بداءة
النفس الألمانية
نبذة عن الحرية الفنية في الأمة الألمانية
حياة جيتي
المرأة في حياة جيتي
مؤلفات جيتي
آلام فرتر
فوست
ولهلم ميستر
الديوان الشرقي
مؤلفات أخرى
عبقرية جيتي
شخصية جيتي
عقيدة جيتي وآراؤه
تقدير جيتي
مختارات متفرقة
بداءة
النفس الألمانية
نبذة عن الحرية الفنية في الأمة الألمانية
حياة جيتي
المرأة في حياة جيتي
مؤلفات جيتي
آلام فرتر
فوست
ولهلم ميستر
الديوان الشرقي
مؤلفات أخرى
عبقرية جيتي
شخصية جيتي
عقيدة جيتي وآراؤه
تقدير جيتي
مختارات متفرقة
تذكار جيتي
تذكار جيتي
تأليف
عباس محمود العقاد
بداءة
جيتي في شبابه.
ثارت الكنيسة على الطبيعة، ثم ثارت القلعة على الكنيسة، ثم ثارت المدينة على القلعة، ثم ثار الفرد على المدينة.
تلك سلسلة من الثورات تكررت في كل قطر من الأقطار الأوروبية على التقريب، ولكنها لم تكن قط أوضح مظهرا ولا أعمق أثرا ولا أجدر بالدراسة مما كانت في الأقطار الألمانية خاصة.
فسلطان الطبيعة كان عظيما في كل أرض، ولكنه لم يكن قط أعظم مما كان في الأرض التي التقى فيها الشمال والجنوب، والتي غنت للطبيعة وقدستها وحفظت من غنائها لها وتقديسها إياها ثمالة شائعة في فنونها وعباداتها إلى اليوم.
وسلطان الكنيسة كان عظيما في كل أمة، ولكنه لم يكن قط أعظم مما كان في الأمة التي قامت عليها أركان «الدولة المقدسة» وسيطرت عليها الكهانة حتى دفعت بها إلى ثورة الإصلاح.
وسلطان القلعة كان عظيما في كل بلد، ولكنه لم يكن قط أعظم مما كان في البلاد التي تقسمها الأمراء دويلات دويلات، وانقسمت فيها الدويلات أقاليم أقاليم، وطال فيها عهد الإقطاع إلى القرن العشرين، وأصبح فيها توقير النبلاء دينا إلى جانب الدين؛ حتى شكا نبلاء سكسونية مرة من تعميد أبنائهم بالماء الذي يعمد به أبناء الوضعاء!
وسلطان المدينة كان عظيما في كل دولة، ولكنه لم يكن قط أعظم مما كان في الدولة التي اشتهرت فيها «المدن الحرة» واستقلت فيها بالمصالح والنظم والدساتير.
وثورة الفرد على المدينة كانت معرضا للدراسة النفسية في كل بيئة، ولكنها لم تكن قط أغنى بمسائل البحث مما كانت في البلاد التي خرجت فيها النزعة الفردية مزيجا من ثورة الطبيعة وثورة الكنيسة وثورة القلعة وثورة المدينة وثورة الأفراد، وقلما امتزجت ثورات خمس في نفس واحدة إلا بدت للعين كأنها ضرب من السكون!
وبحق كان «هيجل» فيلسوفا ألمانيا ينظر إلى العالم من خلال النفس الألمانية، وبحق فسر التاريخ كله بالصراع الدائم بين فكرتين تتصارعان ما تكاد إحداهما تغلب الأخرى حتى تتصدى لها فكرة جديدة تنازعها أسلاب الغلب وتأبى عليها قرار الراحة؛ فقد كانت النفس الألمانية ميدانا بقيت فيه بقية من كل صراع وغنيمة من كل غالب وكل مغلوب، وانتهت بها النهاية في هذه الصفة إلى إنسان جامع للثورات التي هي أشبه بالسكون، أو للسكون الذي هو أشبه بالثورات، ونعني به «جيتي» شاعر الألمان الكبير ومحور الكلام في هذه الرسالة؛ فهو من ثم الألماني في الألمانيين، وهو سليل الكنيسة الثائرة على الطبيعة، والقلعة الثائرة على الكنيسة، والمدينة الثائرة على القلعة، والفرد الثائر على المدينة!
النفس الألمانية
النفس الإنسانية لغز خفي على الرغم منها، ولكنك إذا شارفت النفس الألمانية خيل إليك أنها لغز خفي باختيارها؛ لأنها تحب الألغاز والخفايا وتعيش فيها! وما من نقيضة في تلك النفس العجيبة تستعصي على التفسير إلا كان تفسيرها القريب في هذه الحقيقة الشاملة ... فالعلم بهذه الحقيقة زاد لا يستغني عنه المسافر في مجاهل الحياة الألمانية، من باطنة وظاهرة، ومن قومية وفردية، ومن قديمة وحديثة.
اشتهر الألمان بالتدين والفلسفة والسحر والموسيقى والأناشيد والأحلام، وكل سمة من هذه السمات راجعة في قرارتها إلى الإيمان بالغيب والولع بالأسرار.
ولك أن تقول: إن التدين والفلسفة والسحر إخوة ثلاثة يختلفون في العرق والحسن والطهارة، فالغيب الذي يبحث عنه التدين هو سر القلب والضمير، والغيب الذي تبحث عنه الفلسفة هو سر الفكر والبصيرة، والغيب الذي يبحث عنه السحر هو سر القوى الجاهلة والغرائز العمياء، ولكنها كلها لا تولد إلا في مهد الخفايا ولا توجد إلا حيث يكون التصديق بالأسرار.
وقد ترى للسحر نوعين يختلفان أشد الاختلاف في الأصل والدلالة، فهنالك السحر السطحي الذي يجيء من الضلال في تفسير ظواهر الأشياء؛ وهنالك السحر الخفي الذي يجيء من الضلال في تفسير البواطن، وليس السحر الأول كالسحر الأخير ولا صاحب هذا كصاحب ذاك.
فالباحث عن ظواهر الأشياء إن مشى إليها من طريقها القويم انتهى إلى العلم وإن مشى إليها من الطريق الأعوج انتهى إلى السحر والشعوذة، ولكنه في الحالين لا يتوخى مطلبا غير البحث عن علاقات الظواهر؛ ولا يكلف نفسه النفاذ إلى أعماق المحسوسات؛ فهو في الطريقين قانع بما يبدو على وجه الحياة.
أما السحر الآخر - أي حر البواطن - فهو فلسفة خاطئة أو تدين خاطئ؛ لأنه يتعدى المحسوسات إلى ما وراءها ويتغلغل من السطوح إلى الأعماق. ولكنه يضل الطريق، ويستهدي إلى غايته بغير هداية القلب والضمير، أو هداية الفكر والبصيرة.
والسحر الآخر هذا هو سحر الألمان في القرون الوسطى؛ فقد كانوا سحرة لأنهم لم يستطيعوا بعد أن يكونوا فلاسفة، وطال بهم عهد التصديق بالسحر إلى أن بدأ عهد الفلسفة الحديثة في القرون الأخيرة، فأحرقت امرأة ساحرة في سويسرة الألمانية سنة 1783 ... وبلغ عدد العجائز المحرقات بأمر أسقف واحد في سنة واحدة من أواخر القرن السابع عشر ستمائة عجوز! ولا يخفى أن الآمرين بالإحراق أشد إيمانا بالسحر من المتهمين باقترافه؛ لأن الساحر المتهم قد يعلم عجزه عن الإصابة ويعرف تمويهه على عقول الأغرار، أما الآمرون بإحراقه فلن يفعلوا ذلك إلا وهم مؤمنون بقوة السحر على الإصابة وسلطانه على الناس. •••
والموسيقى - ولا سيما الموسيقى الألمانية - هي أقرب الفنون إلى البواطن والأسرار، وهي أحيانا دعاء المعابد وصلوات العباد، وأحيانا لسان المعاني التي لا تعبر عنها الكلمات، وجيتي هو القائل: «لا تقرأوا أناشيدي ولكن غنوها فتكون أناشيدكم.» وتلك حقيقة خليقة بجيتي الشاعر وجيتي الألماني على السواء؛ فالألحان هي سبيل الاتصال بين الأرواح فيما لا تغني فيه الكلمات، وهكذا اتصلت أرواح الألمان من قبل على ألحان الشعراء الطوافين وأغاني الفلاحين وأساطير الأبطال الغابرين؛ ففي ألمانيا أدب حافل بالأغاني الشعبية لا نظير له عند سائر الشعوب، لأن الموسيقى عندهم عنصر من عناصر الباطن وإحدى وسائل التعبير عن روح الشعب الأصيل. •••
وفي هذه «الباطنية» تعليل لكثير من النقائض التي تظهر لنا على «روح الشعب الألماني» ولا سيما في فهمه للحرية والوطن والجامعة القومية؛ فقد طلب حرية الدين قبل غيره من شعوب أوروبا وبقي متخلفا لا يطلب الحرية السياسية إلا في مؤخرة تلك الشعوب. ولا ريب في أن النزعة الباطنية هي أحد الأسباب القوية التي يرجع إليها ذلك الإسراع في ثورة الدين وهذا الإبطاء في ثورة السياسة والاجتماع.
فلما كان الظلم يوصد على الألمان باب الضمير لم يطيقوا الصبر عليه لأنه قد أوصد في وجوههم الباب الذي منه يسلكون وإليه يلجأون، ولما بقي هذا الباب مفتوحا لم تعنهم مظالم الحياة الخارجة لأنهم يعرضون عنها منصرفين إلى دخائل نفوسهم، فلا تضيق بهم الحياة الخارجة كما تضيق بالمظلوم الذي يعلق عليها جميع الآمال.
فالشعوب التي تستغرقها «الدنيا الظاهرة» يحرجها الظلم إذا أخذ عليها مسالك تلك الدنيا فيدفعها إلى التمرد وطلب التغيير، ولكن الألمان شعب لم تستغرقه «الدنيا الظاهرة» فكانت له مندوحة من حياة الروح يطلب عندها العزاء الصادق أو الكاذب: يطلب عندها أملا في السماء أو رقية في السحر أو سلوى من الفلسفة، وفي ذلك كله تلطيف لوقع الظلم يؤجل الشعور به إلى حين.
وهنا وجه المقابلة بين الألمان والفرنسيين؛ فإن الفرنسيين هرعوا إلى الديمقراطية ولكنهم لبثوا مع الكنيسة التي دان لها أجدادهم وآباء أجدادهم، والألمان خرجوا على كنيسة الأجداد وأبطأوا في تلبية الديمقراطية، وهذا هو الفرق البين بين روحي الشعبين. •••
قلنا: إن «النزعة الباطنية» هي أحد الأسباب القوية التي صبغت «الروح الألماني» بهذه الصبغة في فهم الحرية، ولكنها ليست بالسبب الوحيد الذي جعل للحرية الألمانية والوطنية الألمانية معنى غير معناهما عند سائر الشعوب، فيجب أن نذكر في هذا الصدد أن الجرمان كانوا قبائل شتى ودويلات كثيرة تخضع للدولة المقدسة الكبرى. فكانت الدويلات الصغيرة تكره الدعوى الجرمانية في بادئ الأمر لأنها تحس منها الخطر على وجودها وتخشى أن تفنيها في غمار الدولة الكبرى، بل لقد كان عدم الوطنية الجرمانية في بعض العصور ضربا من الوطنية المشكورة في الدويلات الصغيرة؛ فالبروسي مثلا كان ينكر الغيرة على الوطنية الجرمانية لأنها غيرة تلتهمه وتفنيه وتقضي على غيرته البروسية، فليس بعجيب أن يختلف معنى الوطن في بلاد الجرمان عن معناه في الأمم الأخرى زمنا من الأزمان.
ويجب أن نذكر كذلك في هذا الصدد أن مبادئ الديمقراطية حين وصلت إلى ألمانيا كانت مبادئ عدوها المغير عليها المذل لكبريائها، كانت مبادئ الجيش الفرنسي والدولة الفرنسية، فليس بعجيب أن يتلقاها فلاسفة الألمان بشيء من الفتور والإعراض، وأن تجنح بهم الوطنية إلى إنكار الديمقراطية في إبان المنافسة والملاحاة بين الشعبين، فهو روح شعبي ذلك الذي جنح بهم من حيث لا يشعرون إلى إنكار الدعوة «الشعبية» يوم جاءتهم على أسنة الرماح وأفواه المدافع من جانب الفرنسيين!
على أن السبب الذي يتصل بجميع هذه الأسباب ويكاد يدرجها كلها في أطوائه هو حرب «الثلاثين» المشهورة؛ فإن هذه الحرب الطحون قد دمرت ألمانيا في الشمال والجنوب تدميرا وعطلت البحث والأدب فيها جيلين متواليين ورزحت استقلال الفكر فيها خلال القرن السابع عشر الذي نشطت فيه دعوة الفكر الحر في الأمم الأوروبية الكبرى.
وهكذا اختلف الروح الألماني في مظاهر الحرية ومعاني الوطنية والعصبية اختلافا غير يسير، فكان له نمط فذ من الاستقلال والشعور بالحقوق.
ولسنا نفهم أمة الألمان وحدها حين نفهم هذه الحقائق ونلاحظ هذه الفروق، ولكننا نفهم شاعرهم جيتي حق فهمه حين ندرك الروح الألماني هذا الإدراك، ونلقي بالنا على هذا النحو إلى مزاج التدين والفلسفة والسحر والموسيقى والأناشيد والأحلام.
نبذة عن الحرية الفنية في الأمة الألمانية
لا تخلو الدنيا من فكرتين تتصارعان كما يقول هيجل فيلسوف الألمان الذي أشرنا إليه في كلمة البداءة، وإنما الغلبة الكاملة في هذا الصراع مستحيلة، فكل فكرة غالبة تفقد بعض الشيء وكل فكرة مغلوبة تغنم بعض الشيء. ثم ينتهي المطاف وفي الدنيا آثار مختلفات لجميع الأفكار غالبها ومغلوبها على السواء.
فإذا تحدثنا هنا عن تداول المدارس الفنية في الأمة الألمانية وجب أن نذكر هذه الحقيقة وألا ننسى أن الغالب منها لم يبق كل البقاء وأن المغلوب منها لم يزل كل الزوال؛ ففي العصر الحاضر أثارة من الأساليب الرومانية والمدرسية والفرنسية والمستقلة والزوبعية التي شاعت بعض الشيوع في جيل جيتي، وفيه كذلك أثارة من الرومانية الحديثة والطبيعية وما تجدد بعدهما من شتى الأساليب.
وهذه الأساليب كلها قد تتلخص على سبيل الإيجاز في أسلوبين اثنين يتداولان الغلب من أقدم عهود الفن في الأمة الألمانية، وهما الأسلوب اليوناني البسيط الصريح المعروف «بالكلاسيكي» والأسلوب المجازي المركب المعروف «بالرومانتيكي». فكان الأسلوب المجازي المركب يستولي على أذواق الألمان في القرون الوسطى إلى إبان عصر النهضة والإصلاح. ثم ضعف سلطانه رويدا رويدا بعد فتح الترك يحملون كتب الإغريق وبقايا آدابهم الخالصة من شوائب العصور المظلمة، فراح القوم يطلبون الرجعة إلى أسلوب اليونان القديم أو الأسلوب «الكلاسيكي» الصريح.
وخير ما نفرق به بين الأسلوبين أو المدرستين - ولا سيما في النحت والتصوير - أن نسمي إحداهما البسيطة والأخرى المجازية، وخير من ذاك أن نثبت هنا كلمة الشاعر الألماني المبدع «هنريك هيني» في الفرق بينهما كما وصفهما في كتابه الشائق النافع عن البلاد الألمانية، فهو يقول: «إن الفرق بينهما هو أن الصور والشخوص في الفن القديم تمثل أصحابها والفكرة التي عناها الفنان؛ فرحلات «الأوديسي» مثلا لا تعني شيئا آخر غير رحلات الرجل الذي هو ابن «لايرتس» وزوج «بنيلوب» والذي اسمه «أولس». وكذلك تمثال باكوس القائم في متحف اللوفر لا يدل على شيء آخر غير ابن سيميل الجميل يطل الحزن الجسور من عينيه وتبدر الشهوة الملهمة من نعومة ثغره وتقويس شفتيه، أما الأسلوب المجازي فغير ذلك في مغازيه؛ إذ رحلات الفارس تنطوي على كنايات خفية وتشير إلى ضلالات الحياة ومتاهاتها في جملتها. والتنين المقهور إنما هو الخطيئة! وشجرة اللوز التي تزجى برياها الشذي من بعيد إلى البطل الهائم إنما هي ثالوث الأب والابن والروح القدس: ثلاثة في واحد، كما أن القشر والليف والنواة ثلاثة في لوزة واحدة . وإذا وصف هومر درع ناضل فما هي في عرف الأسلوب القديم إلا درعا موضونة تساوي كذا من رءوس البقر، أما إذا وصف راهب القرون الوسطى ثياب العذراء في قصيدته فثق إذن أنه يعني بكل طية من طياتها فضيلة من الفضائل، وأن هناك سرا مكنونا في ثياب العذراء الطهور، وإنها هي لزهرة اللوز إذا كان ابنها نواتها، وهذه هي سنة ذلك الأسلوب من شعر القرون الوسطى التي نسميها المدرسة الرومانية.»
هذا هو تفريق هيني بين مدرستي القرون الوسطى، ولكنه يسري بعض السريان إلى فروعهما في العصور الحديثة؛ ففي المدرسة اليونانية حيث ظهرت بساطة وصراحة، وفي المدرسة المجازية حيث ظهرت لف ومجاز.
إلا أن طلاب العودة إلى البساطة في ذلك الزمن كانوا مقلدين فلم يسلموا من غلطات التقليد التي لا محيص عنها؛ فكان الصواب الفني عندهم وقفا على الأقدمين فلا يصيب الشاعر ولا المصور ولا الموسيقي إلا على نمط واحد هو نمط أولئك الأقدمين، كأنما الصحة الفنية ضرب آخر من الصحة الحسابية كما قال بعض النقاد، فمسألة الحساب لا تصح إلا بجواب واحد وصورة الفنان كذلك لا تصح إلا على مثال واحد! ومن ثم جاءت القيود وكثرت الشروط، ولما أوشكوا أن يبرأوا من هذا الخطأ الجديد صدمتهم حرب «الثلاثين» في القرن السابع عشر فباءوا إلى فترة طويلة من الإعياء وضعف الثقة والركود.
خرجت البلاد الألمانية بعد حرب «الثلاثين» منهوكة العزم موهونة الرأي، فأقفرت المدن الحرة التي ظهرت فيها طلائع الاستقلال والنشاط، وخربت المزارع وكسدت التجارة، واشتد طغيان الأمراء كما يتفق أحيانا في أعقاب الحروب الطوال الجوائح، فانكسرت النفوس وفترت الهمم وران على الأمة شك وبيل في كل ما هو جرماني وكل ما هو بسبيل من الجرمانية، وراجت بينها محاكاة الأجانب ولا سيما الأمة الفرنسية التي كانت يومئذ في أوج عمرانها وبذخ سلطانها، وكان بلاطها قدوة الملوك والأمراء في الآداب والأزياء والسموت، فبطل الكلام بالألمانية في مجالس العلية والسروات حتى أصبحت الخطابة بها وصمة لا تليق بالرجل المهذب النبيل، وأضر هذا التقليد ضرره الذي لا ريب فيه ولكنه لم يخل من فائدة حسنة وتمهيد صالح؛ إذ كان الأدب الفرنسي في ذلك العصر حيا بمبتكراته ومنقولاته عن قدماء الإغريق، فانتفع به الألمان وكان له بينهم أثر حميد. ثم كثرت الترجمة من كل لغة لها أدب وكتابة حتى اللغات الشرقية، فنقلت مأثورات من لغات الإنجليز والأسبان والطليان، ونقلت مأثورات من العربية والفارسية والهندية، وكان لذلك كله أثره المنظور في توسيع النظر وتعديل المقاييس والآراء.
ثم تماسك الألمان وراجعتهم الثقة وبدرت بينهم بوادر الوحدة والعصبية، فكتبوا ونظموا في الأدب الرفيع باللغة الألمانية وتعلقوا بأساطيرهم القديمة وأقبلوا على جمعها واقتباسها، واشتط بعضهم فشنوا الغارة على كل أجنبي حديث! بل اجترأ بعضهم فلم يحفل بقيود الأدب القديم: تلك القيود التي كان لها السلطان النافذ قبل ذاك.
ويرجع الفضل في النهضة الألمانية الحديثة إلى أدباء كثيرين لا يسعنا ذكرهم في هذا المقام أجمعين، فحسبنا أن نذكر منهم من كان أقربهم إلى جيتي عهدا وصلة بالسمع أو بالعيان، وهم جوتشيد منقي التمثيل في ألمانيا من السخائف والكثافات، و«لسنغ» الداعية الموفق إلى أسلوب الإغريق وأسلوب الابتكار، وونكلمان مؤرخ الفن القديم بوحي من روح العلم وروح الأدب، و«فيلاند» مطلق الخيال الألماني ومسدد خطاه ونافحه بحرارة الجنوب، و«كلوبستك» ملتون الألمان، وهردر الذي نهج بجيتي على النهج القويم في فهم اليونان وشكسبير والعودة إلى مآثر التيوتون، وكلهم سابقون لجيتي في الميلاد بزمن قصير.
على أن المدرسة أو الطريقة التي لا يحسن بنا أن ننساها في هذا المقام هي المدرسة التي عرفت باسم الزوبعة وراجت في إبان نشأة جيتي أيما رواج، سميت باسم رواية تمثيلية للأديب «كلنجر»، ودلت تسميتها هذه على حقيقة ما ترمي إليه؛ فهي مدرسة جامحة لا تذعن لقيد قديم ولا حديث، ورواية «جوتز» التي ألفها جيتي في شبابه هي إحدى ثمار هذه المدرسة بغير خلاف. •••
هذه لمحة عاجلة - بل عاجلة جدا - عن تاريخ الحرية الفنية في الأمة الألمانية إلى عهد جيتي؛ وهي بمثابة تصوير اتجاه النهر دون تصوير فروعه وقنواته ومدنه، وربما حدث في مجاري الأنهار أن يتفرع عليها الجدول فيسبقها إلى الأمام أو يكر راجعا إلى الوراء، فبينما النهر الأصيل متجه إلى الشمال إذا بفرعه الكبير أو الصغير يتجه إلى الجنوب.
وهذا الذي حدث في نهر الآداب الألمانية من بداية ينبوعه، فبقيت فروع منه في وادي المجاز حين تدفق مجراه إلى وادي الصراحة، وقامت مدائن منه على فرعين: أحدهما مجازي وثانيهما صريح! وما من أسلوب إلا رجع مرة بعد مرة على تفاوت في القوة والغزارة، فظهرت المجازية في عهد جيتي بليغة الرسالة أحيانا عزيزة الأنصار، وجاءت في هذه المرة تحوم حول الكنيسة وتنادي بأن الفن لم يزهر قط بمعزل عن كفالة الدين، ويرجع غير ذلك الأسلوب في ذلك العهد الحافل بالنقائض والبدوات، إلا أن شيئا واحدا تقوله في جميع هذه الأحوال وأنت على ثقة من الصواب، وهو أن الأغاني والأساطير القومية وأحاديث الأبطال الغابرين كانت تصاحب النهر أبدا في كل مجرى وكل قناة، وشيئا آخر تقوله أيضا وأنت على ثقة من الصواب: وهو أن جيتي كان سليل هذه العناصر جميعها؛ ففيه مشابه بارزة أو غير بارزة من قديمها وحديثها: يشبهها شبه الابن بآبائه وأجداده لا شبه المحاكي المفتون بمن يحاكيه، وفرق بين الشبهين جد بعيد، فإذا جاء الولد على آسال آبائه وأجداده فأنت لا تقول عنه إنه يحاكيهم ويتعمد مشابهتهم، بل ربما جاز لك أن تقول إنهم ينتسبون إليه كما تقول إنه ينتسب إليهم. •••
وبعد فمن تمام الكلام في هذا السياق أن نعرض لحالة القصة والتمثيل قبل أيام جيتي بلمحة أخرى؛ لأنه ساهم في القصص وأصلح في التمثيل غير قليل وألف للمسرح واشتغل زمنا بإدارته.
فأما القصة فقد كتب فيها بعض الأدباء النابهين كتابة لا بأس بها بعد حرب الثلاثين، واتخذ لها من الفروسية العارمة المقتحمة موضوعا يناسب القلاقل والمخاطر التي كانت فاشية في تلك الأيام، ثم ركدت فترة ريثما استوعبت الأذهان القصص المنقولة عن اللغات الأجنبية من طراز «روبنسون كروزو» الإنجليزية و«دون كيشوت» الإسبانية وروايات النخوة التي اشتهر بها إقليم بروفنس (Provence)
في فرنسا، فتهيأ المقلدون لمحاكاتها وكثرت الكتابة القصصية وأخذت في التقدم، وهي مع هذا لا تسلم من عيوب الطريقة المجازية التي تلتزم المغزى والعبرة في كل رواية وفي كل نادرة، كأنما القصة عمل «وعظي» مقصود لهذا الغرض وليست عملا فنيا تجيء فيه العظات اتفاقا أو لا تجيء على الإطلاق، ونشأ جيتي فأدرك القصة الألمانية وهي على هذه الحال تتراوح بين العظات والفنون.
وأما التمثيل فقد أصلح فيه جوتشيد ولسنغ وونكلمان ما تيسر لهم أن يصلحوا، ولكنه بقي مع هذا فنين يكاد يستقل أحدهما عن الآخر، لا فنا واحدا في تطور واحد كما كان عند الفرنسيين والإنجليز. فالعالي منه كان مقصورا على مسارح الأمراء في قصورهم التي لا يدخلها غيرهم ومن يصطفونه لمجالسهم، أو مقصورا على الطلاب في الجامعات يلهون به فترة بعد فترة على غير انتظام، والوضيع منه موكول إلى الفرق الطوافة التي لا كرامة لها ولا متسع للنبوغ فيها.
ثم تولته عناية الأمراء والأدباء رويدا رويدا حتى ارتقى بعض الارتقاء، ولكنك خليق أن تعلم مدى ارتقائه هذا متى علمت أن النظارة كانوا يعاقرون الخمر في ردهة دار التمثيل ويدخلونها بأطفالهم وكلابهم في أيام «فيمار» الزاهرة، وهي الأيام التي أشرف فيها جيتي على إدارة التمثيل. •••
وإلى هنا يستريح ضمير الكاتب الأوروبي إلى السكوت وهو يصف العناصر التي اشتركت في تكوين جيتي فلا يزيد على ما تقدم.
إلا أن الكاتب العربي مطالب فيما نعتقد بكلمة أخرى قلما تعثر بها في تراجم الأوروبيين لذلك الشاعر، فليس يسعه إلا أن يضيف إلى ما تقدم كلمة واجبة عن العناصر الشرقية التي اتصلت بجيتي وأثرت فيه بعض التأثير، فمما لا ريب فيه أن للعربية فضلا لا ينكر في تثقيف جيتي وتغذية خياله؛ لأن آداب العرب وصلت إلى الألمان في العصر السابق لعصر جيتي من طريقين لا من طريق واحد: أحدهما مباشر وهو طريق الترجمة من العربية إلى الألمانية، والآخر غير مباشر وهو طريق الآثار التي ترجمت عن الإنجليزية والإسبانية والفرنسية وكانت فيها مسحة واضحة من الآداب العربية.
فقصة «روبنسون كروزو» - وهي من أهم ما أثر في القصص الألماني - مدينة لرحلات السندباد وأسطورة حي بن يقظان الفلسفية اللتين ظهرتا في الإنجليزية قبل «روبنسون كروزو» بزمن وجيز. و«دون كيشوت» الإسبانية - وهي كذلك من أهم ما أثر في القصص الألمانية - عربية في الفكاهة والتقسيم، وتكاد تكون بعض أمثالها ترجمة حرفية للأمثال المعروفة عند الأندلسيين. وشعراء بروفنس - وهم أصحاب أثر واضح في القصص الألماني - قد أخذوا كثيرا من شعر الأندلس حتى أوزانهم التي تشبه أوزان أزجال ابن قزمان.
فاسم الأدب العربي لن ينسى إذا ذكرت اليوم أسماء الآداب التي مازجت عبقرية «جيتي» أو مازجتها تلك العبقرية العظيمة، وهو نفسه قد أدى شهادته لذلك الأدب بديوان طريف ظريف سماه «الديوان الشرقي» نسج فيه على منوال العرب والشرقيين في الغزل والوصف والحنين، وسنتكلم عنه بعد، ونترجم منه طرفا في باب المختارات.
