بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله أهل الحمد ومستحقه، وصلاته على خيرته المصطفين من خلقه، سيدنا محمد رسوله الدال بآياته على صدقه، وعلى أهل بيته الأئمة القائمين من بعده بحقه.
سألت أدام الله عزك أن أثبت لك جملا من القول في أصول الفقه مختصرة، ليكون لك تذكرة بالمعتقد في ذلك [1 / ب] ميسرة، وأنا أصير (1) إلى مجوبك (2)، وانتهى إلى مرادك ومطلوبك بعون الله وحسن توفيقه.
مخ ۲۷
إعلم أن أصول الأحكام الشرعية (1) ثلاثة أشياء: كتاب الله سبحانه، وسنة نبيه صلى الله عليه وآله، وأقوال الأئمة الطاهرين من بعده صلوات الله عليهم وسلامه.
والطرق الموصلة إلى علم المشروع. في هذه الأصول ثلاثة:
أحدها: العقل، وهو السبيل إلى معرفة حجية القرآن ودلائل الأخبار.
والثاني: اللسان، وهو السبيل إلى المعرفة بمعاني الكلام.
وثالثها: الأخبار، وهي السبيل إلى إثبات أعيان الأصول من الكتاب والسنة، وأقوال الأئمة عليهم السلام.
والأخبار الموصلة إلى العلم بما ذكرناه ثلاثة أخبار: خبر متواتر، وخبر واحد معه قرينة تشهد بصدقه، وخبر مرسل في الإسناد يعمل به أهل الحق
مخ ۲۸
على الاتفاق.
ومعاني القرآن على ضربين: ظاهر، وباطن.
فالظاهر: هو المطابق لخاص العبارة عنه تحقيقا على عادات أهل اللسان، كقوله سبحانه: <a class="quran" href="http://qadatona.org/عربي/القرآن- الكريم/10/44" target="_blank" title="يونس: 44">﴿إن الله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون﴾</a> (١).
فالعقلاء العارفون باللسان يفهمون من ظاهر هذا اللفظ المراد.
والباطن: هو ما خرج عن خاص العبارة وحقيقتها إلى وجوه الاتساع، فيحتاج العاقل في معرفة المراد من ذلك إلى الأدلة الزائدة على ظاهر الألفاظ، كقوله سبحانه: <a class="quran" href="http://qadatona.org/عربي/القرآن- الكريم/2/43" target="_blank" title="البقرة: 43">﴿أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة﴾</a> (2).
فالصلاة في ظاهر اللفظ هي: الدعاء حسب المعهود بين أهل اللغة (3)، وهي في الحقيقة لا يصح منها القيام.
والزكاة هي: النمو عندهم بلا خلاف (4)، ولا يصح أيضا فيها الاتيان، وليس المراد في الآية ظاهرها، وإنما هو أمر مشروع.
فالصلاة المأمور بها فيها هي: أفعال مخصوصة مشتملة على قيام، وركوع، وسجود، وجلوس.
والزكاة المأمور بها فيها هي [2 / أ] إخراج مقدار من المال على وجه أيضا مخصوص، وليس يفهم هذا من ظاهر القول، فهو الباطن المقصود.
وأنواع أصول معاني القرآن أربعة:
أحدها: الأمر وما استعير له لفظه.
مخ ۲۹
وثانيها: النهي وما استعمل فيه أيضا لفظه.
وثالثها: الخبر مع ما يستوعبه لفظه.
ورابعها: التقرير وما وقع عليه لفظه.
وللأمر صور محققة في اللسان يتميز بها عن غيره في الكلام وهي قولك: (افعل) إذا ورد مرسلا على الاطلاق، وإن كانت هذه اللفظة تستعمل في غير الأمر على سبيل الاتساع والمجاز كالسؤال، والإباحة، والخلق والمسخ، والتهديد.
والأمر المطلق يقتضي الوجوب، ولا يعلم أنه ندب إلا بدليل.
وإذا علق الأمر بوقت وجب الفعل في أول الوقت، وكذلك إطلاقه يقتفي المبادرة بالفعل والتعجيل، ولا يجب ذلك أكثر من مرة واحدة ما لم يشهد بوجوب التكرار الدليل.
