ثم قال سبحانه مخاطبا لحيبيه على وجه التنبيه والتأديب بعدما ظهر عليه مخايل الميل والركون عن الحق بمخادعة أهل الكفر والنفاق: { وإن كادوا } أي: أنهم؛ أي: الكفرة قاربوا { ليفتنونك } يا أكمل الرسل، ويوقعونك في الفتنة الشديدة يالميل والصرف { عن الذي أوحينآ إليك } وأنزلنا في كتباك من الأوامر والنواهي والأحكام المتعلقة بتهذيب الظاهر والباطن، ويرغبونك { لتفتري علينا غيره } أي: غير ما أوحينا إليك { وإذا } أي: حين افترائك وانتسابك إلينا غير ما أوحينا إليك من الأمور التي تشتهيها نفوسهم وترتضيها قلوبهم { لاتخذوك خليلا } [الإسراء: 73] وآمنوا بك بواسطة انتسابك هذا.
نزلت في ثقيف حين قالوا: لا نؤمن بك حتى تخصنا بخصال نفتخر ونباهي على سائر العرب، لا نضن ولا نحشر ولا نجبي في صلواتنا، وكل ربا لنا فهو لنا، وكل ربا علينا فهو موضوع عنا، وأن تمتعنا باللات سنة، وأن تحرم وادينا كما حرمت مكة، فإن قالت العرب: لم فعلت معهم هذا؟ فقل: إن الله أمرني وأوصاني بها، وانتظر أن تنزل آية فيها، فإن فعلت بنا هذه نؤمن بك ونصدقك ونتخذك خليلا، فتردد صلى الله عليه وسلم وقرب أن يميل ويركن لشدة ميله إلى إيمانهم واتباعهم، فجاء جبريل عليه السلام فمنعه عن هذا الرأي.
لذلك قال سبحانه: { ولولا أن ثبتناك } أي: ولولا إثباتنا وتثبيتنا إياك يا أكمل الرسل في مقر صدقك وتمكينك { لقد كدت } وقربت { تركن } وتميل { إليهم شيئا قليلا } [الإسراء: 74] أي: صوت في صدد الميل والركون إلى إنجاز ما أرداوا.
{ إذا } أي: حين إنجاحكم سؤلهم ومأمولهم { لأذقناك } في نشأتك هذه { ضعف الحياة } أي: ضعف عذاب من جاء بمثله في النشأة الأولى { وضعف الممات } أي: ضعف عذاب من جاء بمثله في النشأة الأخرى؛ يعني: نعذبك في الدنيا والآخرة بعضف عذاب من جاء به من سائر الناس؛ لأن جزاء الأبرار لو أتوا بالمعاصي والآثام ضعف جزاء الأشراء، بل أكثر؛ إذ لا يتوقع منهم الانصراف عن منهج الرشاد أصلا، ولو انصرفوا أخذوا بضعف من يتوقع منهم الانحراف والانصراف { ثم } بعد أخذنا إياك انتقامنا منك { لا تجد لك علينا نصيرا } [الإسراء: 75] أي: لا تجد ظهيرا لك نصيرا يظهر علينا بنصرتك، ويطالبنا بإنقاذك عن عذابنا.
[17.76-86]
{ وإن كادوا ليستفزونك } أي: وإن قاربوا؛ ليحركونك ويضطرونك بالنقل والجلاء { من الأرض } التي استقررت وتمكنت فيها؛ يعني: مكة { ليخرجوك منها } معللين بأن الأنبياء والرسل إنما بعثوا في أرض الشام وأرض المقدسة، خصوصا أجدادك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب وأولادهم وأسباطهم. صلوات الله عليهم كلهم. بعثوا فيها، فلك أن تخرج إليها حتى نؤمن لك ونصدق برسالتك، وما ذلك إلا حلية وخديعة معك؛ ليخرجوك من مكة حتى تبقى رئاستهم معهم { و } لا تغتم يا أكمل الرسل ولا تحزن بالخروج منها، فإنك لو خرجت منها { إذا لا يلبثون خلافك إلا } زمانا { قليلا } [الإسراء: 76] وقد جرى الأم على مقتضى وعد الله سبحانه، فإنهم بعدما هاجر صلى الله عليه وسلم ببدر بعد مدة يسيرة.
وليس إخراجك يا أكمل الرسل عن مكة، وهلاكهم بعد خروجك منها ببدع منا مستحدث، بل من سنتنا القديمة وعادتنا المستمرة إهلاك الأمم الذين أخرجوا نبيهم المبعوث إليهم من بين أظهرهم عتوا وعنادا بل صار ذلك: { سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا } المبعوثين إلى الأمم الما ضية؛ أ ي: من سنتنا الموضوعة فيهم بالنسبة إلى أقوامهم، فكذلك حالك مع هؤلاء المعاندين المكذبين { و } بعدما استمر منا هذه السنة السنية { لا تجد } أنت وغيرك أيضا { لسنتنا } المنبعثة من كمال حكمتنا { تحويلا } [الإسراء: 77] أي: تغييرا وتبديلا؛ إذ لنا فيها حكم ومصالح مخفية استأثرنا بها لا اطلاع لك عليها، وإنما عليك التوجه والتقرب في جميع أوقاتك وحالاتك سيما في الأوقات المكتوبة.
{ أقم الصلاة } وأدم التوجه { لدلوك الشمس } أي: حين زوالها من الاستواء { إلى غسق اليل } أي: ظلمته بغروبها إلى حيث لم يبق من بقية آثار ضوئها شيء أصلا، فيسع في المحدود المذكور: الظهر والعصر والمغرب والعشاء على ما عينه الشرع لكل منها وقتا معينا { و } طول { قرآن } صلاة { الفجر } وأطل القيام فيها مع القراءة { إن قرآن الفجر } الذي هو وقت الانكشاف والانجلاء الصوري، المنبئ عن الانكشاف المعنوي والانجلاء الحقيقي، الذي هو عبارة عن إشراق نور الوجود واضمحلال الأظلال والعكوس المشعرة بالكثرة والغيرية.
لذلك { كان } قراءة القرآن المبين لسرائر الوحدة الذاتية، وكيفية سريانها على صفائح المكونات فيه { مشهودا } [الإسراء: 78] لخواص عباد الله من الملائكة والثقلين، بل لجميع الحيوانات من الوحوش والطيور؛ إذ الكل في وقت الفجر متوجهون نحو الحق، مسبحون مهللون حالا ومقالا.
{ و } إن شئت ازيداد القرب والثواب اسهر واستيقظ قطعة { من الليل } واترك النوم فيها طلبا لمرضاة الله { فتهجد به } أي: صل فيها صلاة التهجد يتطويل القراءة؛ لتكون { نافلة } زائدة { لك } على فرائضك مزيدة لقربك وكرامتك { عسى أن يبعثك } ويقيمك { ربك } بسعيك واجتهادك في تهجدك { مقاما محمودا } [الإسراء: 79] أي: مقاما من مقامات القرب ودرجات الوصال مسمى بالمقام المحمود؛ لأن كل من وصل إليه يحمد له؛ إذ لا مقام أرفع منه وأعلى منه وأعلى رتبة ومكانة.
ناپیژندل شوی مخ