حياة جيتي
1749-1832
كان جيتي يغبط صاحبه شيلر لموته في العقد الخامس من عمره، فذكراه أبدا مقرونة بذكرى الشباب المحبوب والنضارة الموموقة.
وقلما يصيب المرء في تمنيه ولو كان من الحكماء، فلو مات جيتي في سن صاحبه لضاع أكبر نصيبه من الشهرة وهبطت مكانته في عيون قومه وعيون سائر الأقوام؛ لأن طول عمره أقامه في الأدب الألماني الحديث مقام الأبوة والرجحان، وأتاح له أن يتم ما بدأه من الكتب في أوائل الحياة.
لكنه كان يتمنى ذكرى الشباب على خطأ أو على صواب، فعزاء له ولا ريب أن تضمه الأرض إليها وهي في نضرتها وأن تلف ذكراه في أكفان ربيعها؛ فقد مات في الثاني والعشرين من شهر مارس خاتمة الشتاء، فلا يذكره الذاكرون إلا بدرت إلى أذهانهم صور الربيع في مطلع وروده ورياحينه! وتلك قسمة خير من قسمة صاحبه المغاضر قبل أوانه؛ وإن لم يكن فيها محاباة من القدر ولا إجحاف.
نعم لا محاباة من القدر في هذا الازدواج بين تحية جيتي وتحية الربيع، فإنما عاش الرجل حياته كلها على طولها في ربيع ناضر من نسج الفن والطبيعة على السواء، ونشأ في حجر الجمال من لدن كان في طفولته الأولى إلى أن نيف على الثمانين؛ ففي الرابعة عشرة حب وجمال وفي سرير الموت حب وجمال! وكانت إحدى كلماته الأخيرة في غيبوبة الاحتضار إشارة إلى رأس امرأة في الخيال. فقال لمن كان يراهم في غيبوبته من ملأ الفنون: «انظروا إلى رأس تلك المرأة الفاتنة ذات الغدائر الفواحم في لونها الفاخر من ورائها الظهارة السوداء!» وهكذا كانت عيناه لا تملان محاسن الدنيا في صحو ولا غيبوبة، وقلما فارقه الصحو في أزمات الروح والجسد، وقلما احتوته الغيبوبة إلا في قبضة الحمام أو في قبضة السقام.
بل لقد خطب الرجل وهو في الرابعة والسبعين فتاة في التاسعة عشرة! فلما أعرضت عنه تشفع إليها وإلى أمها بأميره الذي حقق فيه قول أبي الطيب:
عل الأمير يرى ذلي فيشفع لي
عند التي تركتني في الهوى مثلا
فلما أصرت أمها على الرفض كما ينبغي أن تصر كل والدة في مثل هذه الخطبة انقلب إلى بيته مزودا بقبلتين اثنتين جادت بهما الفتاة عليه في موقف التعزية! وراح يعاني برح الغرام وينظم قصائد الغزل! وينسى أنه لا يبدو للدنيا في صورة ربيعية وإن كانت الدنيا لا تبدو له إلا كذاك!
وظلت الحياة يانعة لقريحته كما ظلت يانعة لقلبه، فأثمرت شجراته في الفن والعلم أطيب الثمر، وأخصبت أيامه كلها في شتى المباحث والمشاركات كأخصب ما عرف في أيام الشعراء المفكرين، فمن شعر إلى شريعة إلى سحر إلى تصوير إلى موسيقى إلى طب إلى معادن إلى نبات، تختلف في الجودة ولكنها لا تختلف في النماء، فإن أينعت منها جوانب وأقفرت جوانب أخرى فكما تختلف البقعتان في الأوان الواحد، هذه عداها الماء والزرع وهذه يجري إليها الماء وتعمل فيها يد الأكار، وكلتاهما مطويتان في أوان الربيع، وليس اختلافهما كاختلاف الربيع والشتاء، أو كاختلاف النضرة والذبول.
أجل! هو ربيع دام في هذه الأرض نيفا وثمانين عاما يخصب حينا كما يخصب الربيع ويجدب أيضا كما يجدب الربيع، وهو ربيع الطبيعة والفن معا ... فإن شئت فقل إنه تمثال حياة، وإن شئت فقل إنه حياة تمثال! ولكنك لا تستطيع أن تتصوره دون أن تجمع في تصورك إياه بين الحياة والتمثال في إهاب واحد! وستعلم من تفصيل وصفه اللاحق أننا نعني الحقيقة هنا ولا نعني اللعب بالكلمات.
جيتي في سنة 1826.
ولد جوهان ولفجانج جيتي بمدينة فرنكفورت في الثامن والعشرين من شهر أغسطس لسنة 1749، من سلالة كان فيهم الحائك والحداد والبيطار والضابط والتاجر؛ فهم من ناحية الأبوين صناع ارتقوا إلى طبقة الموسرين، وكان أبوه في الحادية والأربعين وأمه في الثامنة عشرة حين ولد لهما هذا الطفل المشكوك في حياته الذي عاش بعد ذلك إلى الثالثة والثمانين، فشب في بيت لا تقارب فيه بين الأبوين في السن ولا تقارب في المزاج؛ إذ كان أبوه جافيا شديدا في «النظام» حريصا على سمت وجاهته ولقبه الذي اشتراه بالمال، مرير النفس لفشله في رجاء العظمة والظهور، وكانت أمه طروبا ضحوكا مشغوفة بالسرور. ووصف جيتي في شيخوخته ما ورثه من كليهما فقال إنه ورث من أبيه قوة الخالجة والشك والتطلع، وورث من أمه المرح وحب الحياة والخيال! وكانت أمه فيما عدا ذلك تقرأ الكتب الخفيفة من أدب الألمان والطليان فتبث في ولدها - أو في أخيها كما كانت تسميه بعض الأحيان - هوى القراءة والتخيل والأقاصيص، فميراثه منها في القريحة أكبر وأزكى، وشبهه بأبيه أقرب وأوضح كما ترى في صور الثلاثة.
جوهان كاسبر والد جيتي.
تعلم اللاتينية والإيطالية والفرنسية في طفولته الأولى، وكان أبوه يتولى تعليمه في معظم الأحوال لأنه درس علوم الحقوق وحصل فيها على لقب الدكتوراه، وكان يؤلف في الإيطالية وله رحلة مكتوبة بها.
ولما بلغ جيتي السابعة نشبت حرب السنوات السبع بين النمسا وبروسيا؛ فكانت أمه في جانب «ماري تريزا» وكان أبوه في جانب «فردريك» الكبير، أما هو فكان - هذه المرة - في جانب أبيه.
ثم احتلت فرنكفورت فرقة فرنسية تساعد النمسا على بروسيا، واحتل قائدها «ثوران» منزل جيتي فغنم الطفل الصغير من هذا الاحتلال فائدة لا تنسى؛ لأن ثوران كان ضابطا مثقفا يحب مجالسة الأدباء ورجال الفنون، ويجمع الصور النفيسة ليرسل بها إلى بلاده، ولأنه أذن لجيتي أن يشهد المسرح الفرنسي الذي كان يرافق الجيش في احتلاله حيث شاء أن يشهده، وتلك مزية يفرح بها الطفل من غراره مطبوع على حب الفنون.
كاترينا إليصابات والدة جيتي.
وأخذ يتعلم الرياضة والموسيقى والتصوير واللغة الإنجليزية وهو في الثانية عشرة، فاخترع قصة يعيش أبطالها في ممالك مختلفة ويكتب كل منهم إلى صاحبه بلغة بلده، ليحذق هذه اللغات ويفتن في أساليبها. وأدت به قراءة التوراة إلى درس العبرية فنظم الشعر في قصة يوسف وإخوته، وكان يملي ما ينظمه أو يكتبه على زميل له من صنائع أهله، فتعود الإملاء عادة لزمته طول حياته. ثم برح بيت أبيه إلى جامعة ليبزج ليدرس فيها الشريعة وما إليها وهو في السادسة عشرة، فبقي زمنا يدرس الشريعة ويزور المتاحف ويمارس التصوير ويلهو أحيانا ويجرب الهوى والهجر والغيرة والإسراف كلما اتفق له ذلك، حتى ضني جسمه وأصيب بنزيف أوشك أن يقضي على حياته ... وعاد إلى بيت أهله بعد سنوات ثلاث وقد تداعى جسده وتداعى يقينه، فلبث فيه أشهرا بين الموت والحياة. وهنا سنحت له فرصة الفراغ لدرس الكيمياء القديمة والسحر والطلاسم مع بعض الأطباء، فقرأ فيها ما شاء وخرج منها كما خرج من جميع مباحثه بمتعة الفنان وتأمل الفيلسوف، ثم قصد «ستراسبورج» في هذه المرة ليستأنف دراسته في جامعتها، وكانت المدينة فرنسية في الحياة العامة وأساليب المعيشة، فتزود من حياتها وعلومها وصاحب طلاب الطب والعلوم الطبيعية فحضر معهم دروس الطب وطبقات الأرض وما إليها، وشاهد هناك الكنيسة الكبرى فحببت إليه الفن القوطي القديم بعد نفور وسوء ظن، وكان لهذه الكنيسة أثر بليغ في تقديره للعبقرية الألمانية وتوقيره لآداب وطنه.
ثم أتم دروس الجامعة وهو في الثانية والعشرين، وراح يتدرب على المحاماة في «فتزلار» ويحب كدأبه أينما كان وأنى كان! فالتقى بالفتاة «شارلوت بف» وأحبها ووصف حبه إياها في قصة «آلام الفتى فرتر» مع شيء من التحوير يقصد به المداراة وصرف الأنظار، فاشتهرت القصة وذاع اسم مؤلفها بين العلية والمتأدبين وسائر الطبقات، وفي طليعتهم «كارل أوغست» أمير «فيمار» الفتى المحب للفنون والآداب. فلما كان هذا الأمير يعبر «فرنكفورت» في طريقه إلى باريس أواخر سنة 1774 استقدم جيتي إليه ودعاه إلى عاصمته، ثم تكررت الدعوة فلباها جيتي وهو لا يقدر البقاء الطويل في تلك العاصمة. وكان من أسباب تلبيته حادث غرام يريد أن يفلت منه ونفور من صناعة المحاماة يحسن له هجرها ولو إلى حين، فقد بدأ فيها بداءة مضحكة ولم يمح النجاح اليسير الذي أصابه فيها نفوره الأول منها، وقد أشار إلى هذا النفور في رواية «فوست» أثناء الكلام عن العلوم والدراسات. •••
كان الأمير ربيب الأدباء نشأ على دأب أهله مشجعا للآداب الألمانية، وكان فتى كريم النفس عارم الفتوة لا يفتأ بين صيد وطرد ومبيت في الخلاء ودعابة ومجون، وكان له مذهب في الحب كمذهب جيتي لولا أنه جامح وثاب، وجيتي لا يطيق الصبر الطويل على الجماح والوثوب. ومن غرائبه في هذا الباب أنه أمر بأن تجمع له مكتبة تضم أشتات ما كتب الكاتبون قديما وحديثا عن الحب بجميع ضروبه وأشكاله، ومن دلائل نبله في شبابه وكهولته أن أناسا وشوا عنده بالفيلسوف «فيخت» واعترضوا على توظيفه بجامعة «يينا» لنزعته الثورية الظاهرة، فوضعوا بين يديه كتابا من كتبه ليقرأه ويعدل عن توظيفه ... فلما قرأ الكتاب أمر بتوظيف الفيلسوف.
عرف كل من الأمير والشاعر صاحبه معرفة البصير الناقد والصديق الشاكر للفضائل المتسامح في العيوب، فتوثقت بينهما الصداقة ودامت مدى الحياة، وفي عاصمة هذه «الإمارة الصغيرة» تولى الشاعر مناصب الوزارة العالية وتقلب في أعمال شتى، منها ما هو متصل بثقافته كالتعليم والتمثيل ومنها ما هو بمعزل عنها كالزراعة والمعادن والحرب، فسوى بينها في العناية وأخلص لها جميعها إخلاصه للشعر والقصة. ووالاه الأمير برعايته خلال ذلك كله فلم يبخل عليه بشيء يتوق إليه. فلما أحب أن يزور إيطاليا تركه يقيم فيها نحو عشرين شهرا ووظيفته جارية وأجره غير ممنون، وقد نفعته هذه الرحلة فيما أقنعته برفضه وفيما أقنعته بأخذه، فقد عدل عن طلب التفوق في التصوير ونفذ إلى صميم الفن القديم.
جيتي وأمير فيمار.
وعلى طول العشرة بين الرجلين لم يقع بينهما من الخلاف إلا ما يقع بين الأخوين أو بين الصديقين الحميمين، فاصطحبا في أعمال الدولة حتى قضى الأمير نحبه وأحس جيتي تغير الحال فاعتزل جميع هذه الأعمال، وإن فضل الأمير في هذا الوفاء لفضل يلحقه بأكبر ذوي التيجان وإن كانت إمارته من أصغر الإمارات.
نعم فاسم «فيمار» الآن اسم عظيم بين البلدان يحف به سحر الطبيعة وسحر الشعر وسحر المأثورات، اشتق الألمان اسمها من الكرم فسموها فاين مار
Weinmar
أي سوق الخمرة، واقترن تاريخها الحديث بتاريخ أكبر الأدباء في بلاد الجرمان أجمعين، واتصل عهدها القديم بعهد «لوثر» المصلح الكبير الذي عاش فيها وخطب فيها واتخذها معقلا يناضل منه روما فيما كان لها من سلطان الملك والدين. وأراد الألمان أن يخطوا أساس دولتهم الجديدة بعد الحرب العظمى فلم يجدوا بلدا غير فيمار عاصمة «الروح» في ألمانيا التي لم تتنكر لها الدنيا كلها حين تنكرت لبرلين وملوك برلين. ولكن هذا كله ما كان ليذكر عن «فيمار» لولا مروءة «كارل أوغست» وأريحيته وعلو همته وترحيبه في عاصمته الصغيرة بكل عظيم الفكر والنفس في دولة الجرمان الرحيبة الأكناف، فلولاه لما كانت «فيمار» إلا قرية صغيرة يضيع اسمها بين أسماء الحواضر ولا تحتويها الخريطة إلا من باب الإحصاء. •••
هذه هي القرية التي أوى إليها الشاعر من خامس نوفمبر سنة 1775 إلى اليوم الذي مات فيه، يداول بينها في الإقامة وبين «يينا» القريبة منها، لم يفارقهما إلا لسياحة أو غربة قصيرة، ولم يقع له فيهما من الحوادث ما يستحق أن يسمى بالحوادث؛ إذ كانت حياته حياة الفنان المتملي والحكيم المتأمل، فهي حياة الخوالج والمؤلفات وليست حياة الوقائع والأخطار.
بيت جيتي الخلوي بين حدائق فيمار.
جيتي في إيطاليا.
ولقد عاش في عصر الثورة الفرنسية ولقي نابليون أعظم رجال الدول في ذلك الزمان، ولكنك إذا سطرت تاريخه استطعت أن تحذف ذكر الثورة بأسرها دون أن تختل معك قواعد ذلك التاريخ، واستطعت أن تلغي لقاءه لنابليون ولكنك لا تستطيع أن تلغي لقاءه للأديب هردر أو الشاعر شيلر، بل لا تستطيع أن تلغي لقاءه لحسناء من أولئك الحسان اللواتي غذينه بغذاء الأرباب من نور العيون ووهج القلوب، فكل حسناء عرفها كان لها شأن في آثاره أجل من شأن نابليون.
على أننا نحسب أن أعظم حوادث التكوين والتوجيه في حياة هذا العبقري المعمر إنما يبحث عنها في سنواته العشر الأولى لا فيما أعقب ذلك من سنوات الشباب أو الكهولة أو الهرم؛ ففي سنته السادسة وقع زلزال لشبونة فطال فيه جدال الناس في العدل الإلهي وسقطت بذور الشك في ضمير الطفل اليقظ المستريب، وفي سنته السابعة نشبت الحرب بين النمسا وبروسيا فسمع عنها في بيته كل ما يقال عن مطامع السياسة وحركات الشعوب من الجانبين المتحاربين، وفي سنته العاشرة شهد التمثيل الفرنسي ورأى مظاهر القوة الفرنسية، وهل في عناصر جيتي الشيخ الملقى على سرير الموت ما يزيد على هذه الأصول؟ قد يكون، ولكنه بعد من قبيل الإضافة والتفضيل لا من قبيل التكوين والتوجيه.
ومات الشيخ في مولد الأرض وعرس الربيع، مات وهو يطلب المزيد من النور ويهتف بمن حوله وهو يجود بنفسه أن «افتحوا النافذة ليدخل النور»، ثم عجز عن الكلام فطفق يومئ بأصبعه في الهواء ويكتب بها كلمات وأوائل كلمات، كأنه لا يريد أن يكف عن «التعبير» وفيه رمق حياة.
ولا حاجة بنا إلى علم الأسرار لنفهم معنى النور الذي طلبه جيتي وهو يودع الحياة، فلقائل أن يتعمق في التفسير ويذهب إلى معنى للنور أخفى من هذا المعنى الذي تراه العيون. أما جيتي فما طلب قط شيئا أنفس وأقدس من نور الشمس في وضح النهار، وما كان الضياء الخفي في أقدس معانيه إلا دون هذا الضياء المشهود نفاسة في عينه وضميره على السواء.
المرأة في حياة جيتي
الأنوثة الأبدية تجذبنا إلى السماء.
جيتي
أردنا أن نفرد كلمة خاصة للمرأة في حياة جيتي لأن شأن المرأة في حياة هذا الشاعر أجل من أن يعبر في ترجمة وجيزة كالترجمة التي تتسع لها هذه الرسالة.
فهو لم يفرغ يوما من الحب وذكرياته، فأحب طائفة شتى، منهن الفتاة والنصف، ومنهن الشقراء والسمراء، ومنهن التي أحبها للرشاقة والدماثة، والتي أحبها للجسد والمتعة، والتي أحبها للذكاء والحصافة، والتي أحبها للعطف الأنثوي الذي يحتاج إليه الرجل الشاعر في حياته النفسية، وكلهن أفدنه في أدبه وسريرته؛ فاتخذ بعضهن بطلات للقصص وصفهن على الحقيقة وصف الملهم العارف، واتخذ بعضهن صديقات أمينات يكاشفهن ويكاشفنه ويعطف عليهن ويعطفن عليه. وكلهن أفدنه رجلا وشاعرا وصاحب منصب في الحكومة، فمن لم يدخلهن في روايته وأغانيه فقد عرف منهن طوية نفس المرأة ودخيلة الطبيعة الإنسانية؛ فجنى أحسن الثمر من الحب والصداقة.
وقد كانت سليقة جيتي سليقة الشاعر المحب للمرأة المتهيئ للعاطفة؛ فلهذا كثر عشقه وتعددت عشيقاته، ولكننا خلقاء ألا ننسى هنا بقية آداب الفروسية التي هام بها الألمان في أواخر القرون الوسطى، فإنها فرضت الحب على الظرفاء والظريفات، وهيأت لجيتي هذا السبيل الممهد في نفسه وفي نفوس النساء.
ويطول بنا الشرح لو ذهبنا نحصي كل من عرفهن في شبابه ومشيبه؛ فذلك درس دقيق شامل يخرج بنا عن القصد فيما نحن فيه، فلنجتزئ هنا بالإشارة إلى النساء اللواتي كن أظهر أثرا في سيرته وأطول صحبة لذكراه، وأولئك فيما نعتقد خمس: هن «شارلوت بف» و«أنا إليصابات شونمان» و«البارونة فون ستين» و«بتينا برنتانو» و«كرستيانا فلبيوس». •••
أما «شارلوت بف» فهي صاحبة قصة «فرتر» وهي مثال الفتاة الألمانية المهذبة الوديعة الصالحة للبيت والبنين مع ميل إلى السرور البريء، ماتت أمها وهي في نحو السادسة عشرة فقامت مع أبيها على تربية إخوتها الصغار وعرفت في البلدة باسم «أم الأطفال الحسان»، وكانت لها أخت أكبر منها اسمها «كارولين» ولكنها هي التي كانت تخدم الاطفال وتحنو عليهم، فناءت بأثقال الكفالة والتدبير وهي في هذه السن الصغيرة، فنشأت أميل إلى الجد والرصانة منها إلى اللعب والمراح.
وجاء جيتي في سنة 1772 يتدرب على المحاماة في «فتزلار» حيث كانت تقيم، فرآها وشغف بها وأعجب بحسنها وحبها للطبيعة وإصغائها إلى الأدب وفكاهتها السهلة السموح، وكانت هي تألف عشرته وتجامله ولكنها ترده إلى حدود الصداقة بأدب ولباقة؛ لأنها كانت مخطوبة لفتى آخر موظف في إحدى السفارات اسمه كستنر أكبر من جيتي ببضع سنوات، وكان كستنر صديقا لجيتي عرفه من بداية وصوله إلى «فتزلار»، فتعقدت الصلات أيما تعقد، ووجب على أحد الرجلين أن يخلي المكان لصاحبه قبل أن تفسد الصحبة بين الجميع.
ولم تكن شارلوت تؤثر الزواج بالشاعر على الزواج بكستنر؛ لأنها كانت فتاة البيت التي توحي إليها الغريزة اختيار الزوج الصالح والمحبة المستقرة، فلم يبق لجيتي إلا أن يتراجع ويتوارى في غير جلبة ولا غضب، وقد فعل.
وراح جيتي يتلدد ويتوجع لهذا الفراق وهذه الخيبة، ولكنه شعر ببعض الراحة بعد أن ألف روايته عن «آلام الفتى فرتر» وأودعها ما أودع من خواطره وأشجانه، ولعل من عبر العاطفة الإنسانية أن نعرف كيف التقى جيتي وشارلوت بعد نيف وأربعين سنة من هذا الفراق، فقد زارته في فيمار تسأله الرعاية لولديها أوغست وثيودور، فلقيت الشيخ جيتي مؤدبا مفرطا في الأدب، وبحثت من وراء هذا النقاب عن ملامح الفتى جيتي في غير طائل.
شارلوت بف.
رأيت فيها شييخا لست أعرفه
وكنت أعرف فيها قبل ذاك فتى
وتعسر الحديث بينهما ومل كل منهما صاحبه في فترة قصيرة، وخرجت تقول: «لو رأيته في الطريق ولم أعرف اسمه لما ترك في نفسي أقل أثر!»
وهكذا تتغير الآمال وتتقلب القلوب! •••
أما «أنا إليصابات شونمان» فهي التي أوحت إلى جيتي بعض مناظر الجزء الأول من رواية «فوست» وأهمها شخص «مرجريت» بطلة تلك الرواية، وقد خلد جيتي هذه الفتاة باسم «ليلي» في أغانيه الشجية وقال لصديقه «إكرمان» الذي نقل إلينا أحاديثه أنها كانت الأولى والأخيرة التي انطوى لها على أصدق الحب.
ليلي.
عرفها في فرنكفورت بعد فراقه لشارلوت بثلاث سنوات، وكانت تقاربها في سنها ولكنهما على تفاوت في البيئة والخليقة؛ فقد كانت «ليلي» بنت صاحب مصرف سري يعيش في قصره عيشة الترف والظهور، وكانت لعوبا عابثة تلهو بالحب والمحبين، ووصفها جيتي في قصيدته «حديقة ليلي» فإذا هي أسبه بالساحرة اليونانية التي ذكرتها لنا الأساطير وقالت لنا: إنها كانت تمسخ من تحب حيوانا سلس المقادة يهبط في حبها حيث تشاء، «فلا معرض للسباع أحفل بأصنافها وأجناسها من معرض ليلي! فهي تقنو فيه أعجب الحيوان وتقنصها ولا تدري كيف وقعت لها» كذلك قال جيتي في مطلع تلك القصيدة. ثم قال: «وما اسم الحورية الحسناء؟ اسمها ليلي! وإياك والمزيد في العرفان بها! بل إن كنت لا تعرفها فاحمد الله على ذلك، وما أكثر الصخب والتغريد إذا هي طلعت على سباعها وفي يدها سلة الحبوب ... كل هذا من أجل فتات من الخبز اليبيس! ولكنه في كفيها لهو الشهد الحلو المذاق.» ثم قال: «ويا لنظرتها من نظرة ويا لهتافها باسم بيبي بيبي من هتاف! إنهما لتستهويان النسر من أريكة جوبيتر! ويمينا لتقبلن حمائم فينوس الوديعات إليها ويقبلن الطاووس الفاخر معها لو أتيح لها سماع تلك النبرة. وقد أعرف دبا ساء تعليمه وتنظيفه جذبته من ظلمة الغاب لتقوده تحت مقرعتها وتروضه كما تروض غيره ... تقولون: أنا؟ من؟ ماذا؟ نعم يا رفاق، أنا ذلكم الدب الذي وقع في الحبالة مشدودا بحبل من حرير.» ثم قال بلسان ليلي تذكره: «وحش! أجل، ولكنه مؤنس لا بأس به، هو أودع من أن يكون دبا وأوحش من أن يكون كلبا.» ثم ختم القصيدة صائحا: «أيتها الآلهة! أليس في قدرتك أن تمسحي عني هذا الطلسم، يا لشكري ورضواني لو رددت علي الحرية المسلوبة! ولكن رويدك أيتها الآلهة لا تسعفيني بعونك. كلا! فليس عبثا أن تضطرب أوصالي كما تضطرب الساعة، أقسم أن في بقية من القوة أحسها تجول في أوصالي.»
ولا يبعد أن يكون جيتي في هذه القصيدة ناظرا إلى قصة روسو وصاحبته مدام ديبنيه التي كانت تدعوه بدبها؛ بيد أن القصيدة مع هذا كبيرة الدلالة على «ليلي» وعلى الشاعر المتهكم الصادق في التهكم، فأي وصف لجيتي أصدق من وصفه لنفسه بالدب بين السباع! إذ ليس هو بالنمر الهجامة المغتال ولا هو بالفيل البطيء الأنيس، ولكنه قوام بينهما و«أودع من أن يكون دبا وأوحش من أن يكون كلبا ...» وهذه صورة لجيتي سيذكرها القارئ كلما ازداد علما بخلائقه وأخباره.
تلك هي ليلي وذلك هو جيتي! فأما «ليلي» الفتاة اللعوب فما كانت لترضي أبا الشاعر الحريص على العرف والآداب المثلى في البيئة القديمة، وأما «جيتي» الفتى القليل اليسار فلم يكن ليرضي صاحب المصرف الحريص على الثروة والسعة، ولو وقف الأمر عند هذا لما صعب تدبيره وتذليل عقباته، وإنما العقبة الكبرى في الحقيقة هما الحبيبان لا والد الحبيبة ولا والد الحبيب، فلا ليلي كانت تجد في طلب الزواج ولا جيتي كان يجد في طلبه، ولكنها رأت بين يديها فتى وسيما مشهورا يتحدث الناس بروايته عن «آلام فرتر» وبالحب الذي أوحى تلك الرواية فودت أن تجرب قدرتها في فتنته، وكذلك رأى هو حبيبة فاتنة مزهوة لعوبا وهو يعالج رسيسا من الحب القديم فهويها وتعلق بها. وظل هكذا مترددا لا يبلغ من عشقه أن يشتد فيحطم الحوائل ويقدم على الزواج ولا يبلغ من إعراضه أن يتنحى وينسى. وإنه لكذلك إذ أنقذه رسول الأمير بالدعوة إلى فيمار، فلباها وإن ما به من رغبة الإفلات لفوق ما به من رغبة اللياذ بالأمير. •••
وما استقر في فيمار حتى أخذ يتسلى عن هذه الخيبة الجديدة بمعشوقة جديدة، إلا أن معشوقة اليوم امرأة وافية الأنوثة وليست بصبية غريرة، امرأة تكبره بنحو سبع سنوات وتعرف من شئون الدنيا وخفايا قلب الرجل وقلب المرأة ما ليست تعرفه فتاة ويندر أن تعرفه امرأة؛ لأنها جمعت إلى خبرة السن خبرة البلاط؛ حيث كانت إحدى الخواتين وكان زوجها أمين القصر الأميري، وجمعت إلى الخبرتين معا خبرة الفهم والفن والاطلاع، فكانت موسيقية مصورة تغني وتقرأ الشعر وتخوض في المعارف العامة، وقد تشوق كلاهما إلى الآخر قبل أن يراه فسمعت هي بجيتي وحسنه ورأى هو صورتها وأعجب برشاقتها، فلما تلاقيا كانا على أهبة للحب فتحابا. وطالت صلة الحب بينهما عشر سنوات يراها وتراه ويكتب إليها وتكتب إليه، وتدافعه تارة وتجاذبه تارة أخرى، وهي في جميع ذلك تتعهده بيد صناع فلا يشبع ولا يمل، فإذا آنست منه الملالة فسرعان ما تعيده إليها بألعوبة كيسة وحيلة مطمعة ميئسة. وفي إحدى قصائده إليها يقول لها: «أنت تعرفين كل حركة في ضميري وتلمحين كل هزة في وشائجي وعروقي، وتستطيعين بفرد نظرة منك أن تقرأيني، أنا الذي طالما تعبت عيون بني الفناء في النفاذ إلى سريرتي، أنت تسكبين السكينة في دمي الفائر وتقومين خطاي الشاردة الهوجاء.»
