Tafseer Al-Uthaymeen: An-Nisa
تفسير العثيمين: النساء
خپرندوی
دار ابن الجوزي للنشر والتوزيع
د ایډیشن شمېره
الأولى
د چاپ کال
١٤٣٠ هـ - ٢٠٠٩ م
د خپرونکي ځای
المملكة العربية السعودية
ژانرونه
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تقديم
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، خاتم النبيين، وإمام المتقين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد؛
فلقد أولى صاحب الفضيلة شيخنا العلامة محمد بن صالح العثيمين - رحمه الله تعالى - تفسير القرآن الكريم، وبيان معانيه، واستنباط الأحكام والفوائد من آياته، عناية كبيرة، فعقد لهذا الهدف دروسًا عديدة تميزت بخصائص جليَّة جليلة وذلك ضمن جهوده المباركة التي تجاوزت خمسين عامًا في مجال التعليم والتربية والدعوة إلى الله ﷾.
وقد كان من الدروس المسجلة صوتيًا لفضيلته - رحمه الله تعالى -: تفسير سورة النساء خلال الفترة من شهر ربيع الآخر عام ١٤١٣ هـ إلى شهر محرم ١٤١٧ هـ وذلك في حلقته العلمية التي كان يعقدها في جامعه بمدينة عنيزة، للتدريس في مختلف العلوم الشرعية واللغوية.
1 / 5
وسعيًا لتعميم النفع بهذا التفسير - بإذن الله تعالى - وإنفاذًا للقواعد والتوجيهات التي قررها فضيلته - رحمه الله تعالى - لإخراج تراثه العلمي عهدت مؤسسة الشيخ محمد بن صالح العثيمين الخيرية إلى الدكتور الشيخ إبراهيم بن محمد قاسم الميمن - أثابه الله - بالعمل لإعداد تلك الدروس الخاصة بتفسير سورة النساء للطباعة والنشر فجزاه الله خيرًا.
نسأل الله تعالى أن يجعل هذا العمل خالصًا لوجهه الكريم، موافقًا لمرضاته، نافعًا لعباده، وأن يجزي فضيلة شيخنا عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء ويضاعف له المثوبة والأجر، ويُعلي درجته في المهديين، إنه سميع قريب.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللجنة العلمية
في مؤسسة الشيخ محمد بن صالح العثيمين الخيرية
غرة محرم ١٤٣٠ هـ
1 / 6
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
* قال الله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (١)﴾ [النساء: ١].
هذه السورة هي سورة النساء، وهي مدنية، والمدني عند الجمهور: ما نزل بعد الهجرة، والمكي: ما نزل قبل الهجرة، فالمدني ما نزل بعد الهجرة ولو في غير المدينة، والمكي ما نزل قبل الهجرة ولو في غير مكة، وعلى هذا فالمدار في تعيين المكي والمدني على الزمان لا على المكان، وقد ذكر العلماء ﵏ ضوابط ومميزات للمكي والمدني، وهي معروفة في علم أصول التفسير.
ومن ذلك: أن الغالب في الآيات المكية القصر، وقوة الأسلوب، وموضوعها في الغالب التوحيد وما يتعلق به. وأما الآيات المدنية فالغالب عليها السهولة، وطول الآيات، وموضوعها في الأمور الفرعية؛ كالبيوع، وآداب المجالس، وآداب الإستئذان، وغير ذلك.
والغالب أن النداء في المكي يكون لعموم الناس: ﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ﴾؛ لأن أكثر المخاطبين بها ليسوا بمؤمنين، والمدني يكون الخطاب فيه بـ ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [البقرة: ١٠٤] هذا هو الغالب؛ لأن المخاطبين فيها مؤمنون كلهم أو أكثرهم.
1 / 7
وقد سميت هذه السورة بـ (سورة النساء) لذكر النساء فيها، وقد ابتدئت بأصل خلقة بني آدم، من ماذا خلقوا؟ ثم ذكرت الأرحام وما يتصل بها من المواريث وغير ذلك، ثم ذكرت ما يتعلق بالنكاح؛ لأن النكاح صلة بين الناس، كما أن القرابة صلة بين الناس، كما قال تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا (٥٤)﴾ [الفرقان: ٥٤]، ثم ما يتعلق بمخاطبة اليهود والمنافقين، ثم ما يتعلق بأحوال النزاع بين الزوجين، كما سيمر بنا إن شاء الله تعالى.
وهذه السورة هي السورة الرابعة بعد الفاتحة والبقرة، وآل عمران، وقد ورد في صحيح مسلم من حديث حذيفة ﵁: "أن النبي ﷺ قرأ البقرة ثم النساء ثم آل عمران" (^١)، وهذا الترتيب كان في أول الأمر، ثم رتبت في الأخير هكذا: البقرة، ثم آل عمران، ثم النساء، واستقر على ذلك المصحف الذي جمعه أبو بكر ﵁ ثم عثمان بن عفان ﵁.
