اذكر أوان انكشافه وإيقاظه من منام الغفلة التي هي عبادة الأوثان والأصنام وقت: { إذ قال لأبيه } مستنكرا عليه متعجبا من أمره، مناديا له رجاء أن يتفطن وتنبه بما تنبه به هو: { يأبت لم تعبد } وتطيع { ما لا يسمع } أي: شيئا لا يقدر على السمع { ولا يبصر } أي: لا يقدر على الإبصار، والمعبود لا بد أن يرى ويسمع أحوال عباده وحاجاتهم ومناجاتهم، { و } إذا لم يسمع ولم يبصر { لا يغني } ويدفع { عنك شيئا } [مريم: 42] من مكروهات ولا يعينك، فلا يصلح إذا للألوهية والربوبية، فلم عبدت وأطعت له مع أنه نحته بيدك وأظهرت أنت هيكله وشكله، والعجب منك كل العجب أنه مصنوعك أخذته إلها صانعا معبودا مستحقا للعبادة، مع أنك من ذوي الرشل والعلم، وهو جماد لا شعور له أصلا.
{ يأبت إني } وإنت كنت ابنك أصغر منك لكن { قد جآءني } ونزل علي { من العلم } ومن قبل الحق مع صغر سني { ما لم يأتك } مع كبرك؛ لأن الفضل بيد الله ويمقتضى إرادته يؤتيه من يشاء { فاتبعني } أي: اتبع ما أنزل علي من قبل ربي من خلوص الاعتقاد { أهدك } بتوفيق الله وإرشاده { صراطا سويا } [مريم: 43] موصلا إلى المعبود بالحق وتوحيده.
{ يأبت لا تعبد الشيطان } بعباده هذه التامثيل الباطلة والهياكل العاطلة، إذ ما هو إلا بإغوائه وتضليله؛ لأنه عدو لك ولأبناء عداوة قديمة مستمرة { إن الشيطان } المغوي المضل عن طريق الحق { كان } من الأزل إلى الأبد { للرحمن } المفيض لأصناف الخيرات والسعادات سيما الإيمان والعرفان المنجي عن الحرمان والخذلان عند لقاء الحنان المنان { عصيا } [مريم:44] عصى هو وانتظر لعصيان غيره وسعى بإضلاله وتسويلاته ليضل أهل الحق عن طريقه.
{ يأبت إني } من غاية إشفاقي وعطفي { أخاف } عليك { أن يمسك } وينزل { عذاب من الرحمن } المنتقم لأهل الضلال والطغيان بدل الثواب والغفران { فتكون } حينئذ بشاوتك وطغيانك { للشيطان وليا } [مريم: 45] صديقا، وللرحمن عدوا ببغيك وعصيانك له ومتابعتك لعدوه.
ثم لما تمادى مكالمة إبراهيم مع أبيه، ومحاورته على سبيل النصح والتذكير { قال } أبوه مقرعا عليه مهددا له مضلللا إياه: { أراغب أنت } أي: معرض بريء { عن آلهتي } ومعبوداتي، مع أن عبادتهم أولى وأليق بحالك { يإبراهيم } إذ خير الأولاد أن يتبع آباءه في الدين، سيما وقد سلف أجدادك على هذا وأنت استنكفت عن عبادة آلهتنا ، انته عن اعتقادك هذا، والله { لئن لم تنته } ولم تمتنع { لأرجمنك } وأرمينك بالأحجار على رءوس الأشهاد حتى تموت، قم من عندي { واهجرني } واتركني { مليا } [مريم: 46] زمانا طويلا، فإن ندمت عن اعتقادك هذا، ورجعت إلى ما كنا عليه. يعني عبادة الأصنام. فارجع إلي، وإلا فاذهب لا علاقة بين وبينك فأا بريء منك.
ثم لما رأى إبراهيم عليه السلام شدة غيه وضلاله، ورسوخ جهله وطغيانه { قال } مسترجعا إلى الله مودعا عليه مسلما: { سلام عليك } أي: سلامي عليك يا أبي، أهجرك بإجازتك إلا أني { سأستغفر لك ربي } لينقذك من أوزار الشرك، ويوصلك إلى مرتبة توحيده شكرا لأبوتك، ورعاية لحضانتك، وألتجئ نحو الحق، وألوذ به من شرك الذي هددتني به، { إنه } سبحانه { كان بي حفيا } [مريم: 47] مشفقا رحيما يحفظني من شرك ومن شر جميع من عاداني.
{ و } متى لو يفد لك نصحي، ولم ينفع لك تذكيري ووعظي { أعتزلكم } وأترككم على حالكم { و } أترك أيضا { ما تدعون } وتعبدون { من دون الله } وأتبرأ عنهم { وأدعو ربي } الذي رباني بفضله بالإيمان، وأوصلني إلى قضاء التوحيد والعرفان، وأعبد إياه وأطبعه في جميع أوقاتي وحالاتي { عسى ألا أكون بدعآء ربي } والتوجه نحو والتحنن إليه { شقيا } [مريم: 48] خائبا خاسرا عن رحمته، ذا شقاوة جالبة لسخط الله وغضبه.
{ فلما اعتزلهم } وبعد عنهم، واختار الغربة والفرار من بينهم { و } ترك عبادة { ما يعبدون من دون الله } من الأوثان والأصنام { وهبنا له } من مقام جودنا وفضلنا { إسحاق ويعقوب } ليؤانس بهم، ويدفع كربة الغربة بصحبتهما { و } لنجابة طينتهما وكرامة فطرتهما { كلا } منهما { جعلنا نبيا } [مريم: 49] مثل أبيهما مهبطا للوحي والإلهام مثله.
{ ووهبنا لهم } أي: لإبراهيم وولديه { من } سعة { رحمتنا } ووفور جودنا الأموال والأولاد والجاه والثروة، إلى أن صاروا مرجع الأنم وحاكمهم في الأحكام إلى يوم القيامة { وجعلنا لهم لسان صدق } أي: جعلنا ثناءهم ومدحهم العائد إليهم عن ألسنة البرايا ثناء صدق و تحقيق، لا خطابة تحنن كثناء سائر الملوك والجبابرة، لذلك صار ثناؤهم { عليا } [مريم: 50] مظهرا لعلو رتبتهم وشأنهم إلى نقراض النشأة الأولى، كل ذلك ببركة دعاء إبراهيم عليه السلام، وإجابة الحق له؛ حيث قال في مناجاته مع ربه:
واجعل لي لسان صدق في الآخرين
ناپیژندل شوی مخ