صورة البارونة فون شتين بيدها.
وجيتي يعني ما يقول؛ ففي هذا الخطاب بيان لسر هذا العشق الذي قام على تفاهم الفكرين وتقارب النفسين، وما كان جيتي بالمخدوع في ذكائها فقد شهد صديقه شيلر بفضلها وعذره في إعجابه بها، وما كانت على عيني شيلر غشاوة الحب التي تحجب الحقيقة عن المحبين.
وقد لبثا على غرام يحتدم يوما ويسكن يوما حتى نيفت المعشوقة على الأربعين ووقع جيتي في شباك غرام جديد، فتغاضبا وتعاتبا وأراد منها أن تكون الصديقة فأبت إلا أن تكون العشيقة! فانبت ما بينهما برهة ثم تراجعا إلى الود ورضيا بالولاء الدائم بعد الغرام الزائل. وعاشت إلى الرابعة والثمانين فهنأته آخر تهنئة لها بعيد ميلاده، فرد عليها بأبيات متكلفة هي جهد ما استطاع من إحياء لماضي الغرام الدفين.
تلك هي البارونة فون شتين الألمانية التي تنتمي من ناحية الأم إلى أسرة إيقوسية، وهي أذكى وأقدر صواحبه الكثيرات، وهي التي شاطرته كما رأيت حياة الفكر والقلب والخيال، ونعم في ظلها بسكينة كان في حاجة إليها، وأنس إلى قربها أنس الحنان والولاء. •••
أما «بتينا برنتانو» فهي من سلالة إيطالية من ناحية أبيها، وهي أهم عندنا مما كانت عند جيتي؛ فقد حفظت في كتابها أحاديث له ولأمه لا غنية عنها في شرح ترجمته، وربما كان الأصح أنها هي عشقت جيتي ولم يكن لها بعاشق: عشقته وهو في الثامنة والخمسين وهي في مقتبل الشباب.
وكان هو يعرف أمها مكسميليان ويعبث بمغازلتها في فرنكفورت بعيد إخفاقه في حب شارلوت، فلما زارته «بتينا» في فيمار أزعجته بجماحها ورعونتها وفرط غيرتها في غير موجب؛ فقد كانت طفلة في مزاجها وألاعيبها وليست هي بطفلة في سنيها، وأهل أسرتها كلهم مشهورون بهذه الخفة على شهرتهم بالفطنة واللوذعية! ولم يكن أثقل على جيتي من الرعونة و«الشيطنة» الصبيانية، ولا سيما بعد أن جاوز الشباب وأوشك أن يجاوز الكهولة إلى الشيخوخة، فما هو إلا أن علم أنها شتمت زوجه على أثر خلاف بينهما في معرض الصور حتى اغتنم الفرصة وأبى عليها أن تدخل بيته بعدها. فراحت ترجو وتتوسل وهو على إعراضه مصر وبجفائه معتصم، ولولا كتاباتها عن جيتي لصح أن نغفل ذكرها في هذه الكلمة السريعة.
جزء من خطاب فرنسي إلى البارونة فون شتين بخط جيتي وفي ذيله أبيات بالألمانية.
قال جيتي في إحدى أغانيه: «ذهبت إلى الغاب لا أدري فيم ذهبت، وما كنت أريد شيئا ولا عناني أن أريد. فإني لأرسل النظر في ظلالها إذا زهيرة هنالك وضيئة كأنها نجم، مليحة كأنها عين، هممت أن أقطفها فسمعتها تقول في لطف ورخامة: أقاطفي أنت لأذوي في يديك بعد هنيهة؟ فحنوت عليها ورفعتها من جذورها ونقلتها إلى حديقة تصاقب المنزل البهيج، وهنالك غرستها من جديد في مكان فريد، فترعرعت ولم يفارقها الرواء.»
بتنيا برنتانو.
فرتز ابن البارونة فون شتين كما صوره جيتي.
هذه الزهرة التي تغنى بها جيتي هي الفتاة «كرستيان فلبيوس» التي انتهت علاقته بها إلى زواج وعشرة رضية، وليست الأغنية كلها شعرا وخيالا لأنه في الحقيقة لقي الفتاة أول لقاء في حديقة فيمار المشهورة، ومن هناك قطفها ونقلها إلى المكان المصاقب للمنزل البهيج!
وكانت في الثالثة والعشرين وهو في التاسعة والثلاثين حين سيقت إلى طريقه، أو حين تعمدت أن تلقاه لترفع إليه عريضة لأخيها القصصي الناشئ يلتمس فيها عملا يرتزق منه، فراعته الفتاة وراعها، واشتبكت بينهما المودة، ثم نقلها هي وأمها إلى منزله بعدما ولدت له أكبر أبنائه الذي سماه أوغست على اسم الأمير. ولكنه لم يكتب كتاب زواجه بها إلا بعد ثماني عشرة سنة من لقائها؛ إذ أغار الفرنسيون على بلاده فأشفق أن يموت أو تموت على غير وثيقة مشروعة.
وكانت كرستيان على قسط وافر من الصباحة كأنها «رب الخمر في صباه» كما وصفتها أم شوبنهور الفيلسوف، وكانت على هيامها بالسرور وامتلائها بنشوة الصبا خير من يسوس البيت ويعين الزوج في عمله ولو كان من قبيل عمل جيتي في العلم والأدب؛ فقد كان يغنيها العطف عن الفهم حين تعضل عليها مسائله وأفكاره، إلا أنها لم تكن من الجهل بحيث صورتها «بتينا» والبارونة فون شتين عن حسد وغيرة. فإن قصائد جيتي التي خاطبها بها شواهد على حظ من الثقافة والفطنة غير يسير، ويقول الثقات في اللغة الألمانية إن قصائد الفصول الأربعة والرسائل الرومانية وما شاكلها من الأشعار التي نظمها في ظل هذه العاطفة تفيض بحلاوة الأسلوب ورنة الصدق والغبطة. وكلام جيتي يدل على الحب أوضح دلالة؛ فقد كتب من إيطاليا إلى صديقه هردر يقول له وما هو بالمسرف في وصف عواطفه: «إن الذين خلفتهم بعدي لأعزاء جدا علي، ولا أكتمك أنني شغف بالفتاة أيما شغف. وما علمت مبلغ نياطي بها إلا يوم بعدت عنها.» وقال في أبيات: «لطالما ضللت السبيل ورجعت إلى سوائه، ولكنني ما شعرت قط بمثل هذه السعادة؛ فسعادتي كلها رهينة بهذه الفتاة، فإن كانت هذه ضلالة أخرى فناشدتك أيتها الأرباب إلا ما أعفيتني من ألم العلم بها، فلا أطلع عليها قبل يوم الحمام.»
كرستيانا فلبيوس زوجة الشاعر.
وامتزجت الفتاة بقريحته فأثبتها في روايته الكبيرة «ولهلم ميستر» باسم تريزة. وفاض بالقصائد الغنائية والخواطر العذبة، ولوحظ أن أيامه معها كانت كأخصب أوقاته وأسخاها بالشعر والبحث في جميع أطوار حياته، وليس ذلك لأنها كانت تشاركه في نظراته الرفيعة وتساجله في مراميه البعيدة، بل لأنها أراحته وأهنأت قلبه وصقلت حواشي عيشه فأقبل على النظم والبحث بنفس قريرة وقريحة طليقة، وحسبه ذلك من عشيرة ملازمة أيا ما كان مرتقاها من التهذيب والثقافة.
إلا أن الناس قد نقموا منه أنه أسكنها بيته وإن لم ينقموا منه أنه اتصل بها، وربما كانت نقمتهم هذه لأنهم يدارون المداراة ويكرهون المسائل المكشوفة، أو لأن الفتاة كانت من طبقة وضيعة ولم تكن من طبقته ولا على غراره؛ إذ كانت عاملة في مصنع للأزهار الورقية وكان أبوها موظفا صغيرا اشتهر بإدمان الخمر ورثاثة الحالة. وإلا فما كانت الأخلاق يومئذ تتحرج عن هذه الإباحة، وما عرف الناس عهدا بلغت فيه الثورة على العرف ما بلغته إبان الثورة الفرنسية في الأقطار الأوروبية. ومع هذا تسمح معه أصدقاؤه المقربون ولم يهجروا بيته ولا أوصدوا بيوتهم في وجه امرأته، وكان الأمير في مقدمتهم؛ فقبل أن يشرف على تعميد وليدها ووليد صديقه.
وكان «جيتي» لا يذكرها لأمه حتى بلغ عمر الولد الصغير سنتين، فلما ذكرها لها في رسائله فرحت الجدة بحفيدها وطفقت تغدق عليه الهدايا واللعب ولا تمل السؤال عنه والحدب عليه، وما كان لها أن تفعل غير ذلك وهو حفيدها وسليل البقية الباقية من ذريتها؛ فقد مات جميع أبنائها أطفالا وماتت بنتها «كورنيليا» التي جاوزت الطفولة في عنفوان شبابها، ولم يبق إلا ولدها جيتي وهو لم يتزوج؛ فهي خليقة أن تنسى كل شيء وتعطف على ولده وزوجه حيثما كان له ولد وزوج، وقد تزايد تعلقها بالفتاة بعدما علمت من لهفتها على زوجها وسهرها على تمريضه والترفيه عنه في المرض الخطير الذي أصابه في الثانية والخمسين، وأيقنت من شدة إخلاصها له بعدما علمت أنها حمته بنفسها من عدوان الجند الفرنسيين السكارى الذين هجموا على بيته وهموا أن يبطشوا به.
وقد يعوزنا هنا أن نتابع مصير هذه الذرية كلها إلى ختام حياة الشاعر، فنقول إنه رزق خمسة أبناء ماتوا في طفولتهم الباكرة إلا أكبرهم أوغست فقد نيف على الأربعين ومات في إيطاليا في أخريات أيام أبيه، فتجرع الشيخ هذه الغصة وصبر عليها جهده، وانصرف إلى أحفاده الثلاثة يعلمهم ويداعبهم ويتأسى بملاحظتهم، وفيهم يقول وهو يشاهدهم يتحدثون وينشدون الأشعار ويمثلون: «إنهم ليشبهون الشعراء الحق جد الشبه! فبينما أحدهم غارق في حماسته إذا بالآخر يتثاءب! فإذا جاء دوره في الحماسة راح الآخر يصفر!» ولو أنصف لقال إنهم يشبهون جدهم قبل غيره من الشعراء!
أما كرستيان فقد ماتت وهي في الحادية والخمسين وهو في السابعة والستين، ولا يذكر العارفون بالرجل أنه حزن لفقد إنسان قط حزنه لفقدها ولا جزع في موقف قط جزعه على سرير موتها؛ فقد تخاذل جلده الذي قلما خانه في الشدائد فجثا على ركبتيه وتناول يدها الباردة وهو يصيح بها: «إنك لا تريدين أن تتركيني! كلا! كلا! إنك لن تتركيني ...» ورأته زوج صاحبه كنيبل بعد سنوات أربع فقالت: إنه لا يتعزى. •••
لقد كان في مسلك جيتي مع كرستيان مروءة وكان فيه خطل، فمن المروءة أنه آواها إلى بيته واحتمل في سبيلها غضب قومه، ومن الخطل أنه أخر عقد زواجه بها حتى شب ابنه وهو يعلم حقيقة العلاقة بين أبيه وأمه فأثر ذلك في أدبه وخلقه، وأكبر من ذلك خطلا أنه تعجل في علاقته بالفتاة ولم ينظر إلى أصلها. ولسنا نعني فقرها ورثاثة حالها ففي الفقيرات من هن أشرف وأكرم من الغنيات، ولكنما عنينا وراثتها عن أخلاق والدها وسوء أثرها في ولدها؛ فقد ورثت المسكينة عادة الإدمان وأورثتها الولد الوحيد الذي عاش لها، وكان أشبه بها حتى في ملامح وجهه كما يرى من المقابلة بين صورته وصورتها، فلما مات تبينت الضخامة المفرطة في حجم كبده لإدمانه السكر وما إليه، وكانت هذه الآفة من أسباب الجناية على شبابه. •••
قال أميل لدفج في ترجمته لجيتي: «إن جيتي لم يكن قط بالمغوي الجميل أو الظافر الفخور بغزواته أو «بالدون جوان» المشهور في حلبات الغرام، وإنما كان المتوسل أبدا والمولي الشكر والعرفان أبدا، وأكثر ما كان السائل المردود لا السائل المقبول. وإنما نقترب من فهم الأساطير الذائعة عن عواطفه وتركيب أعماله وقصة روحه كلما عرفنا فيه الرجل المسلم المنقاد وعرفنا فيه إرادة الحب التي لا تروى ولا تزال تروض نفسها حتى تنتهي بالخضوع لحقائق الوجود.»
أوتيلي زوجة أوغست.
أوغست بن جيتي.
ولاحظ أميل لدفج في موضع آخر أنه ما دخل قط في حومة حب إلا اعتصم منها آخر الأمر بالهرب، وكلتا الملاحظتين صادقة نفاذة إلى حقيقة الرجل؛ فها نحن أولاء نرى كيف انتهت علاقاته بخمس نساء على نماذج مختلفات، فأربع منهن آلت علاقاته بهن إلى التراجع والنكوص، ولم تكن العلاقة الخامسة مما يحتمل تراجعا ونكوصا؛ فلذلك بقي متصلا بها أو موصولا إليها، وكان بقاؤه هنا - كما كان نكوصه هناك - خضوعا لحكم الضرورة أو لما سماه لدفج «بحقائق الوجود»، وليست هذه العلاقات الخمس إلا مثلا لعلاقات أخرى لم نعرض لها في هذه الكلمة.
وجيتي مع هذا لم يكن دميما ولا زريا ولا كانت تنقصه وجاهة المحضر والمنصب ولا وجاهة الأمل في المستقبل، ففيم هذا الوقوع الدائم في أسر المرأة وهذا المآل الدائم إلى النكوص عنها؟ نحسب أن في الأمر شيئا من الثقة بالنفس في بعض صورها الغريبة، فالرجل كان على علم بقدره ورجحانه على مزاحميه، فكان لهذا لا يبالي أن يتراجع ولا يشعر بغضاضة الخاسر المدحور الذي يعلق قيمته كلها على نجاحه في هذا الميدان أو إخفاقه فيه، فإذا فاز جيتي في الميدان أو أخفق فليس قصب السبق بالمشكوك فيه؛ لأنه في يديه! فلا جرم يتراجع وهو في صورة الفائز القانع من الغنيمة بالإياب.
ونحسب أن في الأمر سرا آخر يرجع إلى طبيعة الحب الذي كان يحبه والنظرة التي كان ينظرها، فلم يخلق جيتي لحب النزوات ولا لحب الاقتحام ولا لحب الإغواء، وإنما خلق لحب الفنان المتذوق المستطلع المتأمل؛ فليس الفرق بين حبه المرأة وحبه التمثال الجميل إلا أن المرأة تجمع من «الفن ووسائل الاستطلاع» ما ليس يجمعه التمثال الجميل، فهي صورة وشعور وعاطفة وإرادة، وأين له بالتمثال الذي يتذوق معه كل هذه المعاني متفرقات ومجتمعات؟ فالاحتواء الكامل مطلب فوق الرغبة وفوق الطاقة؛ لأن الفنان المتذوق قد ينعم بالتمثال فيغنيه نعيمه به وإن لم يحمله إلى بيته، بل قد ينعم به فوق نعيم مالكه الذي يقتنيه ويحتويه.
وزد على ذلك طبيعة التسليم التي تكره الهجوم وتؤثر مشقة الاحتمال على مشقة النضال، فهي طبيعة «الدب» المسالم المظلوم في حسبانه من السباع إلا حين يغضب ويثور، وحينئذ قد تغضب الهرة الوديعة وقد يغضب الكلب الأليف.
كتب جيتي في شبابه إلى سلزمان يقول: «غرست في طفولتي شجرة كرز وجعلت أرقب نموها وأنا مغتبط مسرور، فلما أزهرت جاء ضباب الربيع فصوح الأزهار، ثم انتظرت سنة أخرى حتى أينعت فجاءت الطير فأكلت الثمر، ثم انتظرت سنة فجاء الدود فالجار الطامع فالآفات، وسأغرس شجرة أخرى كلما وجدت لي حديقة!»
ذلك دأب جيتي في جميع حياته لا في الطفولة وحدها، وفي كل حديقة لا في حديقة النبات وحدها، وغير مستثنى من ذلك حديقة الحب ولا حديقة الفن ولا حديقة التأليف! فإذا اقتضاه الأمر صبرا وانتظارا فهو صابر منتظر! وإذا اقتضاه الأمر دفعا ونضالا فما هو بدافع ولا مناضل.
مؤلفات جيتي
يقسم الأستاذ تيوفيل جوتييه سيرة جيتي من حيث التأليف إلى أربعة أقسام:
الأول:
ينتهي سنة 1775 وهو دور التكوين، وأهم ما كتب فيه رواية «جوتز» التمثيلية وقصة «فرتر»، وكلتاهما مشبعة بروح المدرسة الرومانية الجديدة التي اصطلحنا على تسميتها «بالمجازية الجديدة» أو الزوبعية، وفي هذا الدور أيضا أعد جيتي الأجزاء الجوهرية من رواية فوست الأولى.
والدور الثاني:
ينتهي سنة 1794، وهو دور المدرسة القديمة أو اليونانية، وفيه خلص جيتي من هيمنة المدرسة المجازية واقتفى أثر الإغريق. وأهم ما كتب في هذا الدور معظم قصائده الغنائية وروايات «أفيجيني» و«تاسو» و«أجمونت» التمثيلية، ورحلته إلى إيطاليا، وحكاية الثعلب، وأغاني ومقطوعات.
والدور الثالث:
ينتهي سنة 1805 وهو دور الصداقة مع شيلر، وفيه يظهر روح شيلر الفلسفي وعنايته بالتعميم والنظر والمثل العليا والرمز إلى الخفايا خلافا لجيتي الذي كان يعنى بالحوادث الخاصة والصور المحسوسة والمشاهدات الحاضرة من الوجهة العملية، وأهم ما كتب في هذا الدور من القصص «صبي الساحر» و«الله والراقصة» و«طالب الكنوز» و«تلمذة ولهلم ميستر» ورواية «هرمان ودوروثي» التمثيلية.
والدور الرابع:
ينتهي سنة 1832، وهو دور الشيخوخة أو الدور الذي بدأ بموت شيلر وانتهى بموت جيتي، وفيه اشتغل جيتي بالمباحث العلمية وكاد ينصرف عن الأدب. وأهم ما كتب في هذا الدور قصة «القرابات المختارة» وترجمة حياته التي سماها «الشعر الحقيقية» و«الديوان الشرقي» ورحلات ولهلم ميستر وتتمة فوست، وهي التي غلبت فيها نزعة الرموز والألغاز على نزعة الوضوح والمشاهدة الحاضرة.
جيتي يملي على كاتبه.
وهذا أصح تقسيم وأوجزه لسيرة جيتي الكتابية، إلا أنه لا يخلو من عيوب التقسيمات الحاسمة التي لا تظهر في شيء كما تظهر في فصل أدوار الحياة والتفكير، ولا سيما تفكير جيتي دون سائر المفكرين.
ووجه التخصيص في جيتي أنه كان عبقريا متعدد الجوانب والمشاركات فلا تنحصر أدوار نموه وتقدمه في طريق واحدة، وأنه كان رجلا معنيا بما بين يديه في ساعته الحاضرة، فنظرته إلى الشيء في هذه الساعة قد تختلف عن نظرته إليه في الساعة التي تليها: حسب الطوارئ أو حسب الشعور الراهن الموقوت.
خذ مثلا لذلك انتماءه إلى المدرسة «المجازية الجديدة» الذي كثرت حوله المناقشات والآراء، فهذه المدرسة المجازية الجديدة تثور على السيطرة الفرنسية ولا سيما في التمثيل وشرط التزام «الوحدة في العمل والمكان والزمان» الذي كان النقاد الفرنسيون يشترطونه في الرواية التمثيلية، وهذه المدرسة تعجب بشكسبير لسببين: أحدهما خروجه على ذلك الشرط، والثاني رجوعه إلى أصل جرماني؛ ففي دعوة هذه المدرسة شيء من الثورة الوطنية من هذه الناحية.
وكان دعاة المدرسة المجازية يثوبون إلى قصص القديسين ومأثورات الكنيسة الكاثوليكية ونوادر الأبطال في القرون الوسطى لاستلهام الخيال واختيار الموضوعات، وربما اقتبسوا من أخبار الشرق ومأثوراته لأنهم يطلبون الخيالي البعيد ولا يستريحون إلى الواقعي المشهود، وتلك في لبابها روح دينية موكلة بالمسائل الخفية مطبوعة على النظرة الغيبية: تأخذ من مأثورات الكنيسة الكاثوليكية لأنها تشمل فخامة الدين وتاريخ المراسم والشعائر، وتأخذ من الشرق لأنه ينبوع الأسرار والتواريخ القصية والشعوب التي يلفها البعد في ثياب كثياب الكهانة وظلام كظلام الغيب.
فالمدرسة المجازية الجديدة في لبابها إن هي إلا مدرسة وطن ودين، فكيف كان انتماء جيتي إليها في مؤلفاته الأولى والأخيرة؟
إنه كتب رواية «جوتز» ذي اليد الحديدية وهو أحد الأبطال الألمان المشهورين في القرن السادس عشر، وقد خرج جيتي في هذه الرواية على شرط الوحدة في العمل والزمان والمكان خروجا لا يقاس إليه خروج شكسبير، فهو في اختيار الموضوع وفي أسلوب تناوله على رضا المدرسة المجازية من هذين الوجهين فهل معنى ذلك أنه لم يتأثر بالآداب الفرنسية ولم يستمد منها؟
كلا! لأنه ألف قصة «فرتر» في هذه الفترة وعليها مسحة واضحة من «هلواز الجديدة» والعود إلى الطبيعة الذي كان يبشر به روسو وكتاب الثورة الفرنسية، فهل معنى ذلك أنه لم يتأثر بأدب الإغريق ولم يستمد منه؟
كلا! لأن قصة فرتر نفسها في بساطتها وصفائها تشبه الآثار الإغريقية ولا تمت بآصرة قريبة إلى المدرسة المجازية.
ثم إن جيتي كان لوثريا في مذهبه شكوكيا في عقيدته؛ فحماسته للكنيسة الكاثوليكية تناقض غير معقول، فهل معنى ذلك أنه يناقض المجازيين في كل شيء أو في كل طور من أطواره؟ كلا! فإن الألغاز والأسرار تتردد في الجزء الثاني من فوست وهو الجزء الذي كتبه في دوره الأخير، وتتردد كذلك في رواية «ولهلم ميستر» ومعظمها من آثار أيامه الوسطى.
وقد نظم جيتي ديوانه الشرقي في أيامه الأخيرة، وقد رأينا أن المجازيين كانوا يحبون الموضوعات الشرقية، فهل معنى ذلك أن الشاعر آمن في شيخوخته بالمدرسة المجازية التي استهوته أول شبابه.
كلا! فما تناول جيتي موضوعات الشرق إلا كما يتناولها طالب الحس لا طالب الأسرار، فهو بالإغريق هنا أشبه منه بالمجازيين، وكل ما في الديوان من التصوف الذي يحكي به السعدي وحافظا وأمثالهما لا يخرج به عن هذا النطاق.
وقد امتلأ الجزء الثاني من فوست بأساطير الإغريق ومناظر الإغريق، فهل معنى ذلك أنه خلو من خفايا المجازيين ومأثورات الدين؟
كلا! فربما كان هذا الجزء أدخل في أساليب المدرسة المجازية من أي كتاب كتبه جيتي في إبان الشباب.
وقس على ذلك كل ما يقال عن آثار جيتي ومؤثراته وأطواره وأقسام حياته.
ولعله قطع بالقول الفصل في هذا الباب حين قال عن مآخذه ومصادر أدبه يرد على من يتهمونه بالسرقة والاقتباس: «هذا مضحك! فعلى هذا النحو يجوز لنا أن نسأل الرجل القوي عن الثيران والغنم والخنازير التي أكلها فأعطته القوة! وصحيح أننا نولد وفينا كفاءاتنا ولكننا مدينون في تكويننا لألوف المؤثرات التي تحتويها هذه الدنيا الواسعة التي نأخذ منها ما يوائمنا ويدخل في قدرتنا، وإنني لمدين بالكثير للإغريق والفرنسيين ومدين بما لا حد له لشكسبير وسترن وجولد سمث، ولكنني إذا قلت هذا فليس معناه أنني أكشف للناس عن ينابيع ثقافتي؛ إذ هذا عمل لا آخر له ولا طائل تحته، وكفى المرء أن يكون ذا نفس تحب الحق وتقبسه حيثما كان.»
والنقاد يخطئون في تقدير المشاهد التي رآها جيتي وأثرت في تأليفه كما يخطئون في تقدير المصادر التي رجع إليها واقتبس منها: مثال ذلك رحلتاه إلى إيطاليا اللتان زعم النقاد ما زعموا عن أثرهما في مؤلفاته، فلا خلاف في أن آثار إيطاليا وبلاد اليونان قد زادته علما بالفن القديم وفن النهضة وغيرت نظرته إلى أدب الشمال وأدب الجنوب. ولكن هل معنى ذلك أن زيارة تلك البلاد أفادته في إنتاجه الذهني تلك الفوائد التي يزعمونها؟ كلا بل لعلها بلبلت أفكاره وشغلته بالبحث عن القواعد والنظريات فكلفته التوفيق زمنا بين آرائه وأعماله، ولم تكن هذه الزيارة لازمة لإنشاء قصائده أو أشجانه الرومانية التي اشتهرت بين أشعاره الغنائية، فقد كان في وسعه أن ينظمها وهو في داره على مقربة من زوجه التي أوحت إليه معظم معانيها، فلولا نفحات عارضة لما أنتجت الرحلتان معا غير التفكير والمقارنة، ولولا تسديد شيلر إياه وتوجيهه إلى العمل بعد ذلك لطال بقاؤه في تلك المتاهة.
فصفوة القول فيه أنه كان صاحب عبقرية يقظى تتلقى كل ما يصادفها ولا يعنيها مما تلقاه إلا أن تلمس الحقيقة المباشرة وتتملى الحياة الجميلة، واقتصاره على لمس الحقيقة المباشرة بغير ألفاف ولا مراسم، وعلى تملي الحياة الجميلة بغير خوف ولا تعسف، هو هو الروح الإغريقي الذي لزمه طول حياته في جميع مؤلفاته، فحتى مقاربته للألغاز الدينية ومخلفات القرون الوسطى إنما هي مقاربة الإغريقي القديم لو عاد إلى الحياة ينظر في القرن الثامن عشر إلى بقايا تلك الألغاز والمخلفات. ولكن ينبغي أن نذكر ولا ننسى أبدا أن جيتي لا يكون جيتي حقا إلا في عالم الفن الإغريقي دون الفلسفة الإغريقية، فإذا دخل عالم الفلسفة فربما تركها تتعمق فيه لتبرز في ثوب الفن والجمال، أما هو فلا يتعمق فيها بحال ولا يرضى جهد التعمق في أي مجال. •••
وهناك سمة أخرى تتصف بها مؤلفات جيتي جميعها وترتبط بهذه السمة التي أشرنا إليها، وتلك هي التفكك وقلة التماسك، فكتبه كلها ما كبر منها وما صغر وما تم سواء في هذه السمة.
وكثيرا ما اجتمع الكتاب الواحد من مقطوعات متفرقة كتبت في أوقات متباعدة واتسقت في آخر على غير نسق.