يقول الله ﷿: "بسم الله"، البسملة آية مستقلة، يؤتى بها في أوائل السور، إلا سورة واحدة وهي سورة براءة، فإنه لم تنزل لها بسملة، ولو نزل لها بسملة لكانت محفوظة موضوعة في مكانها؛ لأن الله تعالى يقول: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (٩)﴾ [الحجر: ٩]، ولكن الصحابة ﵃ أشكل عليهم هل هي مستقلة أو من سورة الأنفال؟ فوضعوا فاصلًا بينهما لأجل هذا الإشكال فقط، وليس هناك شك في نزول البسملة أولًا؛ لأن
_________
(^١) رواه مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب استحباب تطويل القراءة في صلاة الليل، حديث رقم (٧٧٢).
1 / 8
البسملة لو نزلت لحفظت كما تحفظ آيات القرآن الأخرى.
والصحيح أن البسملة ليست من السورة التي قبلها ولا من السورة التي بعدها، ولا تحسب من آياتها؛ لا في الفاتحة، ولا في غيرها، خلافًا لبعض أهل العلم الذين قالوا: إنها آية من الفاتحة لا من غيرها، وعلى هذا جرت طباعة المصاحف، فقد جعلت البسملة في الطباعة آية من الفاتحة دون غيرها.
والصحيح أن البسملة ليست آية من الفاتحة ولا من غيرها من السور، ودليل ذلك: ما ثبت في الصحيح من حديث أبي هريرة ﵁ أن النبي ﷺ قال: "قال الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، فإذا قال: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ قال الله: حمدني عبدي ... " (^١) إلخ الحديث، ولم يذكر البسملة.
ويدل لذلك أيضًا: أنه إذا كانت الفاتحة بين الله وبين العبد نصفين، فإنه لا يستقيم أن تكون البسملة منها؛ لأننا إذا عددنا الآيات وجدناها كما يلي: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٢)﴾ [الفاتحة] آية ﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (٣)﴾ [الفاتحة] آية ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (٤)﴾ [الفاتحة] آية، فهذه ثلاث آيات .. ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (٥)﴾ [الفاتحة] آية، وهذه هي الرابعة، وهي الوسط، وهي التي بين الله وبين العبد، ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (٦)﴾ [الفاتحة] آية ﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ ﴿غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ﴾ [الفاتحة] آية، فتكون الآيات متناسقة، ويكون حق
_________
(^١) رواه مسلم، كتاب الصلاة، باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة، حديث رقم (٣٩٥) عن أبي هريرة ﵁.
1 / 9
الخالق ﷿ ثلاث آيات مستقلة، وهي الأولى، وحق العبد ثلاث آيات مستقلة، وهي الآيات الأخيرة، والسابعة بينهما، وبهذا يعرف أن البسملة ليست من الفاتحة.
وأما الجار والمجرور فإنه متعلق بمحذوف، وهذا المحذوف فعل مؤخر يقدر بحسب المسمى عليه، فإذا كنت تريد أن تقرأ فالتقدير: باسم الله أقرأ، وإذا كنت تريد أن تذبح فالتقدير: باسم الله أذبح، وإذا كنت تريد أن تتوضأ فالتقدير: باسم الله أتوضأ، وهلم جرا.
وإنما اختير أن يكون الفعل متأخرًا تيمنًا بالبداءة باسم الله من وجه، ولإفادة الحصر من وجه آخر؛ لأن تقديم ما حقه التأخير يفيد الحصر، فكأنك تقول: لا أقرأ إلا باسم الله، وإنما اختير أن يكون فعلًا لا اسمًا - أي: لا يقدر باسم الله قراءتي، أو باسم الله ابتدائي-؛ لأن الأصل في العمل الأفعال دون الأسماء، ولذلك لا يوجد اسم عامل إلا بشروط، بخلاف الأفعال. وإنما قدر مناسبًا لما يسمى عليه؛ لأنه أنسب، ولأن النبي ﷺ قال: "ومن لم يذبح فليذبح باسم الله" (^١)، فقدر فعلًا خاصًا وهو الذبح.
أما لفظ الجلالة فهو علم خاص بالله ﷿ وحده، لا
_________
(^١) رواه البخاري، كتاب العيدين، باب كلام الإمام والناس في خطبة العيد ..، حديث رقم (٩٤٢)؛ ومسلم، كتاب الأضاحي، باب وقتها، حديث رقم (١٩٦٠) عن جندب البجلي.
