تفسير القرآن
تفسير القرآن
پوهندوی
ضبطه وصححه وقدم له الشيخ عبد الوارث محمد علي
د ایډیشن شمېره
الأولى
د چاپ کال
1422 - 2001م
ژانرونه
بسم الله الرحمن الرحيم فاتحة الكتاب [تفسيرآية الفاتحة (1)] اسم الشيء ما يعرف به، فأسماء الله تعالى هي الصور النوعية التي تدل بخصائصها وهوياتها على صفات الله وذاته، وبوجودها على وجهه، وبتعينها على وحدته، إذ هي ظواهره التي بها يعرف. و * (الله) * اسم للذات الإلهية من حيث هي هي على الإطلاق، لا باعتبار اتصافها بالصفات، ولا باعتبار لا اتصافها.
و * (الرحمن) * هو المفيض للوجود والكمال على الكل بحسب ما تقتضي الحكمة وتحتمل القوابل على وجه البداية. و * (الرحيم) * هو المفيض للكمال المعنوي المخصوص بالنوع الإنساني بحسب النهاية، ولهذا قيل: يا رحمن الدنيا والآخرة، ورحيم الآخرة. فمعناه بالصورة الإنسانية الكاملة الجامعة الرحمة العامة والخاصة، التي هي مظهر الذات الإلهي والحق الأعظمي مع جميع الصفات ابدأ واقرأ، وهي الاسم الأعظم وإلى هذا المعنى أشار النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: ((أوتيت جوامع الكلم، وبعثت لأتمم مكارم الأخلاق))، إذ الكلمات حقائق الموجودات وأعيانها. كما سمي عيسى عليه السلام كلمة من الله، ومكارم الأخلاق كمالاتها وخواصها التي هي مصادر أفعالها جميعها محصورة في الكون الجامع الإنساني. وههنا لطيفة وهي أن الأنبياء عليهم السلام وضعوا حروف التهجي بإزاء مراتب الموجودات. وقد وجدت في كلام عيسى عليه الصلاة والسلام وأمير المؤمنين علي عليه السلام وبعض الصحابة ما يشير إلى ذلك. ولهذا قيل: ظهرت الموجودات من باء بسم الله إذ هي الحرف الذي يلي الألف الموضوعة بإزاء ذات الله. فهي إشارة إلى العقل الأول الذي هو أول ما خلق الله المخاطب بقوله تعالى: ((ما خلقت خلقا أحب إلي ولا أكرم علي منك، بك أعطي، وبك آخذ، وبك أثيب، وبك أعاقب...)) الحديث.
والحروف الملفوظة لهذه الكلمة ثمانية عشر، والمكتوبة تسعة عشر. وإذا انفصلت الكلمات انفصلت الحروف إلى اثنين وعشرين، فالثمانية عشر إشارة إلى العوالم المعبر عنها بثمانية عشر ألف عالم، إذ الألف هو العدد التام المشتمل على باقي مراتب الأعداد فهو أم
مخ ۲۷
المراتب الذي لا عدد فوقه، فعبر بها عن أمهات العوالم التي هي عالم الجبروت، وعالم الملكوت، والعرش ، والكرسي، والسماوات السبع، والعناصر الأربعة، والمواليد الثلاثة التي ينفصل كل واحد منها إلى جزئياته.
والتسعة عشر إشارة إليها مع العالم الإنساني، فإنه وإن كان داخلا في عالم الحيوان إلا أنه باعتبار شرفه وجامعيته للكل وحصره للوجود عالم آخر له شأن وجنس برأسه له برهان، كجبريل من بين الملائكة في قوله تعالى: * (وملائكته ورسله وجبريل) * [البقرة، الآية: 98].
والألفات الثلاثة المحتجبة التي هي تتمة الاثنين والعشرين عند الانفصال إشارة إلى العالم الإلهي الحق، باعتبار الذات، والصفات، والأفعال. فهي ثلاثة عوالم عند التفصيل، وعالم واحد عند التحقيق، والثلاثة المكتوبة إشارة إلى ظهور تلك العوالم على المظهر الأعظمي الإنساني، والاحتجاب العالم الإلهي.
حين سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ألف الباء من أين ذهبت؟ قال صلى الله عليه وسلم: ((سرقها الشيطان)). وأمر بتطويل باء بسم الله تعويضا عن ألفها إشارة إلى احتجاب ألوهية الإلهية في صورة الرحمة الانتشارية وظهورها في الصورة الإنسانية بحيث لا يعرفها إلا أهلها، ولهذا نكرت في الوضع.
وقد ورد في الحديث: ((إن الله تعالى خلق آدم على صورته))، فالذات محجوبة بالصفات، والصفات بالأفعال، والأفعال بالأكوان والآثار، فمن تجلت عليه الأفعال بارتفاع حجب الأكوان توكل، ومن تجلت عليه الصفات بارتفاع حجب الأفعال رضي وسلم. ومن تجلت عليه الذات بانكشاف حجب الصفات فني في الوحدة فصار موحدا مطلقا فاعلا ما فعل وقارئا ما قرأ بسم الله الرحمن الرحيم، فتوحيد الأفعال مقدم على توحيد الصفات وهو على توحيد الذات وإلى الثلاثة أشار صلى الله عليه وسلم في سجوده بقوله: ((أعوذ بعفوك من عقابك، وأعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بك منك)).
[آية 2 - 5] * (الحمد لله رب العالمين) * إلى آخر السورة، الحمد بالفعل ولسان الحال هو ظهور الكمالات وحصول الغايات من الأشياء إذ هي أثنية فاتحة ومدح رائعة لموليها بما يستحقه.
فالموجودات كلها بخصوصياتها وخواصها، وتوجهها إلى غاياتها، وإخراج كمالاتها من حيز القوة إلى الفعل، مسبحة، حامدة، كما قال تعالى: * (وإن من شيء إلا يسبح
مخ ۲۸
بحمده) * [الإسراء، الآية: 44]، فتسبيحها إياه تنزيهه عن الشريك وصفات النقص والعجز باستنادها إليه وحده، ودلالتها على وحدانيته وقدرته، وتحميدها إظهار كمالاتها المترتبة، ومظهريتها لتلك الصفات الجلالية والجمالية.
وخص بذاته بحسب مبدئيته للكل، وحافظيته ومدبريته له التي هي معنى الربوبية للعالمين، أي لكل ما هو علم لله يعلم به كالخاتم لما يختم به، والقالب لما يقلب فيه، وجمع جمع السلامة لاشتماله على معنى العلم أو للتغليب، وبإزاء إفاضة الخير العام والخاص، أي النعمة الظاهرة كالصحة والرزق. والباطنة كالمعرفة والعلم.
وباعتبار منتهائيته التي هي معنى مالكية الأشياء في يوم الدين إذ لا يجزي في الحقيقة إلا المعبود الذي ينتهي إليه الملك وقت الجزاء بإثابة النعمة الباقية عن الفانية عند التجرد عنها بالزهد وتجليات الأفعال عند انسلاخ العبد عن أفعاله، وتعويض صفاته عند المحو عن صفاته وإبقائه بذاته، وهبته له الوجود الحقاني عند فنائه فله تعالى مطلق الحمد وماهيته أزلا وأبدا على حسب استحقاقه إياه بذاته باعتبار البداية والنهاية وما بينهما في مقام الجمع على ألسنة التفاصيل، فهو الحامد والمحمود تفصيلا وجمعا، والعابد والمعبود مبدأ ومنتهى.