وإذا كان الكتاب رواية فأنت ترى فيها أشخاصا لا خلل في رسمهم وتمثيلهم ولكنك لن ترى فيها حوادث متلاحقة ولا فصولا متناسقة، ويغلب على أشخاص رواياته أن يكونوا رجالا أو نساء عرفهم وعاشرهم ونقلهم من الحياة إلى الرواية بتصرف قليل أو بغير تصرف، فعمله في تكوينهم عمل التذوق وصدق الملاحظة لا عمل الإنشاء والاختراع، فكل شخص في رواياته نموذج معهود في الدنيا لمن يلتفتون إليه.
وسبب هذا التفكك في كتب جيتي يرتبط كما قلنا بتلك الطبيعة التي وقفت همه على لمس الحقيقة المباشرة وتملي الحياة الجميلة في إبانها، أو تلك الطبيعة التي جعلته يأخذ الدنيا شيئا شيئا والزمن ساعة ساعة ويستمتع بما بين يديه ويدع كل مطلوب إلى أوانه حتى يجيء أوانه؛ فهو على ثقة من قطاف الساعة وامتلاء كل جزء من أجزاء الزمن بثمرته وحصاده، وهو لا ينصب لجمع الحقائق والمحاسن بل تجتمع عنده الحقائق والمحاسن فلا يتكلف للقطها إلا أن يفتح لها وطابه، وقد قيل في أضاحيك السكارى أن سكرانا منهم نام في موضعه على الأرض وأبى أن يسعى إلى بيته لأن بيته سيسعى إليه لا محالة في هذه الأرض الدائرة! فإذا جازت المقارنة فجيتي كذلك يجلس في ساعته الحاضرة ولا يتعداها إلى غيرها انتظارا لغيرها هذا أن يدور إليه في هذا الزمن الدائر، ولكنه يفعل ذلك لفرط الوعي واليقظة لا لفرط السكر والغفلة، ولك أن تسميه كسلا كما تشاء، ولكنه كسل الشبع والطمأنينة لا كسل الفاقة والإعياء. •••
ومؤلفات جيتي عديدة لا يتسع المجلد الكبير للكتابة عليها كلها فضلا عن الرسالة الصغيرة، فلا محل هنا لتفصيل نقدها واستيفاء البحث فيها، وإنما نجتزئ بأشهرها وأدلها عليه وأقربها إلينا نحن الشرقيين، وما قصدنا التعريف بمؤلفاته كما قصدنا التعريف بفنه ونفسه، فإذا أبلغنا في هذا القصد ففي ذلك كفاية.
آلام فرتر
ينم جيتي على نفسه في أولى الرسائل التي كتبها فرتر؛ فإن فرتر الذي يقول لنا في تلك الرسالة: «ما الإنسان؟ وكيف يجرؤ على مؤاخذة نفسه؟» ثم يقول لنا: «أريد أن أنعم بالحاضر وليذهب الماضي حيث ذهب.» إنما هو جيتي بعينه الذي لا يرى الإنسان إلا ألعوبة في يد القدر ولا يطلب من الحياة إلا ما تعطيه حين تعطيه، وكلما تقدمنا في القراءة سطرا عرفنا جيتي من وراء فرتر وعرفنا أنه هو الذي يتسلى عن المصائب والآلام بقراءة الشعر الإغريقي القديم، فكل مصيبة استطاع أن يحيلها «إلى شعور فني» فهي مصيبة ذاهبة ومحنة مقبولة، وقصة فرتر كلها إن هي إلا لوعة أحالها إلى «شعور فني» فاطمأن واستراح.
لسنا نعني بهذا أن أشخاص القصة هم أشخاص الحياة في كل صفة وكل واقعة؛ فمن البداهة أن فرتر غير جيتي في شيء واحد على الأقل وهو أن فرتر انتحر وجيتي لم ينتحر ولا فكر في الانتحار قط تفكير الجد والعزيمة! نعم إنه كان يحادث «شارلوت» وخطيبها في البقاء والخلود ليلة الوداع التي فارقهم بعدها، ونعم إنه حدثنا في ترجمة حياته عن الخنجر الذي كان يصوبه إلى صدره ليلة بعد ليلة ليرى هل يسعه أو لا يسعه أن يدفعه قيراطين اثنين إلى قلبه كما قال! ولكنك تقرأ هذا الحديث في ترجمته فتعرف على الفور أنها تجربة فنية أخرى لا أكثر ولا أقل، وإنه كان يفعل ذلك وكل ما في ذهنه مثال العاهل العظيم «أوتو» الذي طعن نفسه بالخنجر بعد عشاء بهيج مع صحبه وحاشيته، فهي تجربة تمثيل ومداعبة تخييل، ولا يمكن أن تكون غير ذاك.
إنما أوحى إليه أن يختم حياة فرتر بالانتحار أمران: أحدهما ضرورة النهاية الفاجعة في القصة المحزنة، والآخر - والأهم - هو انتحار صديقه أورشليم الذي كان معه في «فتزلار» بلدة شارلوت؛ فقد خطر لجيتي أن يكتب القصة على أثر سماعه بالخبر، ثم أرجأ كتابتها بضعة أشهر حتى تهيأت نفسه للشروع فيها فأتمها على فترات في أسابيع قليلة، وجاء بطلها من ثم يحكي جيتي في أول السيرة ويحكي أورشليم في ختامها.
على أن أورشليم لم ينتحر للحب وحده وإنما انتحر للفضيحة وإيصاد أبواب العلية في وجهه وفساد الصلة بينه وبين رئيسه، وطول عزلته من جراء ذلك كله وإقباله في تلك العزلة على قصص الشقاء ومباحث الموت والانتحار يناجيها ويتعزى بها ولا يناجي أحدا من أصدقائه في علة كمده وحزنه ولا يلتمس العزاء عند أحد، فحزن جيتي عليه لغيبته وانفراده واتخذ فجيعته ختاما لقصته يعرب فيه عن حزنه على صديقه وعلى نفسه.
كذلك لم تكن شارلوت على الصورة التي صورها لنا جيتي في هواها له ورفع الكلفة بينها وبينه، فقد كانت تألفه وتميل إلى مجالسته لطرافة حديثه وتعلق إخوتها الصغار به وفرحهم برؤيته، ولكنها لم تبلغ في الألفة أن ترفع الكلفة، ورواية كستنر خطيبها في هذا الصدد أولى بالاعتماد وأدنى إلى الحقيقة، فهو يقول لنا في مذكراته بتاريخ الرابع عشر من شهر أغسطس: «حضر جيتي في المساء وقوبل بغير اكتراث، وانصرف بعد هنيهة.» ويقول في الخامس عشر: «... أزهاره أهملت، فتكدر وألقاها وطفق يتكلم بالتورية.» ثم يقول في السادس عشر: «لامت لوت جيتي وقالت له إنه لن يطمع منها في غير الصداقة، فشحب وجهه واكتأب.» وعلى هذا نوى جيتي الرحيل واجتوى البلدة فرحل ولم يقطع الصلة بينه وبين شارلوت وخطيبها كستنر، بل اقترح عليهما يوما أن يهدي إليهما خاتم الزواج.
كذلك يختلف كستنر عن ألبرت خطيب شارلوت في قصة فرتر؛ فهو خير من ألبرت وأنبل وأقدر، وقد ساء كستنر أن يصوره صديقه على صورته في القصة؛ فعاتبه، فاعتذر جيتي وعادا إلى الصفح والإخاء. •••
قلنا: إن جيتي كتب قصة فرتر في أسابيع قليلة، ولكنها على قصر الوقت الذي كتبت فيه تضارع أخلد أعماله وأقومها.
والثقات في اللغة الألمانية يقرنونها بأبلغ وأحلى وأنفس ما اشتهر في آداب تلك اللغة، فإلى هذا ولا ريب يعزى بعض النجاح الذي أصابته في بلادها. ولكنها لم تنجح في ألمانيا فحسب بل كان نجاحها في فرنسا أكبر وأظهر، فكثر في فتيانها وفتياتها من يلبسون على زي فرتر وشارلوت، وقرأ نابليون القصة مرات وحملها معه إلى مصر، وتجاوزت شهرتها القارة الأوروبية حتى وصلت إلى الصين ونقشت بعض مناظرها على آنية الخزف، وكان لها نوبة خيف منها على عزائم الشبان أن تسول لهم الانتحار، وقيل: إنها سولته لبعضهم فماتوا والقصة في جيوبهم. ولقد حرمت حكومة ليبزج بيعها وفرضت غرامة على كل من يبيعها، وثار بها النقاد يقرفونها وينعون عليها الخور والنعومة، ولا يزال إلى اليوم أناس يذهبون فيها هذا المذهب ويعتقدون فيها هذه العقيدة.
على أن جيتي ينكر الأثر السيئ الذي زعموه لقصته ويقول: إنه لم يخلق مرضا ولم يزد على أن وصف المرض الشائع، وأن عاقبة فرتر أحرى أن تحمل الشبان على اجتنابها لا على الوقوع فيها.
ونخاله على صدق فيما قال عن المرض الشائع في زمانه؛ فإن أورشليم قد انتحر قبل كتابة فرتر وانتحاره هو الذي أوحى إلى الشاعر كتابتها، وقبيل ذلك نمت إلى جيتي إشاعة عن انتحار صاحب آخر - اسمه جوي - من أصحابه في فتزلار. والكلام في انتحار اثنين في فترة واحدة من بلدة واحدة ينميان إلى بيئة واحدة خليق أن يدل كما قال جيتي على أن المرض قديم وليس بالطارئ الحديث، فتعبير القصة عن روح العصر هو سر نجاحها الأكبر فوق حلاوة اللغة وبلاغة الأسلوب.
يقول جيزو عن فتيان عصره: «الفتيان في هذه الأيام يشتهون كثيرا ولا يعتزمون إلا قليلا.» وهي كلمة موجزة وصف بها جيزو حالة النفوس في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر فلم يعد الصواب؛ ففي عهد اليقظة الذي يسبق الثورات ويتخللها يكثر الطموح وتكثر العقبات ويقوى الشك ويضعف اليقين وتهون الحياة، وتلك هي الحالة التي رانت في عهد جيتي وما بعده على بلاد الحضارة الأوروبية لا على البلاد الألمانية وحدها، فجيتي وصف ما رأى ولم يخرج في هذه القصة على أحكام قريحته ولا على طبيعته الغالبة عليه.
ومعظم النقاد يحسبون «فرتر» من آثار المدرسة المجازية ويبعدون بها عن أنماط قدماء الإغريق، ويتساءل لسنغ كبيرهم في عصر جيتي: «أتحسب أن فتى من فتيان الإغريق أو الرومان كان يبخع نفسه لهذا السبب وعلى هذه الوتيرة؟» ويجيبه لويس الإنجليزي أكبر مترجمي جيتي أن نعم؛ لأن سفكليس جعل أحد عشاقه ينتحر لفقد عشيقته، ولأن الرواقيين أدخلوا عادة الانتحار إلى رومة، ولأن الرواقيين في الإسكندرية ألفوا جماعة للانتحار يتداعى أنصارها إلى المآدب ليأكلوا ويشربوا ثم ينتحروا. ولسنغ مصيب في فهم الروح الإغريقية السليمة، ولويس مصيب فيما عدد من الشواهد، ولكن الحالة هنا ليست بالحالة السليمة والمسألة هنا ليست مسألة الضحية في القصة بل مسألة التناول والأداء، فإذا نظرنا إلى هذا فقلما نجد في آثار الأقدمين أثرا أبسط من هذه القصة ولا أصفى، وقد تجد في جوها مشابه من جو «قسيس ويكفيلد» التي كتبها جولد سمث الإنجليزي، وجو المرحلة العاطفية التي كتبها «ستيرن» الإنجليزي أيضا، أو تجد فيها مشابه من «هلواز الجديدة» الفرنسية، ولكنها بعد عريقة في اليونانية حتى لتبدو عليها المشابه الأخرى كأنها مسحة عارضة من أثر الطلاء.
فوست
خرافة فوست قديمة يردها «هيني» إلى ما قبل غزو النورمان للبلاد الإنجليزية، ويقول إن الشاعر «روتبيف» من شعراء القرن الثالث عشر في فرنسا أخذها ونسج على منوالها في إحدى منظوماته الصوفية، وخلاصة الخرافة أن «فوست» هذا كان رجلا ورث عن عمه مالا وتعلم كل علم في زمانه فاستبحر في حقائق الدين والطب والفلسفة والسحر والفنون السوداء فلم يظفر من الحقيقة الكبرى بطائل ولم يطلع على سر غير الذي كان يعلمه قبل دخوله المدرسة، أو كما قال المعري:
وعالمنا المنتهي كالصبي
ي قيل له في ابتداء تهج
فاستولى عليه القنوط من المعرفة الإلهية، وكان قد أضاع ماله في الشهوات ونهك جثمانه في المعاصي وناهز الشيخوخة الفانية وأدركته حسرة على شباب زائل لم يستنفده كله في المتعة والسرور، فبرز له الشيطان يساومه على روحه وجسده فقبل المساومة وعقد معه عهدا أمضاه بدمه على أن يمد له الشيطان في الشباب أربعا وعشرين سنة ثم يأخذ منه روحه وجسده بعد انصرام هذه المدة، فلما أطاع الشيطان راجعته الفتوة وانطلق في سبيل الشر ففسق وقتل وجنى على الأبرياء وتمادى في كل غواية وتقلب في كل رذيلة.
هذه خلاصة الخرافة القديمة، فلما جاء القرن الثامن عشر تناولها «لسنغ» الكاتب الألماني الملقب بملك النقاد فأفرغ عليها روح ذلك القرن المتعطش إلى المعرفة والحرية، فلم يشأ أن يجعل الطمع في استجلاء الحقيقة والشوق إلى استطلاع أسرار الحس والنفس مأثمة يعاقب عليها المرء باللعنة السرمدية، وجعل الرهان بين الله والشيطان رهانا خاسرا لحزب الشيطان رابحا لحزب الله، وأظهر هذه الخاتمة في الفصل الأول فانتهى الفصل وصوت ينادي من السماء حين فرح الشيطان بغنيمته: «لن تفلح فيما تريد.» وقد جرى جيتي على آثاره، فختم لفوست ومرغريت بالخلاص ورد الشيطان بالخذلان.
قضى جيتي في نظم روايته المستمدة من هذه الخرافة زهاء ستين سنة، فبدأها وهو لما يكد يجاوز العشرين وختمها قبيل وفاته، ولا يفهم من هذا أنه قضى السنين الستين كلها مكبا على نظمها منقطعا لتأليفها؛ فإنه لم يثابر على عمل واحد هذه المثابرة، وإنما اشتغل بالكتابة فيها سنوات متفرقة خلال ذلك الزمن الطويل، فكان ينظم القصيدة ولم يتهيأ موضعها من الرواية، وربما هجر الفصل من فصولها وشرع في الفصل الذي بعده، وثم هجر هذا وذاك وشرع في فصل آخر أو رجع إلى الفصول المتقدمة بالحذف والإضافة والتغيير والتبديل؛ فقد كانت الرواية شاغل حياته وإن لم تكن شاغل قلمه، وكل ما عالجه «فوست» من الشكوك والآلام والمحن والمعارف إن هو إلا صورة لما خالج نفس جيتي في شبابه ومشيبه، وفي رحلته ومقامه.
وقد اختلفت مواطن الرواية كما اختلفت أزمانها، فخطر بعض مشاهدها ومعانيها لجيتي وهو في سويسرة، وخطر بعضها له وهو في إيطاليا، وصاحبته أفكارها وأخيلتها في مدن ألمانية شتى على حسب الحوادث التي صادفته والشجون التي اعترضت حياته. وللقارئ بعد هذا أن يتصور كيف تكون رواية تجمع بين القرون الوسطى والعصور اليونانية ويشترك في إدراكها فتى في العشرين وكهل في الخمسين وشيخ في الثمانين، ويتألف نسيجها من نزوات الصبا ومخابر الكهولة وعبر الشيخوخة ما بين مناظر الجنوب والشمال ومعارف الزمن وآدابه في جيلين متعاقبين؛ فهذا نطاق واسع من الزمان والمكان والحياة، وأوسع منه موضوعه الذي أحاط به لأنه هو موضوع النفس الإنسانية بين الفكر والعقيدة والهوى، وبين الفن والعلم والسحر، ثم بين اليأس والرجاء، والحرمان والغفران.
وهو موضوع كبير عالجه فكر كبير، ولكنه كذلك موضوع متفرق عالجه فكر متفرق؛ فإن جيتي لم يكن قط «جامعا» في تفكيره ولا مستوعبا في تحريه واستخلاص نتائجه ومغازيه لأن الحقائق عنده أشتات تلاحظ كل واحدة منها لذاتها وتدخر لذاتها، ويوكل إليها جميعا أن تتألف في قرارة الفكر إذا كان لها مجاز إلى التأليف.
قال هيني في وصف رواية فوست: «إنها تشتمل على شذرات جميلة ولكنها تشتمل إلى جانبها على أشياء لا يبرزها للدنيا إلا من وقر في خلده أن من عداه من الناس مغفلون.»
وهذا صحيح؛ فإن الحشو في الرواية كثير والتفكك فيها ظاهر والمحاولة الفنية في سبك أجزائها صعيفة، ولا أزال أذكر أيامي الأولى في قراءة فوست منذ ست عشرة سنة؛ فقد بدأت بالقراءة عنها ومنيت نفسي نشوة فكرية لا نظير لها، فاستحضرت ترجمات ثلاثا لها بالإنجليزية لأستدل بالمقابلة بينها على ما سقط منها في خلال الترجمة، وانتظرت الإجازة السنوية لأتفرغ لها وأتعقب فصولها وحواشيها، فلم أجد الكنز الذي ترقبته ووجدت كنزا آخر لا نشوة فيه ولم أكن أطلبه. وتذكرت قصة الوالد الذي استدعى بنيه وهو على فراش الموت فأسر إليهم أنه خبأ لهم كنزا في ضيعته أخفى عنهم مكانه، وأوصاهم أن يبحثوا عنه ويقلبوا الأرض حتى يعثروا به، فبحثوا وقلبوا فلم يجدوا الكنز الذي حلموا به وإنما وجدوا الكنز الموعود في وفر الغلة بعد تقليب أرضها واستصلاحها للثمر! وهكذا كنت مع جيتي في روايته هذه؛ فإنه لم يودع لي كنزا ولم يعطني إلا ما أخذته بيدي، وزاد على ذلك أنه وضع الأعشاب والزوان في الأرض حيث لم يكن فيها نفع ولا ضرورة.
إن كل ما في الرواية من العيوب والفجوات وكل ما فيها من الحشو والإملال لا يحجب عن القارئ أن الرواية صنعة قريحة عظيمة وأنها مرآة حياة واسعة غاصة بذخائر الفن والمعرفة والفهم العميق الرجيح، ولكن العيب الأكبر فيها أنك لا تحس وأنت تستعرض هذه الذخائر القيمة أنك تستعرضها في حياة إنسانية تجاوبك وتجاوبها وتقاربك وتقاربها، وإنما تحس كأنها ذخائر موزعة في الطبيعة تلتقطها من هنا ثم كما تلتقط الجواهر الضائعة في المفازة البعيدة، وتمشي في الرواية وأنت تحمل نفسك حملا فلا يستحثك على المضي فيها إلا كلمة تقع عليها اتفاقا لا يقولها إلا ذهن كبير أو أنشودة مستعذبة قل أن تدانى في حلاوة النغم وسهولة الأداء! على أن هذه الأنشودة أو تلك الكلمة لن تنسيك فتور صاحبها ولن تستحق عنايتك إلا بشيء واحد، وهو أنك تطلع منها على عبقرية نادرة كما تذهب إلى الأهرام لتتفرج بالنظر إليه.
وجزء الرواية الأول أحسن حالا في هذه الخصلة؛ لأنه يمس قلب الإنسان ويستجيش عاطفته بقصة الفتاة «مرغريت» التي وقعت في حبائل الشيطان فجرها إلى الفسق فالقتل فالعار فالسجن والجنون، فإن صورة «مرغريت» لتضارع أجمل الصور الإنسانية التي خلقتها الآداب في جميع العصور، وعلى هذه الصورة الحية تقوم الرواية وإليها يعزى النجاح الذي أصابته عند جمهور النظارة، فإذا عدوناها إلى غيرها فهناك مناجاة فوست وحواره مع الشيطان تارة ومع التلميذ تارة أخرى، وهناك أشجانه وهواجسه وكلها على جانب وافر من الشعور والفكر يهز أوتار الحياة ويفتح للذهن أبواب التأمل والاعتبار.
فالجزء الأول - كما أسلفنا - أحسن حالا في هذه الخصلة؛ ولهذا كان أحسن حالا من ناحية التناسق والتنظيم، ولكنك مع هذا تنظر فيه فتجد مناظر كاملة لا علاقة لها بنسق الرواية في شيء، بل تبدأ الصفحة الأولى بحديث بين شاعر ومدير مسرح وصديق لهما ليس بينه وبين الرواية سبب. ومن طرائف جيتي في قلة الاكتراث أنه نظم أبياتا يحمل بها على ناقديه لينشرها في إحدى الصحف. فلما تعذر عليه نشرها أخذها وألقى بها في هذا الجزء بغير تمهيد ولا تفسير!
أما الجزء الثاني فهو الفوضى بعينها يزيد عليه الغموض الذي لا ينتهي إلى طائل، ولكي يقف القارئ على مثال من فوضى التأليف فيه يكفي أن يعلم أن الجزء كله قائم على قصيدة نظم جيتي بعضها قبل صدور الجزء الأول ونظم باقيها بعد صدوره، ونشرها كلها على حدة في سنة 1827 وهو يشعر بما فيها من الخلط فسماها «خيال الظل الكلاسيكي الرومانتيكي»، ثم جعلها محور الجزء الثاني بما ألصق بها وأضاف إليها، وهذه هي قصيدة «هلينا» الفاتنة اليونانية التي ثارت حولها حرب طروادة المشهورة في الإلياذة.
هذا مثل من التلفيق في التأليف، أما الرموز الغامضة الشائعة في الجزء كله، فمثالها بناء فوست بهلينا والإشارة بذلك إلى الحضارة الأوروبية التي هي زواج بين الثقافة الإغريقية وثقافة القرون الوسطى! فالثقافة الإغريقية هي «هلينا» وثقافة القرون الوسطى هي «فوست». ولما أراد جيتي أن يزج بذكرى «بيرون» في القصيدة أسبغ صفاته على «يوفريون» ولد فوست وهلينا أو ولد الإغريق والقرون الوسطى؛ فإذا هو بيرون كما شاء!
ومن رموزه ما كان هو نفسه لا يفهمه، فقد سأله أكرمان عن الأمهات اللاتي وردت الإشارة إليهن في هذا الجزء ولجأ إليهن فوست لاستحضار روح هلينا، قال أكرمان: «ولكنه تقنع بالغموض ونظر إلي بعينين مفتوحتين وهو يردد: الأمهات الأمهات! إن في الكلمة لسرا خفيا. وليس في وسعي أن أزيدك بها علما، إلا أن أقول لك إنني طالعت في بلوتارك أن الأمهات كن بعض الآلهة في يونان القديمة.» فكأن جيتي قد أخذ هنا برنة الكلمة الخفية ولم ينظر وراءها إلى مدلول واضح في ذهنه، وإنما هو أثر من آثار الولع بالأسرار الذي استولى عليه في أواخر أيامه، أو هو عرض من أعراض الشيخوخة التي تبدو على المفكرين عند الإحساس بقرب النهاية، وجيتي نفسه يقول لنا إن لكل عمر فلسفة؛ فالطفل «واقعي» لأنه واثق من التفاح والكمثرى، والشاب خيالي لاضطراب العواطف والدوافع في نفسه، والرجل «شكوكي» لأنه يخاف أن تختلف وسائله وأحواله، والشيخ متصوف معتقد بالأسرار؛ «لأنه يرى ألف شيء يعتمد على المصادفة، ويرى السخافة تفلح والرشد يخفق والسعادة والشقاء نوبا تدول، هكذا تجري الدنيا وهكذا جرت، والشيخ يجد السكينة فيما هو كائن وفيما كان وفيما سيكون».
ومتى ذكرنا ولع جيتي بالخفايا في صباه لم نعجب لهذه النزعة التي نراها في فوست الثانية، بل عجبنا له كيف ملك معها قواه ولم يخرج بها من حيزها الذي قصرها فيه فهي جن مارد، لكنه في قمقمه وطوع يد سليمانه، إلى مدى يتفقان عليه!
وبعد فما الغرض من رواية فوست وما مغزاها؟ لقد سئل جيتي هذا السؤال فأجاب في غير اكتراث: تسألني كأنما أنا أعرف هذا المغزى؟ إنما هي رحلة من الأرض إلى السماء خلال الجحيم!
ولك أن تقول شيئا كهذا عن روايات جيتي كلها أو عن كبرياتها على الخصوص، فهناك أشخاص متفرقون وحوادث متفرقة، وهذه هي الصفة التي تستطيع أن تحصرها في جميع الروايات، أما ما عدا ذلك فهو غير محصور!
وقد تكون للأشخاص بنية قائمة وملامح مميزة وسمات مألوفة، أما الحوادث فليس لها هذه البنية وليس لملامحها وسماتها وحدة مرسومة.
وسبب ذلك بسيط معقول، وهو أن جيتي يأخذ من ساعة ساعة والحوادث واحدة واحدة، فأنت إذا جمعت ألف حادثة متفرقة عن شخص واحد فهناك بنية مرسومة وشخص معلوم ولو اختلفت الحوادث وجاءت على غير اطراد، ولكن هذه الحوادث بقضها وقضيضها لا تكفي لتأليف كتاب واحد أو رواية واحدة إذا هي أخذت على تشعث وعلى غير نسق، بل أنت إذا سمعت عشر نوادر متفرقات عن إنسان واحد فقد عرفته وحفظته، ولكنك إذا سمعت بعشر حوادث متفرقات فلست تعرف إلا هذه الحوادث دون غيرها، ومن ثم تضيع الوحدة في روايات جيتي ولا تضيع الوحدة في أشخاصه، وفوست هي «المثل الأعلى» في هذين النقيضين.
على أن جيتي يجيد في وصف الأشخاص لسبب آخر وهو أنه يأخذ أوصافه من الواقع ويرى بعض المناظر كما جرت له هو في حياته، وتلك سنته في جميع أبطاله حتى أبطال الغيب والخيال، فلما رسم «مفستوفليس» في رواية فوست جاء شيطانا إنسانيا أو إنسانا شيطانيا من طراز بديع، وإنما جاء كذلك لأن جيتي كان يقرأ أوصاف الشيطان في جميع العصور ويطبقها على من حوله، فأيهم كانت به بعض هذه الصفات في نفسه أو جثمانه رصده وراقب كلامه وأفعاله واقتبس منها ما يناسب مناظره.
وتعجبنا في هذا المعنى كلمة الأستاذ «أرنست لشتنبر جر» شارح جيتي المشهور حيث يقول: «وهذا الشيطان ألا تراه على قرب عجيب من الإنسان؟ ألا تراه في الحقيقة شيطانا فلسفيا نما على جذور صورة الشيطان في القرون الوسطى واستنفدها؟ ففيه من عنصر أهرمان في الديانة الزندية، وفيه من فلسفة الخليقة اليونانية، وفيه من التوراة وسفر أيوب، بل فيه ملامح مما قرأ جيتي في أفلاطون وأرسطو والقديس أغسطين، يمتزج ذلك بالأساطير الجرمانية وأقوال ولنج وبوهم وسودنبرج وليبنتز وشكسبير. وقد ترى فيه أحيانا لمحة سبينوزية؛ فثمة روح الهدم والإنكار في القرن الثامن عشر، وثمة فيلسوف فرنسي، وثمة فلتير، وثمة كل ما هو كريه في الفترة الزوبعية التي كان ينتسب إليها الشاعر، ويصح أن تقول في بعض المواطن إنه هو روح الفترة الزوبعية بعينها، وإنه يتراءى بسمات من بهريش وهردر ومرك على الخصوص وباسدو ودارب المصور وبير وجيتي نفسه، وهكذا أبدع جيتي الشيطان العالمي وصهر في بنية واحدة شياطين جميع العصور.»
يريد «لشتنبرجر» أن يقول: إن جيتي رسم صورة الشيطان كما تطورت من أقدم العصور إلى أن تحدرت إلى عصره بل إلى نفسه، وخلاصة هذه الأطوار تندمج في تعريف الشيطان نفسه بأنه جزء من تلك «القوة التي قد تنوي الشر ولا تفعل إلا الخير»؛ فعلى هذا المعنى ليس يأبى جيتي تلك المماثلة بينه وبين الشيطان! وهو الذي أثنى على ناقد فرنسي ألمع إلى تلك المماثلة في مجلة الجلوب فقال: إن ملاحظات هذا الناقد نافذة؛ لأنه لم يلاحظ ما في البطل الأول من قلق الدءوب فحسب، «بل لاحظ منه التهكم والسخر المرير في مفستوفليس كأنه جزء من نفسي».
