وفقنا بفضلك وجودك على ما تحب منا وترضى.
{ و } بعدما سمعتم ما سمعتم من علو شأنه سبحانه، وكمال عظمته وكبريائه { جاهدوا في الله } واجتهدوا في سبيل توحيده { حق جهاده } أي: ابذلوا وسعكم وطاقتكم في سلوك طرق التوحيد، مرابطين قلوبكم إلى الله، باذلين مهجكم في الفناء فيه، وكيف لا تجاهدون وترابطون أيها المائلون إلى الله بالميل الحبي الشوقي مع أنه { هو } سبحانه { اجتباكم } واصطفاكم من بين البرايا لإدراك توحيده والاتصاف بعرفانه، وأرسل عليكم الرسل، وأنزل عليكم الكتب ليرشدكم إليه، ويبينوا لكم طريق توحيده بوضع المناهج والشرائع الموصلة إلأيه، والأديان المثمرة له { وما جعل } سبحانه { عليكم في الدين } الموضوع فيكم { من حرج } ضيق وعسر خارج عن وسعكم وطاقتكم، بل وسع سبحانه عليكم أمر دينكم بأن جعل ملتكم { ملة أبيكم إبراهيم } صلوات الرحمن عليه، إذ لا ضيق فيه ولا حرج.
أضاف أبوة إبراهيم إلى الأمة من أجداد الرسول صلى الله عليه وسلم، والرسول أب لهم؛ إذ رسول كل أمة أ ب ب النسبة إلى أمته، بل هو خير الآباء؛ لإرشادهم إلى طريق الحق، ولا معنى للأب إلا المرشد المربي.
وكما جعل سبحانه ملتكم ملة إبراهيم { هو } بذاته { سماكم المسلمين من قبل } في كتبه السالفة حيث قال سبحانه: من يؤمن ويصدق بمحمد خام النبوة والرسالة يصير مسلما { وفي هذا } الكتاب بين التسمية على وجه التسليم فسماكم فيه أيضا: مسلمين ضمنا، وإنما سماكم مسلمين مسلمين منقادين { ليكون الرسول } الذي هو أكمل الرسل وأفضل الأنبياء { شهيدا عليكم } شاهدا على انقيادكم وتسليمكم في يوم الجزاء، فتكونوا أفضل الأمم وأشرف الفرق، وبواسطة كونكم أ مته وزمرته وتحت لوائه { وتكونوا شهدآء على } عموم { الناس } بتبليغ الرسالة إليهم وإظهار الدعوة لهم، وإذا كنتم خير أمة وأشرف طائفة { فأقيموا الصلاة } وأديموا الميل والتوجه نحو الحق بجميع الجوارح والأركان تقربا إليه شوقا وتحننا { وآتوا الزكاة } المسقطة لميلكم إلى زخرفة الدنيا وحطامها { و } بالجملة { اعتصموا بالله } في كل الأحوال، واثقين بفضله وجوده، وفوضوا أمروكم كلها إليه، متوكلين عليه { هو مولاكم } أي: ناصركم ومعينكم ومولي أموركم { فنعم المولى } الولي المعين { ونعم النصير } [الحج: 78] الناصر المعين، ذو القوة المتين، حسبنا الله ونعم الوكيل.
خاتمة السورة
عليك أيها السالك المجاهد في سبيل الله أعداء الله وموانع الوصول إلى توحيده أن تجاهد أولا مع نفسك التي بين جنبيك، إذ هي من أعدى عدوك، وأشد صولة واستيلاء إلى مملكة باطنك وقلبك الذي هو مخيم سرادقات سلطان الوحدة، ومحل نزول قهرمان العزة، ومهبط الوحي الإلهي والوارد الغيبي، فلك أن تزيل صولتها، وتشتت شملها، وتفرق جمعها التي هي جنودها وأنواعها من القوى الشهوانية والغضبية، وجميع الأوصاف البهيمية المتداعية إلى تخريب القلب، وتعمير النفس الأمارة بالسوء، وتقويتها وتقويمها؛ إذ عداوتها ومنعها ذاتية حقيقية وبلا واسطة، وعداوة سائر الموانع بواسطتها.
وإياك الإطاعة والانقياد إليها، فإنها تشغلك عن الحق، وتضلك عن سبيله وتغريك إلى الباطل وتقودك إلى طريقه.
فاعلم أيها المجاهد الطالب للغلبة على جنود النفس الأمارة أنه لا يمكن لك هذا إلا بالاعتزال عن إقطاع الشيطان ومهلكة النفس ومشتهياتها ومستلذاتها بالكلية، والتشمر نحو الحق بالعزيمة الخالصة عن الرياء والرعونات والانخلاع عن مقتضيات الأوصاف البشرية بالإدارة الصادقة، والتوجه نحو الوحدة الذاتية عن طريق الفناء بإسقاط الإضافات المشعرة لتوهم الكثرة.
وبالجملة لا يتم سلوك السالك في طريق التوحيد إلا بالفناء في الله، والبقاء ببقائه.
ربنا هب لنا من لدنك جذبة تنجينا عن مضائق هوياتنا، وتوصلنا إلى فضاء توحيدك بمنك وجودك.
ناپیژندل شوی مخ