1 / 10
يسمى به غيره بالإجماع، وكذلك ﴿الرَّحْمَنِ﴾ علم خاص بالله، لا يسمى به غيره.
وأما الرحيم فهو اسم من أسماء الله ﷿، فهو علم عليه، لكن يوصف به غيره، كما قال الله تعالى في النبي ﷺ: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَاعَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (١٢٨)﴾ [التوبة: ١٢٨].
ويفسر أهل السنة ﴿الرَّحْمَنِ﴾ بأنه ذو الرحمة، وهي صفة لازمة تتعلق بذات الله ﷿، ومن آثارها: الإنعام والإحسان، ويفسرها أهل التعطيل بالإحسان فيقولون: الرحمن: المحسن، أو المنعم، أو بإرادة الإحسان أو الإنعام؛ أي: المريد للإحسان، والمريد للإنعام؛ لأنهم لا يصفون الله بصفة الرحمة، وكذلك يقال في الرحيم.
فإن قال قائل: هل الرحمن والرحيم مترادفان؟
فالجواب: إن ذكر أحدهما منفردًا عن الآخر فهو متضمن له، وإن ذكرا جميعًا؛ فالرحمن باعتبار الوصف، والرحيم باعتبار الفعل؛ لأن الرحمن على وزن فَعْلان، وهو يدل على الوصف؛ كغضبان وسكران ونشوان وما أشبهها، والرحيم يدل على الفعل، فيكون الرحمن باعتبار وصف الله ﷿ بالرحمة، والرحيم باعتبار فعله؛ أي: باعتبار رحمته لمن رحم، قال الله تعالى: ﴿يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ﴾ [العنكبوت: ٢١].
قال الله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ﴾ هذه جملة ندائية مصدَّرة بيا، والمنادى: أي، وهو مبني على الضم في محل
1 / 11
نصب، والهاء للتنبيه، والناس: نعت لـ "أي"، أو عطف بيان، فهي مبنية على الضم في محل نصب.
﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ﴾ وجّه الله الخطاب للناس، مع أن السورة مدنية؛ وذلك لبيان أن رسالة النبي ﷺ عامة لجميع الناس، و﴿النَّاسُ﴾ قيل: إن أصلها أناس، وقد حذفت الهمزة لكثرة الإستعمال تخفيفًا، كما حذفت الهمزة من "شر" و"خير"، وأصلها: أشر وأخير، تقول: هذا خير من هذا؛ أي: أخير منه، وهذا شر من هذا؛ أي: أشر منه، لكن حذفت الهمزة تخفيفًا لكثرة الإستعمال.
وهو مشتق من الأُنس؛ لأن البشر كما يقال عنهم: مدنيون بالطبع، يحتاجون إلى أن يأنس بعضهم ببعض، ولهذا لا يوجد أحد تحبب إليه الخلوة إلا لسبب خارج عما جبل الله عليه الناس.
﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ﴾ التقوى مأخوذة من الوقاية، وهي أن يتخذ الإنسان وقاية من عذاب الله، بفعل أوامره واجتناب نواهيه، والرب في قوله: ﴿رَبَّكُم﴾ هو الخالق المالك المدبر، فهو متضمن لهذه المعاني الثلاثة: خالق؛ أي: موجد من العلم، ومالك؛ أي: لا يشركه أحد في ملكه، ومدبر؛ أي: للأمور على ما تقتضيه حكمته.
﴿الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾ الذي: صفة للرب، ولكنها صفة كاشفة، ومعنى قولنا: (كاشفة)؛ أي: موضحة لهذه الربوبية أو لبعض معانيها، واحترزنا بكلمة (كاشفة) عن كونها مقيدة؛ لأننا لو جعلناها مقيدة، لكان هناك ربان: رب خلقنا من نفس واحدة، ورب لم يخلقنا من نفس واحدة، وليس الأمر كذلك، بل الذي
1 / 12
خلقنا من نفس واحدة رب واحد، فتكون الصفة هنا صفة كاشفة.
وقوله: ﴿خَلَقَكُمْ﴾ أي: أوجدكم ﴿مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا﴾ هذه النفس هل يراد بها نفس بعينها، أو المراد بالنفس الجنس؟
الظاهر الأول، وهو أن المراد بالنفس نفس بعينها، وهو آدم ﵊ الذي هو أبو البشر، فقد خلقه الله تعالى من طين بيده الكريمة، وعلمه أسماء كل شيء يحتاج إليه؛ لأنه خلق من غير أن يكون هناك أحد يتعلم منه اللغة، فعلمه الله تعالى اللغات التي يحتاج إليها، فيكون معنى قوله تعالى: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا﴾ [البقرة: ٣١] أي: مما يحتاج إليه.