ولما تجلى في كلامه لعباده بصفاته شاهدوه بعظمته وبهائه، وكمال قدرته وجلاله، فخاطبوه قولا وفعلا بتخصيص العبادة به، وطلب المعونة منه، إذ ما رأوا معبودا غيره، ولا حول ولا قوة لأحد إلا به. فلو حضروا لكانت حركاتهم وسكناتهم كلها عبادة له وبه، فكانوا على صلاتهم دائمين داعين بلسان المحبة لمشاهدتهم جماله من كل وجه على كل وجه.
[آية 6 - 7] * (اهدنا الصراط المستقيم) * أي: ثبتنا على الهداية ومكنا بالاستقامة في طريق الوحدة التي هي طريق المنعم عليهم بالنعمة الخاصة الرحيمية التي هي المعرفة والمحبة والهداية الحقانية الذاتية من النبيين والشهداء والصديقين والأولياء، الذين شاهدوه أولا وآخرا وظاهرا وباطنا، فغابوا في شهودهم طلعة وجهه الباقي عن وجود الظل الفاني.
* (غير المغضوب عليهم) * الذين وقفوا مع الظواهر، واحتجبوا بالنعمة الرحمانية، والنعيم الجسماني، والذوق الحسي عن الحقائق الروحانية، والنعيم القلبي، والذوق العقلي كاليهود إذ كانت دعوتهم إلى الظواهر والجنان والحور والقصور، فغضب
مخ ۲۹
عليهم لأن الغضب يستلزم الطرد والبعد والوقوف مع الظواهر التي هي الحجب الظلمانية غاية البعد. * (ولا الضالين) * الذين وقفوا مع البواطن التي هي الحجب النورانية واحتجبوا بالنعمة الرحيمية عن الرحمانية، وغفلوا عن ظاهرية الحق، وضلوا عن سواء السبيل، فحرموا شهود جمال المحبوب في الكل كالنصارى إذ كانت دعوتهم إلى البواطن وأنوار عالم القدوس ودعوة المحمديين الموحدين إلى الكل، والجمع بين محبة جمال الذات، وحسن الصفات، كما ورد في القرآن الكريم:
* (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة) * [آل عمران، الآية: 133]، * (اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به) * [الحديد، الآية: 28]، * (واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا) * [النساء: الآية: 36]. فأجابوا الدعوات الثلاث. كما جاء في حقهم: * (ويرجون رحمته ويخافون عذابه) * [الإسراء، الآية: 57]، * (يقولون ربنا أتمم لنا نورنا) * [التحريم، الآية: 8]، * (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقموا) * [فصلت، الآية: 30]. فأثيبوا بالجميع على ما أخبر الله تعالى: * (جزاؤهم عند ربهم جنات عدن) * [البينة، الآية: 8]، * (لهم أجرهم ونورهم) * [الحديد، الآية: 19]، * (فأينما تولوا فثم وجه الله) * [البقرة، الآية: 115]، * (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) * [يونس، الآية: 26].
مخ ۳۰
سورة البقرة بسم الله الرحمن الرحيم [تفسير آية البقرة 1] * (ألم ذلك الكتاب) * أشار بهذه الحروف الثلاثة إلى كل الوجود من حيث هو كل لأن (أ) إشارة إلى ذات الذي هو أول الوجود على ما مر. و (ل) إلى العقل الفعال المسمى جبريل، وهو أوسط الوجود الذي يستفيض من المبدأ ويفيض إلى المنتهى. و (م) إلى محمد الذي هو آخر الوجود تتم به دائرته وتتصل بأولها، ولهذا ختم وقال: ((إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض)). وعن بعض السلف أن (ل) ركبت من ألفين، أي: وضعت بإزاء الذات مع صفة العلم اللذين هما عالمان من العوالم الثلاثة الإلهية التي أشرنا إليها، فهو اسم من الأسماء الله تعالى، إذ كل اسم هو عبارة عن الذات مع صفة ما. وأما (م) فهي إشارة إلى الذات مع جميع الصفات والأفعال التي احتجبت بها في الصورة المحمدية التي هي اسم الله الأعظم، بحيث لا يعرفها إلا من يعرفها . ألا تدري أن (م) التي هي صورة الذات كيف احتجب فيها، فإن الميم فيها الياء، وفي الياء ألف. والسر في وضع حروف التهجي هو أن لا حرف إلا وفيه ألف، ويقرب من هذا قول من قال: معناه القسم بالله العليم الحكيم، إذ جبريل مظهر العلم، فهو اسمه العليم. ومحمد مظهرالحكمة، فهو اسمه الحكيم. ومن هذا ظهر معنى قول من قال: تحت كل اسم من أسماءه تعالى أسماء بغير نهاية. والعلم لا يتم ولا يكمل إلا إذا قرن بالفعل في عالم الحكمة الذي هو عالم الأسباب والمسببات، فيصير حكمة. ومن ثم لا يحصل الإسلام بمجرد قول: لا إله إلا الله، إلا إذا قرن: بمحمد رسول الله.
فمعنى الآية * (ألم ذلك الكتاب) * الموعود، أي: صورة الكل المومى إليها بكتاب الجفر والجامعة المشتملة على كل شيء، الموعود بأنه يكون مع المهدي في آخر الزمان لا يقرأه كما هو بالحقيقة إلا هو، والجفر لوح القضاء الذي هو عقل الكل والجامعة لوح القدر الذي هو نفس الكل، فمعنى كتاب الجفر والجامعة: المحتويان
مخ ۳۱
على كل ما كان ويكون، كقولك سورة (البقرة) وسورة (النمل).
[آية 2] * (لا ريب فيه) * عند التحقيق بأنه الحق، وعلى تقدير القول معناه بالحق الذي هو الكل من حيث هو كل لأنه مبين لذلك الكتاب الموعود على ألسنة الأنبياء وفي كتبهم بأنه سيأتي كما قال عيسى عليه السلام: ((نحن نأتيكم بالتنزيل، وأما التأويل فسيأتي به المهدي في آخر الزمان)). وحذف جواب القسم لدلالة ذلك الكتاب عليه، كما حذف في غير موضع من القرآن مثل (والشمس) (والنازعات) وغير ذلك. أي إنا منزلون لذلك الكتاب الموعود في التوراة والإنجيل بأن يكون مع محمد حذف لدلالة قوله: * (ذلك الكتاب) * عليه أي: ذلك الكتاب المعلوم في العلم السابق، الموعود في التوراة والإنجيل حق بحيث لا مجال للريب فيه. * (هدى للمتقين) * أي هدى في نفسه للذين يتقون الرذائل والحجب المانعة لقبول الحق فيه.
واعلم أن الناس بحسب العاقبة سبعة أصناف لأنهم: إما سعداء، وإما أشقياء.