فإن تكرر الأمر، وجب تكرار الفعل ما لم تثبت حجة بأن المراد بتكراره التأكيد.
فأما الأمران إذا عطف أحدهما على الآخر، فالواجب أن يراعى فيهما الاتفاق في الصورة والاختلاف، فإن اتفقا دل ذلك على التأكيد، وإن اختلفا كان لهما حكمان.
والقول في الخبرين إذا تساويا في الصورة كالقول في الأمرين.
وامتثال الأمر مجز لصاحبه، ومسقط عنه فرض ما كان وجب من الفعل عليه.
وإذا ورد لفظ الأمر معاقبا لذكر الحظر أفاد الإباحة دون الايجاب، كقول الله سبحانه: <a class="quran" href="http://qadatona.org/عربي/القرآن- الكريم/62/10" target="_blank" title="الجمعة: 10">﴿فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض﴾</a> (1) بعد
مخ ۳۰
قوله: <a class="quran" href="http://qadatona.org/عربي/القرآن- الكريم/62/9" target="_blank" title="الجمعة: 9">﴿إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله﴾</a> (١).
وإذا ورد الأمر بفعل أشياء على طريق التخيير، كوروده في كفارة اليمين، فكل واحد من تلك الأشياء واجب بشرط اختيار المأمور، وليست واجبة على الاجتماع، ولا بالاطلاق.
وما لا يتم الفعل إلا به [٢ / ب] فهو واجب كوجوب الفعل المأمور به، وكذلك الأمر بالمسبب دليل على وجوب فعل السبب. والأمر بالمراد دليل على وجوب فعل الإرادة.
وليس الأمر بالشئ هو بنفسه نهيا عن ضده، ولكنه يدل على النهي عنه بحسب دلالته على حظره.
وباستحالة اجتماع الفعل وتركه يقتضي صحة النهي العقلي عن ضد ما أمر به.
وإذا ورد الأمر بلفظ المذكر مثل قوله: <a class="quran" href="http://qadatona.org/عربي/القرآن-الكريم/2/104" target="_blank" title="البقرة: 104">﴿يا أيها الذين آمنوا﴾</a> (2) و (يا أيها المؤمنون والمسلمون) وشبهه فهو متوجه بظاهره إلى الرجال دون النساء، ولا يدخل تحته شئ من الإناث إلا بدليل سواه.
وأما تغليب المذكر على المؤنث فإنما يكون بعد جمعهما بلفظهما على التصريح، ثم يعبر عنهما من بعد (3) بلفظ المذكر. ومتى لم يجر للمؤنث ذكر بما يخصه من اللفظ، فليس يقع العلم عند ورود لفظ المذكور بأن فيه تغليبا، إلا أن يثبت أن المتكلم قصد الإناث والذكور معا بدليل.
فأما الناس، فكلمة تعم الذكور والإناث.
وأما القوم، فكلمة تعم الذكور دون الإناث.
مخ ۳۱
وإذا ورد الأمر مقيدا بصفة يخص بها بعض المكلفين فهو مقصور على ذي الصفة، غير متعدية إلى غيره إلا بدليل، كقوله تعالى: <a class="quran" href="http://qadatona.org/عربي/القرآن-الكريم/74/1" target="_blank" title="المدثر: 1">﴿يا أيها المدثر قم فأنذر﴾</a> (١).
وإذا ورد بصفة تتعدى المذكور إلى غيره من المكلفين كان متوجها إلى سائرهم على العموم إلا ما خصصه (٢) الدليل، كقوله عز وجل: <a class="quran" href="http://qadatona.org/عربي/القرآن-الكريم/65/1" target="_blank" title="الطلاق: 1">﴿يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن﴾</a> (3).
والأمر بالشئ لا يكون إلا قبله لاستحالة تعلق الأمر بالموجود.