وقوله: ﴿وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا﴾ أي: خلق من هذه النفس زوجها، وقد جاء في الآثار أنها خلقت من ضلَعه الأيمن - والله أعلم - لكن ثبت في السنة أن المرأة خلقت من ضلَع.
وقوله: ﴿وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا﴾ ولم يقل: زوجته؛ لأن اللغة الفصحى أن الزوج يطلق على الرجل والمرأة، وأصله ضد الوتر؛ لأن الزوجة إذا انضمت إلى زوجها صارت شافعة له بعد أن كان منفردًا، ولهذا يقال: الزوجة شريكة زوجها في الحياة؛ لأن بعضهما انضم إلى بعض. والمراد بها هنا حواء.
وقوله: ﴿وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً﴾ بث بمعنى: نشر وأخرج ﴿مِنْهُمَا﴾ أي: من النفس وزوجها ﴿رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً﴾ وهذان القسمان لا يخرج عنهما بنو آدم، وما جاء في الخنثى فإن الخنثى: إما ذكر وإما أنثى، أو مركب منهما، لكنه لا يخرج عن الذكورة والأنوثة.
1 / 13
وقوله تعالى: ﴿رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً﴾ ولم يقل: نساءً كثيرات؛ لأن الكثرة في الرجال عز، بخلاف الكثرة في الإناث، وإن كان الواقع أن النساء من بني آدم أكثر من الرجال، كما استنبط ذلك شيخ الإسلام ﵀ من قول النبي ﷺ: "إنكن أكثر أهل النار" (^١)، "وإن أهل النار من بني آدم تسعمائة وتسعة وتسعون" فإذا كن أكثر أهل النار، وأهل النار من بني آدم تسعمائة وتسعة وتسعون؛ لزم من هذا أن يكن أكثر من الرجال، وهذا هو الواقع، لكن الكثرة في الرجال عز وفخر يفتخر الناس به، بخلاف النساء، فإن الكثرة منهن عالة وتعب وعناء.
ثم قال تعالى: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ﴾، كرر الأمر بتقواه ﷿ لما لها من الأهمية؛ لأن الإنسان إذا وفق لتقوى الله صلحت أموره الدينية والدنيوية.
وقوله: ﴿تَسَاءَلُونَ﴾ فيها قراءتان: الأولى "تَسَاءلون" كما في المصحف، والثانية: "تسَّاءلون"، وأصل "تسَّاءلون" تتساءلون، وقوله: ﴿تَسَاءَلُونَ بِهِ﴾ أي: يسأل بعضكم بعضًا به للحماية، فيقول: أسألك بالله أن تنقذني، أسألك بالله أن لا تؤذيني، وغير ذلك مما يسأل، فالله تعالى هو الذي يتساءل به الناس.
وقوله: ﴿وَالْأَرْحَامَ﴾ فيها قراءتان: بالجر، وبالفتح، فإذا كانت بالفتح فهي معطوفة على قوله: "الله"، فيكون المعنى: واتقوا الأرحام فلا تضيعوها، ولا تفرطوا في حقها، والأرحام: جمع رحم، وهم القرابة، فيكون في الآية أمر بصلة الأرحام والقيام
_________
(^١) رواه الترمذي، كتاب الإيمان، باب ما جاء في استكمال الإيمان وزيادته ونقصانه (٢٦١٣) عن أبي هريرة ورواه أحمد في مسنده (٣٥٥٩) عن ابن مسعود.
1 / 14
بحقهم، وأما على قراءة الجر: "والأرحامِ" فهي معطوفة على الضمير في قوله: ﴿بِهِ﴾ أي: تساءلون به وبالأرحام، والتساؤل بالأرحام مما جرت العادة به عند العرب أن يقال: أسألك بالله وبالرحم، أو يقال: أسألك بالرحم التي بيني وبينك، فهم لعصبيتهم يقدرون الرحم تقديرًا بالغًا ويحترمونها، ويرون حمايتها؛ ولهذا ذكَّرهم الله تعالى بها فقال: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ﴾.
فإذا قال قائل: هل بين القراءتين منافاة؟
فالجواب: لا، والقراءتان في الحقيقة تصيِّر الكلمة كلمتين، فإما أن تكون كل قراءة تبيانًا للأخرى، وإما أن تكون القراءة الثانية جاءت بمعنى جديد، وهنا القراءتان كل واحدة جاءت بمعنى جديد، فقراءة النصب فيها الأمر باتقاء الأرحام؛ أي: اتقاء التفريط في حقهم، والقراءة الثانية فيها التذكير بأن الناس يتساءلون بالأرحام، ولم يتساءلوا بها إلا لعظم حقها بينهم.