قال الله تعالى: * (فمنهم شقي وسعيد) * [هود، الآية: 105]، والأشقياء أصحاب الشمال، والسعداء إما أصحاب اليمين، وإما السابقون المقربون، قال الله تعالى * (وكنتم أزواجا) *:
[آية 7] [ثلاثة الواقعة، الآية: 7] الآية. وأصحاب الشمال إما المطرودون الذين حق عليهم القول وهم أهل الظلمة والحجاب الكلي المختوم على قلوبهم أزلا، كما قال تعالى: * (ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس) * [الأعراف، الآية، 179] إلى آخر الآية. وفي الحديث الرباني: ((هؤلاء خلقتهم للنار ولا أبالي)). وأما المنافقون الذين كانوا مستعدين في الأصل، قابلين للتنور بحسب الفطرة والنشأة، ولكن احتجبت قلوبهم بالرين المستفاد من اكتساب الرذائل وارتكاب المعاصي، ومباشرة الأعمال البهيمية، والسبعية، ومزاولة المكايد الشيطانية، حتى رسخت الهيئات الفاسفة والملكات المظلمة في نفوسهم، وارتكمت على أفئدتهم فبقوا شاكين حيارى تائهين، قد حبطت أعمالهم، وانتكست رؤوسهم فهم أشد عذابا وأسوأ حالا من الفريق الأول لمنافاة مسكة استعدادهم لحالهم. والفريقان هم أهل الدنيا وأصحاب اليمين.
أما أهل الفضل والثواب، الذين آمنوا وعملوا الصالحات للجنة راجين لها، راضين بها، فوجدوا ما عملوا حاضرا على تفاوت درجاتهم، ولكل درجات مما عملوا. ومنهم أهل الرحمة الباقون على سلامة نفوسهم، وصفاء قلوبهم، المتبوئون درجات الجنة على حسب استعداداتهم من فضل ربهم، لا على حسب كمالاتهم من ميراث عملهم.
مخ ۳۲
وأما أهل العفو الذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا، وهم قسمان: المعفو عنهم رأسا لقوة اعتقادهم، وعدم رسوخ سيئاتهم لقلة مزاولتهم إياها، أو لمكان توبتهم عنها. فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات، والمعذبون حينا بحسب ما رسخ فيهم من المعاصي حتى خلصوا عن دون ما كسبوا، فنجوا وهم أهل العدل والعقاب، والذين ظلموا من هؤلاء سيصيبهم سيئات ما كسبوا. لكن الرحمة تتداركهم وثلاثتهم أهل الآخرة.
والسابقون إما محبون وإما محبوبون، فالمحبون هم الذين جاهدوا في الله حق جهاده، وأنابوا إليه حق إنابته، فهداهم سبله. والمحبوبون هم أهل العناية الأزلية - الذين اجتباهم وهداهم إلى صراط مستقيم. والصنفان هما أهل الله، فالقرآن ليس هدى للفريق الأول من الأشقياء لامتناع قبولهم للهداية لعدم استعدادهم، ولا للثاني لزوال استعدادهم ومسخهم وطمسهم بالكلية بفساد اعتقادهم، فهم أهل الخلود في النار إلا ما شاء الله. فبقي هدى للخمسة الأخيرة الذين يشملهم المتقون، والمحبوب يحتاج إلى هداية الكتاب بعد الجذب والوصول لسلوكه في الله لقوله تعالى لحبيبه:
* (كذلك لنثبت به فؤادك) * [الفرقان، الآية: 32]، وقوله: * (وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فوادك) * [هود، الآية: 120] والمحب يحتاج إليه قبل الوصول والجذب وبعده لسلوكه إلى الله وفي الله.
فعلى هذا، المتقون في هذا الموضع هم المستعدون الذين بقوا على فطرتهم الأصلية، واجتنبوا رين الشرك والشك لصفاء قلوبهم وزكاء نفوسهم، وبقاء نورهم الفطري، فلم ينقضوا عهد الله. وهذه التقوى مقدمة على الإيمان، ولها مراتب أخرى متأخرة عنه كما سيأتي إن شاء الله.
* (الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة) * * (الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة) * أي: بما غاب عنهم الإيمان التقليدي، أو التحقيقي العلمي، فإن الإيمان قسمان: تقليدي وتحقيقي. والتحقيقي قسمان: استدلالي وكشفي، وكلاهما إما واقف على حد العلم والغيب، وإما غير واقف. والأول هو الإيقان المسمى علم اليقين. والثاني: إما عيني، وهو المشاهدة المسمى عين اليقين، وإما حقي، وهو الشهود الذاتي المسمى حق اليقين. والقسمان الأخيران لا يدخلان تحت الإيمان بالغيب، والإيمان بالغيب يستلزم الأعمال القلبية التي هي التزكية، وهي تطهير القلب عن الميل إلى السعادات البدنية الخارجية، الشاغلة عن إحراز السعادة الباقية. فإن السعادات ثلاث: قلبية، وبدنية، وما حول
مخ ۳۳
البدن. فالقلبية هي المعارف، والحكم، والكمالات العلمية والعملية الخلقية. والبدنية هي الصحة والقوة واللذات الجسمانية والشهوات الطبيعية. وما حول البدن هي الأموال والأسباب، كما قال أمير المؤمنين عليه السلام: ((ألا وإن من النعم سعة المال، وأفضل من سعة المال صحة الجسد، وتقوى القلب)). ويجب الاحتراز عن الأوليين لإحراز الأخيرة المطلوبة بالزهد والعبادة.
فإقامة الصلاة ترك الراحات البدنية وإتعاب الآلات الجسدية، وهي أم العبادات التي إذا وجدت لم يتأخر عنها البواقي * (إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر) * [العنكبوت، الآية: 45] إذ هي تحامل على البدن والنفس، ومشقة فادحة عليهما، والاتفاق المال هو الإعراض عن السعادة الخارجية المحبوبة إلى النفس المسمى بالزهد، فإن الإنفاق ربما كان أشد عليها من بذل الروح للزوم الشح إياها، ولم يكتف بالقدر الواجب فقال:
[آية 3 - 5] * (ومما رزقناهم ينفقون) * ليعتاد القلب ترك الفضول المالية بالجود والسخاء وبذل المال، في وجوه المروات، والهبات، والصدقات الغير الواجبة، فيوقي شح نفسه، وخصص الإنفاق بالبعض بإيراد من التبعيضية لئلا يقع في رذيلة التبذير ببذل القدر الضروري فيحرم فضيلة الجود الذي هو من باب التخلق بأخلاق الله.
* (والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك) * أي: الإيمان التحقيقي الشامل للأقسام الثلاثة المستلزم للأعمال القلبية التي هي التحلية، وهي تفرس القلب بالحكم والمعارف المنزلة في الكتب الإلهية والعلوم المتعلقة بأحوال المعاد، وأمور الآخرة، وحقائق علم القدس. ولهذا قال: * (وبالآخرة هم يوقنون) * وأهل الآخرة الذين ما جاوزوا حد التزكية، ولم يصلوا إلى التحليلة التي هي ميراثها، لقوله عليه صلى الله عليه وسلم: ((من عمل بما علم ورثة الله علم ما لم يعلم)). وأهل الله الموقنون الجامعون لها كلهم على هدى من ربهم إما إليه وإما إلى داره، دار السلامة والفضل والثواب واللطف، وهم أهل الفلاح لا غير إما من العقاب وإما من الحجاب ولهذا قال:
* (أولئك) * أي: الموصوفون بهذه الصفات المذكورة من التزكية والتحلية. * (على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون) * لأجلها، فعلى هذا الذين يؤمنون مبتدأ، والذين يؤمنون الثاني معطوف عليه، وأولئك خبره، ولو جعل صفة للمتقين لكان المراد بهم الكاملين في التقوى بعد الهداية. وكان مجازا من باب تسمية الشيء بما سيؤول إليه.
