وإذن، فتحديد الأهداف التي ينبغي أن يخدمها العلم هو أمر أسمى من أن يترك للسياسيين المحترفين، وأوسع وأرحب من أن يترك للعلماء المتخصصين، وإنما الواجب أن يشارك فيه المفكرون والأدباء والفنانون والفلاسفة، وكل من يهمه مصير الإنسانية ويفكر في هذا المصير بنزاهة وتجرد.
وإذا كان البعض يذهبون في تأكيد هذا الاتجاه إلى حد الدعوة إلى استبعاد العلماء استبعادا تاما من عملية التوجيه الاجتماعي هذه، على أساس أن طغيان النزعة العلمية والإيمان المفرط بقدرة العلم، هو واحد من أهم أسباب المشكلات التي يجلبها تطور العلم السريع في عصرنا الحاضر، فإنا نرى في هذا موقفا متطرفا، ونؤمن بأن العلماء - إلى جانب المفكرين والأدباء وأنصار الإنسان بوجه عام - ينبغي أن تكون لهم كلمتهم في هذا المجال؛ ذلك لأننا لا نستطيع - بعد أن قطعنا كل هذا الشوط البعيد في طريق التفكير العلمي - أن نحدد القيم العليا والغايات الأخلاقية والمستويات التي نريد أن يصل إليها الإنسان بطريقة تأملية خالصة، وعن طريق مجرد التفكير فيها. فنحن في هذه الأمور لا نحتاج إلى وعظ أخلاقي بقدر ما نحتاج إلى من يبصرنا بحقائق العصر. ولا نستطيع أن نعتمد على من يخاطبنا عن المثل العليا بطريقة مجردة بقدر ما نعتمد على من يحدثنا بلغة دقيقة تحلل الظواهر وتوضح أسبابها. ومن المؤكد أننا - حتى في هذا المجال ذاته - لا نستطيع أن نستغني عن تلك الأداة الفريدة التي اكتسبها الإنسان بعد كفاح طويل، والتي تتيح لنا التفكير في مشاكلنا في إطار لا ينفصل عن الواقع، ومن الصعب إلى حد بعيد أن يقتنع الإنسان - بعد كل هذا الشوط الذي قطعه في طريق العلم - بتعاليم من يريدون العودة به إلى عصر التفكير الذي لا يبنى على حقائق واقعية، والذي يعتمد على التأمل الاجتهادي غير المدروس.
ومن حسن الحظ أن عصرنا هذا قد عرف عددا لا يستهان به من العلماء الذين تمكنوا - بالرغم من تفوقهم الساحق في ميادين تخصصهم - من أن يمتدوا بأنظارهم إلى ما وراء ميادين تخصصهم هذه، ويستشرفوا الآفاق الواسعة والبعيدة للمجتمع الإنساني ولمستقبل الحياة على هذه الأرض. هؤلاء العلماء هم الذين وقفوا يحذرون - في الخمسينيات - من أخطار الإشعاعات التي تجلبها التجارب الذرية ، وهم الذين ناضلوا من أجل تحقيق السلام في فيتنام، وحاربوا الصهيونية والعنصرية بكل أشكالها، وهم الذين يدافعون عن حق الإنسان العادي في بيئة نظيفة وحق المولود الجديد في فرص متكافئة للحياة. بهؤلاء العلماء ينبغي أن تفخر البشرية، لا لأنهم قدموا إليها الكثير في مجال كشف أسرار الطبيعة فحسب، بل لأنهم استطاعوا - برغم جهودهم المضنية هذه - أن يمتدوا بأبصارهم إلى أوسع الآفاق، وأن يرسموا لنا صورة المستقبل كما ينبغي أن تكون، ولو وصل عالمنا إلى المرحلة التي يكون فيها لهؤلاء العلماء - مع الفلاسفة والأدباء والفنانين والمفكرين الاجتماعيين والأخلاقيين - كلمتهم المسموعة؛ لأمكنه أن يوازن بين تقدمه العلمي وتنظيماته الاجتماعية، وأن يحقق للبشرية ذلك الرخاء وتلك الحياة الفنية - ماديا ومعنويا - التي يستطيع العلم «بقدراته الحالية» أن يحققها لنا، لو كان لدينا التنظيم الذي يرقى إلى مستوى هذه القدرات.