وهنا إشكال على قراءة الجر من حيث القواعد النحوية؛ لأن النحويين يقولون: إذا عطفت على ضمير متصل فأت بالضمير المنفصل، أو أعد حرف الجر، فقل: تساءلون به وبالأرحام.
فهل نقول: إن في القرآن ما خرج عن القواعد؟
الجواب: لا، بل إن القرآن حاكم وليس محكومًا عليه، وكون النحويين يقولون: هذا شاذ، نقول: الشذوذ منكم، فليس في القرآن ما هو شاذ أبدًا، والقرآن نزل بلسان عربي مبين، وإذا كان يقل استعمال هذا عند العرب، فإنه بنزول القرآن به يكون كثيرًا، يقرؤه الناس في كل وقت وفي كل حين؛ ولهذا أنكر الرازي ومحمد رشيد رضا وغيرهم من العلماء على النحويين إنكارًا بالغًا في هذا، وقالوا: كيف يقولون: إن في القرآن ما هو
1 / 15
شاذ؟ فإن القرآن يَحكم ولا يُحكم عليه، بل إذا جاء في القرآن تركيب لم يُعهد في اللغة العربية، فإن الفضل للقرآن بإحياء هذا التركيب.
وقد ذكر ابن مالك ﵀ أنه ليس بلازم أن يُعاد حرف الجر، فقال:
وليس عندي لازمًا إذ قد أتى ... في النظم والنثر الصحيح مثبتا
وهذا هو الصحيح، وعلى هذا فنقول في كل آية زعم النحاة أنها شاذة: إنه ليس في القرآن شيء شاذ، بل كل ما في القرآن فهو على اللغة الفصحى بلسان عربي مبين، ويجب أن تؤخذ القواعد من القرآن ليحكم بها وعليها، لا أن تؤخذ القواعد مؤصلة باصطلاحات حادثة ثم يقال: إن القرآن شاذ.
قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾، لما أمر بتقواه ﷿ مرتين في الآية قال: ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ أي: يراقبكم في جميع أحوالكم .. هل اتقيتم الله أم لم تتقوه؟ هل اتقيتم الأرحام وقمتم بواجبها أم لم تتقوها؟
وختمُ الآية بهذه الجملة يراد به التهديد من المخالفة، كما لو قلت لأحد أبنائك: افعل كذا فأنا رقيب عليك، فهذا يعني: أنك تهدده بأن لا يخالف، وأنه إن خالف فسيجد عقوبته.
من فوائد الآية الكريمة:
١ - وجوب تقوى الله تعالى على جميع الناس، تؤخذ من قوله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ﴾، حيث وجه الخطاب لجميع الناس.
٢ - بيان أن الناس أُوجدوا من العلم، تؤخذ من قوله تعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾.
1 / 16
٣ - الرد على الفكرة الملحدة أن الناس تطوروا من القرود إلى البشرية، فنحن لا نعرف النفس إلا آدم الذين نحن من نسله، ولكن من ادعى أن أصل بني آدم قرد، قلنا له: إقرارك على نفسك مقبول، وعلى غيرك غير مقبول.
٤ - التذكير بنعمة الله ﷿ بما خلق لنا من الأزواج، لقوله تعالى: ﴿وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا﴾، و(من) هنا للتبعيض، ويجوز أن تكون بيانية للجنس؛ أي: من جنسها، وهذا من النعم الكبيرة، فلو كانت أزواجنا من غير جنسنا فلا يمكن أن نركن إليها أبدًا؛ لأنه لا يركن الإنسان إلا إلى من كان من جنسه، فلو كانت من جنس غير آدمي، فلن يركن إليها الإنسان أبدًا، بل ينفر منها نفورًا شديدًا.
٥ - أن أصل هذه البشرية - التي لا يحصيها إلا الله - واحد، وإن شئت فقل: أصلها اثنان، زوج وزوج، خلق منهما هؤلاء الرجال الكثير والنساء، بشر لا يحصيهم إلا الله ﷿؛ لقوله: ﴿وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً﴾.
٦ - أن كثرة الرجال أهم من كثرة النساء؛ لقوله: ﴿رِجَالًا كَثِيرًا﴾، فإن التنصيص على كثرة الرجال يدل على أهمية هذه الكثرة.
٧ - أهمية التقوى، ولهذا كرر الله الأمر بها مرتين.
٨ - الإشارة إلى أن التقوى واجبة بمقتضى الربوبية وبمقتضى الألوهية.
