ولكن في أي اتجاه يسير هذا التراكم الذي تتسم به المعرفة العلمية؟ إنه - في واقع الأمر - يسير في الاتجاهين؛ الرأسي والأفقي، أعني اتجاه التعمق في بحث الظواهر نفسها، واتجاه التوسع والامتداد إلى بحث ظواهر جديدة.
أما عن الاتجاه الأول - الذي نستطيع أن نسميه اتجاها رأسيا أو عموديا - ففيه يعود العلم إلى بحث نفس الظواهر التي سبق له أن بحثها ولكن من منظور جديد وبعد كشف أبعاد جديدة فيها؛ فالبحث الفيزيائي والكيميائي في المادة - مثلا - بدأ بخصائص المواد كما نتعامل معها يوميا؛ أي على مستوى إدراك حواسنا المادية، وبازدياد تقدم العلم ازداد مستوى الأبحاث في الظواهر نفسها تعمقا، فكشفت مستويات جديدة للمادة ألقت مزيدا من الضوء على ظواهر العالم الفيزيائي والكيميائي، وانتقل البحث إلى مستوى الجزيئات والذرات، ثم إلى مستوى دون الذري؛ أي مستوى أدق مكونات الذرة نفسها. وما زال العلم يتعمق في هذا الميدان الهام إلى مستويات تزداد دقة، وتتيح لنا مزيدا من السيطرة على العالم المادي، وينطبق هذا على العلوم الإنسانية بدورها؛ إذ يمكن القول - على سبيل المثال - إن التحليل النفسي عند فرويد هو محاولة للتغلغل إلى أبعاد في النفس البشرية أعمق من تلك التي كان يقتصر عليها علم النفس التقليدي، الذي كان يتناول سلوك الإنسان وفقا لمظاهره الخارجية، ويقتنع بالتعديلات والتبريرات الواعية التي تقدم لهذا السلوك، دون أن يدرك أن من وراء هذا التبرير «الواعي» دوافع لا شعورية خفية، لا يريد الإنسان أن يفصح عنها، وإنما تستخلص بعملية تحليل متعمقة.
وأما الاتجاه الثاني - وهو الاتجاه الذي يمكن أن يسمى أفقيا - فهو اتجاه العلم إلى التوسع والامتداد إلى ميادين جديدة؛ ذلك لأن العلم بدأ بنطاق محدود من الظواهر، هي وحدها التي كان يعتقد أنها خاضعة لقواعد البحث العلمي، على حين أن ميادين كثيرة كانت تعد أعقد أو أقدس من أن يتناولها العلم، وحسبنا أن نشير في هذا الصدد إلى أن آخر العلوم في ترتيب الظهور كانت مجموعة العلوم التي تدرس الإنسان بطريقة منهجية، مثل علم الاجتماع وعلم النفس اللذين ظهرا في القرن التاسع عشر. أما قبل ذلك فكانت دراسة الإنسان متروكة للتأملات الفلسفية التي كانت تزودنا - بغير شك - بحقائق عظيمة القيمة عن الإنسان، ولكن هذه الحقائق كانت تتخذ شكل استبصارات عبقرية ولا ترتكز على دراسة منهجية، والسبب الرئيسي لذلك هو الاعتقاد الذي ظل سائدا طويلا بأن العلم لا يستطيع أن يقترب من مجال الإنسان، وأن هذا المجال له حركته وقداسته الخاصة التي لا يصح أن «تنتهك» بالدراسة العلمية.
والواقع أن مسألة الترتيب الذي ظهرت به العلوم الطبيعية والإنسانية هو موضوع له من الأهمية ما يجعله جديرا بأن نستطرد فيه قليلا؛ ذلك لأن أول ما يتبادر إلى الذهن في هذا الصدد، هو أن الإنسان عندما يبدأ في ممارسة المعرفة العلمية يبدأ بمعرفة نفسه، على أساس أن هذا هو أقرب الميادين إليه، وهو الميدان الذي تكون فيه الملاحظة مباشرة بحق، وبعد أن تكمل دراسته لنفسه يصبح لديه من النضج ما يسمح له بدراسة العالم الخارجي، وربما كان يعزز هذا الرأي أن الآداب والفلسفات والعقائد والتشريعات - التي تعد شكلا قديما وهاما من أشكال معرفة الإنسان - قد ظهرت قبل العلم التجريبي بزمن طويل.
ولكن حقيقة الأمر هي أن هذا الشكل الأولي الذي اتخذته معرفة الإنسان لنفسه كان بعيدا عن الطابع العلمي، ولم يكن من الممكن بالفعل أن يبدأ العلم بدراسة الإنسان، بل كان المعقول أن يبدأ بدراسة الطبيعة الخارجية، ولقد كان هذا هو ما حدث بالفعل في التاريخ؛ ففي العالم القديم كانت المذاهب الفلسفية الأولى مذاهب «طبيعية»، ولم تظهر المذاهب التي تتناول الإنسان إلا في وقت متأخر، وهكذا بدأت الفلسفة بالمدرسة الأيونية والذرية ... إلخ، التي تركزت أبحاثها على العالم الطبيعي، قبل أن يظهر السفسطائيون وسقراط وأفلاطون، الذين جعلوا الإنسان موضوعا هاما لفلسفاتهم. وفي العصر الحديث بدأت النهضة العلمية بدراسة الطبيعة بطريقة مكثفة، ولم تلحقها دراسة الإنسان علميا إلا بعد قرنين على الأقل، وهذا أمر غير مستغرب؛ إذ إن دراسة الإنسان - وإن كانت تبدو أقرب وأسهل منالا لأنها تتعلق بمعرفة الإنسان لنفسه على نحو مباشر - هي في واقع الأمر أعقد بكثير من دراسة الطبيعة؛ لأنها تمس أمورا نعتبرها مقدسة في كياننا الداخلي، ولأن العلاقة بين الأسباب والنتائج فيها شديدة التعقيد والتشابك، على عكس الحال في دراسة الطبيعة؛ حيث تسير هذه العلاقة دائما في خط واحد قابل للتحديد.