والأمر متوجه إلى الطفل بشرط البلوغ، وكذلك الأمر للمعدوم بشرط وجوده وعقله الخطاب، ويتضح أيضا توجه الأمر إلى من يعلم من حاله أنه يعجز في المستقبل عما أمر به، أو يحال بينه وبينه، أو يخترم دونه، لما يجوز في ذلك من مصلحة المأمور في اعتقاده فعل ما أمر به، واللطف له في [3 / أ] استحقاقه الثواب على نيته، وإمكان استصلاح غيره من المكلفين بأمره.
فأما خطاب المعدوم والجمادات والأموات فمحال.
والأمر أمر [لعينه وبنفسه] (4)، فأما النهي فله صورة في اللسان محققة يتميز بها عن غيره، وهي قولك: (لا تفعل) إذا ورد مطلقا.
والنهي في الحقيقة لا يكون منك إلا لمن دونك كالأمر.
والنهي موجب للترك المستدام ما لم يكن شرط يخصصه (5) بحال أو زمان.
مخ ۳۲
وأما الخبر فهو ما أمكن فيه الصدق والكذب، وله صيغة مبينة ينفصل بها عما يخالفه في معناه. وقد تستعار صيغته فيما ليس بخبر كما يستعار غيرهما من صيغ الحقائق فيما سواه على وجه الاتساع والمجاز. قال الله عز وجل: <a class="quran" href="http://qadatona.org/عربي/القرآن- الكريم/3/97" target="_blank" title="آل عمران: 97">﴿ومن دخله كان آمنا﴾</a> (١) فهو لفظ بصيغة الخبر، والمراد به الأمر بأن يؤمن من دخله.
والعام في معنى الكلام: ما أفاد لفظه اثنين فما زاد.
والخاص: ما أفاد واحدا دون ما سواه، لأن أصل الخصوص التوحيد، وأصل العموم الاجتماع.
وقد يعبر عن كل واحد منهما بلفظ الآخر تشبها (٢) وتجوزا قال الله تعالى: <a class="quran" href="http://qadatona.org/عربي/القرآن-الكريم/15/9" target="_blank" title="الحجر: 9">﴿إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون﴾</a> (٣) فعبر عن نفسه سبحانه وهو واحد بلفظ الجمع. وقال سبحانه: <a class="quran" href="http://qadatona.org/عربي/القرآن-الكريم/3/173" target="_blank" title="آل عمران: 173">﴿الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل﴾</a> (٤).
وكان سبب نزول هذه الآية أن رجلا قال لأمير المؤمنين عليه السلام قبيل (٥) وقعة أحد: إن أبا سفيان قد جمع لكم الجموع، فقال أمير المؤمنين عليه السلام: حسبنا الله ونعم الوكيل.
فأما اللفظ الخاص المعبر به عن العام فهو كقوله عز وجل: <a class="quran" href="http://qadatona.org/عربي/القرآن-الكريم/69/17" target="_blank" title="الحاقة: 17">﴿والملك على أرجائها﴾</a> (6) وإنما أراد الملائكة. وقوله: (يا أيها الإنسان ما غرك
مخ ۳۳
بربك الكريم) (١) يريد يا أيها الناس.
وكل لفظ أفاد من الجمع ما دون استيعاب الجنس فهو عام في الحقيقة، خاص بالإضافة [٣ / ب] كقوله عز وجل: <a class="quran" href="http://qadatona.org/عربي/القرآن-الكريم/6/44" target="_blank" title="الأنعام: 44">﴿فتحنا عليهم أبواب كل شئ﴾</a> (٢) ولم يفتح عليهم أبواب الجنان ولا أبواب النار. وقوله: <a class="quran" href="http://qadatona.org/عربي/القرآن-الكريم/2/260" target="_blank" title="البقرة: 260">﴿ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا﴾</a> (٣) وإنما أراد بعض الجبال. وكقول القائل: جائنا فلان بكل عجيبة، والأمثال في ذلك كثيرة، وهو كله عام في اللفظ، خاص بقصوره (٤) عن الاستيعاب.
فأما العموم المستوعب للجنس: فهو ما أفاد من القول نهاية ما دخل تحته، وصح للعبارة عنه في اللسان. قال الله عز وجل: <a class="quran" href="http://qadatona.org/عربي/القرآن-الكريم/2/282" target="_blank" title="البقرة : 282">﴿والله بكل شئ عليم﴾</a> (٥) وقال سبحانه: <a class="quran" href="http://qadatona.org/عربي/القرآن-الكريم/55/27" target="_blank" title="الرحمن: 27">﴿كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والاكرام﴾</a> (6).