فجيتي يماثل شيطانه الساخر أحيانا كما يماثل بطله العالم الساحر طالب المتعة والفهم في عالم الحس وعالم الفكرة، أو فوست يماثل الشاعر في بعض حالاته والشيطان يماثله في بعض حالاته الأخرى، وقد يماثلانه معا في حالة واحدة.
إلا أن الشيء الوحيد الذي لا يماثلانه فيه هو الحركة الدائبة؛ فإن فوست والشيطان يتحركان ويركضان أما جيتي فيدع موكب الدنيا يتحرك أمامه ويلتفت إلى كل صف من صفوفه في ساعة مروره، ولقد تغنى في مطلع فرتر بمتعة الحاضر وتغنى في ختام «فوست» بجمال اللحظة الحاضرة، فأوحى إلى فوست أن يناشد اللحظة العابرة أن تقف بين يديه لأنها جميلة، فعبرت لا تصغي إليه!
فكأنه بدأ حياته وختمها في عالم الأجزاء المفرقة، فشهد الدنيا جزءا كأصدق ما يشهدها شاهد، وكان كمن ينظر إلى القمر خلال المنظار يراه قطعة قطعة أصدق مما يراه أي ناظر، ولكن الناظر يراه كله جملة واحدة أصدق مما يراه صاحب المنظار.
ولهلم ميستر
إذا كانت «فوست» أكبر كتب جيتي الشعرية فولهلم ميستر هي أكبر كتبه النثرية، تلك رواية تمثيلية وهذه رواية قصصية، وقد جرى في تأليفها على عاداته ولا سيما في كتبه المطولة، فبدأها في سنة 1777 وفرغ منها في سنة 1821، وقسمها إلى جزأين أحدهما سماه تلمذة ولهلم ميستر والآخر رحلاته، وكان شأنه فيهما كشأنه في جزأي «فوست» على السواء. فالأول منسجم قوي والثاني مضطرب ضعيف، والأول بين صاف والثاني غامض موشع بالرموز والأسرار. وقد لجأ هنا إلى الحشو والتلفيق كما لجأ هناك. فمن ذلك ما قصه أكرمان وأثبته في أحاديثه يوم الأحد الخامس عشر من شهر مايو سنة 1821، فقال بعد كلام عن كتب جيتي التي تطبع بعد وفاته:
ثم تكلمنا عن الحكم والخواطر التي طبعت في ختام الجزأين الثاني والثالث من الرحلات، وكان جيتي لما شرع في تنقيح هذه الرواية وإتمامها قد نوى أن يمدها إلى جزأين بدل جزء واحد، كما جاء في الإعلان عن الطبعة الجديدة لمؤلفاته الكاملة، ولكن الرواية تجاوزت ما قدره لها أثناء الكتابة، وكان كاتبه يوسع الكلمات والسطور فخدع جيتي وظن أن ما عنده كاف لثلاثة مجلدات لا لمجلدين اثنين، وعلى هذا أرسل المسودات في مجلدات ثلاثة إلى الناشرين. فلما بلغ الطبع موضعا من الرواية تبين لجيتي خطأ الحساب وعلم أن الجزأين الأخيرين صغيران في الحجم، وبعث الناشرون في طلب المزيد، ولا سبيل إليه لصعوبة التغيير في مجرى الرواية وإضافة حكاية جديدة في هذه العجلة، فحار جيتي في الأمر، واستدعاني فأفضى إلي بالمسألة وذكر لي كيف فكر في تلافيها، ووضع بين يدي ملفين كبيرين من الأوراق المخطوطة التي أخرجها لهذا الغرض، ثم قال لي: إنك ستجد في هذين الملفين أوراقا شتى لم تنشر ومقطوعات مبتورة تامة وغير تامة، وآراء في العلوم الطبيعية والفن والأدب والحياة يختلط بعضها ببعض. فماذا ترى في اقتباس صفحات ست أو ثمان مطبوعة من جميع هذه الأوراق لسد الفجوة في الرحلات؟ إنها لا شأن لها بالرواية إذا توخينا الدقة ولكننا نستطيع أن نسوغ إضافتها بما سبق من الإشارة إلى المحفوظات المدخرة في بيت مكاريا حيث تصان أمثال هذه الأوراق، وكذلك نذلل الصعوبة في الوقت الحاضر ونعثر بالوسيلة التي تتيح لنا أو نزجي إلى الدنيا بهذه الأشياء الممتعة.
هذا بعض أنماط التأليف عند جيتي في الروايات والكتب، وفي هذه الرواية عدا ذلك كتاب كامل أو باب كامل أضافه إليها بأوهى سبب! ونعني به الكتاب السادس من تلمذة ولهلم المشهور باسم «اعترافات النفس الطيبة»؛ فهذا الباب يطبع الآن على حدة فلا يشعر القارئ أنه مقتضب من رواية شاملة، وأصله مستمد من أحاديث ورسائل لإحدى صديقات أمه اسمها سوزان كاترين كلتنبرج وصفها في الباب الثامن من ترجمة حياته وقال: إنها هي صاحبة الاعترافات التي ضمها إلى «تلمذة ولهلم ميستر»! فانتظم له بهذا باب مسهب كسائر الأبواب!
وقد قسمت الرواية إلى قسمين أحدهما للتلمذة والآخر للرحلة لأن بطلها ممثل يتدرب على فنه، وكان الممثلون في ذلك العهد لا يدركون مرتبة الأستاذية إلا بعد برهة يقضونها في التلمذة وبرهة أخرى يقضونها في الرحلة، فولهلم ميستر يخوض هذا الغمار ويتدرب على الفن وعلى الحياة وتفضي به تجربة الدنيا وتجربة نفسه إلى ترك التمثيل ومزاولة الطب؛ لأنه عرف كفاءته الصحيحة بطول المرانة. •••
لقد كان في فوست سمات من جيتي فهل في ولهلم ميستر مثل هذه السمات؟ نعم، وأولى هذه السمات هي تثقيف النفس بالمشاهدة والتجربة ومعرفة الكفاءة بالعمل والمزاولة، فكلاهما ترك فنا كان ينشده ويطلب الأستاذية فيه وعدل عنه إلى علوم أخرى. فأما الفن الذي تركه ميستر فقد علمنا أنه التمثيل، وأما الفن الذي تركه جيتي فهو التصوير! تركه بعد أن كان يرشح نفسه فيه لبلوغ أقصى مداه، فلما زار إيطاليا وجرب قدرته هناك وقضى ما قضى من الوقت في مراسه وابتغاء التفوق فيه على غير جدوى صدف عنه وعاد من إيطاليا على هذه النية.
منظر من تصوير جيتي.
وقد كان في نيته أن يقصر رواية «ولهلم ميستر» على التمثيل وأن يتمها بأن يقود البطل في طريق النبوغ والأستاذية، فعدل به كذلك عن هذه الطريق كما عدل هو عن طريقه. فهما في تجربة النفس وتاريخ العدول عن الرغبة الأولى يلتقيان.
وسمة أخرى تتشابه بينهما هي قلة المثابرة والتصميم والانتهاء إلى التفويض والتسليم، والتجاؤهما إلى الطلاسم والقوى الخفية يتسليان بها عن عزيمة الجهد كما يتسلى الفنان بمعاني القريحة عن وقائع الحياة، وما به دجل ولا غباء.
والسمة الظاهرة عليهما فوق كل سمة هي كثرة العشيقات وأسلوب التنقل من غرام إلى غرام، فأسلوب جيتي وهو يلوذ من عشيقة بعشيقة كأسلوب «ولهلم ميستر» وهو ينتقل من ماريانا إلى فيلين، ومن فيلين إلى مينون، ومن مينون إلى النبيلة ، ومن النبيلة إلى أوريلي والآنسة كتلباخ، ومنهما إلى تيريز، ومن هذه إلى الأمازونة، وكذلك يتشابه الأسلوبان في ترويض النفس بالحب وفي صوغ العواطف وادخار الشعور، ويتشابهان كذلك في علو النظرة الفنية في معظم هذه العواطف على إسفاف الشهوات.
وإذا خطر لك أن تسأل عن هذه الرواية كما سألت عن فوست: ما الغرض منها؟ وما مغزاها؟ ففي وسعك أن تعلم قبل السؤال أنها لا غرض لها ولا مغزى! وأن جيتي أول من يكاشفك بأنه لا يقبض على مفتاحها، ولكنها وطاب حافل بحقائق الحياة في الفن والتعليم والنقد والعلم والدين والسياسة هيهات يدانيه وطاب، ثم هي مشاهد ناطقة بالصدق والحكمة، وشخوص موسومة بالملاحة والإتقان، ولا سيما شخص الفتاة «مينون» التي راحت في آداب الغرب علما من الأعلام.
منظر الوداع من جبال إيطاليا تصوير جيتي.
الديوان الشرقي
الألمان كثيرو الدراسة للمشرقيات بين الأوروبيين، وقد تضاعفت عنايتهم بها في أواسط القرن الثامن عشر لسببين: أحدهما النهضة العلمية العامة والآخر تمردهم على سلطان الآداب الفرنسية، فإنهم لما تمردوا على هذه الآداب حولوا وجوههم إلى كل وجهة أخرى، فدعوا إلى اليونان الأقدمين، ودعوا إلى الإنجليز، ودعوا كذلك إلى الشرقيين يطالعون كتبهم ويترجمونها ويقتبسون منها الموضوعات.
وقد كان جيتي ألمانيا صميما في حب التوسع والاطلاع، فنهل من الآداب الشرقية مع الناهلين، وقرأ السيرة النبوية وهو في نحو الرابعة والعشرين، واطلع على القرآن وأمعن فيه إمعان الأديب وإمعان الباحث في الأديان، فاصطبغت كتاباته الدينية بصبغة قرآنية كما يرى القارئ في كلامه عن الله ودلائل وجوده، وخرج من هذه الدراسة ينوي أن يكتب رواية شعرية تمثيلية في سيرة النبي العربي، فنظم بعض قصائدها وقسمها إلى فصول: الفصل الأول يبدأ بالمناجاة والاعتكاف واستعراض العبادات الجاهلية وينتهي بالهداية إلى الوحدانية، والفصل الثاني يبدأ بالدعوة وينتهي بالهجرة، والفصل الثالث يبدأ بالنصر وينتهي بتطهير الكعبة من الأصنام، والفصل الرابع يبدأ بالفتوحات وينتهي بالسم! والفصل الأخير تتجلى فيه نفس محمد الربانية بعد أن عرك الدنيا وأخذ منها وأخذت منه، فاستوى على مثاله وارتفع إلى أوج كماله، وتم له حظ الأدبين أدب الأرض وأدب السماء.
ووقف جيتي عند التقسيم والشروع فلم يكتب في روايته هذه إلا شذرات، وظل على حنين إلى موضوعها يعاوده من حين إلى حين، فلما عز عليه إنجازها قنع بترجمة رواية «محمد» لفولتير مع التصرف فيها، وأبرزها سنة 1800 للتمثيل.
ولكن رواية فولتير والرواية التي أرادها جيتي جد مختلفتين؛ إذ كان فولتير يسيء الظن بالنبي وجيتي يأخذ عليه ما يأخذ ولكنه يسلكه في أكابر العظماء المصلحين، وقد سمع ملام نابليون لفولتير على تأليف هذه الرواية وتصويره النبي في تلك الصورة، فسكت على ذلك الملام.
تلك كانت عناية جيتي بالمشرقيات منذ صباه، وقد تقدمت به السن وهو لا يفتأ يعود إليها كلما سنحت له فرصة من كتاب جديد أو بحث طريف؛ فقرأ ألف ليلة وليلة، ووعى دواوين السعدي وحافظ الشيرازي والفردوسي التي ترجمت إلى الألمانية، وامتلأ بهذه وتلك فبدأ في نظم القصائد على الطريقة الشرقية في معاني الفرس والعرب كما يتخيلها الغربيون، وعلق في سنتي 1814 و1815 بحب الفتاة ماريان دي فيلمر فجاشت نفسه بالغزل واجتمع له ديوان كامل من هذه المنظومات، فذاك هو الديوان الشرقي الذي أضاف إليه وطبعه بعد ذلك بأربع سنوات.
اشتمل هذا الديوان على اثني عشر بابا على هذا الترتيب، وهي: الشادي، وحافظ، والحب، والتأمل، والحزن، والحكم، وتيمور، وزليخة، والحانة، والأمثال، والفرس، والفردوس. وحاول في جميع هذه الأبواب أن يقتدي بالشرقيين في مذهب الغزل ومذهب التصوف؛ فاتخذ رائده في المذهبين شعر حافظ الشيرازي الذي يراوح فيه بين غزل الحس وغزل الروح، وقال في هذا المعنى: «هلم نسم الدنيا العروس ونسم الروح العريس، من عرف حافظا فقد شهد هذا الزفاف.»
وعلى هذا ربما لقي حبيبته بعد طول الغيبة فنظم في «اللقاء» وأودعه معنى لقاء الروح لعالم النور كما يتغنى به المتصوفون، وربما قرأ أبياتا للسعدي عن احتراق الفراش بنار المصباح فنظم في احتراق النفس بالحب، والتماسها الحياة من طريق الفناء!
على أن جيتي أنصف فلم يزعم أنه وفق في محاكاة الشرقيين ولا في محاكاة حافظ صديقه المحبوب، وإنما وصف كتابه بأنه «الديوان الشرقي للمؤلف الغربي» فأحسن الوصف كل الإحسان.
الغلاف العربي للديوان الشرقي.
فالديوان يمثل الشرق كما يراه خيال شاعر الغرب من بعيد، ولا يمثل الشرقيين كما يراهم الشرقيون إلا على سبيل الاتفاق.
وقد راق جيتي أن يسم الديوان بالسمة الشرقية في شكله ومعناه، فجعل له غلافا عربيا مزخرفا بالنقوش العربية، وكتب في أوله تحية شعرية ترجمها له الأستاذ سلسفتر دي ساسي المستشرق المعروف في الكلمات الآتية: «يا أيها الكتاب سر إلى سيدنا الأعز فسلم عليه بهذه الورقة التي هي أول الكتاب وآخره. يعني أوله في المشرق وآخره في المغرب.» ويشير جيتي بذلك إلى كتابة الشرقيين من اليمين إلى الشمال وكتابة الغربيين من الشمال إلى اليمين، فتحيته هي الأول والآخر؛ لأنها تأتي في أول الكتاب عند الشرقيين وفي ختامه عند الغربيين.
بل أراد جيتي أن «يستشرق» ما استطاع في أثناء إظهاره لهذا الديوان، فكان يقرأ الأشعار الشرقية وينسخ الخطوط العربية، كأنه يلاقي بذلك بين الروح وجثمانه واللفظ وفحواه، فكان في هجرة إلى الشرق كما قال، أو كان الديوان «سلاما» من الغرب إلى الشرق كما قال هيني، وهو على كلتا الحالتين هجرة مبرورة وسلام نرده بأحسن منه.
مؤلفات أخرى
تلك أشهر مؤلفات جيتي وأدلها عليه، ولجيتي مؤلفات أخرى معظمها من قبيل المقطوعات المبتورة وقليل منها الذي تم وانتظم في عداد المؤلفات الكاملة، وله فصول في صحف اشترك في إصدارها مع غيره ورسائل إلى الأصدقاء والصديقات وله أحاديث مروية مع أكرمان وولف ومولر وسوريه وريمر وغيرهم لا تقل هي ورسائله الخاصة عن طبقة كتبه في الإصابة والامتناع.
ولعل أتم مؤلفاته بناء وأحسنها تنسيقا رواية «هرمان ودوروثي» التي بدأها في أواخر سنة 1796 وفرغ منها في مارس من السنة التالية، وكان شيلر يحضه على إتمامها ويواليه بالسؤال عنها، فجاءت على نظام حسن لكتابتها في فترة واحدة واطلاع شيلر عليها. وهي حكاية ألمانية نظمها جيتي على مثال رواية لويز للشاعر فوس واتخذ لها بطلة إحدى الخدم المهاجرات الهاربات من الجنود الفرنسية، وجعلها تتزوج بالفتى هرمان وهو من طبقة الموسرين، ووصف فيها عادات الألمان وأخلاقهم وآدابهم في أسرتهم، وضمنها نزعة وطنية لا تصادفها كثيرا في روايات جيتي الأخرى؛ فهي لهذا محبوبة عند الألمان، وهي «ورتر» الخامسة والأربعين من العمر، ففيها عواطف «ورتر» الأولى كلها ولكنها هنا صاحية مقررة أقرب إلى العمل منها إلى الخيال.
وله رواية أخرى عن ثورة هولندة في طلب الحرية الدينية والسياسية أسماها باسم الكونت «أجمونت» وأطال مراجعتها على عادته، فبدأها سنة 1775 بتشجيع من أبيه ولم يفرغ منها إلا في سنة 1788 بعد رحلة في سويسرة وأخرى في إيطاليا.
جيتي في الحادية والأربعين.
وهي - كما قال لويس الكاتب الإنجليزي - حوار وليست برواية تمثيلية، وكانت نثرا فنظمها شعرا، وقد قال في ترجمة حياته: إنه شرع فيها ولما يبرأ من وجده على صاحبته «ليلي»، فكأن بطلتها كلارسن مرسومة على نموذج تلك الحبيبة، وإن خالفتها في بعض الأوصاف.
وله رواية «إفيجيني» وهي التي تختار في مناسبات الذكرى من بين رواياته التمثيلية، وكان جيتي يمثل أحد أدوارها في حياته، ومدار الرواية على أسطورة يونانية قديمة ترجع إلى حرب طروادة، وخلاصتها أن «آغاممنون» قتل ظبيا لديانا آلهة الصيد فغضبت الآلهة وأرسلت الطاعون على جيشه وحبست الريح عن سفنه فوقفت في مكانها، فلما التمس الفتيا في شأن هذا البلاء قيل: إنه لا يدفع إلا بضحية ولا تكون هذه الضحية إلا بنته «إفيجيني»، فامتثل أمر الآلهة وجاء بابنته للفداء يزعم لها أنه سيزفها إلى البطل أشيل، فأشفقت ديانا عليها واتخذتها كاهنة لها في طوريد، وهناك جاءوها بأخيها «أورست» وصديقه بيلاد - وهي لا تعرفهما - لتضحي بهما إلى الآلهة، فلما عرفتهما احتالت على العود معهما إلى بلادها، فعادوا جميعا بسلام.
وقد نظم «يوربيدس» الشاعر اليوناني في هذه الأسطورة ونظمها جيتي في صيغة أخرى، إلا أن الفرق بينهما كالفرق بين ما يكتبه يوناني في عهد الجاهلية وما يكتبه ألماني في عهد الثقافة الحديثة، فجيتي بسيط في أدائه كالشاعر القديم، ولكن رواية «يوربيدس» قائمة على صراع الشهوات ، ورواية جيتي قائمة على صراع الأخلاق، وتلك مزدحمة بالمشوقات والمفاجآت وهذه لا تشويق فيها ولا مفاجأة، والقدر في الأولى صارم في أحكامه ولو عدل عنها، ولكنه في الثانية قدر واسع الرحمة غفور.
وأنت تخرج من هذه الكتب بالنتيجة التي خرجت بها من الكتب الأولى، فجيتي هنا وهناك شاعر الأجزاء والحالات الفردية يجيد فيها ولا يجيد في غيرها؛ فخذ منه ما شئت سردا للكلام المفرد ورسما للشخوص المعزولة، لأن ملكة الأجزاء تغني كل الغنى في هذه المقاصد، بيد أنها لا تغني في حبك الفصول المركبة ولا في ربط الوقائع المشعبة ولا في إحياء الحركة واشتباك العقدة، فحظه من الإجادة في هذه المقاصد غير جليل.
ولجيتي ترجمة كتبها بنفسه وأسماها «الشعر والحقيقة» لا يستغني عنها المتعرف له ولزمانه، وقد دونها لشعوره بتفرق كتبه وحاجتها إلى تفسير لمناسباتها وآصرة تجمع شتاتها، فلما تكاملت بين يديه طبعه مؤلفاته في سنة 1808 أحس بهذه الحاجة ورأى أن هذه الكتب إن هي إلا مقطوعات شتى من اعتراف واحد طويل. فأقبل على تاريخ حياته يستعيده ويملأ فيه الفجوات بين تلك المقطوعات، وهو في تدوين مذكراته كان يجري على سنة عصره أو على سنة النابهين في آداب الثورة الفرنسية من قبله؛ فله باعث في تدوينها غير باعث التقريب بين فترات حياته والوصل بين أشتات مؤلفاته.
على أن هذه الترجمة نفسها بقيت ناقصة كما قد بقيت تلك المؤلفات! وقد ألحقها بمذكرات أخرى أوجز منها، ولكنه انتهى بها إلى ما قبل وفاته بعشر سنين، ولم يزد عليها.
عبقرية جيتي
من العبقريين من تعرف مداه بكتاب واحد أو قصيدة واحدة، لأنه يرتقي إلى أوجه في بعض أعماله فيأتي بخير ما عنده أو بكل ما عنده، وتعرفه حق عرفانه فلا تحتاج إلى تجربة له بعدها ولا تصيب في التجربة الجديدة إلا تكرارا لا جديد فيه.
ومنهم من يعطيك جزءا من عبقريته في كل جزء من كتاباته، فبعضها لا يدل على مداها كلها، وتكرار القراءة فيها ينتهي بك كل يوم إلى جديد، فلا غنى لك عن التجربة بعد التجربة لسبر غورها والإحاطة بمداها، والحكم عليها في جميع أحوالها.
وجيتي من هؤلاء العبقريين الذين لا ينبئ قليلهم عن كثيرهم؛ لأنه لم يجمع نفسه في قطعة واحدة ولا موضوع واحد، فهو كثير الجوانب كثير التجزئة، الموضوع الواحد عنده لا يدل على كل موضوعاته، والجزء الصغير لا يدل على جملة الموضوع، فكل فكرة له هي أصغر من الرجل في جميع أفكاره، كما أن اليوم الواحد في غمار أيامه هو أصغر لا محالة من سنيه الثمانين.
تلك إحدى الصعوبات التي تعوق عن التعريف بهذا العبقري الكبير، وصعوبة أخرى مثلها هي بساطته وقلة احتياله في تعبيره وتجافيه عن التزويق والتفخيم في سياقه؛ فلا اصطناع ولا إيهام ولا زخرفة وإنما هي أفكار يلقيها إليك على هينة كما جاءته على هينة. وكلها سواء عنده في الحفاوة والخطر؛ فلا الكبير عنده مستهول ولا الصغير مزدرى! إنما هو المارد الجبار يحمل الصخرة كما حمل الحصاة، ويمشي بأثقل أحماله وأخفها في خطو وئيد وقوام قويم.
وإذا كان بعض الكتاب يمشي إلى غرضه كما يمشي البهلوان على الحبل، أو كما يمشي اللاعب على يديه، أو كما يمشي الراقص المترنح المتبختر أو كما يمشي الكاهن الوقور لا ينظر إلى يمنة ولا إلى يسرة، فجيتي ليس يعرف هذه المشى وليس يركب إلى غرضه حبلا ولا يترنح ولا يتكلف، بل يخيل إليك أحيانا من قلة النصب في حركته أنه يمشي إلى غير غرض كما يمشي المتريض في ساعة فراغه. فإذا أفضيت معه إلى غايته فقد تتعب وقد تنكر المسعى، ولكنك تشعر أنك كنت تمشي مع دليل أمين ولم تكن تتبختر مع رقاص أو تقفز مع بهلوان! وأنت بعد ومذهبك في حركات الأقدام؛ فالجاري على الحبل أبرع ولا ريب في فنون هذه الحركات من السالك في الطريق كما يسلك سائر الخلق، ولكنه بهلوان وليس كل إنسان ببهلوان! ويلعب والناس لا يتعلمون المشي ليلعبوا على الحبال!
حجرات منزل جيتي من الداخل.
وكلمة واحدة - مع هذا - تسمعها من جيتي تنبئك أنه قد وصل إلى مدى لا يصل إليه الكثيرون، ولا يلزم أن تكون هذه الكلمة رنانة ولا موشاة ولا صاخبة ولا أنيقة، فقد تنبئك نبأها الصحيح ولا حظ لها من رنين أو وشي أو صخب أو أناقة.
يحدثك رجل عن القاهرة ساعات متواليات، فيسبق إلى وهمك أنه سكنها وجاس خلالها وأطال المقام فيها، ثم ما هي إلا كلمة يزل بها لسانه حتى تعلم أن ما سمعت بحذافيره إن هو إلا وصف ناقل لا وصف شاهد، وإن حديث صاحبنا عن القاهرة إن هو إلا حديث قارئ أو متلقف من الأفواه.
ويقول لك غيره كلمة واحدة عن القاهرة لا تستغرق الثواني فضلا عن الساعات المتواليات! فتجزم جزم اليقين أنها كلمة العارف الذي زار وأقام وأطال المقام، فهل يلزم أن تكون في هذه الكلمة بلاغة خارقة أو نبرة متكلفة أو كناية ملفوقة؟ كلا! بل لا يلزم حتى أن تكون صحيحة كل الصحة في معناها؛ إذ هناك الخطأ الذي لا يخطئه إلا من شهد واختبر، وهناك الخطأ الذي يقع فيه الإنسان لقلة الرؤية والاختبار، بل هناك الخطأ الذي هو أدل على المشاهدة من الصواب، فالشرط الوحيد إذن في تلك الكلمة أن يقولها القائل بعد رؤية ومعرفة، وفي هذا الشرط وحده قيمتها التي تربى على قيمة الأخبار المسهبة يرويها لك من لم ير ولم يعرف، فأنت حين تنوي أن تذهب إلى القاهرة لا تذهب إليها مع من تلا عليك تلك الأخبار وبسط لك تلك المرويات، وإنما تذهب إليها مع من نبس بالكلمة الموجزة ذات الدلالة وإن لم يكن على صواب.
إن كلمات جيتي عن عالم الحقيقة لهي من طراز هذه الكلمة التي لا طنين فيها ولا كلفة، فإذا سمعتها قلت: «أجل!» هذه كلمة ناظر وعارف، هذه كلمة السر التي يصطلحون عليها في ذلك المكان، هذه «هي الأسرار المكشوفة لكل إنسان ويكاد لا يراها إنسان» كما قال.
فمن شاء أن يستدل على عبقري كهذا بكلامه فليتريث كثيرا ولا يقنع بالنموذج اليسير، فكل فكرة هنا أصغر من المفكر ، وكل ثمرة هنا وراءها شجرة كبيرة ووراء الشجرة حديقة أكبر! وقد تدل الثمرة على شجرة واحدة حملتها، أما الحديقة بما وسعت فلا تدل عليها إلا ثمرات من عدة أشجار. •••
نعم نحن حيال حديقة عامرة لا شجرة واحدة، نحن حيال شاعر وحكيم ومصور وعارف بالموسيقى ووزير وباحث في النبات والتشريح وطبقات الأرض والنور.
وفي كل علم من هذه العلوم كان لبحثه أثر ولرأيه قيمة؛ ففي النبات اهتدى إلى نظرية «التحور» ورد أجزاء الشجرة المختلفة إلى جزأين في أساس التكوين، وراقب النمو المطرد والنمو المعكوس وغيرهما من ضروب الطوارئ على حياة النبات، والتفت إلى أثر العصير الغذائي الكثيف والعصير الغذائي الملطف في اختلاف الجذوع والأوراق والأزهار.
وفي التشريح اهتدى إلى العظمة الوسطى في الفك الأعلى التي تنبت فيها القواطع، وكان المظنون أنها لا توجد إلا في الحيوان، ورجع بتركيب الدماغ إلى الفقار في الحيوان والإنسان، فكان في تقريراته هذه في علمي النبات والتشريح رائدا لمذهب التطور، وطليعة من طلائع العلم الحديث.