مخ ۳۴
[آية 6 - 9] * (إن الذين كفروا) * - إلى قوله - * (عظيم) * هم الفريق الأول من الأشقياء الذين هم أهل القهر الإلهي لا ينجح فيهم الإنذار ولا سبيل إلى خلاصهم من النار، أولئك حقت عليهم كلمة ربك أنهم لا يؤمنون، وكذلك حقت كلمة ربك على الذين كفروا أنهم أصحاب النار، سدت عليهم الطرق، وأغلقت عليهم الأبواب، إذ القلب هو المشعر الإلهي الذي هو محل الإلهام، فحجبوا عنه بختمه. والسمع والبصر هما المشعران الأنسيان، أي الظاهران اللذان هما بابا الفهم والاعتبار، فحرموا عن جداوهما لامتناع نفوذ المعنى فيهما إلى القلب، فلا سبيل لهم في الباطن إلى العلم الذوقي الكشفي ولا في الظاهر إلى العلم التعلمي والكسبي، فحسبوا في سجون الظلمات، فما أعظم عذابهم.
* (ومن الناس من يقول آمنا) * هم الفريق الثاني من الأشقياء، سلب عنهم الإيمان مع ادعائهم له بقولهم * (آمنا بالله) * لأن محل الإيمان هو القلب لا اللسان. * (قالت الأعراب إمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمن في قلوبكم) * [الحجرات، . الآية: 14]. ومعنى قولهم: * (آمنا بالله وباليوم الآخر) * ادعاء علمي التوحيد والمعاد اللذين هما أصل الدين وأساسه أي لسنا من المشركين المحجوبين عن الحق ولا من أهل الكتاب المحجوزين عن الدين والمعاد، لأن اعتقاد أهل الكتاب في باب المعاد ليس مطابقا للحق. واعلم أن الكفر هو الاحتجاب، والحجاب إما عن الحق كما للمشركين وإما عن الدين كما لأهل الكتاب، والمحجوب عن الحق محجوب عن الدين الذي هو طريق الوصول إليه ضرورة، وأما المحجوب عن الدين فقد لا يحجب عن الحق، فهؤلاء ادعوا رفع الحجابين معا فكذبوا بسلب الإيمان عن ذواتهم، أي ليسوا بمؤمنين ما داموا إياهم يخادعون. المخادعة استعمال الخدع من الجانبين، وهو إظهار الخير واستبطان الشر. ومخادعة الله مخادعة رسوله صلى الله عليه وسلم لقوله: * (من يطع الرسول فقد أطاع الله) * [النساء، الآية: 180]، وقوله تعالى: * (وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى) * [الأنفال: الآية: 17] ولأنه حبيبه.
وقد ورد في الحديث: ((لا يزال العبد يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي به يسمع، وبصره الذي به يبصر، ولسانه الذي به يتكلم،
مخ ۳۵
ويده التي بها يبطش، ورجله التي بها يمشي)) فخداعهم لله وللمؤمنين إظهار الإيمان والمحبة، واستبطان الكفر والعداوة، وخداع الله والمؤمنين إياهم مسالمتهم وإجراء أحكام الإسلام عليهم بحقن الدماء وحصن الأموال وغير ذلك، وادخار العذاب الأليم والمآل الوخيم، وسوء المغبة لهم وخزيهم في الدنيا لافتضاحهم بإخباره تعالى وبالوحي عن حالهم لكن الفرق بين الخداعين أن خداعهم لا ينجح إلا في أنفسهم بإهلاكها وتحسيرها وإيراثها الوبال والنكال بازدياد الظلمة والكفر والنفاق واجتماع أسباب الهلكة والبعد والشقاء عليها، وخداع الله يؤثر فيهم أبلغ تأثير ويوبقهم أشد إيباق، كقوله تعالى * (ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين: [آية 54] [آل عمران، الآية:
54] وهم من غاية تعمقهم في جهلهم لا يحسون بذلك الأمر الظاهر.
[آية 10 - 11] * (في قلوبهم مرض) * أي شك ونفاق تنكير المرض. وإيراد الجملة الظرفية إشارة إلى عروض المرض واستقراره ورسوخه فيها كما أشرنا إليه في التقسيم، وإلا لقال قلوبهم مرضى أو موتى. * (فزادهم الله مرضا) * أي: آخر حقدا وحسدا وغلا بإعلاء كلمة الدين، ونصرة الرسول والمؤمنين، والرذائل كلها أمراض القلوب لأنها أسباب ضعفها وآفتها في أفعالها الخاصة، وهلاكها في العاقبة. وفرق بين العذابين بالألم للمنافقين، والعظم للكافرين، لأن عذاب المطرودين في الأزل أعظم فلا يجدون شدة ألمه لعدم صفاء إدراك قلوبهم، كحال العضو الميت، أو المفلوج والخدل بالنسبة إلى ما يجري عليه من القطع والكي وغير ذلك من الآلام. وأما المنافقون فلثبوت استعدادهم في الأصل وبقاء إدراكهم يجدون شدة الألم فلا جرم كان عذابهم مؤلما مسببا عن المرض العارض المزمن الذي هو الكذب ولواحقه.
وإذا نهوا عن الإفساد في الأرض، أي في الجهة السفلية التي هي النفوس وما يتعلق بها من المصالح بتكدير النفوس، وتهييج الفتن والحروب، والعداوة والبغضاء بين الناس، أنكروا وبالغوا في إثبات الإصلاح لأنفسهم، إذ يرون الصلاح في تحصيل المعاش وتيسير أسبابه، وتنظيم أمور الدنيا لأنفسهم خاصة، لتوغلهم في محبة الدنيا وانهماكم في اللذات البدنية، واحتجابهم بالمنافع الجزئية، والملاذ الحسية عن المصالح العامة الكلية، واللذات العقلية، وبذلك يتيسر مرادهم، ويتسهل مطلوبهم وهم لا يحسون بإفسادهم المدرك بالحس.
وإذا دعوا إلى الإيمان الحقيقي، كإيمان فقراء المسلمين والصعاليك المجردين،
مخ ۳۶
سفهوهم لمكان تركهم لحطام الدنيا وإعراضهم عن متاعها ولذاتها وطيباتها، لزهدهم الحقيقي. إذ قصارى همومهم، وقصوى مقاصد عقولهم الأسيرة في قيد الهوى المشوبة بالوهم، المؤدية لهم إلى الردى هي تلك اللذات يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون، ولا يعلمون أن غاية السفه هو اختيار الفاني الأخس على الباقي الأشرف. وفرق بين الفاضلتين بالشعور والعلم، لأن تأثير خداعهم في أنفسهم وإفسادهم في الأرض أمر بين كالمحسوس. وأما ترجيح نعيم الآخرة على نعيم الدنيا المستلزم للفرق بين السفه والحكمة فأمر فأمر استدلالي عقلي صرف.