٩ - أن التساؤل بالله أمر واقع معروف عند العرب؛ لقوله: ﴿تَسَاءَلُونَ بِهِ﴾، ولكن هل يجوز للإنسان أن يسأل غيره بالله؟
1 / 17
نقول: إن كان المقصود بذلك التذكير فلا حرج، وإن كان المقصود بذلك الإلزام ففيه نظر، فإذا قال: أسألك بالله؛ أي: أذكرك به حتى تراعي عظمة الله وحقه، فهذا لا بأس به، أما إذا كان القصد الإلزام، فهذا إحراج، ومن ذلك ما يقع أحيانًا من بعض الذين يقدمون أسئلتهم في المحاضرات فيقول بعضهم: أسألك بالله إلا رددت علي، أو يقول لمقدم السؤال: أسألك بالله إلا قدمته، فهذا فيه إحراج؛ لأنه قد يرى المجيب أو المقدم أن من المصلحة أن لا يقدم هذا السؤال، أو أن لا يجاب عليه.
وإذا سأل بالله فهل تجب إجابته؟
نقول: إن سأل بالله شيئًا محرمًا فلا كرامة له، ولا تجوز إجابته، كما لو قال: أسألك بالله أن تدخل بستان فلان وتأتي لنا منه ببرتقال وتفاح، فهذا لا يجوز، ولا كرامة، وإذا سأل بالله شيئًا يضر كأن يقول: أسألك بالله أن تعطيني نصف مالك، فهذا لا تجب إجابته؛ لأن فيه ضررًا، وإذا قال: أسألك بالله أن تعطيني حقي الواجب عليك، فهنا تجب إجابته من وجهين: الأول: أنه حق واجب، والثاني: أنه سأل بالله.
وقد قال بعض أهل العلم: إن معنى قول النبي ﷺ: "من سألكم بالله" أي: من سألكم حقًا أوجبه الله على المسئول، فكأن معنى قوله: "من سألكم بالله" أي: من سألكم بشرع الله، أو: من سألكم سؤالًا يقتضي الشرع إجابته، فأجيبوه، وليس المعنى: من قال: "أسألك بالله"؛ لأن من قال: أسألك بالله، فقد يراد بها معنى لا يصح إطلاقًا، كأن يريد بذلك أن يجعل الله شفيعًا إلى
1 / 18
هذا المسئول، فإن هذا حرام؛ لأنه لا يجوز أن يستشفع بالله على خلقه، فإن مقام الله أعظم من أن يكون واسطة بينك وبين الخلق.
١٠ - وجوب احترام الأرحام؛ لقوله تعالى: ﴿وَالْأَرْحَامَ﴾ على قراءة النصب، وكذلك الإشارة إلى احترام الأرحام على قراءة الجر، والمعنى: كما أنكم تحترمونها وتسألون بها، فعظموها وآتوها حقها.
١١ - التحذير من مخالفة الله ﷿، وتؤخذ من قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾، ومن آمن بأن الله رقيب عليه فسوف يحذر من مخالفة الله ﷿.
ويؤخذ من هذه الآية: إثبات اسم الرقيب لله ﷿.
ولا يراد بهذه الآية معناها الزمني؛ لأنه لو أريد بها المعنى الزمني؛ لكانت الرقابة قد مضت، ولكنه يراد بها تحقيق اتصاف الموصوف بالصفة التي كانت خبرًا في هذه الجملة، فالمراد هنا تحقيق أن الله رقيب علينا، وكذلك قوله تعالى: ﴿وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ [النساء: ٩٦]، ليس المراد أنه كان فزال، بل المراد تحقيق اتصافه بالمغفرة والرحمة.
* * *
* قال الله تعالى: ﴿وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا (٢)﴾ [النساء: ٢].
﴿وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ﴾ ﴿وَآتُوا﴾، بمعنى: أعطوا، وأتوا بمعنى: جاءوا، وقوله: ﴿الْيَتَامَى﴾ مفعول أول، و﴿أَمْوَالَهُمْ﴾ مفعول ثانٍ، وهذا الفعل "آتوا" ينصب مفعولين ليس أصلهما المبتدأ والخبر.
1 / 19
و﴿الْيَتَامَى﴾ جمع يتيم، وهو مأخوذ من اليتم، وهو الإنفراد، والمراد به اصطلاحًا: من مات أبوه وهو صغير لم يبلغ، سواء كان ذكرًا أو أنثى، أما إذا بلغ فإنه يزول يتمه بحسب الإصطلاح والحكم الشرعي، ولهذا جاء في الحديث: "لا يتم بعد احتلام" (^١) أي: بعد البلوغ؛ لأنه إذا بلغ استقل بنفسه.