أما في طبقات الأرض فقد كان له رأي محترم في تركيب الحجارة المحببة والمعادن، وكان مصرا على مناقضة نيوتن في تعليل الألوان يأبى كل الإباء أن يرتاب في بساطة النور أو يقبل التعليل القائل بتركيبه من عدة ألوان، وإنما اللون عنده مزيج من النور والظلام: يكثر فيه قسط النور ويقل قسط الظلام فهو اللون الأصفر، ويكثر فيه قسط الظلام ويقل قسط النور فهو اللون الأزرق، ومن الأصفر والأزرق يتولد الأخضر، ومن هذه الألوان تتولد سائر الألوان، وكلما قارب اللون الظلام كان أثره في النفس إلى الحزن وكلما قارب النور كان أثره إلى البهجة والانشراح.
وقد أعرض علماء الطبيعة عن هذا الرأي ولم يأخذ به إلا نفر من غير الإخصائين، ولكنه على كل حال رأي لا يستحق الازدراء.
وقد عرف له فضله علماء عصره وما بعده فيما عدا هذا فقال كاروس: «إننا إذا رجعنا إلى أقصى ما نستطيع في تاريخ الجهود التي قام بها الباحثون لإدراك فلسفة ما لتركيب الدماغ وجدنا أن الفكرة الأولى عن تحور أشكال العظم وردها جميعا إلى شكل واحد إنما هي فكرة يرجع فضلها إلى جيتي.»
وقال سانت هلير: «لعله لم يصدر من عشر سنوات كتاب واحد في علم وصف الأعضاء أو علم النبات خلو من وسم هذا الكاتب المشهور.»
جيتي في الحديقة.
وقال هلمهولتز: «إن جهود علماء النبات وعلماء الحيوان لم تزد على أن تجمع المواد والمشاهدات حتى تعلموا كيف يرتبونها على أنماط يتبين منها التسلسل ووحدة النسق. وهنا وجد عقل شاعرنا الكبير مجالا يوائمه وكان الوقت مؤاتيا له والمواد المجتمعة في علم النبات وعلم التحليل المقارن كافية للاستعراض الواضح، فأدخل في العلم فكرتين هاديتين تحفلان بالثمار، حيث كان معاصروه يهيمون على غير هدى أو يقنعون بتسجيل الوقائع اليابسة.» •••
ونحن لو قصرنا النظر على كتبه في الأدب لاتسع أمام أعيننا أفق يترامى في كل جانب، فما من خاطرة جالت في عقل إنسان إلا كان لها مجال في عقله، وكان له فيها رأي العارف المختبر إن لم يكن له فيها رأي المصيب المعصوم.
ومعظم أخطائه هي أخطاء النظر المستريح إلى جزء واحد لا أخطاء النظر العاجز عن التأمل والاستبانة، أو هي أخطاء السائر الذي لم يبلغ أمده ولا يزال في طريقه لا أخطاء المحجوب عن الحقيقة بعيدها وقريبها، وما شئت بعد هذا من رأي نافذ في الأخلاق والعقائد والاجتماع وسرائر النفس والتاريخ والفن والأمم والرجال، يفهم ما حوله ويشعر به ويستمرئه كأنه لا محيد له عن الفهم والشعور والاستمراء، لا كأنه يتحفز لعمل له أوقاته ومحاولاته، ثم يلقي بالرأي كأنه يتنفس أو يؤدي وظيفة من وظائف حياته له بأدائها غبطة وارتياح، لا كأنه ينهض بعبء أو يعالج مشقة مفروضة عليه، وهذه هي الآراء التي تفيض بها كتبه وأحاديثه ويحتويها هو كلها ولا يتأتى لرأي منها أن يحتويه كل الاحتواء. •••
على أننا نقف هنا لنقر جوانبه المتعددة في نصابها ولا نرسل القول فيه على إطلاقه؛ فهنالك أشياء لا بد من العلم بها مع العلم بهذه الصفة في الشاعر، لكي نعرف نصيبه هو منها ونصيب أمته وزمانه ومعيشته، ثم نعرف التفاوت بين عبقريته وبين العبقريات التي اتصفت بتعدد الجوانب وسعة النطاق.
فلا بد أن نذكر أن الاستبحار في العلوم خصلة عرف بها الألمان بين الأمم الأوروبية ولاحظوها في تعليم الأطفال الصغار، فكثر فيهم من يجمعون بين مختلف الدراسات والفنون.
ولا بد أن نذكر أن القرن الثامن عشر الذي نشأ فيه جيتي لم يكن عصر إخصاء وتشعب بل كان عصر إحاطة وإجمال وتمهيد من الإجمال إلى التفصيل، فالاشتغال فيه بالفنون الكثيرة أمر غير غريب ولا سيما الفنون في طور الابتداء، ولنلاحظ أن جيتي لم يخلق «فوست» خلقا من الخيال وإنما كان فوست مثالا للعالم الألماني المتبحر في القرون الوسطى، أي قبل جيتي بأجيال، وقد كان فوست محيطا بكل ما في عصره من علوم.
أحد تماثيل جيتي في شبابه.
ولا بد أن نذكر أن أكثر الفنون التي عالجها جيتي كانت مفروضة في عمله الوزاري ولم يكن يشغله عنها شاغل من مطالب المعيشة، فوسائل البحث عنده ميسورة والوقت كذلك ميسور، بل ربما كان البحث سلواه في إزجاء الفراغ.
ولا بد أن نذكر أن طبيعة التفكير التي واجه بها تلك الآفاق الواسعة هي طبيعة واحدة على تعدد الموضوعات، فهي طبيعة الفني المتذوق المتملي الذي يستمتع بتكوين عواطفه ومعارفه كما يستمتع الفنان بتكوين تمثاله، وسبيلنا إلى فهم هذه العبقرية أن نقرن بينها وبين عبقرية أخرى متعددة الجوانب واسعة الآفاق يذكر اسم صاحبها مع اسم جيتي في هذه الأيام، ونعني بها عبقرية «ليوناردو دافنشي» المصور الموسيقي المهندس الفيلسوف الدارس للأحياء وظواهر الطبيعة في كل شيء، فهذه العبقرية قد جمعت طبيعة الفنان المأخوذ بجمال الظواهر وتعبيراتها إلى طبيعة العالم المدرب على التجربة وربط الأسباب إلى طبيعة الرياضي القادر على الفروض والتقديرات. أما جيتي فقد كان فنيا في أدبه فنيا في عمله فنيا في فروضه، وكان محروما من ملكة الفرض الرياضي لأنه يناقض عبقريته المطبوعة على فهم ما بين يديه وترك البعيد المقدر حتى يجيء إليه، ولا ندري ماذا كان يصنع جيتي لو كان كليوناردو فقيرا يضطره البحث إلى إهمال عمله الذي يعيش منه، ولكننا ندري أن ليوناردو كان خليقا أن يصنع أضعاف ما صنع لو رزق سعة الوقت ويسر الوسيلة. •••
فمباحث جيتي على تعددها تمت بنسبها إلى طبيعة واحدة، وهي طبيعة العبقرية الفنية الذواقة التي تلتذ جمال الحاضر وتحيله إلى رياضة متزنة ومحصول جميل.
وإذا ذكرت العبقرية الذواقة في صدد الكلام على جيتي فلك أن تفهم كلمة الذوق بأعم المعاني وأخصها في آن واحد، فقد كان الرجل جيد الذوق في حسه كما كان جيد الذوق في تفكيره، والروايات التي تنقل عن جودة حسه تدهش السامع وتعيد إلى الذاكرة غرائب الأقدمين في بعض الأحيان. فمن ذاك ما رواه «شواب» عن تمييزه لطعوم النبيذ حيث قال: «إن جيتي لخبير بالنبيذ لا يجارى، وقد شهدنا على ذلك مثلا رائعا في وليمة عند الأمير كارل أوغست حضرها بعض الأخصاء، فبعد الفراغ من الطعام وارتشاف كئوس النبيذ الفاخر استأذن قائد البلاط مسيو دي سبييجل في إحضار صنف من النبيذ دون التصريح باسمه، فجاء بنبيذ أحمر وعرضه على الحاضرين فترشفوه فإذا هو جد فاخر، وزعم أكثرهم أنه خمرة برغونية ولكنهم لم يتفقوا على رأي في بادئ الأمر، ثم عادوا إلى الإجماع على هذا الرأي لما رأوا كثيرا من ذوي الأذواق في القصر يجنحون إليه بينهم الأمير. إلا أن جيتي ما فتئ وحده يترشف كأسه ويعيد ترشفها ويومئ برأسه إيماءة إنكار، ثم وضع الكأس فارغة على المائدة وهو يراجع نفسه، فقال قائد البلاط: يلوح لي أن صاحب السعادة يرى غير هذا فهل أجسر على سؤاله من أي الأصناف هذا النبيذ؟ فأجاب جيتي: إنني أجهله، ولكني لا أحسبه من خمر بورغونية، إنما أرجح أنه من خمر يينا معصورة من أعناب شتى منتقاة لبثت زمنا في دن خمرة مديرية. وكان هذه هي الحقيقة.»
والروايات الأخرى التي تروى عن جودة سمعه منذ طفولته تدل كذلك على تمييز نادر للأصوات والأنغام، فقد كان في صباه الباكر يحكي أصوات الممثلين والمغنين ويدرك بحور الشعر ويقيم أوزانه، وكانت قدرته على الصياغة العذبة في جميع أيامه فوق كل قدرة عرفت بين شعراء الألمان إلا من ندر، حتى قال شيلر قرينه ورصيفه: إننا نعني أنفسنا بصوغ الأناشيد وجيتي لا يتكلف لها إلا كما تهز الشجرة فتساقط الرطب الجني.
فهذه الطبيعة الذواقة التي تتملى ما بين يديها لحظة لحظة هي طبيعة جيتي الشاعر وجيتي المفكر وجيتي العالم وجيتي الفيلسوف، وهي التي تتجلى في كشوفه العلمية كما تتجلى في أناشيده وأغانيه، فليس ها هنا إلا ملكة واحدة تدير نفسها على نواح كثيرة، وهي نعم ملكة نادرة في قدرتها ونفاذها واتساعها ولكنها بعد ملكة واحدة تتجلى بعينها في كل مقام.
وإلا فما هو تحور النبات وتطور العظام إن لم يكن هو العناية بالجزء بعد الجزء والقول بأن المجموع لا يدرس إلا في الأجزاء وإن دراسة الجزء المحدود تلهمنا العلم بالكل الذي لا حد له من حيث نريد أو لا نريد؟
وما هو الإصرار على بساطة النور وكراهة الآلات التي تدخل بين العين والمرئيات إن لم يكن هو تقديس الفنان للنور وحبه لاستجلاء الجمال في مشهد العين بغير وساطة من منظار أو موشور؟
لقد كان جيتي لا يمل القول بكفاية «الظواهر الطبيعية» وقلة الحاجة إلى التعمق فيما وراءها، فكان يقول: «أعلى تجارب الإنسان الروعة، فإذا كانت الظواهر الطبيعية تروعه فدعه يقنع بها، فهو لن يسمو عليها ولا ينبغي أن يذهب وراء هذه التجربة.» وكان يقول: «يجب ألا نحاول النفاذ إلى ما وراء الظواهر فهي في ذاتها الدرس المطلوب.» وكان أبدا يعجب للذين ينقبون عن الأسرار الخفية والظواهر المكشوفة كلها أسرار تناديهم فلا يلتفتون، فهل هذا إلا كلام فنان يأبى أن يزاول العلم والفلسفة إلا مزاولة طلاب الروعة والجمال؟
أحد تماثيل جيتي في شيخوخته.
بلى! وخلاصة درسه كله ما قال في هذه الأبيات: «كأي من سنة أطلقت فيها فكري بين الاستجلاء والدرس يتعمق ويتفقه كيف تعيش الطبيعة في خلائقها! فهي الواحد الخالد يتكرر في الكثرة المفرقة، فصغير ما هو عظيم، وعظيم ما هو صغير، وكل شيء على منواله يتبدل أبدا ولا يني أبدا يزاوج بين البعيد والقريب وبين القريب والبعيد، ويتخذ له صورة ثم ينسخ هذه الصورة، ما أحسبني أصنع هنا إلا أن أراع وأعجب بما أراه!»
أجل! ما كان لجيتي في هذه الدنيا من عمل إلا أن يراع ويعجب، وإن كل ما فيه من سخر باسم خفي لن ينقض ذرة من صرح إعجابه الفخم العميم؛ لأنه سخر من عرف كثيرا وشعر كثيرا وأعجب كثيرا لا سخر من لم يعرف ولم يشعر ولم يدر ما الإعجاب، وقد كان إعجابه هذا عملا جميلا ولم يكن لغوا ذاهبا في الهواء، كان عملا قوامه الدرس ورياضة النفس والإقبال عليها بالتثقيف والتحسين، وكان سبيله إلى فهم شيء والشعور به أن يعمله ويعيش فيه؛ فالعمل طريق المعرفة والتجمل، والحياة لا تكون إلا تفكيرا يعقبه عمل وعمل يعقبه تفكير كما يتعاقب الشهيق والزفير! هكذا كان يقول في كتبه وأحاديثه. وهكذا كان يسأل في رواية فوست: ما معنى آية الإنجيل «في البدء كانت الكلمة»؟ هل معناها في البدء كانت الفكرة؟ هل معناها في البدء كان العمل؟ وإلى هنا انتهى السؤال. •••
لا بد أن نذكر كل ما تقدم لنعلم كنه هذه العبقرية وكنه وصفها بالسعة وتعدد الجوانب؛ فهي عبقرية فنية قبل كل شيء، وهي بعد فنية عملية قابلة للتطبيق والبروز فلا تفارق الأرض وإن طمحت إلى أرفع المعاني، وهي في هذا كله عبقرية مستجيبة تتلقى وتنتظر وليست بالعبقرية الطاغية التي تصول وتتعجل؛ ففي موضوعات جيتي إجادة كثيرة وليس فيها اختراع كثير.
وستعيش آراء جيتي العلمية في مراجع البحث وسجلات العلماء ولا يعيش هو إلا في عالم الشعر بل في عالم الغناء؛ لأنه شاعر الأغاني غير مدافع، فليس للشاعر الغنائي ملكة مطلوبة إلا وهي فيه على حظ وافر، وحسبه في هذا حلاوة النغم وبلاغة اللفظ وسهولة التعبير وقلة التكلف التي هي طبع في خلائقه وطبع في أدائه، أما غير ذلك من الملكات فله فيها مدافعون ومنازعون ؛ إذ ليس في آرائه العلمية رأي واحد إلا وله شريك ينازعه السبق إليه، فإن «فيك دازير» قد أعلن كشف العظمة الفكية في مجمع العلوم بباريس قبل جيتي بخمس سنوات، ولينيس سبقه إلى رأي صائب في تحور النبات، و«أوكن» سبقه إلى رأي في تركيب الدماغ من الفقريات وهو رأي لا يسلمه الآن جميع العلماء، وأفلاطون وأرسطو وليوناردو دافنشي كانوا يقولون بأن اللون مزيج من النور والظلام وهم وجيتي في هذا القول مخطئون. وأيا كان علم جيتي بهذه الكشوف أو جهله بها قبل اهتدائه إليها فالفضل فيها منازع ومكانه بين العلماء لو سلمت له بغير نزاع لا يرتقي إلى مكان العلية والأفذاذ.
جيتي في ملابس الديوان.
كذلك الشعر لا يسلم له فيه إلا فضل الغناء وحلاوة الصياغة، فرواياته التمثيلية ستنسى في عالم التمثيل وترجع إلى أصلها أغاني متفرقات وقصائد وكلمات، وإذا مثلت يوما كما كانت تمثل من قبل فعلى سبيل الذكرى والاستطلاع والتفرج بالنظر إلى الآثار. أما أناشيده ورسائله أو أشجانه الرومانية وأساطيره المنظومة وكل ما هو في كتاباته من قبيل الغناء فله حظ البقاء وبه يقترن اسمه بين خوالد الأسماء.
قال هيني سيد الفكاهة والنقد الطريف بين كتاب الغرب أجمعين: «نحن أبرع شعراء الغناء في العالم، فليس لأمة أن تفخر بشعر في الغناء كشعر الألمان، وإن الأمم لفي شغل الآن بقضاياها السياسية عن كل شاغل، فإذا جاء يوم طرحت فيه هذه القضايا جانبا فيومئذ نذهب جميعا إلى الغاب، نذهب كلنا من ألمان وبريطان وأندلسيين وفرنسيين وطليان إلى الغاب الخضراء ونغني هناك وندع الحكم للبلبل، وعلى يقين أنا أن أغاريد ولفجانج جيتي ستخرج بالجائزة من هذه المباراة الشادية.» •••
والآن فلنستمع إلى الرأي الوحيد في جيتي الذي لا يقول به اليوم أحد في العالم، وذلك هو رأي جيتي في نفسه! فهو الرأي الوحيد الذي يستحق كل رفض ولا يستحق أي قبول.
كان جيتي إلى الرابعة والعشرين من عمره لا يستقر على رأي في كنه عبقريته، فلما برح «فتزلار» يائسا من حب شارلوت مضى على النهر يطيل محاسبة نفسه ويفكر في حاضره ومستقبله، فلاح له منظر يخلب قريحة الشاعر ويغري ريشة المصور، فخطر له أن يسأل نفسه أمصور هو أم لا مستقبل له في التصوير؟ ثم خطر له أن يستشير القدر على مثال الأقدمين، فأخرج من جيبه مبراة وقال لنفسه: إذا أنا رأيتها وهي تهوي إلى النهر فأنا فنان، وإذا هي غابت عن نظري وراء الصفصاف فلست بذاك، ثم قذف بها فجاءه الجواب لا إلى النفي ولا إلى الإثبات، وإذا بالمبراة تقع أولا وراء الصفصاف ثم يثب بها الماء فيراها بملء عينيه!
كان هذا ظنه بنفسه أيام الشباب، فلما شاخ واستوى على ذروة الشهرة الأدبية قال لصاحبه أكرمان: «إنني لا أعول كثيرا على ما بلغت في الشعر، فقد نبغ في زماننا شعراء عظام وسبقنا وسيلحق بنا شعراء أعظم، ولكنني إذا نظرت إلى أنني - في هذا القرن - كنت الفرد الوحيد الذي عرف الصواب من الخطأ في علم الألوان العويص ألفيتني فخورا وعرفت رجحاني على الكثيرين.»
ونحن ننقل هذا الرأي لأنه حكمة طيبة في الحياة لا لأنه حكم طيب في الأدب، فجيتي ينسى أخلد ما فيه ويفخر بأفشل ما فيه، ينسى الشعر ويفخر بالعلم، ثم لا يفخر من العلم إلا بما بان فيه فشله ووضح فيه خطله، فلو أنه فخر بآرائه في النبات أو التشريح لصدق فخره وظهر عذره، ولكنه يزهى برأيه في الألوان وهو أضعف الآراء وأدناها إلى الدثور والفناء. الحق أن الإنسان لا يحسن الأمنية لنفسه ولو كان من الحكماء!
شخصية جيتي
كان جيتي ربعة يميل إلى السمرة على خلاف أهل الشمال، وثيق البنيان مهيب الطلعة، أهيب ما في وجهه عيناه الدعجاوان اللتان تشبهان عيون أهل الجنوب، ولم تحفظ عين جمالها وسلامة نظرها كما حفظتهما هاتان العينان، وصفهما شيلر في خطاب إلى صديقه كورنر فقال: «إنهما تفيضان بالمعاني والحياة على ما في وجهه من وصاد.» وكان جيتي يومئذ في نحو الأربعين، ووصفهما ثاكري الأديب الإنجليزي المشهور فقال: «إنني شعرت بالخوف حين رأيت تينك العينين !» وكان جيتي يومئذ في الثانية والثمانين، ووصفهما ريختر بين هذا وذاك فقال: «إنهما كرتان من النور!»
وكانت له بنية عامرة وجسد صلب حسن الهندام ممشوق القوام ولا سيما في سن الشباب، مع أنه ولد هزيلا مشكوكا في حياته وعاش شديد الحس والتنبه إلى يوم مماته، ولصلابته هذه استطاع أن يكافح النزيف الرئوي الذي اعتراه في أيام الطلب بمدينة ليبزج وعاوده المرة بعد المرة في الكهولة والهرم، فصينت له الصحة واعتدال المزاج في معظم أيام الحياة.
وقد بدأ رياضة النفس وتربيتها على الصبر والاتزان ومغالبة النزوات وثورات الشعور وهو في عنفوان الفتوة لم يبلغ الرابعة والعشرين، فلما رأى من نفسه فرط التأذي بالأصوات الصادعة والروائح الساطعة تعمد أن يقف طويلا إلى جانب الطبول الداوية والأجراس العالية ليروض أذنيه على أشد الأصوات وأثقل المزعجات، وتعمد كذلك أن يصعد إلى القمم الشاهقة ويطل على الأرض من عل ليغالب الدوار حتى تغلب عليه، ومع هذا عاش طول عمره يكره الرائحة القوية ويتأذى بها شديدا ولا سيما رائحة التبغ والثوم، فقد كان يضرب المثل بالثوم لكل كريه حتى العقائد والآراء! وأرادت زوجه مرة أن تربي بعض الخنازير إلى جانب البيت فاشتم رائحتها واستوبلها وهي غير قريبة منه، وأمر بإقصائها على الفور.
وانصرفت نيته إلى اجتناب ثورات الشعور ومعالجة الألم والغضب فأفلح واستولى على أزمة نفسه بعد رعونة الشباب العارضة، وكثيرا ما كان يجني عليه كظم الشعور وإخفاء الألم فيسقمه وينال من عافيته، كما حدث في وفاة ابنه الوحيد بعد أن جاوز الأربعين، فإنه لم يزد عند سماع الخبر على أن نضحت عيناه بالدمع لحظة ثم سكن ولاذ بالصمت والجمود، وما هي إلا أيام حتى اعتراه نزيف كاد يرديه.
وكان همه الأكبر من تربية النفس أن يعيش على سنة القصد والاتزان أمينا في ذلك على إعجابه واقتدائه بقدماء اليونان، فتم له ما كان يصبو إليه وظهر القصد في معيشته كما ظهر في تفكيره، فلا إسراف في رأي ولا إسراف في متعة، ولا جور من جانب الخيال على الحس ولا من جانب الحس على الخيال، ولا غلو في إنكار الجسد ولا غلو في إرضائه، بل كان عمل وكل رغبة بحساب وميزان.
ولم يكن جيتي يتحرج من المزاح والفكاهة في شبابه، فكان حبيبا إلى أطفال كل بيت يزوره لتفننه في اختراع الألاعيب والأضاحيك، ووصف الكاتب الألماني جان غليوم جليم منظرا من مناظر دعابته شهده عند الدوقة «أميلي» أم الأمير في سنة 1777 أي حين كان جيتي في الثامنة والعشرين، وكان جليم يتلو على الحاضرين شذرات في تقويم أدبي يسمى تقويم عرائس الفنون، فاستأذنه جيتي في الترفيه عنه وتناول التقويم ليقرأ منه، فقرأ قليلا ثم أخذ يرتجل المقطوعات من حاضر ما ينظم أو قديمه في الدعابات والمفارقات وهو يتظاهر بالتلاوة في التقويم والحاضرون يعجبون ولا يصدقون ما يسمعون، حتى فطنوا إلى الحيلة فأغربوا في الضحك واستطابوا الفكاهة، فقال جليم للشاعر فيلاند الذي كان يجلس أمامه: «إن هذا لهو جيتي أو الشيطان بعينه.» فقال فيلاند: «هما معا! لأنه في يوم من أيامه التي يملأه فيها الشيطان.»
هكذا كان في بعض أوقات شبابه، ولكنه اعتصم بعد ذلك بجفوة باردة تخيل إلى من يراه أنه ليس من بني الإنسان، وجعل لا يتحدث ولا يخف إلى حديث غير الحفائر والعظام وما إليها، حتى قال ريختر لصاحبه الذي عرفه إليه: ألا تحجرني أو تكسوني بغشاء المحافير علني أروقه. وقالت أرليك فون لفتنزوف إنها لو عرفت فيه جيتي العظيم لرضيت به زوجا ولو من أجل الزهو والكبرياء، ولكنها لم تر إلا شيخا لا يني يتكلم عن النجوم والحجارة والأزهار ... فلم تصغ إليه، وأرليك هذه هي الفتاة التي أحبها وهو في الرابعة والسبعين.
ولما زاره هيني قال في فكاهته المعهودة: «إنني نظرت حوله على غير اختيار مني لعلي أرى إلى جانبه نسر جوبيتر - كبير أرباب اليونان - الذي يحمل الصاعقة في منقاره، وهممت أن أخاطبه بالإغريقية لولا أنني أدركت أنه يفهم الألمانية!» ووصف الكاتب الروسي الحديث مرجكفسكي هذه الجفوة الباردة في محضر جيتي فقال: «إنه ليشبه تماثيله الرخامية تماما!»
ولو وقف الأمر عند هذا البرود في محضره لهان ولم يكن فيه على الرجل كبير ملام، إنما الملام الأكبر أن تبحث في تاريخه عن صلة حية بينه وبين بني الإنسان في ذلك العصر الفوار بالحوادث الإنسانية فلا تجد، فقد عكف على نفسه لا يعنى بغير ما يعنيها لتوه وساعته ولا يكلفها جهدا للخوض في هذا الغمار ولو من قبيل التفكير والغيرة من بعيد، وكانت أمم العالم تعج بالخطوب وتعتلج بالآمال والآلام وهو قابع وراء أسوار نفسه لا يريمها ولا يطل منها إطلالة عطف أو اهتمام، وشهد يوما شجارا بين الخدم والحوذية فكتب في مذكرته: «إن هذا الشجار قد حركه فوق ما حركته تجزئة الدولة المقدسة!» ودخل عليه سوريه وقد سمع بأنباء ثورة يوليو الفرنسية فقصد أن يزوره ويتحدث إليه، فبادره جيتي عند دخوله قائلا: «آه، حسن! ما رأيك في هذا النبأ العظيم، لقد أرسل البركان حممه واشتعلت النار في كل شيء، وليست هذه بعد محاضرة في حجرة مسورة.» فقال سوريه: «إنه لحادث مرعب، ولكن ماذا يتوقع من وزارة كتلك إلا أن يئول الأمر إلى نفي الأسرة المالكة؟» فعجب جيتي وقال له وكأنه يتهكم: «يا صديقي العزيز جدا! يلوح لي أننا لا نتفاهم، فما عن هذا تكلمت وإنما أتكلم عن أمر آخر، إنما أتكلم عن البحوث التي بدأت بين كوفييه وجفري سانت هيلر في جلسة المجمع العامة.» يشير إلى بحوث هذين العالمين في أصل الأنواع.
وقد اضطربت البلاد الجرمانية بالثورة على نابليون فكان هو في جانب القوة يسخر بهذه النخوة ويقول للأدباء الناشئين الذين تقلدوا السلاح: «لا تقعقعوا بسلاسلكم فإن الرجل كبير عليكم!» وتكلم أمامه أناس في القائد ولنجتون فجعل يرحض عنه ويثني عليه لأنه كيفما كان هو قاهر نابليون وغالب الهند، وقال: «كل من كانت معه القوة العليا فالحق معه ... وعلينا نحن أن نحني له الرؤوس!»
ولامه الناس على جموده في إبان النهضة الوطنية فكان يقول: «إنها لدنيا سخيفة لا تعرف ما تروم ولا حيلة معها إلا أن ندعها تلغو كما تشاء، فكيف كنت تراني أحمل السلاح بغير بغضاء؟ ومن أين لي بالبغضاء في غير شباب؟ لو حدثت هذه الأمور لي وأنا في العشرين لما كنت آخر من يهب ويهيب، ولكنها حدثت وأنا قد جاوزت الستين ... وفيما بيني وبينك أنا لا أبغض الفرنسيين وإن كنت حمدت الله حين خلصت منهم البلاد.»
وليس قول جيتي هذا إلا احتجاج محرج لا يدري ما يقول، وإلا فكيف عرف أن يحب الفتاة الحسناء ويخطبها للزواج في الرابعة والسبعين ولم يعرف أن يبغض أعداء بلاده في الستين؟ وهل كان شأنه في هموم الألم وآلام المظلومين يوم جاوز الستين إلا كشأنه فيها وهو دون الخمسين ودون الأربعين؟
على سرير الموت.
لقد قارن ماتسيني بطل إيطاليا الوطني وقديسها بين جيتي وبيرون في هذه الخصلة فقال: «وقفت يوما على قرية سويسرية أراقب العاصفة وهي تقترب وتؤذن بالهبوب، وفي السماء غيوم كثيفات سود تذهب حواشيها أشعة الأصيل ويطبقن سراعا على أصفى سماء في جو أوروبا ما خلا جو إيطاليا الجميل، وكان الرعد يقصف من بعيد وأمواج الرياح القارسة تقذف بالمطر الغزير على السهل الظمئ.