[آية 12 - 14] ، * (وإذا لقوا الذين آمنوا) * حكاية لنفاقهم اللازم لحصول استعدادين فيهم الفطري النوري، الضعيف المغلوب، القريب من الانطفاء، الذي ناسبوا به المؤمنين، والكسبي الظلماني القوي الغالب الذي تألفوا به الكفار، إذ لو لم يكن فيهم أدنى نور لم يقدروا على مخالطة المؤمنين ومصاحبتهم أصلا كغيرهم من الكفار لتنافي الضروري بين النور والظلمة من جميع الوجوه.
والشيطان فيعال من الشطون، الذي هو البعد، وشياطينهم المتعمقون في البعد وهم المطرودون، ورؤساهم البالغون في النقاق واستهزاؤهم بالمؤمنين يدل على ضعف جهة النور وقوة جهة الظلمة فيهم، إذ المستخف بالشيء هو الذي يجد ذلك الشيء في نفسه خفيفا، قليل الوزن والقدر. فهم يستخفون النورانيين لخفة النور عندهم، إذ بالنور يعرف قدر النور، وبرجحان الظلمة فيهم أووا إلى الكفار وألفوهم.
[آية 15 - 16] * (الله يستهزئ بهم) * أي: يستخفهم، لأن الجهة التي هم بها ناسبوا الحضرة الإلهية فيهم خفيفة، ضعيفة. فبقرر ما فنيت فيهم الجهة الإلهية ثبتوا عند أنفسهم، كما أن المؤمنين بقدر ما فنيت فيهم أينيتهم النفسانية وجدوا عند الله شتان بين المرتبتين.
* (ويمدهم) * في ظلماتهم البهيمية والسبعية التي هي الصفات الشيطانية والنفسانية بتهيئة موادها وأسبابها التي هي مشتهياتهم ومستلذاهم وأموالهم ومعايشهم من الدنيا التي اختاروها بهواهم في حالة كونهم متحيرين. * (في طغيانهم يعمهون) * والعمه: عمى
مخ ۳۷
القلب. وطغيانهم: التعدي عن حدهم الذي كان ينبغي أن يكونوا عليه، وذلك الحد هو الصدر، أي وجه القلب الذي يلي النفس كما أن الفؤاد وجهه الذي يلي الروح، فإنه متوسط بينهما ذو وجهين إليهما. والوقوف على ذلك الحد هو التعبد بأوامر الله تعالى ونواهيه، مع التوجه إليه طلبا للتنور ليستنير ذلك الوجه فتننور به النفس. كما أن الوقوف على الحد الآخر هو تلقي المعارف والعلوم والحقائق والحكم والشرائع الإلهية لينتقش بها الصدر، فتنزين به النفس. فالطغيان هو الانهماك في الصفات النفسانية البهيمية والسبعية والشيطانية واستيلاؤها على القلب ليسود ويعمى، فتتكدر الروح.
* (أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى) * أي: الظلمة، والاحتجاب عن طريق الحق الذي هو الدين، أو عن الحق. فإن الضلالة تنقسم بإزاء الهداية بالنور الاستعدادي الأصلي: * (فما ربحت تجارتهم) * إذ كان رأس مالهم من عالم النور والبقاء ليكتسبوا به ما يجانسه من النور الفيضي الكمالي، بالعلوم والأعمال والحكم والمعارف والأخلاق والملكات الفاضلة، فيصيرون أغنياء في الحقيقة، مستحقين للقرب والكرامة والتعظيم والوجاهة عند الله، فما ربحوا بكسبها وضاعت الهداية الأصلية التي كانت بضاعتهم ورأس مالهم بإزالة استعدادهم وتكدير قلوبهم بالرين الموجب للحجاب والحرمان الأبدي، فخسروا بالخسران السرمدي، أعاذنا الله من ذلك.
[آية 17 - 18] * (مثلهم) * أي: صفتهم في النفاق كصفة المستوقد للإضاءة الذي إذا أضاءت ما حوله من الأشياء القريبة منه خمدت ناره وبقي متحيرا، لأن نور استعدادهم بمنزلة النار الموقدة، وإضاءتها لما حولهم هي اهتداؤهم إلى مصالح معاشهم القريبة منهم دون مصالح المعاد البعيدة بالنسبة إليهم وصحبة المؤمنين وموافقتهم في الظاهر وخمودها سريعا انطفاء نورهم الاستعدادي وسرعة زوال ما تمتعوا به من دنياهم ووشك انقضائه. * (ذهب الله بنورهم) * الاستعدادي بإمدادهم في الطغيان، وخلاهم محجوبين عن التوفيق في ظلمات صفات النفس * (لا يبصرون) * ببصر القلب، ووجه المخرج ولا ما ينفعهم من المعارف كمن تنطفئ ناره وهو في تيه بين أشغال وأسباب.
* (صم بكم عمي) * بالحقيقة لاحتجاب قلوبهم عن نور العقل الذي به تسمع
مخ ۳۸
الحق وتنطق به، وتراه في الظاهر لعدم فوائدها، لانسداد الطرق من تلك المشاعر إلى القلب لمكان الحجاب، فلم يصل إليها نور القلب ليحتفظوا بفوائدها ولم ترد مدركاتها على القلب ليفهموا ويعتبروا. * (فهم لا يرجعون) * إلى الله لوجود السدين المضروبين على قلوبهم المذكورين في قوله: * (وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا) * [يس، الآية: 9]. وفائدة التشبيه تصوير المعقول بصورة المحسوس، ليتمثل في نفوس العامة.
ثم شبههم ثانيا بقوم أصابهم مطر فيه ظلمات ورعد وبرق، فالمطر هو نزول الوحي الإلهي ووصول إمداد الرحمة إليهم ببركة صحبة المؤمنين، وبقية استعدادهم مما يفيد قلوبهم أدنى لين، وحصول النعم الظاهرة لهم بموافقتهم في الظاهر.
[آية 19 - 20] والظلمات هي الصفات النفسانية، والشكوك الخيالية والوهمية، والوساوس الشيطانية مما تحيرهم وتوحشهم. والرعد هو التهديد الإلهي والوعيد القهري الوارد في القرآن والآيات والآثار المسموعة والمشاهدة مما يخوفهم فيفيد أدنى انكسار لقلوبهم الطاغية وانهزام لنفوسهم الآبية. والبرق هو اللوامع النورية والتنبهات الروحية عند سماع الوعد وتذكير الآلاء والنعماء مما يطمعهم ويرجيهم، فيفيدهم أدنى شوق وميل إلى الإجابة.