فأما الألفاظ المنسوبة إلى الاشتراك فهي على أنحاء:
فمنها ما هو مبني لمعنى سائغ في أنواع مختلفات، كاسم شئ على التنكير، فهو وإن كان في اللغة موضوعا للموجود دون المعدوم، فهو يعم الجواهر والأجسام والأعراض، غير أن لكل ما شمله مما عددناه اسما على التفصيل، مبنيات يخص كل اسم منها نوعه دون ما سواه.
ومنها: رجل، وإنسان، وبهيمة ونحو ذلك، فإنه يقع على كل اسم من
مخ ۳۴
هذه الأسماء على أنواع في الصور والهيئات، وهو موضوع في الأصل لمعنى يعم ويشمل جميع ما في معناه.
ومن الألفاظ المشتركة ضرب آخر، وهو قولهم: (عين) ووقوع هذه اللفظة على جارحة البصر، وعين الماء، والذهب، وجيد الأشياء، وصاحب الخير، وميل الميزان وغير ذلك.
فهذه اللفظة [لمجردها غير مبنية] (١) لشئ مما عددناه، وإنما هي بعض المبني وتمامه وجود الإضافة أو ما يقوم مقامها من الصفة المخصوصة.
وإذا ورد اللفظ وكان مخصوصا بدليل فهو على العموم فيما بقي تحته مما عدا المخصوص، ويقال إنه عام على المجاز لأنه منقول عما بني له من الاستيعاب إلى ما دونه من الخصوص (٢).
وحقيقة المجاز، هي وضع اللفظ على غير ما بني له في اللسان، فلذلك قلنا إنه مجاز.
وإذا ورد لفظان عامان كل واحد منهما يرفع حكم صاحبه [٤ / أ] ولم يعرف المتقدم منهما من المتأخر، فيقال: إن أحدهما منسوخ والآخر ناسخ، وجب فيهما الوقف، ولم يجز القضاء بأحدهما على الآخر إلا أن يحضر دليل.
وذلك كقوله سبحانه: <a class="quran" href="http://qadatona.org/عربي /القرآن-الكريم/2/240" target="_blank" title="البقرة: 240">﴿والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج﴾</a> (3) وهذا عموم في جميع الأزواج المخلفات (4) بعد الوفاة. وقوله: (والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا
مخ ۳۵
يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا) (١) وهذا أيضا عام، وحكمهما متنافيان، فلولا أن العلم قد أحاط بتقديم إحداهما فوجب القضاء بالمتأخرة الثانية منهما لكان الصواب هو الوقف عن (٢) الحكم بشئ منهما.
وكذلك إذا ورد حكمان في قضية واحدة، أحدهما خاص والآخر عام، ولم يعرف المتقدم من المتأخر منهما ولم يمكن الجمع بينهما وجب الوقف (٣) فيهما. مثل ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: (لا نكاح إلا بولي) (٤) والرواية عنه من قوله: (ليس للولي مع البنت أمر) (٥) وهذا يخص الأول وفي الامكان أن يقضى عليه في الأول، وكل واحد منهما يجوز أن يكون الناسخ للآخر، فعدلنا عنهما جميعا لعدم الدلالة على القاضي منهما وصرنا إلى ظاهر قوله عز وجل: <a class="quran" href="http://qadatona.org/عربي/القرآن-الكريم/4/3" target="_blank" title="النساء: 3">﴿فانكحوا ما طاب لكم من النساء﴾</a> (٦) وقوله: <a class="quran" href="http://qadatona.org/عربي/القرآن- الكريم/24/32" target="_blank" title="النور: 32">﴿وأنكحوا الأيامى منكم﴾</a> (7) في إباحة النكاح بغير اشتراط ولي على الاطلاق.