وأنظر فوقي فإذا بباز كبير من بزاة الألب يعلو تارة ويهبط أخرى وهو يقتحم العاصفة في كبة الرياح الهوج، كأنما كان يهجم عليها هجمة القريع على القريع، وكلما جلجل الرعد جد الطائر النبيل في العلو كأنما يجيبه ويتحداه، فظللت أتبعه بنظري برهة حتى غاب في ناحية الشرق عن العيان.
ثم نظرت إلى الأرض على نحو خمسين خطوة مني فإذا بالطائر أبي حديج قابع هناك على هينة واستقرار بين حرب العناصر الزبون، ورأيته مرتين أو ثلاثا يرفع رأسه قبل مهب الريح بهيئة لا توصف من الاستطلاع الضعيف وقلة الاكتراث! ثم أعرض عن هذا ورفع إحدى ساقيه النحيلتين وزوى رأسه تحت جناحه وتهيأ للنعاس في هينة واستقرار.
ذكرت بيرون وجيتي حينذاك وذكرت حياة أحدهما تموج بالزعازع وحياة الآخر تغمرها السكينة والسلام، وذكرت الينبوعين الزاخرين اللذين ختم عليهما واستنفدهما هذان الشاعران.»
ذلك أصدق تصوير لشاعرين كبيرين من طينتين جد مختلفتين، وأنصار جيتي الغيورون على شهرته يشعرون بهذه النقيضة فيه فيتعملون لسترها بالمعاذير، وقد يسخف بعضهم فينقلب من تلمس الأعذار لها إلى اعتبارها مزية تستوجب الثناء! لأنها علامة الرفعة عن هموم الحياة الصغرى وشواغل الجماهير والعلو بالفكر إلى أفق أكمل من ذلك وأكرم وهو أفق الجمال والمعاني الخالدة والعزلة الإلهية، ولو صح أن الترفع عن هموم الجماهير مزية تحمد لجاز أن يحمل برود جيتي على ذلك المحمل وأن يجزى عليه بالثناء والإعجاب، ولكنه غير صحيح ولا قريب من الصحة، فإن من فاته الشعور بآلام بني الإنسان وبشاعة الظلم فقد فاته شعور الصدق وفاته شعور الخير وكلاهما عنصران من عناصر الشعور الجميل وإذا كان تمثيل الشقاء في الصورة الفنية عملا جميلا فليس الشعور بالشقاء والعطف على الأشقياء بالعمل القبيح.
وهب ما يقولون صالحا لتفسير فتوره في علاقاته مع الأفراد وقعوده عن البر حتى حين يكون البر واجبا يفرضه الولاء للعبقرية والمروءة؟ لقد استغاث به بيتهوفن في محنته وكتب إليه يقول وهو يظن أنه يغض من عزة نفسه بين يدي إنسان يفقه معنى العزة والعبقرية: «الحق أنني كتبت كثيرا في الموسيقى ولكنني لم أجن شيئا، ولست الآن وحيدا لأنني أصبحت من سنوات ست أبا لابن أخي الفقيد ... كلمات قليلة منك تسعدني.» فماذا كان جواب جيتي لتوسل ذلك الشيخ المعذب المحروم؟ ولا كلمة! أيصدق القارئ؟ نعم ولا كلمة! وقد اعتذر بعضهم عن جيتي بمرضه يوم وصول الخطاب إليه، فإن كان هذا عذرا فماذا كان عذره بعد ذلك بأيام أو بأسابيع أو بأشهر؟ لا عذر هنا يجوز فيه الكلام.
وكتب إليه «فويت» صديقه وزميله في الديوان وهو على فراش الموت يقول له: «... أردت أن أكتب إليك هذه الكلمة الأخيرة وفي رمق ... آه يا عزيزي جيتي ... ولكننا سنعيش معا في عالم الروح ...» فماذا صنع العزيز جيتي بهذه الدعوة المتوجهة إليه من صديق يسلم الروح وينتظر الموت ساعة بعد ساعة؟ لبث يوما لا يجيب، ثم أرسل إليه ورقة مع خادم! وما كانت دار صديقه المحتضر إلا على قاب خطوات من بيته، فماذا كان يضيره لو لبى أمنيته الأخيرة وذهب إليه؟ لا ضير، وما نظن مثل هذه الخلة مما يرضى به ذوق جميل.
وقس على ذلك علاقاته بهردر وشيلر وكلاهما ذو يد عليه في تنبيهه واستنهاضه، فما كانت علاقاته بهما تخلو من ملامة وتقصير، بل قس على ذلك علاقاته بكل إنسان حتى أمه وأبيه وأولياء نعمته وأقرب الناس إليه.
فهو رجل واضح الأثرة لم يزعج نفسه قط لخطب فرد ولا لخطب أمة، ولم يخفق قلبه خفوق الإيثار برحم ولا محبة، وغرامه بالنساء الكثيرات لا ينفي ذلك بل يؤيده ويضيف إليه، فإنه كان غرام فن ورياضة ولم يكن غرام مودة وحياة، وأي فضل للإنسان في أن ينشد المتعة والسلوى والسرور؟ وأي غرابة في حب الرجل للمرأة وهي إلف مخلوق لإلفه، وإنسان آخر بينها وبين الرجل عطف وليس بينها وبينه منافسة ولا سباق؟ هنا يستفيد الرجل ويضم إليه إنسانا يتممه، ولا يخشى على أثرته من ذلك الإنسان.
حجرات منزل جيتي من الداخل.
ومع هذا كان جيتي يهرب من الحب كلما كلفه بعض العناء، وكانت بغيته في الحب «الحضور» كما قال وأعاد. فمن غاب عن عينه فليس بحاضر في قلبه ولا يلبث أن يحجبه النسيان، ومثل هذا الحب الذي أحبه جيتي ولم يعرف سواه لا ينفي الأثرة وانقطاع أواصر المودة والرحم بينه وبين بني آدم.
بل لعلنا لا نخطئ إذا قلنا أنه كان فرديا حتى فيما أحب من الحيوان، فما آثر القطط على الكلاب إلا لأن القطط فردية جافية والكلاب فيها عطف وألفة!
وأكبر الظن أن جيتي ورث هذه الخلة وراثة عن أبيه ثم نمت مع الزمن فيه، فقد روت لنا «بتينا برنتانو» نقلا عن أمه أنه لما كان صبيا صغيرا مات أخوه ورفيقه في اللعب «جاك» فلم يذرف عليه دمعة وامتعض من بكاء أهله، ولما سألته أمه: أما كان يحب أخاه؟ جرى إلى حجرته وجاءها بأوراق فيها رسوم ونوادر كان قد أعدها لتعليم أخيه حين يكبر ! فكأنه لم يحب من أخيه في تلك السن الصغيرة إلا موضوع فن وتربية!
فهذه الخواتيم من تلك البوادر ويزيدها أن جيتي قد عوفي من شدائد العيش وحرقات الخيبة وأهوال التجارب ففتر ما بينه وبين الناس من حرارة العطف والولاء وقرابة الألم والعزاء، ولنرجع هنا إلى ما كتبناه في صدر هذه الرسالة عن النفس الألمانية وحقيقة شعورها بالوطنية والجامعة القومية، ففي ذلك تفسير لفتور الوطنية في قلب جيتي وعذر له من تلك النقيصة التي لا مراء فيها؛ إذ كان في الدعوة الجرمانية شيء ينافي الوطنية في بعض الأحيان؛ لأنها توشك أن تقضي على استقلال الدويلات والإمارات الصغار، وإذ كان لجيتي مندوحة من شواغله الأدبية عن مصادمة الوقائع ومعاناة المظالم، وكان منصبه ينأى به عن ذلك ولو لم تكن له شواغل أخرى تصرفه وتلهيه.
ولا ننس بعد هيبة الألمان للمناصب الكبار في القرن الثامن عشر ووراثة جيتي هذه الهيبة عن أبيه، ثم ها هو ذا قد تسنم تلك المناصب وارتفع إلى مراتب النبلاء، فهل يسير عليه أن يستخف بها ويفقه دعوة الحرية كما يفقهها رجل لا تغشى بصره غاشية هذه الهيبة ولا تجري في عروقه دماء تلك الوراثة؟ ثم حب الراحة الذي فطر صاحبنا عليه ماذا يصنع به وكيف ينفضه عنه؟! وكيف يسارع إلى عقيدة تحفزه إلى الكدح والجهد وليس له طاقة بهما ولا عهد له باختبارهما من قديم؟!
وإذا صح «توصيف» الباحثين لمرض جيتي في شبابه واستدلالهم عليه بأعراضه التي وردت في رسائله وكتبه وبما كان بعد ذلك من موت أولاده فمن شأن هذا المرض في أغلب الأحيان أن يضعف العطف ويدخل الجفوة على الطباع.
هذه معاذير نسوقها لإنصاف ذلك العبقري الكبير وتصويره على جليته بغير إجحاف، ولكننا لا نعرف بينها عذرا هو أوجه من حب الراحة أو السكون الذي فطر عليه ولا حيلة له فيه، فإن كان جيتي لم يكدح لغيره فهو لم يكدح لنفسه، وإن كان قد أحجم عن تدبير الخيرات فهو قد أحجم كذلك عن تدبير الشرور.
ولقد قال مرة إنه يلمح القاتل في أعماق ضميره، وما من فنان إلا وهو مستطيع أن يقول ذلك على معنى التصوير الفني لا معنى الإجرام؛ فإنه مطالب على الأقل بأن ينتزع من شخصه كل شخوص خياله، فعلى هذا الاعتبار كان جيتي يضمر الشر ويلمحه في أعماقه، أما أن يقارف الشر وينصب لتدبيره فبينه وبين ذاك حائل الطبع، وحائل الكياسة.
فكل ما يؤخذ على جيتي من نقيصة فهو نقيصة فنية بالمعنى الذي ألمعنا إليه أو نقيصة المطاوع المستجيب الذي لا يجاهد في مكافحة المغريات، وفي هذه الضرورة شفيع! وفي العبقرية شفيع آخر، فإن أثرة العبقري الكبير أثرة إنسانية تعني الناس جميعا لأنها تشتغل بكل ما يعني بني الإنسان، فعسى أن ينفعه هذان الشفيعان.
عقيدة جيتي وآراؤه
من عرف صفات جيتي وخصائص عبقريته لم يصعب عليه أن يعرف عقيدته في الدين وآراءه في الأخلاق والاجتماع والسياسة، أو لم يصعب عليه أن يعرف الأشياء التي يمكن أن تنطوي عليها تلك العقيدة والأشياء التي لا يمكن أن تنطوي عليها؛ فإنما عقيدته وآراؤه خلاصة من صفاته وخصائص عبقريته، وهو كان رجلا يأبى الجهد ويكره أن يزعج نفسه، وكانت له عبقرية مستجيبة مستسلمة تأخذ الدنيا جزءا جزءا كما يأخذها الفنان الذي يتملى جمالها والشعور بها ويجد في ظواهرها الكفاية لحبها وتعظيمها؛ فعقائده لن تخرج عن هذه الصفات ولا عن هذه الخصائص، وكل ما هو عويص أو مجهد أو بعيد عن طريق الفن والجمال فلك أن تستثنيه من آراء جيتي في جميع الشئون، وأنت مطمئن إلى ذلك كل الاطمئنان.
وقد قلنا: إن جيتي صاحب عبقرية متعددة الجوانب ولكنها تئول كلها إلى طبيعة واحدة؛ فمما يؤيد ذلك ولا ريب أنك تعرف عقائده من صفاته وجملة أفكاره، فإن الجوانب المتعددة التي ترجع إلى معادن متعددة تستعصي على مثل هذا التقدير ولا يغنيك العلم بالكثير منها عن العلم بأيسر يسير؛ إذ ربما كانت عقيدة صاحبها مناقضة لأخلاقه أو لفكره أو لمزاجه، أما في جيتي فالجوانب تختلف ما تختلف والآفاق تتسع ما تتسع ولكنها لا تشذ أبدا عن تلك الطبيعة الواحدة التي أجملناها في الكلام على عبقريته وأخلاقه. •••
جيتي مؤمن بالله مسلم بالقدر: «إن الله أحكم منا وأقدر، فله أن يتصرف بنا كما يشاء.»
هذا هو التسليم بالقدرة الكبرى والحكمة الإلهية في الوجود.
وللقدرة الإلهية دلائل كثيرة يلتمسها الباحثون في أخفى نواحي البحث وأظهرها ويعبرون إليها بحارا من الفسلفة والتصوف لا يسهل عبورها، فأما جيتي فثق أنه لا يغوص على إيمانه ولا يركب إليه المراكب العصية، فحسبه الجمال في العالم دليلا على الجبلة الإلهية فيه وفينا، أو كما قال لصديقه موللر: «إن القدرة على تجميل الحس وبث الحياة في المادة الصماء بتزويجها من الفكر لهي أقوى حجة على فطرتنا العلوية.» والدين عنده لا يكون إلا واحدا من اثنين: «فإما دين يعرف القدس ويعبده حيث يتراءى فيما حولنا بغير شكل ولا قالب، وإما دين يعرف القدس ويعبده حيث يتراءى في أجمل الأشكال والقوالب، وكل ما بين هذا وذاك فهو وثنية وجهالة»، وما دمنا نشعر بالجمال حولنا فنحن نشعر بالقدرة الإلهية في العالم وفي أنفسنا معا، قال كبلر: «أمنيتي أن أدرك الله في عالمي الداخلي كما أدركه في كل مكان من العالم الخارجي.» فقال جيتي متهكما: «إن الرجل الطيب لا يدري أنه حين يدرك الله فيما حوله فالإلهي فيه متصل هنالك بالإلهي في الكون أوثق الصلات.»
كذلك قال لجاكوبي: «إن الأقدمين في أوج رفعتهم كانوا ينشئون القداسة من الجمال، فزيوس كبير آلهتهم لم يبلغ التمام إلا في تمثال الأولمب.»
وقال لأكرمان في عام وفاته: «دع من يشاء يبدع إن استطاع بمحض العزيمة الإنسانية - أي بغير مدد إلهي - شيئا يضارع ما أبدعه موزار أو رفائيل أو شكسبير!»
فالجمال هو معجزة الكون الإلهية عند جيتي، وهذا هو إيمان الشاعر الفنان. •••
وإيمان جيتي بخلود الإنسان ضرب من التسليم بالقدرة الكبرى والإنابة إليها، فما دام الإنسان في كفالة تلك القدرة فهي تمضي به إلى الذي هو أقوم، وهي لا تصنع العبث ولا تبطل ما تصنع، وقد قال بلسان برومثيوس : «لا أذكر بدايتي ولا أحس نهايتي، ولا أدرك الختام وإنما أنا خالد لأنني أنا موجود.» وكل يحمل برهان خلوده في نفسه فمن لم يجده هناك فما هو بواجده في شيء!
ولما سأله فولك عقيب وفاة صديقهما فيلاند: «ما تظن فيلاند صانعا في هذه الساعة؟» قال: «إنه لا يصنع شيئا حقيرا، ولا شيئا يغض منه، ولا شيئا يناقض عظمة الأخلاق التي أثبتها في حياته.» وهذا أمر لا خلاف فيه، أما عدا ذلك فليختلف فيه المختلفون.
ثم استطرد إلى ذكر «الوحدات» المعروفة في مذهب الفيلسوف ليبنتز، وقال: إنها خالدة لا يمسها الفناء، وإنها على وفاق مع القدرة الإلهية لا شذوذ فيه.
ولا طاقة لجيتي بالفلسفات العويصة التي تخوض فيما وراء الطبيعة وتقيم الدليل على خلود النفس بالمقدمات الطويلة والنتائج المعضلة، فإيمانه بالخلود لا شأن له بهذه الفلسفات ولا مرجع فيه إلى البحث الذي يكد الذهن ويثقل على الخاطر، ولكنه يستريح من الفلاسفة إلى اثنين في المحدثين وهما «سبنوزا» و«ليبنتز» الذي تقدم ذكره، وهو في إيثاره هذين الفيلسوفين وفي للعبقرية التي عرفناها وعرفنا جنوحها إلى التسليم واستحسان ما هو حاضر، فإن سبنوزا هو فيلسوف «وحدة الوجود» القائل بأن الله هو الكل والكل هو الله، وأن الإلهية ظاهرة في كل جزء من أجزاء هذا العالم، فالإنسان لا يذهب بعيدا في طلب الإله والكشف عن الأسرار وجيتي لا يأبى أن يمشي مع هذا الفيلسوف في طريقه الدمث المريح.
وسبنوزا كذلك هو القائل إن الدنيا تتغير ما تتغير ويبقى في كل تغيير شيء دائم خالد هو عنصر الكمال والجمال الذي يتجلى فيه الإله. وهنا أيضا لا يتعب جيتي من مصاحبة هذا الفيسلوف؛ لأنه يطمئن معه إلى نفسه ويرضى عن كل حالة تمر به أو تصيبه. «أما ليبنتز» فهو فيلسوف الفردية والإجزاء والرضى عن الوجود لأنه خير ما في الإمكان، وهل أحب إلى جيتي من الفردية والأجزاء والرضى عن الوجود؟ فالعالم عند ليبنتز وحدات منعزلة يعكف كل منها على نفسه ويترقى على حسب قوانينه المكنونة فيه ، فلا سلطان عليه للوحدات الأخرى ولا يلوح لنا نحن أنه يتأثر بتلك الوحدات إلا لأنها كلها معدن واحد قديم مرتب منسوق منذ أزل الآزال، وكل وحدة هي مرآة القدرة الإلهية تتجلى فيها هذه القدرة على حسب حظها من الترقي والكمال، فلا هيمنة لإحداها على سائرها وإنما تستقل كل منها بإظهار قدرة الله على منوالها، مثلها في ذلك مثل ألوف الساعات التي تدلك على الوقت وتتفق كلها في الدلالة عليه ثم أنت لا تفهم من هذا أن إحداها أثرت في سائرها ولو كانت أدق وأنفس منها، وكل وحدة خالدة تترقى وتظهر جمال الله على درجات في الإظهار، فالفردية المعزولة في هذا العالم السعيد على أتمها هنا، وجيتي يأوي من هذا المذهب إلى بيته الأمين.
وقد تلمح في جيتي أثرا من آثار أفلاطون في كلامه عن المثل التي تسبق الموجودات، فذلك إلماعه في الجزء الثاني من رواية فوست إلى عالم السكون المجهول الذي لا مكان ولا زمان فيه ولا تتقيد فيه الأشكال بقيود، ولكنها عبارة شعرية لا أكثر ولا أقل، وليس جيتي بعد هذا بالذي يعنت ذهنه في استقصاء هذه الأسرار إلى غاياتها البعيدة؛ لأن مذاهب الفلاسفة في شرح خلود النفس كما قال في أخريات أيامه: «هي شغل المتبطلين من السراة الخالين أو النساء اللواتي لا يشغلهن شاغل.»
ومن ثم إنكاره على السلطان الذي كان يدعيه رجال الكنيسة لأنفسهم في الوساطة بين الله والناس، فهو ينحو فيه نحو الفردية ونحو «وحدة الوجود» في وقت واحد؛ إذ «كل الحقائق تأتي من عند الله، وهؤلاء الناس - يعني رجال الدين - يزعمون أن الله لا يتكلم إلا بوساطة الكنيسة، فهم لا يرون كيف يتكلم الله بلسان جميع الأشياء، فما من حشرة تدب على الأرض وما من ورقة على شجرة إلا ولها نبأ تقوله من عند الله»، وجيتي يعني الكنيسة الكاثوليكية بذلك الكلام، وهي غير كنيسته البروتستانتية التي نشأ عليها هو وأهله، فليس في كلامه هذا تمرد جديد على سلطان وطيد!
ولا يخفى أن جيتي قد خامرته الشكوك في كل مذهب وكل ملة واتخذ لنفسه عقيدة تخالف عقائد الشعائر والمراسم في الجملة والتفصيل، وعرف الله في نفسه وفيما حوله بغير هداية من ذي كهانة إلا من كان يقرأ لهم ويحادثهم في أمور الدين، وله مثل ظريف في استقلال الفرد بعقيدته يقول فيه إن عقيدة الإنسان ينبغي أن تكون كالذخيرة التي يدخرها في بيته ليعتمد عليها وقت الحاجة، أما ذخائر المصارف فأرباحها لأصحاب المصارف، وقلما يربح منها المستعيرون.
ولكنه على مخالفاته وشكوكه لم يتمرد قط في كفر ولا عقيدة، إلا في سورة الشباب أيام أن نظم قصيدته في «برومثيوس» الإله الثائر على رب الأرباب، وأيام اعتلاج المناظر الأولى من رواية فوست في ضميره وخياله، ثم ثاب إلى مذهب يقارب مذهب ابن العربي الذي يقبل في قلبه كل صورة ويجمع فيه «دير الرهبان ومرعى الغزلان». فخرج من رواية ولهلم ميستر بجماع مذهبه في الأديان كافة وهو احترام الجميع، فكان يعتقد أن الأديان ثلاثة: واحد يدعوك إلى احترام ما فوقك وليس أسهل منه، وآخر يدعوك إلى احترام ما يقاربك وهو أصعب من ذاك، وثالث يدعوك إلى احترام ما دونك وهو المسيحية. ولن يكمل دين المرء حتى يؤلف بين هذه العقائد جميعا فيحترم كل شيء ويرضى عن كل شيء، ونحن هنا من طبيعة جيتي في صميم الصميم! فلا تمرد ولا استخفاف بل تبجيل وتسليم.
واشتهر جيتي بالسخر الخفي في أحاديثه وفي تواليفه، ولا بد أن يسخر رجل عاش كما عاش وشهد كما شهد واستعرض الدنيا استعراضه لحقائقها وعجائب أكاذيبها، إلا أنه سخر لا استخفاف فيه ولا صغار ولا رعونة، وربما نفعته في هذا طبيعة المحافظة الراسخة فيه، فعودته التهيب ومداراة الأمور.
وإنك لتعجب لهذا الذهن الكبير كيف كان يضيق به النظر كلما باغته التغيير فأجفل من المباغتة وسارع إلى الإنكار في غير موجب للإنكار، فهذا الذهن الذي يتناول المسائل الجسام في سهولة ورفق لم يلبث أن سمع بإباحة الزواج باليهوديات حتى ثار ثائره واستعظم الأمر كأنما فيه ثورة على نظام الوجود . قال موللر: «ما كدت أدخل على جيتي في نحو الساعة السادسة ... حتى بادرني الشيخ العزيز ببيان مسهب عن الغضب الذي خالجه من قانوننا الجديد الذي أباح الزواج باليهود ... فقد أبدى أشد المخاوف وتوقع أوخم العواقب وقال: لو كان المراقب العام رجلا من ذوي الأخلاق لآثر أن يعتزل منصبه على أن يبارك اليهود في الكنيسة باسم الثالوث المقدس!»
كان هذا في سبتمبر سنة 1823، أي بعد موت زوجته بسبع سنوات، فخليق بهذه الغضبة العجيبة أن تعرفنا سر رضاه بكرستيان فلبيوس قبل الزواج وسر معاشرته إياها على خلاف العرف في بيئته وزمانه، فلم يكن مسلكه هذا اجتراء على تغيير مألوف الناس بل كراهة منه لتغيير مألوفه، وكل ما في الأمر أنها امرأة استطاب العيش معها فلم يقدر على فراقها، فقبل من أجل ذلك أن يغضب من أغضب وهو قانع مستريح.
هذه الراحة هي قوام هذه العبقرية في كل رأي وفي كل مسلك وفي كل خطة، فما التقوى؟ وما الخلق؟ وما الفن؟ كلها وسائل للسلام أو للتوازن والطمأنينة في النهاية؛ «فالتقوى ليست غرضا لذاتها ولكنها وسيلة للترقي بسلام النفس إلى أرقى مراتب التهذيب ...» والشعر وسيلة نتخذها لسد خلل الحياة وترك التبرم والشكاية، والفن «ليس غيره وسيلة مأمونة للنجاة من العالم وليس غيره وسيلة مأمونة للحلول فيه»، وقواعد الآداب والأخلاق: «محاولة دائمة لإقرار السلام بين مطالبنا الفردية وقانون العالم المستور» فكل ما ليس فيه سلام ولا أمان فليس فيه خير ولا إحسان!
نعم إنه كان يوصي بالعمل ولا يكف عنه، ونعم إنه كان يعتبر العمل سبيل الخلاص والتكفير لأنه سبيل تعريف الإنسان بحقيقة نفسه ولا خلاص للنفس بغير هذه الحقيقة. ونعم إنه استرسل في هذا المعنى حتى قال: إنه لا يدري ماذا يصنع بالخلود الأبدي الذي لا عمل فيه ولا واجب، ولكننا يجب ألا ننسى أبدا أن هذا العمل لا ينفي الراحة والطمأنينة، فكل عمل لجيتي فمشروط فيه أن لا يجهد ولا يزعج وأن يكون عفو الطبع والسليقة: «وليذهب كل إلى واجبه كالنجم في غير عجلة ولكن في غير فتور» كما قال في إحدى مقطوعاته، وما الواجب الذي يذهب إليه؟ هو عند جيتي مطالب كل يوم، فمن قام بمطالب الحاضر يوما بعد يوم فليس عليه واجب أقدس من ذاك، أو كما قال في وصية أخرى: «كن أمينا لحظة بعد لحظة فهذا خير ما تفعل.» فالمرء لا يذهب مع جيتي بعيدا في طلب الله ولا في طلب الواجب، فهو يجد الله ويجد الواجب حيث كان!
أما حكم الأخلاق عنده في تناول طيبات الحياة فهو الحكم المنظور عند رجل يؤمن بالحسن ويؤمن بالواقع الراهن كل هذا الإيمان، فالدنيا حقيقة وليست بوهم ولا عبث، بل هي حقيقة حتى في نظر الله وليست كذلك في نظر الإنسان وحده، وإلا «فعيشك سبعين سنة لن يساوي فتيلا إذا كانت حكمة الدنيا بأسرها حماقة عند الله»، ولقد قال: «إن الكل باطل معناه أن الكل ليس بباطل.» وما دامت الدنيا حقيقة وليست بوهم ولا عبث ففيم نعرض عنها ونزهد في طيباتها؟ فكل ما أباحه اليوناني القديم لنفسه فهو مباح في عرف جيتي بغير تلجلج ولا معاناة، و«لنقدم على السعادة» كما قال ولنعرض عن المعرضين.
فهو الرجل الإغريقي المثقف في محللاته ومحرماته، وقد كان له رمزان ينظر إليهما كثيرا ويأنس إليهما في بيته: وهما تمثال جوبيتر وجمجمة إنسان، وما نحسبه كان يترجم عن نظرته الطبيعية إلى الحياة والموت بأبلغ من هذين الرمزين.
لقد أوصى جيتي بالتسليم ونكران النفس، ولكن أي تسليم وأي نكران؟ فأما التسليم فهو الرضى بالحاضر لكي تتملاه إذ كان السخط عليه حائلا بينك وبين تمليك إياه، وأما النكران فهو ترك القليل في سبيل الكثير، وليس هو التعويل على ترك هذا وذاك، فخذ الحاضر كما يجيء إليك ولا تأس على الماضي: «فليس في هذه الدنيا ماض يؤسف عليه وإنما كل ما فيها جديد دائم»، ولا جدوى تعود علينا من وراء الحزن على ما يزول، «فإنما نحن هنا لنصبغ الزائل بصبغة الدوام، ولا يتاح لنا ذلك إلا بتقدير الزائل والدائم على السواء »، وفي آية من آياته الشعرية الخالدة يقول: «كيف تراك تجدد لنفسك بلا وناء؟ إنك مستطيع ذلك، مستطيعه بأن تجعل لنفسك نصيبا من السرور بالعظمة، فإن كل عظيم لا يزال أبدا جديدا حارا مملوءا بالحياة، وفي الحقير ترتعد أوصال الرجل الحقير.» فالعظمة في الإنسان وفي الطبيعة هي الخلود أو الحياة التي لا تني تتجدد، وعلى الإنسان أن يكون كالطبيعة وليس عليه أن يخلق مذاهب الأخلاق من الهواء، أو كما قال: «إن جميع المثل العليا لن تعوقني أن أكون ما خلقت، أي أن أكون طيبا ورديئا كهذه الطبيعة.» فإذا حدثه أحد عن الضمير صاح به: «وما الضمير؟ وما الذي يتقاضانا إياه؟» وليس معنى هذا رفض الضمير والزراية به، وإنما معناه أننا نحن قوام الضمير بما نختار، ولسنا أسارى الضمير على الكره والاضطرار. •••
وبعد فقد يكون من اللغو أن نسهب في شرح آراء جيتي السياسية وموقفه من مبادئ الثورة الفرنسية التي حضر عهدها، فإن تلك الآراء واضحة كل الوضوح فيما تقدم فلن تكون فيها مخالفة لما فطر عليه من السكينة والعزلة الفردية وفتور العاطفة بينه وبين من حوله، ولكننا ننقل هنا فلسفته العلمية عن النظام الذي يراه في سنن الطبيعة؛ فهو يقول في كتابه عن علم تركيب الأجسام الحية إنه: «كلما نقص تركيب البنية عظم التشابه بين أجزائها وعظم التشابه بين كل جزء وبين مجموعها، وكلما كملت البنية عظم الخلاف بين الأجزاء؛ ففي الحالة الأولى تكون الأجزاء تكريرا متفاوتا للمجموع، وفي الحالة الثانية تختلف الأجزاء عن المجموع كل الاختلاف.