ومعنى * (يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت) * يتشاغلون عن الفهم بالملاهي والملاعب عن سماع آيات الوعيد، ولكي لا ينجع فيهم فيقطعهم عن اللذات الطبيعية بهم الآخرة، إذ الانقطاع عن اللذات الحسية هو موتهم، والله قادر عليهم، قاطع إياهم عن تلك اللذات المألوفة بالموت الطبيعي، قدرة المحيط بالشيء الذي لا يفوته منه، فلا فائدة لحذرهم.
* (يكاد البرق) * أي: اللامع النوري * (يخطف أبصارهم) * أي: عقولهم المحجوبة بالنعاس عن نور الهداية والكشف، إذ العقل بصر القلب * (كلما أضاء لهم مشوا فيه) * أي: ترقوا وقربوا من قبول الحق والهدى، * (وإذا أظلم عليهم قاموا) * أي: ثبتوا على حيرتهم في ظلمتهم * (ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم) * لطمس أفهامهم وعقولهم، ومحا نور استعدادهم، كما للفريق الأول فلم يتأثروا بسماع الوحي أصلا * (إن الله على كل شيء قدير) * الشيء الموجود الخارجي الواجب والممكن، والموجود الذهني الممكن والممتنع، إذ اللاشيء هو المعدوم الصرف الذي ليس في الذهن ولا
مخ ۳۹
في الخارج، لكن تعلق القدرة به خصصه بالممكن وأخرج عنه الواجب والممتنع بدليل العقل.
هذا آخر الكلام في الأصناف السبعة على سبيل الإجمال، وفصل بين فريقي الأشقياء وأوجز ذكر الفريق الأول وأعرض عنهم، إذ الكلام فيهم لا يجدي. وبالغ في ذكر الفريق الثاني، وذمهم، وتعييرهم، وتقبيح صورة حالهم، وتهديدهم، وإبعادهم، وتهجين سيرهم، وعاداتهم لإمكان قبولهم للهداية وزوال مرضهم العارض، واشتعال نور قرائحهم بمدد التوفيق الإلهي عسى التقريع يكسر أعواد شكائمهم، والتوبيخ يقلع أصول رذائلهم، فتتزكى بواطنهم وتتنور قلوبهم بنور الإرادة، فيسلكوا طريق الحق.
ولعل موادعة المؤمنين وملاطفتهم إياهم ومجالستهم معهم، تستميل طباعهم فتهيج فيهم محبة ما، وشوقا تلين به قلوبهم إلى ذكر الله، وتنقاد به نفوسهم لأمر الله، فيتوبوا ويصلحوا كما قال الله تعالى: [إن المتافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فإولئك المؤمنين وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما) * [النساء، الآيات: 145 - 146].
[آية 21 - 22] * (يا أيها الناس) * ثم لما فرغ من ذكر السعداء والأشقياء، دعاهم إلى التوحيد.
وأول مراتب التوحيد: توحيد الأفعال، فلهذا علق العبودية بالربوبية ليستأنسوا برؤية النعمة، فيحبوه، كما قال: ((خلقت الخلق وتحببت إليهم بالنعم)). فيشكروه بإزائها، إذ العبادة شكر فلا تكون إلا في مقابلة النعمة، وخصص ربوبيته بهم ليخصوا عبادتهم به، وقصد رفع الحجاب الأول من الحجب الثلاثة التي هي حجب الأفعال والصفات والذات، ببيان تجلي الأفعال لأن الخلق في الثلاثة كلهم محجوبون عن الحق بالكون مطلقا، فنسب إنشاءهم وإنشاء ما توقف عليه وجودهم من المبادئ والأسباب والشرائط كمن قبلهم من الآباء والأمهات، وجعل الأرض فراشا لهم لتكون مقرهم ومسكنهم، وجعل السماء بناء لتظلهم، وأنزل الماء من السماء وأخرج النبات به من الأرض ليكون رزقا لهم إلى نفسه لعلهم يتقون نسبة الفعل إلى غيره، فيتنزهون عن الشرك في الأفعال عند مشاهدة جميعها من الله، ولهذا ذكر نتيجة هذه المقدمات بالفاء فقال: * (فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون) *، ما ذكرنا من المقدمات كأنه قال: هو الذي فعل هذه الأفعال، فلا تحق العبادة إلا له، ولا تنبغي أن تجعل لغيره، فلا
مخ ۴۰
تجعلوا له ندا بنسبة الفعل إليه، فيستحق أن يعبد عندكم فتعبدوه مع علمكم بهذا.
فعبادتهم إنما هي للصانع، وربهم هو المتجلي في صورة الصنع، إذ كل عابد لا يعبد إلا ما يعرفه، ولا يعرف الله إلا بقدر ما وجد من الألوهية في نفسه، وهم ما وجدوا إلا الفاعل المختار فعبدوه. وغاية هذه العبادة الوصول إلى الجنة التي هي كمال عالم الأفعال، فالله مهد لهم أراضي نفوسهم، وبنى عليها سماوات أرواحهم، وأنزل من تلك السماوات ماء علم توحيد الأفعال ، فأخرج به من تلك الأرض نبات الاستسلام والأعمال والطاعات والأخلاق الحسنة ليرزق قلوبهم منها ثمرات الإيقان والأحوال والمقامات، كالصبر والشكر والتوكل.
ولما أثبت التوحيد، استدل على إثبات النبوة ليصح بهما الإسلام، فإنه لا يصح إلا بشهادتين لأن مجرد التوحيد هو الاحتجاب بالجمع عن التفصيل وهو محض الجبر المؤدي إلى الزندقة والإباحة، ومجرد إسناد الفعل والقول إلى الرسول، احتجاب بالتفضيل عن الجمع الذي هو صرف القدر المؤدي إلى المجوسية والثنوية، والإسلام طريق بينهما بالجمع بين قولنا: لا إله إلا الله، وبين قولنا: محمد رسول الله، واعتقاد مظهريته لأفعاله تعالى. فإن أفعال الخلق بالنسبة إلى أفعال الحق كالجسد بالنسبة إلى الروح، فكما أن مصدر الفعل هو الروح ولا يتم إلا بالجسد، فكذلك مبدىء الفعل هو الحق ولا يظهر إلا بالخلق. ولا بد من الرسالة لأن الخلق بسبب احتجابهم وبعدهم عن الحق لا يمكنهم تلقي المعارف من ربهم، فيجب وجود واسطة يجانس بروحه الشاهدة للحق الحضرة الإلهية، وبنفسه المخالطة للخلق الرتبة البشرية، ليتلقى قلبه من روحه الكلمات الربانية، ويلقي إلى نفسه القدسية، ويقبل منه الخلق برابطة الجنسية فقال:
[آية 23] * (وإن كنتم في ريب مما نزلنا) * أي: في تنزيلنا على محمد فتشكوا في حقية نبوته، فروزوا قواكم البشرية، وأحرزوا عقولكم المحتنكة بالقياس، المحجوبة عن نور الهداية، وأفكاركم الدرية بتركيب الكلام ونظم المعاني، وأنتم ومن حضركم من أبناء جنسكم، هل تقدرون على الإتيان بسورة أي: طائفة من الكلام مثله * (إن كنتم صادقين) * في نسبته إلى محمد.