وإذا ورد لفظ [عام في حكمه] (8)، وكان معه لفظ خاص في ذلك الحكم بعينه وجب القضاء بالخاص، وليس هذا مثل الأول. ومثاله قول
مخ ۳۶
الله عز وجل: <a class="quran" href="http://qadatona.org/عربي/القرآن- الكريم/23/5" target="_blank" title="المؤمنون: 5">﴿والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين﴾</a> (١). وهذا عام في ارتفاع اللوم عن وطء الأزواج على كل حال.
والخصوص قوله سبحانه: <a class="quran" href="http://qadatona.org/عربي /القرآن-الكريم/2/222" target="_blank" title="البقرة: 222">﴿ويسئلونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن﴾</a> (2). فلو قضينا بعموم الآية الأولى ارتفع حكم آية [4 / ب] المحيض بأسرة.
وإذا قضينا بما في الثانية من الخصوص لم يرتفع حكم الأولى العام من كل الوجوه.
فوجب القضاء بآية التخصيص. منهما ليصح العمل على ما بيناه بهما.
وإذا سبق التخصيص اللفظ العام، أو ورد مقارنا له فلا يجوز القول بأنه ناسخ لحكمه، لأن العموم لم يثبت، فيستقر له حكم، وإنما خرج إلى الوجود مخصوصا فأوجب في الحكم الخصوص. والنسخ إنما هو رفع موجود لو ترك لأوجب حكما في المستقبل.
والذي يخص اللفظ العام لا يخرج منه شيئا دخل تحته وإنما يدل [على أن المتكلم به أراد به الخصوص ولم يقصد به إلى ما بني في اللفظ له في العموم كما يدل] (3) الدليل على أن المتجوز (4) لم يرد من المعنى ما بنى له الاسم، وإنما أراد غيره، وقصد إلى وضعه على غير ما بني له في الأصل،
مخ ۳۷
وليس يخص العموم إلا دليل العقل والقرآن أو (١) السنة الثابتة.
فأما القياس والرأي: فإنهما عندنا في الشريعة ساقطان لا يثمران علما، ولا يخصان عاما، ولا يعممان خاصا، ولا يدلان على حقيقة.
ولا يجوز تخصيص العام بخبر الواحد، لأنه لا يوجب علما ولا عملا، وإنما يخصه من الأخبار ما انقطع العذر بصحته عن النبي صلى الله عليه وآله وعن أحد الأئمة عليهم السلام، وليس يصح في النظر دعوى العموم بذكر الفعل وإنما يصح ذلك في الكلام المبني والصور منه المخصوصة، فمن تعلق بعموم الفعل فقد خالف العقول، وذلك أنه إذا روي أن النبي صلى الله عليه وآله أحرم، لم يجب الحكم بذلك على أنه أحرم بكل نوع من أنواع الحج، من إفراد، وقران، وتمتع، وإنما يصح الاحرام بنوع منها واحد.
وإذا ثبت الخبر عنه عليه وآله السلام أنه قال: لا ينكح المحرم، وجب عموم حظر النكاح على جميع المحرمين مع اختلافهم فيما أحرموا به من إفراد، وقران، وتمتع، أو عمرة مبتولة.
وفحوى الخطاب: هو ما فهم منه [٥ / أ] المعنى وإن لم يكن نصا صريحا فيه بمعقول عادة أهل اللسان في ذلك، كقول الله عز وجل: <a class="quran" href="http://qadatona.org/عربي/القرآن-الكريم/17/23" target="_blank" title="الإسراء: 23">﴿ولا تقل لهما أف ولا تنهرهما﴾</a> (2) فقد فهم من هذه الجملة ما تضمنه [نصها بصريحه] (3)، وما دل عليه يعرف أهل اللسان من الزجر عن الاستخفاف بالوالدين الزائد على قول القائل لهما (أف) وما تعاظم عن انتهارهما من القول وما أشبه ذلك من الفعل وإن لم يكن النص تضمن ذلك على
مخ ۳۸
التفصيل والتصريح، وكقولهم: لا تبخس فلانا من حقه حبة واحدة، وما يدل ذلك عليه بحسب العرف بينهم والعادة من النهي عن جميع البخس الزائد على الحبة، والأمثلة في ذلك كثيرة.
