ومن الوجهة التاريخية الخالصة، يمكن القول: إن أول جمعية علمية هي التي أنشئت في فلورنسة بإيطاليا عام 1657 باسم
Academia de Cimento (وتعني: أكاديمية التجربة العلمية)، ولكن البداية الحقيقية للجمعيات العلمية بكل مقوماتها الحديثة كانت هي الجمعية الملكية في لندن (
Royal Society ) عام 1662، ومنذ ذلك الحين تعاقبت الجمعيات بسرعة، فأنشئت الأكاديمية الفرنسية في باريس عام 1666، ثم أكاديمية سان بطرسبورج الروسية عام 1729 وأكاديمية برلين عام 1744.
وبفضل هذه الجمعيات العلمية الرائدة لم يتحقق مبدأ العمل الجماعي والتخطيط المنظم في العلم فحسب، بل إن إنشاءها قد دعم مبدأ رعاية الدولة للعلماء وإنفاقها على أبحاثهم. ومن المؤكد أن العلم أفاد كثيرا من هذا المبدأ، لا سيما وأن نفقات البحث العلمي كانت في تزايد مستمر، كما أن الدول بدورها اكتسبت فوائد هامة من رعايتها للعلماء، إذ كانت تجد في نجاح علمائها مبعثا للفخر المعنوي، كما كانت تكلفهم بإجراء البحوث التي تفيدها في تحقيق أهدافها الاقتصادية والعسكرية، وسوف نرى فيما بعد أن هذا المبدأ ذاته قد أصبح في عصرنا الحاضر سلاحا خطيرا ذا حدين.
الفصل الرابع
العلم والتكنولوجيا
في رحلة التفكير العلمي التي نتتبعها ها هنا بإيجاز عبر عصور التاريخ البشري لن نستطيع أن ننتقل إلى العصر الحاضر إلا إذا قدمنا إلى القارئ صفحات قليلة عن العلاقة بين العلم والتكنولوجيا طوال عصور المعرفة البشرية؛ ذلك لأن التداخل بين هذين الضربين من النشاط هو في أساسه ظاهرة جديدة، يتميز بها عصرنا هذا بالذات عن غيره من العصور، بحيث لا نكون مبالغين إذا قلنا إنها هي السمة الأساسية المميزة للعلم في مرحلته الراهنة. ومن هنا كان لزاما أن نلقي الضوء - في لمحة سريعة - على معنى التكنولوجيا وصلتها بالعلم منذ مراحله الأولى حتى عصرنا الحاضر.
إن لكلمة التكنولوجيا - عند كثير من الناس - رنينا حديثا يجعلهم يظنون أن العالم لم يعرف التكنولوجيا إلا في عصر قريب، وأن التكنولوجيا هي المخترعات الحديثة الراقية التي غيرت معالم الحياة البشرية في العصر الحديث وخاصة في القرن العشرين، ولكن واقع الأمر هو أن الشيء الوحيد الحديث في هذا الموضوع كله هو اللفظ ذاته، أما الظاهرة نفسها فهي قديمة قدم الإنسان، ومن الخطأ أن نربط بين التكنولوجيا وبين المخترعات الحديثة؛ لأن هذه المخترعات لا تعدو أن تكون آخر المراحل في تطور طويل بدأ منذ فجر الوعي البشري.
وأول معنى يطرأ على ذهن الإنسان حين يحاول تعريف التكنولوجيا هو معنى التطبيق العملي، فالحلم معرفة نظرية، والتكنولوجيا تطبيق لهذه المعرفة النظرية في مجال العمل البشري، ولكن على أي شيء ينصب التطبيق؟ إذا كنا نقصد أنه تطبيق للمعرفة العلمية النظرية، فإن هذا بدوره معنى حديث؛ إذ إن التكنولوجيا - كما سنرى - لم تكن مرتكزة على العلم طوال الجزء الأكبر من تاريخها، والأصح أن نقول: إنها تطبيقية بمعنى أنها تنتمي إلى الميدان العملي - ميدان الفعل وبذل الجهد - فهي شيء يرتبط باليد أكثر مما يرتبط بالمخ أو الرأس، وإن كانت الصلة بين اليد والرأس قد أصبحت وثيقة كل الوثوق في عصرنا الحاضر.
والمعنى الثاني الذي تثيره كلمة التكنولوجيا هو أنها وسيلة تستخدم في العمل البشري، فمنذ أقدم عصور التاريخ البشري كان الإنسان يستعين بأدوات تساعده في عمله، وهي أدوات تستحق اسم التكنولوجيا، فتهذيب قطعة من الحجر أو المعدن وربطها بقطعة خشبية من جذع شجرة واستخدامها فأسا لقطع الأشجار أو لتقليب الأرض هو نوع من التكنولوجيا، واستخدام النار في الطهي أو في التدفئة أو في صهر المعادن كان كشفا تكنولوجيا عظيم الأهمية بالنسبة إلى عصره، بل إن أهميته بالنسبة إلى العصر البدائي الذي ظهر فيه، تفوق بكثير أهمية الطاقة الذرية بالنسبة إلى عصرنا الحاضر، واختراع العجلة لتيسير عملية نقل البضائع أو انتقال الأشخاص أو محاربة الأعداء، كان في عصره انقلابا تكنولوجيا لا يقل أهمية عن اختراع الطائرات في أيامنا هذه.
ناپیژندل شوی مخ