.
معنى التفسير:
تفسير القرآن، تفهيم لمعانيه وأحكامه وحكمه وآدابه ومواعظه. والتفهم تابع للفهم؛ فمن حسن فهمه أحسن تفهيمه، ومن لم يحسن فهمه لم يحسن تفهيمه، وإن كتب فيه المجلدات، وأملي فيه ألوف المجالس.
وفهم القرآن يتوقف - بعد القريحة الصافية، والذهن النير- على:
التعمق في أسرار البيان العربي.
والتفقه لروح السنة المحمدية المبينة لمقاصد القرآن، الشارحة لأغراضه بالقول والعمل.
والاطلاع الواسع على مفهوم علماء القرون الثلاثة الفاضلة.
ثم على التأمل في سنن الله في الكائنات.
ودراسة ما تنتجه العلوم الاختبارية من كشف لتلك السنن وعجائبها.
وقد فهمه السلف حق الفهم ففسروه حق التفسير، مستعينين بإرشاده على فقه سنن الأكوان.
ولو لم ينحسر تيار الفهوم الإسلامية للقرآن، بما وقف في سبيله من توزع المذاهب والعصبيات المذهبية، لانتهى بها الأمر إلى كشف أسرار الطبيعة ومكنونات الكون، ولسبق العقل الإسلامي إلى اكتشاف هذه العجائب العلمية التي هي مفاخر هذا العصر.
كان علماء السلف يشرحون الجانب العملي من القرآن على أنه هداية عامة لجميع البشر، يطالب كل مؤمن بفهمها والعمل بها.
وكانوا يتحاشون الجانب الغيبي منه لأنه مما لا يصل إليه عقل المكلف، فلا يطالب بعلمه، ولا يحاسب على التقصير فيه.
وكانوا ينظرون إلى الجانب الكوني منه نظرات مسددة، لو صحبها بحث مسدد ممن أتى بعدهم.
طرائق المفسرين:
وللمفسرين من عهد التدوين إلى الآن طرائق في فهم القرآن، وأساليب في كتابة تفسيره.
أما الأساليب فقلما تختلف إلاّ بعض العصور، حين تختلف الأساليب الأدبية فتنحط أو تعلو، فيسري التطور منها إلى الأساليب العلمية.
1 / 17
وأما الطرائق فإنها تختلف باختلاف الاختصاص في المفسرين والعلوم التي غلبت عليهم وعرفوا بها.
أ- فالمحدثون، يلتزمون التفسير بالمأثور، فإن اختلفت الرواية فمنهم من يروي المتناقضات ويدعك في حيرة، ومنهم من يدخل نظره وفكره في التعديل والترجيح كما يفعل أبو جعفر الطبري.
ب- ومقلدة المذاهب: يفسرون القرآن بقواعد مذاهبهم، ويحكمونها فيه. فإذا خالف نصه قاعدة من قواعدهم ردوه بالتأويل إليها. وهذا شر ما أصيب به هذا العلم، بل هو نوع من التعطيل، وباب من التحريف والتبديل؛ لأنه في حقيقة أمره وضع لكلام الله في الدرجة الثانية من كلام المخلوق، وفي منزلة الفرع من أصله يرد إليه إذا خالفه، وأعظم بها زلة وإن هذه الزلة هي الغالبة على صنيع المتشبثين بالمذاهب والمتعصبين لها، يتباعدون عن القرآن ما شاء لهم الهوى فإذا تناولوه فبهذه النظرة الخاطئة (١).
ج- والمتكلمون في "معاني القرآن" معظمهم من اللغويين والنحاة، فهم يتكلمون غالبا على الألفاظ المفردة، وأوجه الإعراب. فهم أقرب الكاتبين في الغريب أمثال الأصفهاني، وأبي ذر الهروي.
وإنما أطلقوا على كتبهم هذا الإسم (معاني القرآن) لأن بساطة الأسماء كانت هي الغالبة في زمنهم.
د- والإخباريون مفتونون بالقصص، فلا يقعون إلاّ على الآيات المتعلقة به. ويا ليتهم يحققون الحكمة من القصص، فيجلون العبر منها، ويستخرجون الدقائق من سنن الله في الأمم وجميع الكائنات. ولكنهم يسترسلون مع الرواية، وتستهويهم غرابة الأخبار، فينتهي بهم ذلك إلى الإسرائيليات الخاطئة الكاذبة، وقد أدخلوا بصنيعهم هذا على المسلمين ضررا عظيما، وعلى التاريخ فسادا كبيرا.
هـ- وأصحاب المذاهب العقلية إذا تعاطوا التفسير، لا يتوسعون إلاّ في الاستدلالات العقلية على إثبات الصفات أو نفيها، وعلى الغيبيات والنبوات وما يتعلق بها.