وعلى أية حال فإن التطور في الاتجاهين - أعني اتجاهي دراسة الطبيعة ودراسة الإنسان - كان متداخلا، ولم يكن الفاصل بين الميدانين قاطعا؛ ففي المحاولات الأولى التي بذلها العقل البشري من أجل فهم الطبيعة، كان الإنسان يلجأ إلى تشبيه الطبيعة بنفسه، وفهمها من خلال ما يحدث في داخله، فيتصور أن أحواله النفسية والحيوية لها نظير في حوادث الطبيعة، وكأن الطبيعة تسلك كما يسلك الإنسان، وفي العصر الحديث دار الزمن دورة كاملة؛ فبعد أن كانت الظواهر الطبيعية تفسر على مثال الظواهر البشرية؛ أصبحت دراسة الإنسان - في كثير من الاتجاهات الحديثة - تتم على مثال الطبيعة، وظهر ذلك في تصور «أوجست كونت» وخلفائه للظواهر الاجتماعية كما لو كانت ظواهر طبيعية، كما ظهر عند «السلوكيين» والمدارس التجريبية في علم النفس بوجه عام؛ حيث يفسر السلوك الإنساني كما لو كان سلسلة من ردود الأفعال الطبيعية. وهكذا أصبحت الظواهر المتعلقة بكائن له حياة ونفس أو روح (أعني الإنسان) تدرس كأنها ظواهر تنتمي إلى الطبيعة الجامدة، بعد أن كانت ظواهر الطبيعة الجامدة - في العصور القديمة - تفسر كما لو كانت ذات حياة ونفس أو روح.
والذي يعنينا من هذا كله أن العلم يتوسع ويمتد رأسيا وأفقيا، وأنه يقتحم على الدوام ميادين كانت من قبل متروكة للخرافات أو للتفسيرات اللاعقلية، فحتى القرن الثامن عشر كانت أوروبا ذاتها تنظر إلى المرض العقلي على أنه ناتج عن تسلط روح شريرة على الإنسان، وكانت تعامل المريض بقسوة شديدة بهدف إخراج هذه الروح الشريرة منه، وفي كثير من الحالات كانت هذه القسوة تؤدي إلى موته.
وبالتدريج أخذ العلم يقتحم هذا الميدان بدوره - ميدان العقل البشري في صحته وفي مرضه - وامتدت رقعة المعرفة العلمية إلى أرض جديدة كانت محرمة على العلم من قبل، والأمثلة على ذلك عديدة، وكلها تثبت أن العلم يتوسع في جميع الاتجاهات.
ومرة أخرى نقول إن هذا التوسع يتضمن ردا مفحما على أولئك الذين يجدون متعة خاصة في اتهام العقل البشري بالقصور، على أساس أن هناك ميادين كثيرة لم يستطع هذا العقل حتى الآن أن يقتحمها؛ ذلك لأن هؤلاء لو تأملوا مسار العقل في تاريخه الطويل بنظرة شاملة - لا تقتصر على اللحظة التي يعيشون فيها وحدها - لأدركوا أن عصورا كثيرة قبلنا كانت تؤمن إيمانا قاطعا بعجز العقل العلمي عن اقتحام ميادين معينة، ولكن التطور سرعان ما أثبت لهم خطأهم، وهذا درس ينبغي أن يستخلصوا منه عبرة بليغة؛ وهي أن التوسع في المعرفة البشرية يسير باطراد، وأن كثيرا من الميادين التي نتصور اليوم أنها بعيدة عن متناول العلم سوف تصبح موضوعا للدراسة العلمية المنظمة في المستقبل القريب أو البعيد. (2) التنظيم
في كل لحظة من حياتنا الواعية يستمر تفكيرنا، ويعمل عقلنا بلا انقطاع، ولكن نوع التفكير الذي نسميه «علميا» لا يمثل إلا قدرا ضئيلا من هذا التفكير الذي يظل يعمل دون توقف؛ ذلك لأن عقولنا في جزء كبير من نشاطها لا تعمل بطريقة منهجية منظمة، وإنما تسير بطريقة أقرب إلى التلقائية والعفوية، وكثيرا ما يكون نشاطها مجرد رد فعل على المواقف التي تواجهها دون أي تخطيط أو تدبر، بل إننا حين ننفرد بأنفسنا ونتصور أننا «نفكر»، كثيرا ما ننتقل من موضوع إلى موضوع بطريقة عشوائية، وتتداعى الأفكار في ذهننا حرة طليقة من أي تنظيم، فنسمي هذا شرودا أو حلم يقظة، ولكنه يظل مع ذلك شكلا من أشكال التفكير، ومثل هذا التفكير الطليق غير المنظم سهل ومريح؛ ولذلك فإننا كثيرا ما نستسلم له هربا من ضغط الحياة أو تخفيفا لمجهود قمنا به، أو نجعل منه «فاصلا» مريحا بين مراحل العمل العقلي الشاق.
ناپیژندل شوی مخ