وقوله: ﴿وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ﴾ أي: أموالهم التي لهم، سواء كانت عندكم بصفتكم أولياء، أو لم تكن عندكم، ولكن أخذتموها بغير حق، وقوله: ﴿وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ﴾ أي: فلا تخونوا منها شيئًا، ولا تكتموا منها شيئًا، ولا تفسدوها، بل أعطوها كما كانت، ولا يلزم من قوله تعالى: ﴿وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ﴾ أن نعطيهم المال وهم أيتام؛ لأن اليتيم لا يعطى ماله إلا إذا اختبر، كما قال الله تعالى: ﴿وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ﴾ [النساء: ٦].
وهناك فرق بين الإيتاء وبين الدفع؛ لأن الدفع معناه: لا تعطه المال حتى يبلغ ويرشد، لقوله تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ﴾، وإما إيتاء المال، فالمراد أن نحفظ المال لهم بحيث نعطيهم إياه كاملًا عند وجوب الدفع.
وقوله: ﴿وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ﴾ أي: لا تأخذوا الخبيث بدلًا عن الطيب.
والمعنى: أننا لا نعطيهم الخبيث من أموالنا ونأخذ بدله الطيب، وقيل: معناها: لا تأخذوا أموالهم وتستغنوا بها عن الطيب؛ لأن أخذ أموالهم حرام، والحرام خبيث. ففيها وجهان:
_________
(^١) رواه أبو داود، كتاب الوصايا، باب ما جاء متى ينقطع اليتم (٢٨٧٢).
1 / 20
الوجه الأول: أن لا تأخذوا الطيب من أموالهم وتعطوهم الخبيث، ومثاله: أن يكون لليتيم غنم سمينة جيدة، وعند وليه غنم هزيلة رديئة، فيأخذ من غنم اليتيم الطيب ويعطيه الرديء، فإن هذا حرام، أو يكون عنده بر طيب نقي، فيأخذه ويعطيه برًا رديئًا مخلوطًا .. وما أشبه ذلك.
فيكون معنى الآية على هذا الوجه: لا تأخذوا الطيب وتعطوهم الخبيث.
الوجه الثاني: لا تأخذوا من أموالهم شيئًا؛ لأن أموالهم حرام عليكم، والحرام خبيث، فيكون معنى الآية على هذا الوجه: لا تأخذوا أموالهم فتستغنوا بها عن الطيب الذي تكتسبونه بوجه حلال.
وكلا الأمرين محرم، سواء أخذ ماله بدون أن يعطيه عنه شيئًا، أو أخذ ماله الطيب وأعطاه عنه مالًا رديئًا.
وقوله: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ﴾ قال العلماء: إن ﴿إِلَى﴾ بمعنى "مع"؛ أي: لا تأكلوا أموالهم مع أموالكم، وقيل: بل إن ﴿إِلَى﴾ على بابها، ولكن قوله: ﴿لَا تَأْكُلُوا﴾ ضمنت معنى "تضموا"؛ أي: لا تضموا أموالهم إلى أموالكم فتأكلوها، وهذا المعنى أصح؛ لأن تضمين الفعل معنى فعل آخر في القرآن كثير، وإتيان "إلى" بمعنى "مع" قليل، وحمل الآية على المعنى الكثير في القرآن أولى من حملها على المعنى القليل، وهذا من قواعد التفسير: "أن حمل الآية على المعنى الكثير في القرآن أولى من حملها على المعنى القليل"؛ لأنها إذا كانت هي الكثيرة في القرآن صارت هي اصطلاح القرآن، وهي حقيقة القرآن.
والفائدة من تخصيص ذكر الأكل فقط؛ لأنه أكثر ما يكون،
1 / 21
وأعم ما يكون من الإنتفاعات، ولأنه هو الذي ينتفع به البدن انتفاعًا مباشرًا، فإن اللباس ينتفع به لكن من الخارج، ولهذا فإن الآيات كلها تعبر في الغالب بالأكل .. ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا﴾ [النساء: ١٠] .. ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً﴾ [آل عمران: ١٣٠]، وما أشبه ذلك.
وقوله: ﴿إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا﴾، الضمير في قوله: ﴿إِنَّهُ﴾ يعود على الفعل المفهوم مما سبق المكون من شيئين: تبديل الخبيث بالطيب، وأكل الأموال إلى أموالنا، وقوله: ﴿إِنَّهُ﴾ أي: هذا الفعل.
وقوله: ﴿كَانَ﴾ أي: كان عند الله ﴿حُوبًا﴾ أي: إثمًا أو ذنبًا، ﴿كَبِيرًا﴾ الكبير ضد الصغير؛ لأن الذنوب تنقسم إلى صغائر وكبائر، فهذا من الذنب الكبير.
وقد قال بعض العلماء: إن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: ﴿وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ﴾ [البقرة: ٢٢٠].