فأما دليل، الخطاب، فهو أن الحكم إذا علق ببعض صفات المسمى في الذكر دل ذلك على أن ما خالفه في الصفة مما هو داخل تحت الاسم، بخلاف ذلك الحكم إلا أن يقوم دليل على وفاقه فيه، كقول النبي صلى الله عليه وآله: (في سائمة الإبل الزكاة) (١)، فتخصيصه السائمة بالزكاة دليل على أن العاملة ليس فيها زكاة.
ويجوز تأخير بيان المراد من القول المجمل إذا كان في ذلك لطف للعباد، وليس ذلك من المحال، وقد أمر الله تعالى قوم موسى أن يذبحوا بقرة، وكان مراده أن تكون على صفة مخصوصة، ولم يقع البيان مع قوله:
<a class="quran" href="http://qadatona.org/عربي/القرآن-الكريم/2/67" target="_blank" title="البقرة: 67">﴿إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة﴾</a> (2) بل تأخر عن ذلك، وانكشف لهم عند السؤال بحسب ما اقتضاه لهم الصلاح.
وليس ينافي تأخير البيان القول بأن الأمر على الفور والبدار، وذاك إن تأخير البيان عن الأمر الموقت بمستقبل من الزمان إما بمجرد لفظ يفيد ذلك، أو قرينة من برهان، هو غير الأمر المطلق العري من القرائن الذي قلنا (3) إنه يقتضي الفور والبدار.
ولا يجوز تأخير بيان العموم، لأن العموم موجب بمجرده
مخ ۳۹
الاستيعاب، فمتى أطلقه الحكيم ومراده التخصيص ولم يبين ذلك، فقد أتى بألغاز، وليس هذا كتأخير بيان المجمل من الكلام وبينهما فرقان (1).
والألفاظ [5 / ب] المنكرة (2) موضوعة في أصل اللغة للجنس دون التعيين، فإذا ورد الأمر بفعل يتعلق بنكرة، وجب إيقاعه على ما يستحق بمعناه سمة الجنس، سوى ما زاد عليه فمن ذلك ما يفيد أقل ما يدخل تحت الجنس، كقول القائل لغيره: تصدق بدرهم، فامتثال هذا الأمر أن يتصدق بدرهم كائنا ما كان من الدراهم.
وليس النهي بالنكرة كالأمر بها، لأن الأمر هاهنا يقتضي التخصيص، والنهي يقتضي العموم. ولو قال النبي صلى الله عليه وآله لأحد أصحابه: (لا تدخرن درهما ولا دينارا) لاقتضى ذلك ألا يدخر منهما شيئا. ولو قال له: (تصدق بدرهم ودينار) لأفاد ذلك أن يتصدق بهما، ولم يلزمه أن يتجاوزهما.
وليس القول بأن الأمر بالنكرة يقتضي أن يفعل أي واحد كان من الجنسين بمفسد ما تقدم من القول في تأخير البيان عن قوم موسى عليه السلام لما أمروا بذبح بقرة بلفظ التنكير، لأن حالهم تقتضي إن مع الأمر لهم بذبحها قد كانت لهم قرينة اقتضت التوقف والسؤال، وسؤالهم دلك (3) على ذلك.
ولو تعرى الأمر من القرينة لكان مجرد وروده بالتنكير يقتضي الامتثال في أي واحد كان من الجنسين.
ومن هذا الباب أن يرد الأمر بلفظ التثنية والتنكير كقوله: (إعط
مخ ۴۰
فلانا درهمين) فالواجب الامتثال في أي درهمين كانا على معنى ما تقدم من القول.
ومنه أن يرد الأمر بلفظ الجمع المنكر كقوله: (تصدق بدراهم) فليس يفيد ذلك أكثر من أقل العموم وهو ثلاثة، ما لم يقع التبيين.
واعلم أن العموم على ثلاثة أضرب:
فضرب: هو أصل الجمع المفيد لاثنين فما زاد، وذلك لا يكون إلا فيما اختصت عبارة الاثنين به في العدد، فهو عموم من حيث الجمع.
