358

{ و } لما أمره اليهود لقريش أن يسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم سؤال تعنت وامتحان عن الروح وذي القرنين وأصحاب الكهف، فسألوا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

" ائتوني غدا أخبركم عنها ".

قاله بلا استنثاء وتعليق بمشيئتة؛ أي: لم يقل: إن شاء الله، فانسد عليه باب الوةحي بضعة عشر يوما، فشق عليه صلى الله عليه وسلم الأمر، وكذبته قريش وتحزن حزنا شديدان فنهاه سبحانته نهيا مؤكدا، وأدبه تأديبا بليغا؛ لئلا يترك الاستثناء في الأمور أصلا، فقال: { لا تقولن } يا أكمل الرسل ألبتة { لشاىء } عزمت عليه وأردت أن تفعله { إني فاعل ذلك } الشيء { غدا } [الكهف: 23] على سبيل البيت والمبالغة.

{ إلا أن يشآء الله } أي: إلا أن تذكر وتجيء بالاستثناء بعد عزمك بقولك، إن شاء الله، { واذكر ربك } يا أكمل الرسل { إذا نسيت } ذكر الاستثناء والتعليق على مشيئة الله في خلال الأمور حين القصد والعزيمة والقول بالإصدار، بعدما تذكرت نسيانك تلافيا لما فوت وتداركا لما تركت، ولو بعد حين بل سنة، وقل: إن شاء الله متذكرا الأمر الذي تركت التعليق فيه قضاء لما فات.

{ وقل } بعدما كشفنا عليك جواب سؤالهم هذا شكرا له، وابتهاجا عليه، وطلبا للمزيد منه سبحانه: { عسى أن يهدين ربي } وأرجوا من فضله وجوده أن يرشدني ويدلني { لأقرب من هذا رشدا } [الكهف: 24] أي: لأمر هو أقرب دلالة من أمر أصحاب الكهف وقصتهم إلى الهداية والرشاد، وأوضح إيصالا إلى مسلك الصواب والسداد؛ تأديبا لنبوتي وتشييدا لرسالتي، وهو قد هداه وأرشده بأعظم من ذلك: كالإخبار عن بعض الغيوب، وقصص الأنبياء المتباعد عهدهم وزمانهم، وأمارات الساعة وأشراطها، وإنزال القرآن المشتمل على الرطب واليابس الحادثة في العالمين، الجارية في النشأتين.

{ و } ما اختلف أهل الكتاب في عدد الفتية، اختلفوا أيضا في مدة لبثهم في الغار راقدين نائمين قال بعضهم: { لبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين } بالسنة الشمسية على ما هو المشهور { و } بعضهم { ازدادوا } عليها { تسعا } [الكهف: 25] من تلك السنة أيضا، وإن كان المراد بالسنة فيه الأولى شمسية والثانية قمرية، كان كلا القولين واحدا؛ لأن التفاوت بينهما في كل مائة عام سنة ثلاث سنين، فيكون الزايدة في ثلاثمائة: تسع سنين قمرية.

{ قل } ي أكمل الرسل بعدما لم يوجد شيء يوثق به ويعتمد عليه في تعيين مدة لبثهم في الغار سوى التخمين والحسبان { الله } المطلع لجميع السرئر والخفايات { أعلم بما لبثوا } أي: بمدة لبثهم في كهفهم راقدين؛ إذ { له } سبحانه لا لغيره من مظاهره وأظلاله { غيب السموت والأرض } أي: الاطلاع على المغيبات الواقعة في العلويات من غاية انشكافه وانجلائه له أن يقال: { أبصر به وأسمع } كما يجري في مبصراتنا ومسموعاتنا؛ لاستغنائه وتنزهه سبحانه عن الالتفات والإصغاء، بل المغيبات والمحسوسات كلها في حضوره وحضرة علمه على السواء بلا تفاوت أصلا.

ثم قال سبحاه: { ما لهم } أي: لأهل السماوات والأرض { من دونه } أي: دون الله { من ولي } يوليهم ويلي أمورهم؛ إذ هو مستقل بالوجود والتصرف في ملكه وملكوته بلا مظاهرة أحد ومعاونته { ولا يشرك } بمقتضى تعززه وكبريائه وسطوته واستيلائه { في حكمه } السابق في قضائه إجمالا، واللاحق في قدره تفصيلا { أحدا } [الكهف: 26] من مظاهره ومصنوعاته، بل له الإيجاد والإعدام والإحياء والإماتة والتخليق والترزيق، وجميع ما حدث من الحوادث الجارية في الآفاق كلها مستندة إليه سبحانه وتعالى أولا وبالذات، بلا تخلل الوسائل والوسائط العادية الناشئة من الأوهام والخيالات الباطلة بالنسبة إلى أولي الأحلام السخيفة، وذوي الحجب الكثيفة النافية لرؤية الحق انجلائه في المظاهر كلها.

وأما أرباب الوصول والشهود، وهم الذين ارتقوا حجب الخيالات وسدل الأوهام والعادات، فلا يرون في الوجود سواه، ولا إله عندهم إلا هو، لذلك لم سنسدوا شيئا من الحوادث الكائنة بمقتضى التجليات والشئون الإلهية إلا له سبحانه؛ إذ ليس وراء الله عندهم مرمى ومنتهى.

{ و } إذ كان مفاتيح المغيبات ومقاليد العلوم والإدراكات، وكذا جميع ما في العالم من المحسوسات والمشاهدات كلها مستندة إليه سبحانه، ناشئة من عنده { اتل } يا أكمل الرسل على من تبعك من المؤمين { مآ أوحي إليك من كتاب ربك } على الوجه الذي أنزل إليك بلا تبديل وتحريف؛ إذ { لا مبدل لكلماته } ولا متصرف في كلامه سواه، ولا تسمع قول المشركين:

ناپیژندل شوی مخ