مقدمة [ليست من المطبوع]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين ... وبعد:
فإن الله تعالى قد خلق الناس في هذه الدار متفاوتين خلقًا وخُلقًا، ورفع بعضهم فوق بعض درجات فَمَنَّ على أهل الاستقامة بالدرجات العلى، حيث كَرُمَ أدبهم، وحَسُنَ خلقهم. ولذلك كان أتقى الخلق ﷺ أحسنهم خلقًا. يقول الله تعالى: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ [القلم: ٤]. وعن أنس ﵁ قال: "كان رسول الله ﷺ أحسن الناس خلقًا" فكان أحسن الناس خلقًا مع الله، وكان أحسن الناس خلقًا مع عباد الله.
وخيار المؤمنين أحسنهم أخلاقًا، فعن عبد الله بن عمرو بن العاص ﵄ قال: "لم يكن رسول الله ﷺ فاحشًا ولا متفحشًا، وكان يقول: (إن من خياركم أحسنكم أخلاقًا) ".
والمرء في طريق سيره إلى الله تعالى لابد له من علم نافع صحيح يبصره الحق ويهديه الطريق، وعمل صالح يستعين به على قطع الطريق.
وعلى قدر قوة علم الإنسان وقوة عمله تكون سرعته في سلوك هذا الطريق، وسهولته عليه، والأدب ملازم للعلم النافع والعمل الصالح. ولا يخفى ما فضل الله تعالى به العلم وأهله العاملين به، الداعين إليه، فالعلم نور يهدي به الله من شاء من خلقه إلى صراطه المستقيم، والعلماء هم ورثة الأنبياء، فإذا كان الناس أمواتًا فإن العلماء أحياء.
مَا الفَخْرُ إلا لأَهْلِ العِلْمِ إنَّهُمُ ... على الهُدَى لِمَن اسْتَهْدَى أَدِلَاّءُ
وقَدْرُ كُلِّ امْرِئٍ مَا كان يُحْسِنُهُ ... والجَاهِلُون لأَهْلِ العِلْمِ أَعْدَاءُ
فَفُزْ بِعِلْمٍ تِعِشْ حَيًّا بِه أَبَدا ... النَّاسُ مَوْتى وأَهْلُ العِلْمِ أَحْيَاءُ
لذلك فإن العلماء وطلبة العلم هم أولى الناس وأحقهم بالأدب وحسن الخلق؛ لأنهم أعلم الناس بالحق، ولمكانهم بين الخلق حيث ينظر الناس إليهم نظرة خاصة، فإن أحسنوا كان ذلك سببًا لمحبة الناس لهم وقبول الحق منهم، وإن أساءوا كان ذلك سببًا لبعد الناس عنهم وكراهية ما هم عليه من الهدى.
يا أيها الرَّجُلُ المُعَلِّمُ غَيرَهُ ... هَلَاّ لِنَفسِكَ كان ذَا التَّعلِيمُ
تَصِفُ الدَّوَاءَ لِذِي السِّقَامِ وَذِي الضَّنَى ... كَيمَا يَصِحّ بِهِ وَأَنتَ سَقِيمُ
اِبدَأْ بِنَفسِكَ فَانْهَهَا عَن غَيِّهَا ... فَإِذَا انْتَهَتْ عَنْهُ فَأَنتَ حَكِيمُ
فَهُنَاكَ تُعْذَرُ إنْ وَعَظْتَ وَيُقتَدَى ... بِالقَوْلِ مِنْكَ ويُقْبَلُ التَّعلِيمُ
لا تَنهَ عَن خُلُقٍ وَتَأتيَ مِثلَهُ ... عَارٌ عَلَيكَ إِذَا فَعَلتَ عَظِيمُ
ولقد اهتم العلماء الربانيون، والأئمة المهديون بتعليم العلم والأدب جميعًا؛ لأن المقصود الأعظم من العلم هو العمل به، والتقرب إلى الله تعالى بمقتضى هذا العلم. وليس المقصود أن يكون الإنسان مجرد مخلاة للعلوم، فكم من إنسان حوى من العلوم ما لا يعلمه إلا الله، فهو يسرد الأدلة سردًا، ويؤصل المسائل تأصيلًا، لكنه سيئ الخلق قليل الأدب، فهذا قد يكون سببًا في إعراض الناس عن الهدى، وكراهيتهم للحق.
وكم من إنسان ليس عنده من العلم إلا ما يبصره طريق الحق، لكنه على خلق حسن وأدب قويم، تراه مشمرًا عن ساعد الجد، مجتهدًا في العمل تقربًا إلى الله تعالى، داعيًا إليه، مجاهدًا في سبيله، مقيمًا للسنة، مميتًا للبدعة، تجده قانتًا خاشعًا، أسبق الناس إلى الخير وأبعدهم عن الشر، يُهْتَدى بِسَمْتِهِ وإن كان صامتًا.
وهناك أقوام امتن الله عليهم بهمة عالية، يطلبون المجد والعلا في كل ما يرضي الله تعالى، الحكمة ضالتهم، أنى وجدوها بادروا إليها واغتنموها، فهؤلاء ينظرون إلى من فوقهم علمًا وأدبًا فيتعلمون من علمهم ويتخلقون بأخلاقهم.
مَنْ شَاءَ عَيْشًا هَنِيئًا يَسْتَفيدُ بِهِ ... في دِينِهِ ثُمَّ في دُنْيَاهُ إقْبَالا
فَلْيَنْظُرَنَّ إلى مَنْ فَوْقَهُ أَدَبًا ... وَلْيَنْظُرَنَّ إلى مَنْ دُونَهُ مَالا
ومن المصنفات النافعة جدًا لطلبة العلم والعلماء في هذا الباب كتاب "تذكرة السامع والمتكلم في أدب العلم والمتعلم" لابن جماعة ﵀، فهو كتاب نفيس جمع آدابًا كريمة، ينبغي لأهل العلم التحلي بها، وأشار إلى أخطاء منكرة ينبغي أن يتنزهوا عنها.
وهذا الكتاب وغيره من كتب الآداب والأخلاق التي صنفها علماء الإسلام، ينبغي لطلبة العلم والعلماء مذاكرتها والنظر فيها، وخاصة كتب السلف الصالح فإنهم كانوا أخلص قلوبًا، وأصدق بيانًا، وأعظم أدبًا وامتثالًا.
والله تعالى نسأل أن يَمُنَّ علينا وعلى سائر المسلمين بحُسْنِ الخُلُق
وصَلِّ اللهم وسَلِّم وبارِك على عبدِكَ ورسولِكَ مُحَمَّدٍ وعلى آلِهِ وصَحْبهِ أجمعين
محمود بن محمد العبد [*]
_________
[*] قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: هذه المقدمة ليست من المطبوع، وإنما هي خاصة بالنسخة الإلكترونية
ناپیژندل شوی مخ