[آية 24]
مخ ۴۱
* (فإن لم تفعلوا) * فأذعنوا وأسلموا وآمنوا، واتركوا العناد المفضي بكم إلى النار. فحذف الملزوم الذي هو الإيمان أو الإسلام، وأقام لازمه الذي هو اتقاء النار مقامه ليكون أدل على أن الإنكار موجب لدخول النار وحصول العذاب لهم. وقوله:
* (ولن تفعلوا) * اعتراض على طريق الإخبار بالغيب للعلم بامتناع عقول المحجوبين وعن مثله. والمراد بالنار احتراقهم بثورة نفوسهم، وشرر طباعهم المصروفة عن الروح القدسي الروحاني، والنسيم الذوقي الرحماني، المحرومة عن لذة برد اليقين، وسلامة دار القرار المقطوعة بالمألوفات الحسية، واللذات البدنية الممنوعة، بما خبريت به وألفته مع بقاء حنينها إليه وولهها، ورسوخ هيئات التعلق بالأمور السفلية، ومحبة الأجساد الأرضية فيها التي هي سبب استيقاد نيرانها، ولهذا قال: * (وقودها الناس والحجارة) * أي: الأمور الجاسية، السفلية، الصامتة، التي تعلقوا بها بالمحبة فرسخت صورها في أنفسهم، وسجنت نفوسهم بميلهم إليها، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((المرء يحشر مع من أحب حتى لو أحب أحدكم حجرا حشر معه))، وكيف لا، وقد ركزت صورته في نفسه بالمحبة بحيث صار صورة قلبه صورته.
وأعلم أن حرارة النار تابعة لصورتها النوعية التي هي روحانيتها وملكوتها، وإلا ساوت سائر الأجسام في خواصها، وتلك الروحانية شر من نار، قهر الله المعنوية بعد تنزلها في مراتب كثيرة كتنزلها في مرتبة النفس بثورة الغضب، إذ ربما تؤثر ثورة الغضب في إحراق الأخلاق ما لا تؤثر النار في الحطب. ومن هذا يعلم أن كل مسخن لا يجب أن يكون حارا. وإذا كانت النار الجسمانية أثرا للنار الروحانية، فلا جرم أن إيلامها أشد وأدوم من إيلام هذه النار، كيف وكل قوة جسمانية متناهية دون القوى الروحانية؟ ولهذا المعنى يقال: إن نار جهنم غسلت بالماء سبعين مرة، ثم أنزلت إلى الدنيا ليمكن الانتفاع بها * (أعدت للكافرين) * المحجوبين عن الدين لانقطاعهم دون مرادهم.
[آية 25 - 26] * (وبشر الذين آمنوا) * بالصانع وعملوا ما يصلحهم للجنة بمقتضى علمهم بتوحيد
مخ ۴۲
الأفعال أن لهم مراداتهم ومشتهياتهم فوق ما تصوروا وتمنوا، التنكير الجنات، والجنات الجارية من تحتها الأنهار أبهى وأطيب ما يكون من مقام، وألذ وأحلى ما يكون من مرام لأهل الدنيا، فهي لنفوسهم من جنس جنات الدنيا، وأصفى منها بحسب المعاد الجسماني، فإنه حق كما ستعلم. * (كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل) * في الدنيا، فإنها مألوفهم * (وأتوا) * بالرزق * (متشابها) * ولقلوبهم هي مقاماتهم، كالتوكل مثلا، وروضات عالم القدوس التي تنشأ من كل مرتبة منها أنهار علوم تنفع السالكين، وتنفع علة المتعطشين المشتاقين. والثمرات هي الحكم والمعارف، وقولهم: * (هذا الذي رزقنا من قبل) * إشارة إلى أن تلك العلوم والحكم كانت ثابتة للقلب حالة التجرد، فاحتجبت عنها بالتوغل في الأمور الطبيعية عند التعليق فنسيتها، ثم تذكرت حين تجردت عن ملابسها لقوله عليه الصلاة والسلام:
((الحكمة ضالة المؤمن)). والأزواج لنفوسهم الحور العين المطهرة عن الطمث والفواحش، ولقلوبهم النفوس القدسية المطهرة عن دنس الطبائع وكدر العناصر، ولا جنة لأرواحهم لاحتجابهم عن المشاهدة.
* (إن الله لا يستحي) * لا يمتنه المستحيي * (أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها) * إذ الكافر عنده أحقر من بعوضة، والدنيا من جناحها، كما نطلق به الحديث.
* (أنه الحق من ربهم) * لمناسبة الممثل به الممثل له * (وما يضل به إلا الفاسقين) * الذين خرجوا من مقام القلب إلى مقام النفس، ومن طاعة الرحمن إلى طاعة الشيطان. وهم الفريق الثاني من الأشقياء لا الفريق الأول، فإنهم ضالون في نفس الأمر على أي حال كان لا به ولا بسبب آخر. وإضلالهم به مسبب عن فسقهم في الحقيقة، إذ ترتيب الحكم على الوصف يشعر بالعلية وهي زيادة عنادهم وإنكارهم وحقدهم وغلبة صفات نفوسهم على قلوبهم بورود القرآن فيزيدهم بعدا وظلمة على ظلمة.
[آية 27] * (الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه) * هو الذي أشار إليه في قوله: * (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى) * [الأعراف، الآية: 172]. وقد ورد في الحديث: ((أن الله تعالى مسح ظهر آدم بيده وأخرج ذريته منه كهيئة الذر))... الحديث. فيد الله هو العقل الأقداس، والروح الأول الذي هو
مخ ۴۳
روح العالم المسمى يمين الرحمن، وآدم هو النفس الناطقة الكلية التي هي قلب العالم. ومسحه ظهره تأثير العقل فيها وتنويره إياها بنوره بالاتصال الروحاني، وإخراج ذريته منه إيجاد النفوس الشخصية الجزئية التي كانت فيها بالقوة، وإخراجها إلى الفعل. وعهد الله إليهم بقوله: * (ألست بربكم) * إيداع علم التوحيد في ذواتهم وميثاق ذلك العهد ركز أدلة التوحيد في عقولهم وإلزام ذلك العلم إياهم وجعله من اللوازم الذاتية لهم، بحيث إذا تجردوا عن الصفات النفسانية والغواشي الجسمانية تبين لهم ذلك، وانكشف عليهم أظهر شيء وأبينه وهو إشهادهم على أنفسهم لكون ذلك العلم ضروريا حينئذ، وإجابتهم لذلك بقولهم: * (بلي) * قبولهم الذاتي له، ونقض ذلك العهد انهماكهم في اللذات البدنية والغواشي الطبيعية وتعبدهم لهواهم وشهواتهم، بحيث احتجبوا بها عن وحدة الله وتعبده، وقطعهم ما أمر الله بوصله إعراضهم عن اتصال روح القدس والمبادئ العالية والأرواح السماوية التي هي الملأ الأعلى، وسكان الحضرة الإلهية من أهل الجبروت والملكوت الذين يجانسونهم بذواتهم وصفاتهم، وهم أهل قرابتهم الحقيقية، ورحمهم الظاهر المأمور بوصله حقيقة بتوجههم إلى العالم السفلي ومحبتهم للجواهر الفاسقة المظلمة، وعشقهم وشغفهم بالأمور الخسيسة الفانية. ولهذا قال عليه صلى الله عليه وسلم: ((إن الله يحب معالي الأمور وأشرافها، ويبغض سفاسفها)) *، إذ كلما كان مطلوب النفس أخس كانت عن العالم الشريف أبعد.