الفصل السابع
شخصية العالم
العلم نشاط عقلي يقوم به علماء متخصصون، ويتخذ طابعا لا شخصيا، والمقصود بالطابع اللاشخصي أن النتيجة التي يتوصل إليها العالم تصبح على الفور ملكا للبشرية جمعاء. صحيح أن هذه النتيجة هي ثمرة جهود «هذا الشخص بالذات»، وأن ذكاءه وتعليمه وجهوده الخاصة هي التي أدت به إلى بلوغها، ولكن الكشف العلمي بمجرد ظهوره يفقد صلته بالأصل الذي أنتجه، ويتحول إلى «حقيقة» يملكها الجميع ويعترف بها الجميع. وقد نظل نذكر اسم العالم الذي تم على يديه هذا الكشف، ولكن هذا لا يتم إلا عندما نتحدث عن «تاريخ العلم»، وهو شيء ينفصل عن العلم ذاته؛ ففي استطاعتنا أن نستخدم هذا الكشف الذي توصل إليه دون أن نذكر شيئا عن صاحبه، بل إن هذا ما يفعله أغلب المشتغلين بالعلم إزاء معظم الكشوف التي يتعاملون معها؛ لأن اسم صاحب الكشف لا يغير - في قليل أو كثير - من حقيقته التي هي أول وآخر ما يهتم به البحث العلمي.
وهكذا يبدو أن «شخصية» العالم هي أقل الأشياء أهمية في العلم، وأن البحث العلمي نشاط مستمر، يقوم به أناس ينكرون شخصياتهم، ولا يحرصون إلا على متابعة «السير في الطريق »، ومثل هذا الطابع «اللاشخصي » للعلم خليق بأن يجعل مشكلة البحث في «شخصية العالم» مشكلة ثانوية لا مبرر للاهتمام بها.
ومن ناحية أخرى فإن العلماء فئة شديدة التباين، فالاختلافات بينهم واسعة إلى حد يبعث على الدهشة؛ إذ نجد منهم من نبغ في مقتبل عمره، ومن لم يظهر نبوغه إلا في مرحلة الشيخوخة المتأخرة، ونجد منهم من يميل إلى البحث المتأني، ومن يدافع عن الانبثاق المفاجئ للأفكار الجديدة، كما نجد بينهم زهادا من ناحية ومستمتعين بالحياة من ناحية أخرى ... إلى غير ذلك من الفوارق التي نجدها بين أفراد أية فئة بشرية.
ومع هذا كله، فهل يكون من الصعب أن نتلمس صفات مشتركة بين العلماء نستطيع أن نطلق عليها - في مجموعها - تعبير «شخصية العالم»؟ يبدو - من استقراء حياة العلماء وتحليل طبيعة البحث العلمي - أن هناك بالفعل مجموعة من الصفات التي يشترك العلماء في الكثير منها، والتي تكون في مجموعها كيانا متميزا يستحق أن يطلق عليه اسم «شخصية العالم». ولكننا حين نقول ذلك ينبغي أن نبادر على الفور إلى الاعتراف بأمرين؛ أولهما أن هناك دائما استثناءات، وأن من السهل أن يجد المرء علماء لا تنطبق عليهم صفة أو مجموعة من الصفات التي نرى أنها هي المميزة لشخصية العالم وهذا أمر طبيعي؛ إذ إننا لا نستطيع أن ندرج أية مجموعة من البشر في قوالب متشابهة، فما بالك إذا كانت هذه المجموعة تتألف من فئة متميزة عقليا عن بقية الفئات؟ وثانيهما أن وجود هذه الصفات لا يجعل المرء عالما «بطريقة آلية»، فهذه الصفات تكون «الحد الأدنى» الذي لوحظ أنه موجود في عدد كبير من العلماء. ولكن لكي يكون المرء عالما بحق فلا بد من أن يتوافر له ما هو أكثر بكثير من هذا الحد الأدنى، أعني لا بد أن يكون له تكوين من نوع معين وتفكير خاص ومعارف وقدرات خاصة على البحث، وهذه كلها أمور تتجاوز نطاق أي بحث يقوم به المرء عن «التفكير العلمي» بوجه عام؛ لأنها تنقلنا إلى ميادين التخصص العلمي ذاتها.
في هذا الإطار العام - الذي نعتقد أن من الممكن الكلام فيه عن شخصية العالم - سوف نتحدث عن مجموعة من العناصر التي نعتقد أنها من أهم مكونات هذه الشخصية، وإن لم يكن من الضروري أن تتجمع كلها في كل عالم على حدة. (1) العناصر الأخلاقية في شخصية العالم
ناپیژندل شوی مخ