ووالنحاة والباحثون في أسرار التراكيب لا يفيضون إلاّ في توجيه الأعاريب أو نكت البلاغة كما يفعل الزمخشري، وأبو حيان.
هكذا فعل القدماء والمحدثون بالقرآن: حكموا فيه نحلهم ومذاهبهم وصناعاتهم الغالبة عليهم، فأضاعوا هديه وبلاغه، وأبعدوا الأمة عنه؛ وصرفوها عن حكمه وأسراره.
_________
(١) لأن الأولى هو العكس فنعرض ما يعن لنا على القرآن ليقول رأيه فيه لا أن نفسره على أن نقول ما يوافق آراءنا وأهواءنا. وطالما نادى ابن باديس والبشير بوجوب نبذ التقليد الأعمى، والتعصب الممقوت.
1 / 18
ولو ذهبنا مذهب التحديد في معاني الألفاظ الاصطلاحية لوجدنا المفسر من هؤلاء قليلا.
ز- أما المفسرون الذين يصدق عليهم هذا الوصف: فهم الذين يشرحون بحق فقه القرآن، ويستثيرون أسراره وحكمه، معتمدين على القرآن نفسه، وعلى السنة، وعلى البيان العربي، كما أشرنا إلى ذلك قبلًا.
ومن هؤلاء من اقتصر على الأحكام فقط كابن العربي، والجصاص، وعبد المنعم بن الفرس، وهؤلاء الثلاثة هم الذين انتهت إلينا كتبهم.
ومنهم من عمم، ولكن توسعه ظاهر في الأحكام، وأحكام العبادات والمعاملات، كالقرطبي، وابن عطية، وأضرابهما.
وكان جمود، وكان ركود، وضرب التقليد بجرانه (١)، فقضى على ذكاء الأذكياء وفهم الفهماء، إلى أن أذن الله للعقل الإسلامي أن ينفلت من عقال التقليد، ويستقل في الفهم، وللنهضة العلمية الإسلامية أن يتبلج فجرها، ويعم نورها.
فكانت إرهاصات (٢) التجديد لهذا العلم ظاهرة في ثلاثة من أذكى علمائنا وأوسعهم اطلاعا:
الشوكاني (٣)، والألوسي، وصديق حسن خان. مع تفاوت بينهم في قوة النزعة الاستقلالية، وفي القدرة على التخلص من الصبغة المذهبية التقليدية.
ثم كانت المعجزة بعد ذلك الإرهاص بظهور إمام المفسرين بلا منازع "محمد عبده" أبلغ من تكلم في التفسير، بيانا لهديه، وفهما لأسراره، وتوفيقا بين آيات الله في القرآن، وبين آياته في الأكوان، فبوجود هذا الإمام وجد علم التفسير وتم، ولم ينقصه إلاّ أنه لم يكتبه بقلمه كما بينه بلسانه، ولو فعل لأبقى للمسلمين تفسيرا لا للقرآن بل لمعجزات القرآن.
ولكنه مات دون ذلك.
فخلفه ترجمان أفكاره ومستودع أسراره "محمد رشيد رضا" فكتب في التفسير ما كتب، ودون آراء الإمام فيه، وشرع للعلماء منهاجه، ومات قبل أن يتمه.
فانتهت إمامة التفسير بعده في العالم الإسلامي كله، إلى أخينا وصديقنا، ومنشئ النهضة الإسلامية العلمية بالجزائر، بل بالشمال الإفريقي "عبد الحميد بن باديس".
خصائص التفسير الباديسي:
كان للأخ الصديق "عبد الحميد بن باديس" ﵀ ذوقا خاص في فهم القرآن كأنه حاسة
_________
(١) أي ثبت واستقر.
(٢) الإرهاصات، علامات تسبق الأمر العظيم.
(٣) محمد الشوكاني (١٧٥٧ - ١٨٣٤) من جلة علمائنا له مؤلفات كثيرة.
1 / 19
زائدة خص بها. يرفده- بعد الذكاء المشرق، والقريحة الوقادة، والبصيرة النافذة- بيان ناصع، واطلاع واسع، وذرع فسيح في العلوم النفسية والكونية، وباع مديد في علم الاجتماع، ورأي سديد في عوارضه وأمراضه.
يمد ذلك كله شجاعة في الرأي، وشجاعة في القول، لم يرزقهما إلاّ الأفذاذ المعدودون في البشر.
وله في القرآن رأي بنى عليه كل أعماله في العلم، والإصلاح، والتربية والتعليم: وهو أنه لا فلاح للمسلمين إلاّ بالرجوع إلى هدايته والاستقامة على طريقته، وهو رأي الهداة المصلحين من قبله.
وكان يرى- حين تصدى لتفسير القرآن- أن تدوين التفسير بالكتابة مشغلة عن العمل المقدم؛ لذلك آثر البدء بتفسيره درسا تسمعه الجماهير فتتعجل من الاهتداء به ما يتعجله المريض المنهك من الدواء، وما يتعجله المسافر العجلان من الزاد.