* ضروب الناس عشاق ضروبا * فأغدرهم أشقهم جيوبا * وقد مر تفسير الإفساد في الأرض، والخسران الذي هو تضييع الجوهر النوري الباقي لأجل الظلماني الفاني.
[آية 28 - 29] * (كيف تكفرون بالله) * أي: على أي حال تحجبون عنه * (و) * الحال أنكم * (كنتم أمواتا) * نطفا في أصلاب آبائكم * (فأحياكم) * أي: لم لا تستدلون بالخلق على الخالق * (ثم يميتكم) * بالموت الطبيعي * (ثم يحييكم) * بالبعث، إذ الأول معلوم بالمشاهدة، والثاني بالاستدلال عليه بالإنشاء الأول * (ثم إليه ترجعون) * للمجازاة، أو ثم يميتكم عن أنفسكم بالموت الإرادي الذي هو الفناء في الوحدة ثم يحييكم بالحياة الحقيقية التي هي البقاء بعد الفناء بالوجود الموهوب الحقاني. ثم إليه ترجعون للمشاهدة إن كانت الوحدة وحدة الصفات، أو الشهود إن كانت وحدة الذات.
مخ ۴۴
* (هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا) * أي: الجهة السفلية التي هي العالم العنصري جميعا لكونها مبادئ خلقكم ومواد وجودكم وبقائكم * (ثم استوى) * أي:
قصد قصدا مستويا إلى الجهة العلوية، وثم للتفاوت بين الجهتين والإيجادين الإبداعي والتكويني لا للتراخي بين الزمانين ليلزم تقدم خلق الأرض على السماء.
فعدلهن سبع سماوات بحسب ما تراه العامة، إذ الثامن والتاسع هو الكرسي والعرش الظاهران. والحقيقة أن الجهة السفلية هي العالم الجسماني كالبدن وأعضائه لدنو رتبته بالنسبة إلى العالم الروحاني الذي هو الجهة العلوية المعبر عنها بالسماء.
وثم للتفاوت بين الخلق والأمر. وسواهن سبع سماوات إشارة إلى مراتب عالم الروحانيات، فالأول: هو عالم الملكوت الأرضية والقوى النفسانية والجن. والثاني:
عالم النفس. والثالث: عالم القلب. والرابع: عالم العقل. والخامس: عالم السر.
والسادس: عالم الروح. والسابع: عالم الخفاء الذي هو السر الروحي غير السر القلبي. وإلى هذا أشار أمير المؤمنين عليه السلام بقوله: ((سلوني عن طرق السماء، فإني أعلم بها من طرق الأرض))، وطرقها: الأحوال والمقامات كالزهد، والتوكل، والرضا، وأمثالها.
واعلم أن العقل باصطلاح الحكمة هو الروح باصطلاح أهل التصوف، والذي سميناه ههنا بالعقل على اصطلاح المتصوفة هو القوة العاقلة التي للنفس الناطقة عند الحكماء. ولهذا قالت المتصوفة: العقل هو موضع صقيل من القلب، متنور بنور الروح. والقلب هو النفس الناطقة، فاحفظه لئلا يتشوش الفهم باختلاف الاصطلاح.
[آية 30] * (وإذ قال ربك للملائكة) * إذ: إشارة إلى السرمد الذي هو من الأزل إلى الأبد، والقول هو إلقاء معنى تعلق مشيئة الله تعالى بإيجاد آدم في الذوات القدسية الجبروتية التي هي الملائكة المقربون والأرواح المجردة والملكوتية التي هي النفوس السماوية إذ كل ما يحدث في عالم الكون له صورة قبل التكوين في عالم الروح الذي هو عالم القضاء السابق، ثم في عالم القلب الذي هو قلب العالم المسمى باللوح المحفوظ، ثم في عالم النفس أي: نفس العالم الذي هو لوح المحو والإثبات المعبر عنه بالسماء الدنيا في التنزيل كما قال تعالى: * (وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم) * [أية 21] [الحجر، الآية: 21]، فذلك قوله تعالى للملائكة: * (إني جاعل في الأرض خليفة) * واعتبر بحالك في نفسك، فإن كل ما يظهر على جوارحك التي هي عالم
مخ ۴۵
كونك وشهادتك من القول والفعل، له وجود في روحك التي هي ما وراء غيب غيبك، ثم في غيب، ثم في نفسك التي هي غيبك الأدنى وسماؤك الدنيا، ثم يظهر على جوارحك. والجعل أعم من الإبداع والتكوين، فلم يقل (خالق) لأن الإنسان مركب من العالمين: خليفة يتخلق بأخلاقي ، ويتصف بأوصافي، وينفذ أمري، ويسوس خلقي، ويدبر أمرهم، ويضبط نظامهم، ويدعوهم إلى طاعتي.
وإنكار الملائكة بقولهم:
* (قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء) * وتعريضهم بأولويتهم لذلك بقولهم: * (ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك) * هو احتجابهم عن ظهور معنى الإلهية والأوصاف الربانية فيه التي هي من خواص الهيئة الاجتماعية والتركيب الجامع للعالمين الحاصر لما في الكونين. وعلمهم بصدور الأفعال البهيمية التي هي الإفساد في الأرض، والسبعية المعبر عنها بسفك الدماء اللتين هما من خواص قوة الشهوة والغضب الضروري وجودهما في تعلق الروح البدن، وبنزاهة ذواتهم وتقدس نفوسهم عن ذلك، إذ كل طبقة من الملائكة المقدسة تطلع على ما تحتها وما في أنفسها ولا تطلع على ما فوقها، فهي تعلم أنه لا بد في تعلق الروح العلوي النوراني بالبدن السفلي الظلماني من واسطة تناسب الروح من وجه، وتناسب الجسم من وجه، هي النفس، وهي مأوى كل شر، ومنبع كل فساد. ولا تعلم أن الجمعية الإنسانية جالبة للنور الإلهي الذي هو سر * (إني أعلم ما لا تعلمون) * والفرق بين التسبيح والتقديس، أن التسبيح: هو التنزية عن الشريك والعجز والنقص. والتقديس: هو التنزية عن التعلق بالمحل وقبول الانفعال وشوائب الإمكان والتعدد في ذاته وصفاته وكون شيء من كمالاته بالقوة. فالتقديس أخص، إذ كل مقدس مسبح وليس كل مسبح مقدسا، فالملائكة المقربون الذين هم الأرواح المجردة بتجردهم وعدم احتجابهم عن نور ربهم وقهرهم ما تحتهم بإفاضة النور عليهم، وتأثيرهم في غيرهم، وكون جميع كمالاتهم بالفعل مقدسون وغيرهم من الملائكة السماوية والأرضية مسبحون ببساطة ذواتهم وخواص أفعالهم وكمالاتهم.
[آية 31 - 33] * (وعلم آدم الأسماء كلها) * أي: ألقى في قلبه خواص الأشياء التي تعرف بها
مخ ۴۶