والأمر الذي يؤكد حياد العلم هذا، أن العلم ذاته ليس مسئولا عن التعرف في النتائج التي يتوصل إليها؛ فالعالم - في عصرنا الحديث - يشتغل لحساب مؤسسة أوسع منه قد تكون هي الدولة، أو شركة تجارية، أو على أحسن الفروض معهد علمي، وفي كل الحالات يكون القرار النهائي الذي يحدد طريقة التصرف فيما يكتشفه العالم خارجا عن إرادته، والمثل الواضح على هذا هو القنبلة الذرية على نحو ما عرضنا من قبل. وهكذا نجد العالم محكوما بقوى خارجية في جميع جوانب علمه العلمي؛ فقبل أن يشرع في هذا العمل لا بد أن يعتمد على مؤسسة كبيرة توفر له إمكانات البحث التي تزداد تكلفة وتعقيدا يوما بعد يوم، وبعد أن ينتهي من عمله العلمي، ويتوصل إلى كشف أو اختراع جديد، لا تكون له الكلمة أو سلطة اتخاذ القرار بشأن هذا الكشف، بل تتصرف فيه المؤسسة التي يعمل لحسابها، وهذه المؤسسة يتحكم فيها - غالبا - سياسيون أو تجار (أو سياسيون تجار!) ومن ثم فهي تصدر قراراتها بطريقة لا شأن لها بالعلم، وتحدد أهدافها وفقا لمصالحها الخاصة. وهكذا يضطر العلم إلى أن يقف على الحياد، وهو في هذه الحالة حياد مرتبط بالعجز؛ لأن العلم - بقدر ما أصبح يتحكم في مصير العالم - لا يملك مصيره بيده.
فإذا وجدنا العلم يؤدي إلى حروب وكوارث، ويشجع على القسوة والجشع، فلنعلم أن هذه ليست صفات مرتبطة بالعلم في ذاته، وإنما هي نتائج تترتب على «طريقة معينة» في التصرف بنتائج البحث العلمي. وكان من الممكن - لو تصرفنا بهذه النتائج بطريقة أخرى - أن يكون العلم خيرا ورخاء كله، أي إن طريقة استخدام العلم هي التي تحدد مدى أخلاقيته أو لا أخلاقيته.
هذا هو الوضع الشائع لمشكلة علاقة العلم بالأخلاق، وهو أيضا المعنى المألوف لتعبير «حياد العلم»، ولكننا نستطيع أن نتأمل هذا الموضوع بنظرة أعمق، فنجد فيه أبعادا أخرى غير هذه الأبعاد المألوفة والمعروفة؛ ذلك لأن صفة الحياد عدم الاكتراث أو تبلد الفكر والمشاعر، بحيث يستمر العالم في عمله بغض النظر عما يمكن أن يترتب عليه من خير أو شر، وفي هذه الحالة يكون كل ما يهدف إليه العالم هو مواصلة البحث العلمي، والتغلب على التحدي الذي تواجهه به صعوبة ما، والسعي إلى بلوغ أقصى النتائج الممكنة للعمل الذي بدأ يشتغل به؛ أي إن المضي في البحث العلمي يصبح غاية في ذاته، بغض النظر عن أية غاية أخلاقية أو لا أخلاقية يمكن أن يخدمها هذا البحث، مثل هذا الموقف يعد بدوره «حيادا»، ولكنه حياد يتضمن في داخله نتائج خطيرة من الوجهة الأخلاقية.
ذلك لأن من الممكن القول: إن العلماء الألمان الذين كانوا يبحثون لكي يساعدوا «هتلر» على تطوير أداته الحربية لم يكونوا كلهم من الأشرار، وإنما كان معظمهم مفتونا بأبحاثه مستغرقا فيها بصورة «حيادية»؛ بحيث كان كل ما يهمه هو استطلاع جميع الآفاق المتاحة له حتى نهايتها، وهذه السلبية أو عدم الاكتراث بالنتائج التي يمكن أن تترتب على العمل العلمي تفتح الباب بسهولة لاستغلال العلماء أنفسهم من أجل تحقيق أشد الأغراض بعدا عن الأخلاق والإنسانية.
