286

فعليكم ألا تقنطوا من الله في حال من الأحوال، بل اعتقدوا أن له التصرف والقدرة التامة والإرادة الكاملة على ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.

ثم لما صمموا العم بالخروج إلى مصر كرة أخرى بإذن أبيهم وخرجوا من عنده وساروا إلى أن وصلوا مصر { فلما دخلوا عليه } أي: على يوسف { قالوا } أولا: { يأيها العزيز مسنا وأهلنا الضر } أي: الجدب وشدة الجوع { وجئنا ببضاعة مزجاة } قليلة رديئة { فأوف لنا الكيل } وتممه لنا من جاهك وإحسانك { و } قالوا ثانيا: { تصدق علينآ } برد أخينا لنرده إلى أبيه المحزون، فإنه قد أشرف على الهلاك من شدة الحزن والأسف { إن الله } المجازي عن أعمال عباده { يجزي المتصدقين } [يوسف: 88] المؤمنين منهم جزاء حسنا، لا جزاء أحسن منه.

ثم لما سمع يوسف من أسف أبيه وشدة كربه وكآبته وأبيضاض في عينيه وهزال جمسه وإشرافه على الانهدام والانخرام، شرع يظهر أمره عليهم حيث { قال } تفضيحا لهم وتقريعا: { هل علمتم } أيها المفسدون قبح { ما فعلتم بيوسف وأخيه } من الزجر والإذلال والضرب والشتم وأنواع المكروهات والمذمومات، سيما ما شريتموه بثمن بخس دراهم معدودة لتبعدوه عن وجه أبيه، وتطردوه عن ساحة عز حضوره { إذ أنتم } قوم { جاهلون } [يوسف: 89] بألا مرد لقضاء الله، ولا معقب لحكمه، بعفل ما يشاء ويحكم ما يريد، فاجتهدتم لهدم بناء الله وتغيير مراده ورد قضائه مبارزة عليه وخروجا بين يديه.ط

وبعدما سمعوا منه ما سمعوا { قالوا } مخبتين خاضعين متذليين بعدما عرفوه مستفهمين على سبيل التقرير والتثبيت: { أءنك لأنت يوسف } أيها العزيز { قال أنا يوسف } بن يعقوب الذي فعلتم به ما فعلتم { وهذا أخي } بنيامين من أبي وأمي { قد من الله علينآ } بأنواع الكرم والإحسان، ووقانا عما قصدتم علينا من السوء والإذلال وأنواع الوبال والنكال { إنه من يتق } عن محارم الله وعما لا يرضى به الله { ويصبر } على ما جرى عليه من القضاء { فإن الله } الرقيب المطلع لأحوال عباده { لا يضيع } أي: لا يهمل ولا ينقص { أجر المحسنين } [يوسف: 90] الذين يحسنون الأدب مع الله ويعبدونه كأنهم يرونه.

[12.91-95]

ثم لما ظهر عليهم ما ظهر من الفضيحة والشناعة وأنواع الندامة والكآبة { قالوا } متضرعين، مستحيين، متذللين، مقسمين على سبيل التثبيت والتقرير { تالله } يا أخانا { لقد آثرك الله } واصطفاك { علينا } وأراك في المنام ما أراك من سجود الشمس والقمر والكواكب المعتبرة، وكفاك هذا دليلا على نجابتك واختيارك علينا، مع أن أبانا قد علم منك ما علم من الرشد وكمال العلم والفضل؛ لذلك آثرك علينا محبة وعطفا { و } بالجملة: { إن كنا } أي: إن كنا { لخاطئين } [يوسف: 91] إذلالك وإرادة إهلاكك وضربك وإيذائك، وفي إبطال إرادة الله ومشيئته وكما حكمته وقدرته، وفي إيذاء أبينا بمفارقتك عنه وإيقاعه بأنواع البليات والنكبات إلى حيث ابيضت كريمتاه من فراقك، فالآن ألأمر بيدك وإنا مجرمون، معترفون بأنواع الجرائم، فلك الاختيار، وعلينا الحسرة والندامة وأنواع الكآبة والسآمة.

ثم لما رأى يوسف منهم ما رأى من الندامة المفرطة والخجل والخذلان وأنواع الخيبة والخسران { قال } لهم؛ تسلية عليهم وتزكية لنفسه بمقتضى نجابة طينته: { لا تثريب } أي: لا تقريع ولا توبيخ { عليكم } مني في حال من الأحوال سيما { اليوم } الذي أنتم تعتذرون فيه وتستغفرون عني، فاعلموا أني عفوت لكم ما لي من الحقوق عليكم، وأبرأت ذمتكم عنها، بل { يغفر الله لكم } بعدما استغفرتم إليه مخصلين { وهو } سبحانه في ذاته { أرحم الراحمين } [يوسف: 92] لأن رحم جميع الرحماء من ظل رحمته التي وسعت كل شيء.

وبعد تسليمهم وعفوهم وإخزاء الرعب عن خواطرهم، أمرهم بالذهاب إلى أبيهم المحزون؛ ليخلص عما عليه من الحزن المفرط، فقال: { اذهبوا } يا إخوتي { بقميصي هذا } - وهو عليه - فأخرجه ولفه بلا تنقية وغسل { فألقوه على وجه أبي يأت } أي: يرجع ويصير { بصيرا } بعدما كان فاقد العينين { و } بعد أن يصير بصيرا صحيحا سويا { أتوني بأهلكم } أي: جميع ما يسنب إليكم من النسوان والذراري والخدم والحشم { أجمعين } [يوسف: 93].

{ ولما فصلت العير } أي: القافلة من عمران مصر { قال أبوهم } لمن في صحبته من المؤمنين له: { إني لأجد ريح يوسف لولا أن تفندون } [يوسف: 94] وتسفهوني أيها الحضار، وتنسبوني إل نقصان العقل والخرف لصدقتموني.

{ قالوا } أي: الحضارون: { تالله إنك } بتذكير يوسف وكثرة تحضيره ببالك { لفي ضلالك القديم } [يوسف: 95] أي: ضلالك الذي كنت عليه زمانا مستمرا، وهو وإن سفهه الناس تزايد وجدانه، ويترقى ساعة فساعة.

ناپیژندل شوی مخ