وهذا خطأ عظيم؛ لأن قوله: ﴿وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ﴾ ليس هو الأكل الذي نهى الله عنه هنا حتى نقول: إن بين الآيتين تعارضًا، فالله تعالى يقول: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ﴾ أي: لا تخلطوها لأجل أن تأكلوها، أما إذا خلطها للإصلاح أو لمصلحة، فإن هذا لا بأس به، لكن بعض العلماء - عفا الله عنا وعنهم - إذا عجزوا عن الجمع بين النصين قالوا: إن هذا منسوخ، وأقول: إذا عجزوا؛ لأنه قد لا يكون بين النصين تعارض، فقد يكون كل نص محمولًا على معنى، وهذه مسألة خطيرة جدًا؛ لأن معنى النسخ إنكار المنسوخ، وعدم جعله حكمًا شرعيًا، فالمسألة خطيرة، ولهذا لا يجوز ادعاء النسخ مع إمكان الجمع أبدًا.
1 / 22
من فوائد الآية الكريمة:
١ - بيان رحمة الله ﷿، حيث أوصى بهؤلاء اليتامى؛ لأن اليتيم محل الرحمة، فهو مكسور المخاطر، ليس له أب، وربما لا تكون له أم أيضًا، فلهذا أوصى الله بالعناية به وبماله.
٢ - وجوب حفظ أموال اليتامى؛ لأنه يلزم من إيتائهم أموالهم الحفظ، إذ لو فرّط الولي وأهمل وضاعت الأموال؛ لم يكن قد آتاهم أموالهم.
٣ - أن اليتيم يملك، وملكه تام، لقوله تعالى: ﴿أَمْوَالَهُمْ﴾، ويتفرع على هذه الفائدة: أن الزكاة واجبة عليه؛ لأن الزكاة تبع للملك، قال الله تعالى: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً﴾ [التوبة: ١٠٣]، وقال النبي ﷺ لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن: "أعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم" (^١)، فإذا ثبتت الملكية ثبت وجوب الزكاة.
وفي هذا رد على قول بعض أهل العلم القائلين بأنه لا تجب الزكاة في أموال اليتامى؛ لأن اليتيم صغير غير مكلف، فنقول في الجواب عن هذا: إن الزكاة ليست تكليفًا محضًا، بل هي تكليف لحق الغير، وهم الفقراء، فهي شبيهة بالدين؛ ولهذا وجبت في أموال اليتامى والمجانين وإن كانوا غير مكلفين.
٤ - أن اليتيم تجب النفقة في ماله على من تجب عليه نفقته، وتؤخذ من إثبات المالية، والنفقة واجبة على كل غني لكل فقير، فإذا تمت شروط النفقة ولم يبق إلا البلوغ قلنا: إن البلوغ ليس بشرط؛ لأن الله أثبت المالية لليتامى، وإذا ثبتت المالية؛ ترتب عليها ما يترتب على ذوي الأموال.
_________
(^١) اللفظ للبخاري، كتاب الزكاة، باب وجوب الزكاة، حديث رقم (١٣٣١).
1 / 23
٥ - وجوب أداء الأمانة؛ لقوله تعالى: ﴿وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ﴾.
٦ - أن إطلاق اسم الخبيث على الرديء صحيح، على أحد الوجهين في تفسير الآية، وقد صرح الله ﷿ بأن الرديء يسمى خبيثًا، فقال: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ﴾ [البقرة: ٢٦٧]، فسمى الرديء خبيثًا، وأطلق النبي ﷺ على البصل ونحوه وصف الخبيث، فقال: "من أكل من هذه الشجرة الخبيثة شيئًا فلا يقربنا في المسجد" فقال الناس: حُرمت، حُرمت فبلغ ذاك النبي ﷺ فقال: "أيها الناس إنه ليس بي تحريم ما أحل الله لي ولكنها شجرة أكره ريحها" (^١).
٧ - تحريم ضم مال اليتيم إلى مال الولي إذا كان لقصد إتلافه، وهذا مأخوذ من قوله: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ﴾، أما إذا ضم ماله إلى ماله لا لقصد الأكل والإتلاف، ولكن لقصد الحفظ والتجارة، فإن هذا لا بأس به، بل قد يتعين على الإنسان، فإذا ضم مال اليتيم إلى ماله لقصد الحفظ، أو لقصد التجارة، فإنه إحسان إليه، ولا يدخل في النهي؛ لأن الله تعالى قال: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ﴾، ولم يقل: لا تخلطوها، ولهذا قال الله تعالى في سورة البقرة: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [البقرة: ٢٢٠].
لكن في حال ضم المال إلى المال لقصد الحفظ أو
_________
(^١) رواه مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة نهى من أكل ثومًا أو بصلًا أو كراثًا أو نحوها (٥٦٥).
1 / 24