أدى بنا البحث في الجوانب الأخلاقية لشخصية العالم إلى تناول مشكلة «مسئولية العلماء» في العصر الحاضر، وقد تطرقنا عند معالجة هذه المشكلة الأخيرة إلى موضوع حيوي، هو مدى الوعي السياسي والاجتماعي الذي يجب أن يتصف به العالم في وقتنا هذا، وهذا الموضوع الأخير يمثل في الواقع جانبا واحدا من مشكلة أعم بكثير؛ هي: إلى أي حد ينبغي أن يخرج العالم في هذا العصر عن حدود تخصصه؟ هذه المشكلة هي التي سنعالجها في صورتها العامة ضمن إطار بحثنا الحالي في «ثقافة العالم».
والواقع أن هذه المشكلة قد اكتسبت - في وقتنا الحالي - أهمية كبرى، كما أصبحت في الوقت ذاته مشكلة شديدة التعقيد؛ لأن العلم يسير - على نحو متزايد - في خطين أو طريقين متضادين ، وإن كان كل منهما لا يقل ضرورة عن الآخر؛ فالعلم يتجه إلى المزيد من التخصص، مما يؤدي إلى تضييق النطاق الذي يدور في داخله تفكير العالم واهتمامه، ولكنه يكتسب في الوقت ذاته أهمية إنسانية واجتماعية متزايدة، مما يحتم على المشتغلين به أن يمتدوا بأنظارهم إلى الآفاق الإنسانية الواسعة. وكلتا الحركتين - كما هو واضح - مضادة للأخرى، فعلى أي نحو إذن ينبغي أن تتشكل شخصية العالم في هذا الميدان؟ وما نوع الثقافة التي ينبغي أن يكتسبها العالم في عصرنا الحاضر حتى يكون مستجيبا لمقتضيات هذا العصر؟
إن في وسعنا أن نعالج موضوع ثقافة العالم على مستويين؛ الأول منهما هو المستوى العلمي البحت، والثاني هو المستوى الإنساني العام، والمستويان متداخلان إلى حد بعيد، ولكن من المفيد أن نفرق بينهما مؤقتا، مع إدراكنا أنهما لا يكونان إلا جانبين في شخصية واحدة ينبغي أن تتصف بالتكامل والاتساق بين مختلف عناصرها: (1)
من المسلم به أن التخصص في العلم يزداد بحيث تظهر على الدوام فروع جديدة لعلوم كانت موحدة وفروع للفروع، كما يضيق باطراد نطاق الميدان الذي يستطيع العالم أن يقول: إنه «متخصص» فيه؛ أي أن يتكلم عنه ويبحث فيه عن ثقة. هذا التخصص قد أفاد العلم فائدة كبرى؛ إذ إنه هو الذي أتاح ذلك التراكم الهائل للمعرفة الذي يتميز به عصرنا الحاضر، والذي قلنا من قبل عنه أنه يؤدي إلى تضاعف مجموع المعرفة العلمية في كل عدد قليل من السنوات. ولا شك أن هذا التخصص المتزايد مرتبط بالازدياد الكبير في عدد المشتغلين بالعلم؛ لأن هذه الزيادة ضرورية لمواجهة التخصصات والتفرعات التي تظهر بلا توقف.
على أنه إذا كان هذا التخصص المتزايد قد أفاد العلم فائدة لا شك فيها، فإن فائدته بالنسبة إلى تكوين العلماء أنفسهم، وبالنسبة إلى شخصية المشتغل بالعلم، هي شيء يمكن أن يكون مثارا للجدل؛ ذلك لأن العالم الذي يكرس حياته كلها لمجال شديد الضيق في فرع من فروع العلم، يتحدد تفكيره بهذا المجال ويعجز عن الخروج عنه، لا سيما وأن مقتضيات البحث العلمي وكمية المعلومات اللازمة له تزداد دواما في أي ميدان مهما كان ضيقه. وهكذا يمكن أن يصبح كثير من المشتغلين بالبحث العلمي أشخاصا ذوي إنسانية ناقصة وأبعاد ضيقة؛ فهم ينمون إلى أقصى حد ملكة واحدة من ملكاتهم في ميدان محدود جدا، بينما تظل بقية الملكات بلا نمو، وربما ازدادت تخلفا، وقد شبه الفيلسوف الألماني نيتشه هذا المتخصص بإنسان يتألف من أذن أو أنف هائلة الحجم، وبقية جسمه ضئيل إلى جانبها، هذا على الرغم من أن التخصص في عهد نيتشه - الذي يفصلنا عنه قرن كامل - كان أقل مما هو الآن بكثير.
