506

ثم لما قرأت مضمون الكتاب عليهم، وشرحت لهم فحواه { قالت } خائفة مضطربة، منادية لهم ثانيا تأكيدا للتأمل والتدبر في هذا الأمر الهائل: { يأيها الملأ أفتوني } أي: أجيبوا علي وأشيروا إلي { في أمري } هذا، واختاروا ما هو الأحوط، واستفتوا طريقا ورأيا، أختار ذلك قطعا، وآمر بها حكما؛ إذ { ما كنت قاطعة أمرا } أمضي عليه وأجزم به { حتى تشهدون } [النمل: 32] له وتستصوبونه، بل الأمر مفوض إليكم، فاستصوبوا ما أقر رأيكم عليه؛ حتى أمضي على مقتضاه.

وبعدما فوضت أمرها إليهم استعطافا واستظهارا { قالوا } مستعلين مستكبرين على مقتضى أصحاب القدرة والقوة، وأرباب الجاه والثورة: { نحن } قوم { أولو قوة } وقدرة تامة عددا وعددا { وأولو بأس شديد } قد انتشر صيتنا في الآفاق بالشدة والشجاعة وأنواع الجراءة والاستيلاء، والصولة على الأعداء، فنحن هكذا ولا خوف لنا منهم { والأمر } بعد ذلك { إليك } ونحن عبيدك { فانظري ماذا تأمرين } [النمل: 33] من القتال والصلح، نعمل على وفق ما أمرتنا به.

{ قالت } في جوابهم بعدما تأملت، وتعمقت في أمرها ورأيها: نعم، إن لنا كثرة وشجاعة منتشرة في أقطار الأرض بأسها وهيبتها، إلا أن الحرب خداع، والقتال سجال لا تدرى عاقبتهما، ولا اعتماد على الكثرة والجراءة بعدما نفذ القضاء على الهزيمة، ومن المقدمات المسلمة { إن الملوك } وأرباب القدرة الاستيلاء { إذا دخلوا قرية } عنوة وقهرا { أفسدوها } بأن غيروا لها أوضاعها { وجعلوا أعزة أهلهآ أذلة } بالغلبة والاستيلاء { وكذلك يفعلون } [النمل: 34] هؤلاء لو دخلوا على بلادنا هذه.

{ و } ما يليق لنا اليوم، ولا يصلح بحالنا مقارعة باب المقاتلة والمصالحة أيضا، بل { إني مرسلة } رسلا { إليهم } أولا مصحوبة { بهدية } كثيرة لائقة بعظم شأنهم لأختبرهم { فناظرة } منتظرة بعد ذلك { بم يرجع المرسلون } [النمل: 35] أي: بأي شيء يرجعون من عندهم بعد تجسسهم من أحوالهم وأطوارهم ومعاشهم مع رسلنا؛ حتى أعمل على ما يقتضى ما يرجعون، هذا من كمال عقلها ورزانتها في تدبيرات المملكة وصيانتها آداب السلطنة والإمارة وضبط المملكة.

وروي أنها أرسلت منذر بن عمرو في وفد، وأرسلت معه غلمان على زي الجواري، وجواري على زي الغلمان، وحقة فيها درة عذراء لا ثقب فيها، وجزعة معوجة الثقب، وقالت: إن كان نبيا بين الغلمان والجواري، وثقب الدرة ثقبا مستويا، وسلك في الجزعة خيطا، ومعها أموال عظام من لبنات الذهب والفضة، والعود والعنبر والكافور والمسك، وأجناس الجواهر والنفائس من كل شيء، فلما وصلوا معسكره رأوا عظمة ما شاهدوا مثلها ولا سمعوا من أحد.

[27.36-40]

{ فلما جآء } الرسل { سليمان } وحضروا عنده نظر إلأيهم بوجه حسن طلق، وتكلم معهم لينا حزينا مخبرا عن أحوال ملكتهم ومملكتهم، ثم قال: ما أمركم ومصلحتكم؟ فأطعوا كتاب بلقيس فنظر فيه، فإذا هي فصلت فيه جميع ممتحناتها، قال سليمان عليه السلام: أين الحقة؟ فجيء بها فقال: إن فيها درة ثمينة غير مثقوبة، وجزعة معوجة الثقب، فأمر سليمان الأرضة فأخذت شعرة، فدخلت في الدرة حتى خرجت من الجانب الآخر، وأمر دودة أخرى حتى دخلت في الجزعة المعوجة الثقب بخيط حتى خرجت من الجانب الآخر، وميز بين الجواري والغلمان بأن أمرهم بغسل وجوههم وأيديهم، فكانت الجارية تأخذ الماء بإحدى يديها وتصب في الأخرى، ثم تضر وجهها، والغلام كما يأخذه يضرب به وجهه.

ثم أتوا ببقايا الهدايا المرسله فأبى سليمان عنها، ورد كله إليهم مهددا عليهم حيث { قال أتمدونن } وتزيدونني { بمال } يميل إليها أبناء الدنيا المحرومين عن اللذات الأخروية { فمآ آتاني الله } المنعم المفضل علي من الأمور الأخروية من النبوة والرسالة، وتسخير الثقلين والرياح والطيور والوحوش، وجميع من الجو وعلى وجه الأرض { خير ممآ آتاكم } من حطام الدنيا ومن مزخرفاتها الفانية، فما لنا ميل والتفات إليها { بل أنتم } وأمثالكم من أبناء الدنيا { بهديتكم } هذه { تفرحون } [النمل: 36] أي: تميلون وتسرون بها؛ لفخركم بأمثال هذه الزخارف؛ لقصور نظركم عليها وغفلتكم عن الأمور الأخروية.

{ ارجع } أيها الرسول { إليهم } أي: إلى ملكتك ومن معها أي: إلى ملكتك ومن معها من الجنود، وقل لهم: مطلوبي منهم الإيمان بالله المتوحد بالألوهية والربوبية، والانقياد إليه والإطاعة لأحكامه فلهم الإتيان إلي مؤمنين مسلمين منقادين وإلا { فلنأتينهم بجنود } من الإنس والجن وأصناف الوحوش والطيور، وأنواع الهوام والحشرات بالغة من الكثرة إلى حد { لا قبل لهم بها } أي: لا يسع لهم مقابلتها من بعيد، فكيف ممانعتها ومقاتلتها؟! { و } بعدما لم يسع لهم المقابلة { لنخرجنهم منهآ } أي: من بلادهم { أذلة } ضعفاء ذليلين بأيدينا { وهم } حنيئذ { صاغرون } [النمل: 37] مهانون أسراء بأيدي هؤلاء العفاريت.

ثم لما رجع رسلها مع ما أهدت من الهدايا على وجهها قالت بلقيس: قد عرف أنه ليس بملك، بل نبي من الأنبياء مؤيد بأمر سماوي، وما لنا طاقة مقاومة ومقابلة معه سوى المصالحة والإطاعة بأمره والحضور عنده.

ناپیژندل شوی مخ