وعلى الطرف المضاد، نستطيع أن نقول أيضا: إن مكتشف البنسلين لم يكن بالضرورة إنسانا يستهدف غاية أخلاقية أو خيرة، بل إنه وجد أمامه - بالصدفة - بابا مفتوحا يقود إلى طريق مليء بالمفاجآت الجديدة والمثيرة، فكان كل هدفه هو السعي في هذا الطريق ومعرفة النهاية التي يمكن أن يوصله إليها، ومثل هذا السعي المستمر إلى مواصلة البحث لذاته، يمكن في حالات كثيرة أن يعني وقوف العالم بمعزل عن الأخلاق وعن قيمها، وهو الموقف المسمى باسم
Amoralism ، حيث لا يكون المرء أخلاقيا أو معاديا للأخلاق، وإنما يقف خارج نطاق القيم الأخلاقية أصلا. وبالرغم من أن هذا الموقف ليس في ذاته شرا فإنه يمكن أن يؤدي بسهولة إلى الشر، ويولد في نفس العالم نوعا من تبلد الحس وجمود المشاعر.
ولقد دافع البعض عن هذا الموقف على أساس أن البحث عن الحقيقة لذاتها هو أمر محايد أخلاقيا، أو لا شأن له بالأخلاق، وزكى هذا الدفاع - على المستوى الفلسفي - موقف مذهب فلسفي معاصر هو «الوضعية المنطقية»؛ وهو مذهب يؤمن بأن القيم - سواء أكانت أخلاقية أو جمالية - تخرج عن نطاق العلم الذي يجب أن يكون «محايدا»، على حين أن القيم تعبر بطبيعتها عن تفضيلات شخصية، وحين نعبر عن تفضيلاتنا نضع الأشياء في سلم صاعد أو هابط؛ أي إننا لا نضعها على مستوى واحد، على حين أن العلم بطبيعته يعالج موضوعاته من نفس المستوى دون تحيز أو تفضيل، فإذا أردنا أن نجعل للقيم مكانا فليكن ذلك - حسب رأي الوضعية المنطقية - في ميدان الفن أو الأدب، أما في العلم فلا يسود إلا «الحياد» التام الذي يستبعد كل القيم والتفضيلات الأخلاقية.
هذا المعنى للحياد العلمي - في المجال الأخلاقي - مبني على افتراض غير مؤكد، هو أن الحقيقة لا شأن لها بالقيم أساسا؛ ذلك لأن هناك وجهة نظر أخرى - نعتقد أنها تستحق التقدير - تذهب الأخلاقية أن الحقيقة هي ذاتها قيمة عليا، وأن السعي إليها هو في ذاته خطوة أساسية في طريق الأخلاق؛ فالبصيرة التي نكتسبها بفضل الحقيقة، والاستنارة التي تبعثها في نفوسنا المعرفة، هي بلا شك أمور أخلاقية أو مرتبطة مباشرة بالأخلاق، والتضحيات التي يبذلها العلماء من أجل تحقيق كشوفهم تنطوي على دوافع أخلاقية لا شك فيها؛ إذ لا يمكننا أن نتصور العناء والجهد والمكابدة التي يعانيها العالم إلا إذا كانت هناك روح معينة ذات طابع أخلاقي تدفعه الأخلاقية أن يتحمل ذلك كله، ويتنازل عن النمط السهل المريح الذي تسير عليه حياة الناس؛ لكي يحيا حياة مكرسة للعلم وحده. والصراع ضد الجهل عمل أخلاقي جليل، لا سيما إذا اقترن بتضحيات ناجمة عن التصدي للقوى التي تقف وراء الجهل وتسانده وتحارب كل من يسعى إلى نشر الحقائق، ولا جدال في أن العالم الذي يحارب من أجل حقيقة يؤمن بها عن اقتناع، أو الذي يكرس حياته من أجل كشف يبدد ظلام الجهل أو يحقق للإنسان مزيدا من الفطرة على الطبيعة؛ هذا العالم يقف في صف واحد مع الأنبياء والمصلحين الذين لم تكن حياتهم مكرسة - في الواقع - إلا لأهداف مماثلة.
ومن المسلم به أننا قد نجد علماء يفتقرون إلى الروح الأخلاقية كما ينبغي أن تكون، بل قد نجد منهم من ارتكبوا في حق الأخلاق أخطاء فادحة، ولدينا على ذلك مثال واضح في شخصية فرانسيس بيكون
Sir Francis Bacon
ناپیژندل شوی مخ