وكان- ﵀ يستطيع أن يجمع بين الحسنيين، لولا أنه كان مشغولا مع ذلك بتعليم جيل، وتربية أمة، ومكافحة أمية، ومعالجة أمراض اجتماعية، ومصارعة استعمار يؤيدها.
فاقتصر على تفسير القرآن درسا ينهل منه الصادي، ويتزود منه الرائح والغادي، وعكف عليه إلى أن ختمه في خمس وعشرين سنة. ولم يختم التفسير درسا ودراية بهذا الوطن غيره، منذ ختمه "أبو عبد الله الشريف التلمساني" في المائة الثامنة.
كان ذلك الأخ الصديق ﵀ يعلل النفس باتساع الوقت وانفساح الأجل حتى يكتب تفسيرا على طريقته في الدرس. وكان كلما جرتنا شجون الحديث إلى التفسير، يتمنى أن نتعاون على كتابة التفسير، ويغريني بأن الكتابة علي أسهل منها عليه.
ولا أنسى مجلسا كنا فيه على ربوة من جبل تلمسان في زيارة من زياراته لي، وكنا في حالة حزن لموت الشيخ "رشيد رضا" قبل أسبوع من ذلك اليوم، فذكرنا تفسير المنار، وأسفنا لانقطاعه بموت صاحبه فقلت له: «ليس لإكماله إلاّ أنت». فقال لي: «ليس لإكماله إلاّ أنت». فقلت له: «حتى يكون لي علم رشيد، وسعة رشيد، ومكتبة رشيد، ومكاتب القاهرة المفتوحة في وجه رشيد». فقال لي واثقا مؤكدا: «إننا لو تعاونا وتفرغنا للعمل لأخرجنا للأمة تفسيرا يغطي على التفاسير من غير احتياج إلى ما ذكرت».
ولما احتفلت الأمة الجزائرية ذلك الاحتفال الحافل بختمه لتفسير القرآن عام ١٣٥٧هـ، وكتبت بقلمي تفسير المعوذتين مقتبسا من درس الختم، وأخرجته في ذلك الأسلوب الذي قرأه الناس في مجلة الشهاب أعجب به أيما إعجاب؛ وتجدد أمله في أن نتعاون على كتابة تفسير كامل، ولكن العوارض باعدت بين الأمل والعمل سنتين.
ثم جاء الموت فباعد بيني وبينه.
1 / 20
ثم ألحت الحوادث والأعمال بعده، فلم تبق للقلم فرصة للتحرير ولا للسان مجال في التفسير ... وإنا لله.
...
لم يكتب الأخ الصديق أماليه في التفسير، ولم يكتب تلامذته الكثيرون شيئًا منها. وضاع على الأمة كنز علم لا يقوّم بمال، ولا يعوض بحال. ومات فمات علم التفسير وماتت طريقة "ابن باديس" في التفسير.
ولكن الله تعالى أبى إلاّ أن يذيع فضله وعلمه. فألهمه كتابة مجالس معدودة من تلك الدروس، وكان ينثرها فواتح لأعداد مجلة "الشهاب" ويسميها "مجالس التذكير"، وهي نموذج صادق من فهمه للقرآن وتفسيره له، كما أنها نموذج من أسلوبه الكتابي.
هذه المجالس العامرة هي التي تصدّى الأخ الوفي السيد "أحمد بو شمال"، عضد الإمام المفسر وصفيه، وكاتبه والمؤتمن على أسراره- لتجريدها من مجلة الشهاب ونشرها كتابًا مستقلًا؛ قيامًا بحق الوفاء للإمام الفقيد، وإحياء لذكراه أخرج أشرف أثر من آثاره، يستروح القراء منه نفحات منعشة من روح ذلك الرجل العظيم؛ ويقرءونه فلا يزيدهم عرفانًا بقدره، فحسبهم ما بنى وشاد، وعلم وأفاد، وما ربى للأمة من رجال كالجبال، وما بث فيها من فضائل وآداب، وما أبقى لها من تراث علمي خالد؛ لا يرثه الأخ عن الأخ، ولا الولد عن الوالد.
وشكرًا للأخ الوفي "أحمد بو شمال" (١) على هذا العمل الذي هو عنوان الوفاء ١٣٦٧هـ-١٩٤٨م.
محمد البشير الإبراهيمي
_________
(١) نشر السيد أحمد بو شمال من هذه المجالس القيمة آيات مختارة من سورة الفرقان فقط، لأسباب خارجة عن الإرادة وقتها.
وقد وفقنا الله تعالى لجمع المجالس القرآنية التي افتتح بها ابن باديس مجلة الشهاب كلها؛ بعد تعب ومشقة، يراها القارئ الكريم بين يديه كاملة.
1 / 21