والضرب الثاني: ما عبر عنه بلفظ الجمع المنكر، كقولك: (دراهم ودنانير) فذلك لا يصح في أقل من ثلاثة.
والضرب الثالث: ما حصل منه (1) علامة الاستيعاب من [6 / أ] التعريف بالألف واللام، وبمن الموضوعة للشرط والجزاء، فمتى قال لعبده: عظم العلماء، فقد وجب عليه تعظيم جميعهم، وإذا قال: (من دخل داري أكرمه) - (2) وجب عليه إكرام جميع الداخلين داره.
والأسماء الظاهرة: ما استغنت في حقائقها عن مقدمة لها.
والمكنية: ما لم يصح الابتداء بها، وحكم الكناية في العموم والخصوص حكم ما تقدمها.
والكناية، والعطف، والاستثناء إذا أعقب جملا فهو راجع إلى جميعها، إلا أن يكون هناك دليل يقصرها على شئ منها.
وما ورد عن الله سبحانه، وعن رسوله صلى الله عليه وآله، وعن الأئمة الراشدين عليهم السلام من بعده على سبب، أو كان جوابا عن
مخ ۴۱
سؤال، فإنه يكون محكوما له بصورة لفظه دون القصر له على السبب المخرج له عن حكم ظاهره.
وليس وروده على الأسباب بمناف لحمله على حقيقته في الخطاب في عقل ولا عرف ولا لسان، وإنما يجب صرفه عن ظاهره لقيام دلالة تمنع من ذلك مع (1) التضاد.
والحقائق والمجازات إنما هي في الألفاظ والعبارات دون المعاني المطلوبات.
والحقيقة من الكلام: ما يطابق المعنى الموضوع له في أصل اللسان.
والمجاز منه: ما عبر عن غير معناه في الأصل تشبيها واستعارة لغرض من الأغراض، وعلى وجه الايجاز والاختصار.
ووصف الكلام بالظاهر، وتعلق الحكم به، إنما يقصد به إلى الحقيقة منه، والحكم بالاستعارة فيه إنما يراد به المجاز.
وكذلك القول في التأويل والباطن إنما يقصد به إلى العبارة عن مجاز القول واستعارته حسب ما ذكرناه.
والحكم على الكلام بأنه حقيقة أو مجاز، لا يجوز إلا بدليل يوجب اليقين، ولا يسلك فيه طريق الظنون. والعلم بذلك من وجهين:
أحدهما: الاجماع من أهل اللسان.
والآخر: الدليل [6 / ب] المثمر للبيان.
فأما إطلاق بعض أهل اللغة، أو بعض أهل الإسلام ممن ليس بحجة في المقال والفعال، فإنه لا يعتمد في إثبات حقيقة الكلام.
مخ ۴۲
ومتى (١) التبس اللفظ فلم يقم دليل على حقيقة فيه أو مجاز، وجب الوقف لعدم البرهان.
وليس بمصيب من ادعى أن جميع القرآن على المجاز، وظاهر اللغة يكذبه. ودلائل العقول والعادات تشهد بأن جمهوره على حقيقة كلام أهل اللسان. ولا بمصيب أيضا من زعم أنه لا يدخله المجاز، وقد خصمه في ذلك قوله سبحانه: <a class="quran" href="http://qadatona.org/عربي/القرآن-الكريم/18/77" target="_blank" title="الكهف: 77">﴿فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض﴾</a> (٢) وغيره من الآيات. والواجب أن يقال: أن منه حقيقة، ومنه مجاز.
فأما القول في الحظر والإباحة فهو أن العقول لا مجال لها في العلم بإباحة ما يجوز ورود السمع فيها بإباحته، ولا يحظر ما يجوز وروده فيها بحظره، ولكن العقل لم ينفك قط من السمع [بإباحة وحظر] ولو أجبر الله تعالى العقلاء حالا واحدة من سمع، لكان قد اضطرهم إلى مواقعة ما يقبح في عقولهم من استباحة، ما لا سبيل لهم إلى العلم بإباحته من حظره، وألجأهم إلى الحيرة التي لا يليق بحكمته.