ويمكن القول: إن العالم الذي يريد أن ينجح في ميدانه مضطر - في وقتنا هذا - إلى أن يعرض نفسه لهذا الخطر، فإزاء ثورة المعلومات والانفجار المعرفي، وإزاء ذلك الطوفان المتعاظم من الأبحاث والمقالات والكتب العلمية، يجد العالم نفسه أمام أحد أمرين؛ إما أن يحرص على استيعاب ما يكتب في ميدان تخصصه، حتى لا يكرر شيئا توصل إليه غيره من قبل، وحتى يلم بأحدث التطورات فيه، فيجيء ذلك على حساب تنمية قواه الخلاقة. وإما أن يمارس قدراته الإبداعية ولا يكرس وقتا أطول مما ينبغي في قراءة ما هو موجود بالفعل، فيكون مهددا بتكرار بحث أجراه غيره، أو البدء من جديد في طريق سبق أن سلكه آخرون.
ولكن هذا التخصص المتزايد لا يمثل - في الواقع - إلا وجها واحدا من أوجه التطور العلمي الحديث، فمع استمرار التخصص وتفرعه يوجد اتجاه إلى كشف العلاقات بين الفروع المتباينة وإلى إجراء بحوث مشتركة بين عدة فروع
Interdisciplinary Research ؛ أي إن التكامل يعوض جزءا على الأقل من تأثير التخصص، ويصبح لزاما على العالم - وخاصة من كان عالما كبيرا - أن يتوصل إلى نظرة متكاملة إلى علمه، فإذا كان متخصصا في فروع من البيولوجيا مثلا كان عليه أن يلم ببقية فروعها، وأن يعالج مشكلاتها من منظور الكيمياء والفيزياء والرياضيات ... إلخ. ومع ذلك فإن لهذا التكامل حدودا لا يتعداها؛ إذ إنه يتعلق ببعض الفروع التي تتصل بصورة مباشرة أو غير مباشرة بموضوع التخصص، ومن المستحيل أن يكون تكاملا «موسوعيا»؛ فقد اختفى منذ وقت طويل ذلك المثل الأعلى الذي ظل يمارس تأثيره حتى القرن الثامن عشر عند فيلسوف مثل «ليبنتس» الذي كان قادرا على استيعاب معظم معارف عصره والإبداع فيها، وإذا كنا نجد اليوم من آن لآخر شخصيات تتصور أنها قادرة على الإحاطة بمختلف جوانب المعرفة البشرية، وتستعرض معلوماتها أمام الناس في مختلف فروعها، فلنعلم أن الجانب الأكبر من هذه المعلومات ناقصة أو زائفة، وأن العملية كلها استعراضية جوفاء لا تنطلي إلا على البسطاء وغير المتخصصين.
وهكذا تكون هناك حدود «للتكامل» تجعله محصورا في نطاق معين، وتظل الغالبية العظمى من المشتغلين بالبحث العلمي عاجزة حتى عن بلوغ هذا التكامل المحدود، وتزداد أمام أعيننا باستمرار أعداد أولئك الذين يطلق عليهم البعض اسم «الهمجي المتعلم»
The Learned Savage ، وهو شخص لم تكتمل صفات الإنسان فيه؛ لأنه لا يحمل من زاد الدنيا إلا المعلومات المتعلقة بميدان ضيق ربما لم يكن الإنسان العادي قد سمع عنه في حياته.
ناپیژندل شوی مخ