فقال مخاطبا له خطاب تمكين وتكريم: { ادع } يا أكمل الرسل { إلى سبيل ربك } أي: إلى طريق توحيد مربيك الذي أرشدك إلى معارج عنايته، وهداك إلى كمال كرامته كافة البرايا، وعامة العباد { بالحكمة } البالغة المكيفة لقلبهم عن صلابة التقليدات الراسخة الموروثة لهم عن أسلافهم، المصفية نفوسهم عن الحمية الجاهلية المتمكنة فيها، الخالية عن توهم السطوة والاستيلاء، المثيرة لأنواع الأعراض النفسانية المترتبة فيها، الخالية عن توهم السطوة والاستيلاء، المثيرة لأنواع الأعراض النفسانية المترتبة على البشرية، المزيلة لأنواع الشبه والتخيلات الناشئة من الأسباب والوسائل العادية المقنعة، ملائمة للفطرة الأصلية التي فطر الناس عليها رجاء أن يتفطنوا، ويتنبهوا بمقتضى جبلتهم وفطرتهم.
{ والموعظة الحسنة } الموروثة لهم يقظانا من سنة الغفلة، ونوم النيسان، المحصلة لهم شوقا وسرورا إلى مبدئهم ومنشئهم، الموغبة لهم إلى اللذات الروحانية الدائمة الباقية المستمرة بلا ورود زوال وانقطاع، المنفرة عما هم عليه من العوائق، والعلائق العائقة من اللذات الوهمية المنقضية المنقطعة المورثة لأنواع المحن والأحزان.
{ و } إن احتجت يا أكمل الرسل في دعوتهم إلى المجادلة معهم والمكالمة { جدلهم بالتي } أي: بالطريق التي { هي أحسن } الطرق وأسلمها، وأعدلها من المقدمات المعتدلة الدالة على المساواة من كلا الجنابين برفق وتليين ومسكنة، وإرخاء عنان خال عن السطوة والتهور، والغضب والتجبر، وعن التمسخر والضحك والاستهزاء، والتجهيل والتسفيه، والتشنيع الشنيع، كما يفعله عوام العلماء في محاوراتهم ومنظاراتهم؛ إذ هي بعيدة عن الحكمة بمراحل، مثيرة لأنواع الفتن والخصومات، فلك ألا تبالغ في إهدائهم وإيمانهم، ولا تتشوش وتتحزن عن ضلالهم وطغيانهم؛ إذ ما عليك إلا تبليغ ما أرسلت به.
وأما حصول الهداية والضلالة فيهم فأمر خارج عن وسعك وطاقتك { إن ربك } المطلع على استعدادات عباده وقابلياتهم { هو أعلم بمن ضل عن سبيله } الموصل إلى توحيده { وهو } أيضا { أعلم بالمهتدين } [النحل: 125] إذ قدر في سابق قضائه هدايتهم وضلالهم، وكذا جميع ما جرى عليهم في شئونهم وتطوراتهم على التفصيل، بحيث لا يشذ عن حيطة علمه شيء منها.
وبعدما أمر سبحانه حبيبه بما أمر من آداب الدعوة، وأخلاق الرسالة والنبوة، ومراعاة حقوق الأنام، والمداراة معهم، أشار إلى المجازاة والمحاذاة، والقصاص والعقوبات الواقعة في أمر الرسالة، ووضع التشريع والتبليغ، إذ هي مبنية على الأمر بترك المألوفات، وترك العادات والاعتقادات، وترك التخمينات والتقليدات؛ لذلك لا يخلو عن المنازعات والمخاصمات المؤدية إلى أنواع الجنايات.
فقال سبحانه مخاطبا له ولمن تبعه من المؤمين، { وإن عاقبتم } أيها المؤمنون منتقمين عنهم { فعاقبوا } أي: فعليكم أن تعاقبوا { بمثل ما عوقبتم به } لا أزيد منه؛ إذ الزيادة منافية لاعتدال الإيمان والتوحيد { ولئن صبرتم } أيها المؤمنون على ما أصابكم من العقوبات، وأعرضتم عن الانتقام صفحا، وكظمتم الغيظ كظما { لهو } أي: العفو والكظم { خير للصابرين } [النحل: 126] الذين صبروا على ما أصابهم من المكروهات، مسترجعين إلى الله، منزلين إنزاله إليه سبحانه بلا رؤية الوسائل في البين، بل يعدون العناء عطاء، والترح فرحا، والنقمة نعمة، والمحنة منحة؛ لصدورها من الله.
وبعدما خاطب وأوصى سبحانه للمؤمنين بالصبر والعفو على وجه العموم، وترك الانتقام، خص رسوله صلى الله عليه وسلم بالخطاب؛ لكونه أحق وأولى بامتثال أمثاله؛ إذ هو جامع جميع مرابت الكمال بالاستحقاق والاستقلا ل، فقال: { واصبر } أيها المتحقق المتمكن في مقر التوحيد، المسقط لجميع الإضافات على ما جرى عليك من الأذيات المترتبة على بشريتك وناسوتك { وما صبرك } وكظمك بعد فنائك عن بشريتك { إلا بالله } المتجلي عليك بالإطلاق إلى أن انخلعت عنك لوازم ناسوتك، وما بقيت لك إلا لوازم لاهوتك، وظاهر أنه لا يجري فيها المكروه والمنكر { ولا تحزن عليهم } أي: على المؤمنين بما لحقهم من المنافرات والمشوشات { ولا تك } بعد انشراح صدرك بالتوحيد الذاتي { في ضيق } ضيق صدر، وحزن وكآبة { مما يمكرون } [النحل: 127] أولئك الماكرون المعاندون المكابرون.
{ إن الله } المختبر لأنبيائه وأوليائه، وخواص عباده بأنواع الأذى والمحن الجسمانية { مع } الصابرين { الذين اتقوا } وأخذوا عن الانتقام وقت الغدوة طلبا لمرضاة الله وجريا على مقتضى توحيده { والذين هم محسنون } [النحل: 128] على من أساء إليهم رفقا له، وتلطيفا إيام ابتغاء لمرضاة الله، وتثبيتا في طريق وتوحيده.
أذقنا حلاوة توحيدك، وأصبرنا على ما جرى علينا من المحن، والعطاء والعناء طلبا لمرضاتك، إنك على ما تشاء قدير.
خاتمة السورة
ناپیژندل شوی مخ