وليس عندنا للقياس والرأي مجال في استخراج الأحكام الشرعية، ولا يعرف من جهتهما شئ من الصواب، ومن اعتمد هما في المشروعات فهو على ضلال.
والعقول تجوز نسخ الكتاب بالكتاب، والسنة بالسنة، والكتاب بالسنة، والسنة بالكتاب. غير أن السمع ورد بأن الله تعالى لا ينسخ كلامه بغير كلامه بقوله: <a class="quran" href="http://qadatona.org/عربي/القرآن-الكريم/2/106" target="_blank" title="البقرة: 106">﴿ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها﴾</a> (4)
مخ ۴۳
فعلمنا أنه لا ينسخ الكتاب بالسنة. وأجزنا ما سوى ذلك مما ذكرناه.
والحجة في الأخبار ما أوجبه العلم من جهة النظر فيها بصحة مخبرها ونفي الشك فيه والارتياب، وكل خبر لا يوصل بالاعتبار إلى صحة مخبره، فليس [7 / أ] بحجة في الدين، ولا يلزم به عمل على حال.
والأخبار التي يجب العلم بالنظر فيها على ضربين:
أحدهما: التواتر المستحيل وروده بالكذب من غير تواطؤ على ذلك، أو ما يقوم مقامه في الاتفاق.
والثاني: خبر واحد يقترن إليه ما يقوم مقام التواتر في البرهان على صحة مخبرة وارتفاع الباطل منه والفساد.
والتواتر الذي وصفناه هو ما جاءت به الجماعات البالغة في الكثرة والانتشار إلى حد قد منعت العادة في اجتماعهم على الكذب بالاتفاق كما يتفق لاثنين أن يتواردا بالإرجاف. وهذا حد يعرفه كل من. عرف العادات.
وقد يجوز أن ترد جماعة دون من ذكرناه في العدد، بخبر يعرف من شاهدهم بروايتهم (1) ومخارج كلامهم، وما يبدوا في ظاهر وجوههم، ويبين من قصودهم إنهم لم يتواطئوا، لتعذر التعارف بينهم والتشاور، فيكون العلم بما ذكرناه من حالهم دليلا على صدقهم، ودافعا للإشكال في خبرهم، وإن لم يكونوا من (2) الكثرة على ما قدمناه.
فأما خبر الواحد القاطع للعذر، فهو الذي يقترن إليه دليل يفضي بالناظر فيه إلى العلم بصحة مخبره، وربما كان الدليل حجة من عقل، وربما كان شاهدا من عرف، وربما كان إجماعا بغير خلف فمتى خلا خبر الواحد من دلالة يقطع بها على صحة مخبره، فإنه كما قدمناه ليس بحجة، ولا
مخ ۴۴
موجب علما ولا عملا على كل وجه.
وليس في إجماع الأمة حجة من حيث كان إجماعا، ولكن من حيث كان فيها الإمام المعصوم، فإذا ثبت أنها كلها على قول، فلا شبهة في أن ذلك القول هو قول المعصوم، إذ لو لم يكن كذلك، كان الخبر عنها بأنها مجمعة باطل، فلا (1) تصح الحجة بإجماعها لهذا الوجه.
والحكم باستصحاب الحال واجب، لأن حكم الحال ثابت باليقين، وما ثبت فلن يجوز الانتقال عنه إلا بواضح الدليل.
والأخبار [7 / ب] إذا اختلفت في الألفاظ، فلن يصح حمل جميعها على الحقيقة من الكلام، إذا أريد الجمع بينهما على الوفاق. وإنما يصح حمل بعضها على الحقيقة وبعضها على المجاز، حتى لا يقدح ذلك في إسقاط بعضها [ومتى لم يمكن حمل بعضها] (2) على الحقيقة وبعضها على المجاز، فلا بد من صحة أحد البعضين وفساد الأخرى أو فساد الجميع.
اللهم إلا أن يكون الاختلاف فيها يدل عليه (3) النسخ، فذلك لا يكون إلا في أخبار النبي صلى الله عليه وآله دون أخبار الأئمة عليهم السلام، فإنهم ليس إليهم (4) تبديل شئ من العبادات ولا نسخ (5).
مخ ۴۵