كذلك كلما تشابهت الأجزاء قل خضوع كل منها للآخر، فخضوع الأجزاء ينبئ عن مرتبة عالية في التكوين».
مقبرة الأمراء حيث دفن جيتي.
هذه فلسفة علمية يصح أن تنقل إلى الفلسفة السياسية، وهي صحيحة كل الصحة في العلم وفي السياسة، ولكنها تؤيد آراء الأحرار ولا تؤيد آراء المحافظين، فهي تستلزم أن تخضع جميعها لجزء واحد أو أجزاء قليلة، ثم هي تشير إلى حالة الصحة في تركيب الجسم حيث تتضامن أعضاؤه كلها في التعاون والتساند ، ولا تشير إلى حالة المرض التي يختل فيها تركيب البنية فيزيد الدم في ناحية وينقص في ناحية أخرى.
كان جيتي يعارض مبادئ الثورة الفرنسية ولكنه كان يرى أن الثورات من خطأ الحكومات، وأن أحسن الحكومات هي التي تعلمنا أن نحكم أنفسنا، وقد حذف صيحات الحرية من طبعات رواية «جوبتر» الأخيرة، وكان يتساءل: «ما فائدة الحرية الزائدة إذا كنا لا نستطيع أن ننتفع بها!» ولو أنه حرم الحرية يوما لما خطر له أن يسأل هذا السؤال.
وقد توسع جيتي في ختام «رحلات ولهلم ميستر» في الكلام عن الحكومات والأوطان وحقوق الإنسان في بلده وغيره بلده، فنصح بالرحلة والتنقل إلى حيث يفيد الإنسان؛ فقد يكون في بلده عاطلا متبطلا ولا يظهر عليه ذلك لساعته. أما في الغربة فالرجل الذي لا نفع فيه لا يلبث أن ينكشف، وقال: «ولقد طالما قيل إنه حيثما رضيت فهناك وطني، وأولى أن يقال: بل حيثما أفدت فهناك الوطن.» ثم قال: «على هذه الصفة نستطيع أن نحسب أنفسنا أعضاء في جامعة واحدة هي العالم بأسره، وهي فكرة بسيطة جليلة سهل على الإنسان تحقيقها بالفهم والاقتدار، فالاتحاد قوة كبرى؛ فلا انقسام إذن ولا خصومة بيننا، وليتعود كل منا أن يرى نفسه بغير صلة دائمة تقيده بمكانه، ولينشد الدوام في نفسه لا فيما حوله، فهنالك هو واجد واجبه وهنالك فلينعم به وليزده، وكل من وقف نفسه لألزم الحاجات وأقربها فهو متقدم في طريقه على ثقة في جميع الأحوال، أما الذين ينشدون الأرفع والأكمل فيفتقرون إلى حكمة أعظم وأقدر حتى في اختيار الطريق، أيا كان المرء عاملا أو محاولا فليعلم أنه لا يكفي نفسه ولا يستغني عن الجماعة.» ثم قال: «علينا واجبان أخذنا أنفسنا بالتزامهما أشد الالتزام، فأولهما أن نوقر كل عبادة دينية فإن جميع العبادات تلتقي على اختلافها في العقيدة، وثانيهما أن نوقر كذلك الحكومات على جميع أشكالها، ومتى كانت كل حكومة تهدي إلى العمل المدبر وتقوم على تشجيعه فعلينا أن نعمل وفاق ما تفرضه السلطة المقررة وترومه، أينما قسم لنا أن نكون.»
وليس في هذه النصائح جميعها نصيحة واحدة لا توافق طبيعة جتيى في صميها، فهو عالمي كأنه فردي، وليس كل عالمي فرديا على هذا المثال. •••
لقد عرفت البارونة «فون شتين» صاحبها حقا حين سمته باسم «اللاما» كاهن التبت الأكبر العاكف على رأس جبله في نجوة عن العالمين؛ فقد عاش جيتي في صومعة من نفسه وعاش كاللاما في سكينته وبعده، غير أننا حريون أن ننبه في ختام هذه الكلمة إلى خطأ قد يقع فيه المتعجل فيضل في فهم هذه العبقرية أشد ضلال. فلنقل ما نقول في «راحة» جيتي ولا ننس أبدا أنها هي راحة الذهن الكبير وليست براحة الذهن الصغير، وأن الزرافة لتقف في مكانها لا تبرحه ثم ترفع رأسها فتنال ذؤابة الشجر التي لا تنالها النملة إلا بعد ساعات تستهدف فيها للأخطار والمشقات، فإذا بدا للنملة أن تتهم الزرافة بالبطء وقلة الحركة فتفعل، ولكنها لا تصفها حينئذ أصدق الصفات.
تقدير جيتي
قدر جيتي في حياته وبعد مماته، واتفق له التقدير في منزلته الحكومية وفي مؤلفاته وفي منزلته الأدبية؛ فارتقى إلى أرفع المناصب في إمارة «فيمار» وأنعم عليه الإمبراطور بلقب النبالة وهو تنويه غير قليل في بلاد الألمان في ذلك الزمان، وبيعت مؤلفاته للناشرين بأثمان لم يعهد لها نظير في غير كتب فولتير، وسعت إليه وفود الأدباء من الأقطار الأوروبية تكبره وتحييه، وتسنم ذروة الشهرة العالمية في عصر ندر فيه الأدباء العالميون.
ولما مات دفن إلى جانب صديقه شيلر في مقبرة الأمراء وأقيمت له التماثيل وحفظت آثاره في داره، وتنافس جرمان النمسا وجرمان ألمانيا في تخليد ذكره وشرح مؤلفاته وتدوين الكبير والصغير من أخباره.
واليوم يحتفل الجرمان بذكرى وفاته فتشترك الحكومة والشعب في تقديس هذه الذكرى وتتحد الأحزاب في هذا الغرض على اختلاف أغراضها. وتشتغل الصحف بحديثه حتى التي لا علاقة لها بالشعر والأدب، فصحف الأسنان تكتب عن أسنان جيتي! وصحف السباق تكتب عن جيتي وركوب الخيل! وصحف الأزياء تكتب عن ملابس جيتي وأزياء عصره.
وقبل ثلاث سنوات احتفل الألمان كذلك بذكرى مرور قرن كامل على تمثيل رواية فوست للمرة الأولى، وقبل ثلاث عشرة سنة احتفلوا إلى جانب رفاته بإنشاء دستورهم الجديد، وفي سنة 1849 احتفلوا بمرور قرن كامل على ميلاده، وهذا غير الاحتفالات المتفرقة التي يحييها أنصار أدبه ودارسوه، وغير الكتب والتراجم والشروح والتعليقات التي تعد بالمئات.
وقد اشتركت أمم أوروبا في الاحتفال بالذكرى الأخيرة فتوافد مندوبو الدول إلى فيمار وخطب الخطباء في الجامعات وصدرت مجلات كثيرة في فرنسا وإيطاليا وممالك الشمال ليس فيها من الغلاف إلى الغلاف إلا الكلام عنه وعن تراجمه وآرائه وآثاره، ولا تزال الصحف الأوروبية تكتب وتستكتب عنه ما يكفي لتأليف مكتبة كبيرة، بل لقد شوهد بين الأكاليل التي وضعت عند قبره إكليل من الرأس طفري مكتوب عليه: «إلى الشاعر العظيم.» ويلي ذلك هذا التوقيع البسيط: «الحبشة».
تمثال جيتي وشيلر في فيمار.
ذلك تقدير لم يظفر به من الأدباء إلا أفراد معدودون، ومع هذا لا نريد أن نعلق قيمة جيتي ولا غيره على أمثال هذه الاحتفالات، فكثيرا ما يظفر الأدباء الصغار بأمثالها في الحياة وبعد الممات، وكثيرا ما تراد بها نوافل الأديب وحواشيه دون جواهره وحقائقه. واحتفالات جيتي في الواقع من هذا القبيل لا فرق بين ما جرى منها في ألمانيا وما جرى في البلاد الأجنبية، فكلها قد تعزى إلى أسباب غير أسباب الأدب المحض والثقافة الخالصة، والإلمام بهذه الأسباب مفيد للتمييز بين تقدير الحقيقة وتقدير الظواهر والمناسبات.
فاحسب قبل كل شيء حساب المنصب الكبير والعمر الطويل، فإن المنصب الكبير قد سوغ للناس منه ما لا يسيغونه من سواه، والعمر الطويل قد ثبت قدميه في الميدان وأتاح له الوقت لاستدراك نقصه وتكثير مؤلفاته وإبراز مناقبه، ولو مات في سن الشباب لذهبت آفة التفكك والاقتضاب بقليل ما كتب، لأنه أشتات لم يعرف الناس قيمتها إلا بالإضافة إلى ما بعدها.
واحسب حساب المصادفة والاتفاق بين الزمن الذي علا فيه نجمه والزمن الذي علا فيه نجم الأمم الجرمانية وتهيأت فيه بواعث الوحدة السياسية والاعتزاز بالقومية، فنظر الألمان في ذلك الزمن إلى علم أدبي يأوون إليه فلم يجدوا أمامهم غير شاعرهم الكبير لرسوخ قدمه واشتهاره في غير وطنه، فأصبح التشيع له عصبية وطنية على قلة إعداد جيتي في حياته بتلك العصبية.
واحسب حساب المآرب السياسية في «دستور فيمار» وذكرى فوست وهذه الذكرى الأخيرة التي يحتفلون بها اليوم، فكأنما أراد الألمان أن يذكروا العالم بديونهم الأدبية عليه في الوقت الذي أرهقتهم فيه ديون الحرب وحاولت السياسة أن تقطع ما بينهم وبين الشعوب، ومتى ذكرت شعوب العالم أن الألمان هم أمة جيتي وشيلر وهيني ولسنغ وبيتهوفن وأقطاب الأدب والفن والثقافة ففي ذلك إنصاف لهم يتعذر معه الإرهاق والإعنات.
أما الأمم الأجنبية فما ظنك بها لو كان جيتي قد ناضلها في سبيل العصبية الألمانية كما ناضلها بعض الألمان الغيورين؟ لقد كان تقديرها إياه يختلف لا محالة بعض الاختلاف.
فضمور العصبية الألمانية في كتب جيتي كان أحد الأسباب التي قربت بينه وبين الفرنسيين والطليان والإنجليز، كما قربت بينه وبين الاشتراكيين في الأمم الجرمانية والأجنبية على السواء، ويضاف إلى ذلك إعجابه بثقافة الفرنسيين واعترافه بفضلهم وكثرة مؤلفاتهم في مكتبته المحفوظة إلى يومنا هذا وتورعه عن خصومتهم حتى في إبان الحرب بين بلاده وبلادهم، ثم يضاف إليه التغني بإيطاليا وفتنة آثارها وجمال مناظرها والحنين إلى أدب الجنوب وإيثاره في بعض نواحيه على أدب الشمال، ثم يضاف إليه تعظيم جيتي لشكسبير وثنائه على بيرون وستيرن وجولد سمث وجمهرة الأدباء الإنجليز.
ولقد كان رائد جيتي في إنجلترا توماس كارليل وهو كاتب مر النفس كان يكره الدعوى الفرنسية ويأبى عليها قيادة الفكر في القارة الأوروبية، فكان ينحي على فلاسفة فرنسا وأدبائها وزعمائها ويضرب الأمثال بالألمان ويطنب في المقابلة بين هؤلاء وهؤلاء ليضع فردريك بإزاء نابليون ويضع جيتي بإزاء فولتير ويضع عبقرية الألمان بإزاء عبقرية الفرنسيين.
وكانت رائدة جيتي في فرنسا مدام «دي ستايل» وهي كاتبة نفيت من بلدها ونقمت على الأدباء خصومها، فكانت تضربهم بتفخيم مناقب الأدباء الألمان والإشادة بالأمة الألمانية على الإجمال؛ فهذه النوافل جميعها قد أحاطت بشهرة جيتي فزادتها ولم تزد في قيمة عمله، ولو أنها ذهبت عنه لنقصت شهرته ولم ينقص قدره في ميزان الأدب الصحيح. •••
كذلك لا نحب أن نعلق قيمة جيتي على كلمة قالها نابليون وتهافت عليها المعجبون بالشاعر كأنها شهادة الشهادات، ونعني بها قول نابليون لمن حوله بعد أن رأى الشاعر: «هاكم رجلا.» فإن هذه الكلمة التي ألقى بها نابليون بعد جلسة واحدة لا تزيد على وسام يمنحه من يرضى عنه، وكلنا يعلم شأن هذا الوسام في النقد والتمييز.
على أن حاضري الحديث وناقليه قد اختلفوا في مناسبة هذه الكلمة فجاءت في مذكراتهم على روايات، ورواية جيتي نفسه لا تدل على شيء كبير، فهو يقول: إن نابليون نظر إليه مليا ثم قال: «مسيو جيتي، إنك رجل!» ثم سأله: كم عمرك؟ فلما علم أنه في الستين قال: «إنك مدخر العافية.» فكأن نابليون كان ينظر في كلمته إلى بنية الرجل لا إلى عبقريته.
وقد كان نابليون مضحكا في نقده لقصة فرتر التي زعم أنه قرأها سبع مرات، فإنه انتقد بعض العبارات التي يظهر منها أن الطمع كان ممزوجا بالحب في حمل فرتر على الانتحار، وقال: «إن هذا لا يوافق الطبيعة البشرية، وإنه يضعف في ذهن القارئ عقيدته في سلطان الحب على نفس فرتر.» ثم سأل جيتي: لماذا كتبتها هكذا؟
وقد قبل جيتي هذا الانتقاد، ولكن القارئ يرى بغير جهد أن الصواب كان في جانب الشاعر لا في جانب نابليون، فإن المرء لا ينتحر لسبب واحد، وإنما تتضافر الأسباب وتتعاقب حتى تتجمع كلها في السبب الأخير.
وما نظن أن نابليون عني بجيتي كما عنى بنفسه، فإنه كان يحثه على تأليف رواية عن يوليوس قيصر يكون ظاهرها لقيصر وباطنها لنابليون، وقد علم أن أدباء فرنسا بين صغير لا يرضيه وكبير لا يرضى عنه، فالتفت إلى أديب الألمان المشهور.
إنما يدل على جيتي فهم أثره لا ترديد ذكره، ويدل عليه أكثر من ذلك أن الذين يفهمونه يكبرونه ولو خالفوه في الرأي وباينوه في المزاج؛ ففي طليعة خصومه وناقديه هنريك هيني الشاعر المبدع الذي يضارعه في البلاغة وعذوبة الأناشيد ويفضله عليه الكثيرون في الظرف وطرافة الموضوعات، فإنه بعد أن نقده وألم بمحاسنه ومآخذ الناقدين عليه عاد يقول: «وبعد، فإن جيتي لهو عاهل آدابنا، فإذا صوبنا مبضع النقد إلى إنسان كهذا فيحسن بنا أن نتقدم إليه بما ينبغي من التوفير، كذلك فعل الجلاد الذي عهدوا إليه أن يقطع رأس شارل الأول، فإنه قبل أداء عمله ركع أمامه والتمس منه غفرانه.»
وإن كلمة من هيني في هذا الصدد لترجح بكل ما يقوله نابليون وكل ما تقوله الاحتفالات.
بل يدل على أن جيتي تنبث أفكاره في ذهن كل مفكر حتى يكاد لا يكتب الكاتب في زماننا هذا إلا وجيتي ماثل في خلده، وقد عمد بول هازار الأستاذ في كلية فرنسا إلى إحصاء حسن الدلالة في هذا الباب، فانتقى بعض كتب المعاصرين التي لا علاقة لها بجيتي وتواليفه وراجعها فظهر له أن ثمانية - من عشرة كتب - تستحضر أفكار جيتي وتشير إليها، وتلك دولة شاسعة في عالم الثقافة لا تفتح إلا لأفذاذ الفاتحين.
وإنك لتعد بين المعجبين بجيتي عقولا وقرائح يفرق بينها ما يفرق بين القطبين النقيضين في التفكير، فهناك كارليل وبيرون وأمرسون وماتيو أرنولد وتنيسون ومرديث، وهناك سان بيف ورومان رولان وأندريه جيد وموروا، وهناك ماتسيني وجيوفاني جنتيل وبراندو مازريك ومرجكفسكي وتاغور، وهناك ماركس وأنجيل ونتشه وهاوبتمان ولدفج وتوماس مان، وبين هؤلاء الإنجليزي والأمريكي والفرنسي والروسي والهندي وأهل الشمال وأهل الجنوب، وبينهم المتصوف والمتطرف وعاشق المثل الأعلى وطالب الواقع القريب، وبينهم الشاب والشيخ والقديم والحديث والشاعر والفيلسوف، وكلهم يجد في جيتي بغية ويلمس فيه عظمة ويستريح منه إلى جانب ويأخذ منه بنصيب، وتلك أيضا دولة في عالم الثقافة لا تفتح إلا لأفذاذ الفاتحين.
هذا هو التقدير، وهذه هي العظمة، وهذا هو الخلود.
مختارات متفرقة
الحكماء والشعب
في هذه القطعة تمثيل صحيح لطريقة جيتي في التسليم وتبسيط الحقائق الكبرى بردها إلى المحسوسات القريبة واجتناب المعضلات من أهون سبيل مع شيء من السخر والسكينة ، وفي القطعة صدق حكاية لأساليب الحكماء الأقدمين في ردودهم المبهمة على المسائل العويصة، ولهذا اخترناها من بين «لواذعه».
أبيمنيدس :
هلم يا إخوان، نجتمع في الغاب، فهذا الشعب مقبل، يتوافد من الشمال والجنوب ومن الشرق والغرب، يبغي العلم في غير كلفة فأعدوا له القوارع الشداد!
الشعب :
أي هؤلاء الحالمون الذاهبون في الخيال! حدثونا اليوم حديثا مبينا من غير لبس ولا محال، قولوا، أهذا الوجود قديم؟
أنا كساجورس :
ذاك أكبر ظني، فإنها لتكونن خسارة على الزمن الذي غبر قبل وجوده.
الشعب :
وهل هو مستهدف للبوار؟
أنا كيمينس :
ربما، ولكن ليس في ذلك كبير بأس فيما أرى، فما دام الله فلا بد من عالم.
الشعب :
وما هو الأبد؟
بارمينيدس :
فيم تكدون القريحة؟ ثوبوا إلى أنفسكم، فإن لم تأنسوا الأبد في ضمائركم وفي جوارحكم، فما يجدي عليكم قول قائل؟
الشعب :
أين نفكر، وكيف نفكر؟
ديوجينيس الكلبي :
يا سوء هذا العواء! إن المفكر ليفكر من فرعه إلى قدمه، وكما يومض البرق كذلك ينكشف للمفكر كنه الأشياء ماذا هي، وكيف هي، وكل ما فيها.
الشعب :
أصحيح أن روحا يسكن فينا؟
ممنرمس :
سل عن ذلك أضيافك، فخليق أن ترى أن هذا الجوهر اللطيف الصافي الذي يسعد ذاته ويسعد الآخرين، لهو الذي أدعوه بالروح.
الشعب :
وفي الليل هل يهبط عليه الكرى؟
برياندرس :
هو لا ينفصل عنك، فكن عند شأنك أيها الجسد، فإذا عنيت بذاتك استفاد الروح راحة تنعشه وتجدي عليه.
الشعب :
وما هذا الذي يقال عنه الوجدان؟
كليو بيليس :
الذي يقال عنه الوجدان يجيب ولا يسأل!
الشعب :
فسروا لنا سر السعادة؟
كراتيس :
انظر إلى الطفل العاري، إنه لا يرتاب في شيء! إنه ينطلق وفي يده درهم واحد ويعرف أين يقع على مستودع القرص: على حانوت الخباز.
الشعب :
قولوا، ما الدليل على خلود النفس؟
أريستيبس :
نسج الحياة الصحيح، فإنه لينسجه الحي المحيي، فإذا اختلف خيطه أو التوى فالله بتخليصه أحرى.
الشعب :
أيهما خير للمرء العقل أو الجنون؟
ديموكرتس :
حسبما تفهم من العقل والجنون، أما إذا ادعى المجنون العقل فليس ما يمنع الحكيم أن يرده عن ضلاله!
الشعب :
هل السلطان للمصادفة والوهم دون سواهما؟
أبيقور :
أنا عن قديم شيمتي لا أريم، فاغتصب المصادفة وقر عينا بالوهم؛ فإنك واجد فائدة ولذة في كلا الاثنين.
الشعب :
أغرور وباطل أن نزعم أننا مخيرون؟
زينون :
دونك التجربة فليس مثلها شيء، اجمع عزمك فإذا أنت غلبت على أمرك فليس في ذلك كبير دلالة!
الشعب :
وهل أنا نزوع إلى الشر بالفطرة؟
بيلاجس :
قد نسامحك ونغضي عنك، بيد أنك قد خرجت من بطن أمك بنصيب مرهق، ألا وهو العي والبلاهة في السؤال!
الشعب :
أترونني مطبوعا على طلب الكمال؟
أفلاطون :
لو لم يكن طلب الكمال أمنية العالم وهجيراه لما بحثت وسألت. فلتعمل قبل كل شيء على أن تحيا مع نفسك، فإنك إن لم تظفر بفهمها فأولى بك ألا تعنت الآخرين.
الشعب :
مهما يكن فالسائد هو الأنانية والمال.
أبيكتيتس :
خل لهما الغنيمة، ولا تنفس على الكون ألاعيبه التي يحركها في دست لعبه!
الشعب :
وبعد، فخبرونا قبل أن نفترق فراق الأبد عما ينبغي أن نرضاه.
الحكماء :
أول نواميس الكون اجتناب ذوي اللجاجة الملحفين.
في حديقة مارتا ... الله
مارغريت :
فأنت إذن غير مؤمن بالله.
فوست :
لا تخطئي فهم ما أقول أيتها الحبيبة، فمن ذا يجرؤ على تعريفه وحصره، ثم يزعم أنه به مؤمن؟! ومن ذا يجرؤ على الشعور به، ثم ينكر الإيمان؟ ذلك المحيط بكل شيء، الحافظ لكل شيء، أليس هو المستوعب الحافظ لك، ولي، ولذاته العلية؟ أولا ترين إلى السماء كيف رفعت؟ وإلى الأرض كيف بسطت؟ أليست هذي النيرات الخوالد السوابح في الفضاء يرمقننا بلحاظ وامقة؟ أما يرنو طرفي إلى طرفك؟ ألا يهفو كل شيء إليك بمهجتي وفكري؟ وهذا الجاذب أليس هو لغز الأبد، باديا كان أو خفيا؟ بهذا على فرط غموضه املئي فؤادك، فإذا ذقت السعادة في هذا الشعور، فادعيه بما شئت من الأسماء، ادعيه السعادة! أو القلب! أو الحب! أو الله! أما أنا فليس عندي له اسم، فالشعور هو كل شيء، وليس الاسم إلا لغطا ودخانا يحجب عنا لألاء السموات.
فوست
مناجاة فوست
أيتها الفلسفة والشريعة والطب جميعا! وأنت أيها الفقه الأسيف، واحسرتاه! لقد تعمقت في درسك أيتها العلوم دائبا صبورا، ثم هأنذا الآن - أنا المفتون المسكين - ما برحت من المعرفة حيث كنت في البداية.
صحيح أني ألقب بالأستاذ والعالم الجهبذ، وأنني قضيت عشرة أعوام كاملة أدور بتلاميذي أسحبهم من أنوفهم يمنة ويسرة ذاهبا بهم كل مذهب، ولكننا هاهنا بعد كل هذا نرى أننا عاجزون عن إدراك أمر من الأمور ... إن هذا ليلهب دمي! وإن كنت في الحقيقة أوسع علما من سائر الحمقى والجهابذة والأساتذة والفقهاء والرهبان.
لقد أصبحت لا تنازعني وساوس ولا شكوك، ولا يروعني ذكر الشيطان ولا الجحيم، ولكنني كذلك حرمت بهجة السرور، ولا أحسبني تعلمت في الواقع شيئا نافعا أو أستطيع تعليم الأنام شيئا فيه صلاح لهم وهداية.
لقد خلا وفاضي، فلا مال عندي ولا نشب ولا جاه ولا سلطان في العالمين. إن الكلب ليعاف عيشا بهذه التكاليف.
ليس لي بعد اليوم ملتجأ إلى غير السحر، فآه لو أن لي قوة «الروح» وسر «الكلمة» يكشفان لي ما أجهل من الأسرار، وآه لو أنني أغدو غير مكره على أن أهرف بما لا أعرف، ولو أنني أدرك كل ما يشتمل عليه الكون، وأرى - من وراء الألفاظ الجوفاء - ما يكنه من القوة الخفية والبذور الأزلية!
أيها البدر المنير الساجي، ألا كانت هذه آخر نظرة ترسلها على لوعتي وبرحائي! لكم سهدت الليالي على مكتبي هذا، وكنت دائما - أيها الصديق الساهم - تطلع علي بين ركام الأسفار والطروس.
آه من لي - في سناك الحلو - بأن أتسنم إلى ذرى الأطواد، وأجوس الكهوف والغيران مع الأرواح، وأرقص فوق المروج الشاحبة، وأتطهر بفيض ضيائك الرطيب.
أواه! لا زلت رهن الضنى في غيابة هذا المحبس! وتعسا له من جحر مظلم لا يتطرق إليه من نور السماء المحبوب إلا لمحة من خلال هذا الزجاج ذي الألوان، يكظه حتى عنان السقف ركام من الأسفار المغبرة المأروضة وأكداس من الأوراق، وتملأ أرجاءه الأنابيب والقناني والصناديق وشتى الأدوات، وناهيك بسقط المتاع مما أورثنيه الأجداد! وهاك دنياك! وعن هذه يقال إنها دنيا!
وبعد هذا كله تتساءل فيم ينقبض فؤادك بين جنبيك جزعا، وما بال شواعرك وخوالج حياتك يرين عليها غم دفين؟ تتساءل عن ذلك! وتستعيض من الطبيعة الحية التي خلقك الخالق في أحضانها أن تبيت وسط الدخان والوخم وتجاليد الحيوان وعظام الموتى.
النجاء النجاء! وانطلق في وسيع الفضاء! وحسبك هاديا كتاب العلامة «نوستراداموس» الحافل بالأسرار، فإنك لتطلع به على دورة الأفلاك، فإذا تولت الطبيعة حينذاك تلقينك فإنها تعاطيك قوة نفسية معاطاة الروح للروح، وهيهات أن ندرك بالحس الغليظ العقيم هذه الطلاسم القدسية...
أيتها الأرواح السابحة حولي، أجيبي إن كنت لي سامعة!
فوست
القطعة الأولى
أيتها الحجارة، حدثيني! أيتها الصروح الباذخة أجيبي، أيتها الطرق، انطقي بكلمة واحدة! ألا تستيقظين أيتها العبقرية؟ بلى، كل شيء حي في أسوارك القدسية يا روما الخالدة، إلا في ناظري وعند خاطري، فما برح الصمت على كل شيء مخيما.
ألا من يوسوس لي في أية نافذة أنا ناظر في يوم من الأيام إلى الطلعة الحلوة التي ستحيي لي كل شيء وهي تفنيني؟ أليس لي أن أهتدي إلى السبيل الذي يدرج فيه وقتي النفيس ذهابا إليها وإيابا من عندها؟
لم أر حتى اليوم إلا بيعا وصروحا، وأطلالا وعمدا، كالسائح الحازم الحريص على الفائدة من رحلته، ولكن سرعان ما أودع كل هذا! فلا يبقى غير هيكل واحد، هيكل الحب، يقبل عليه العارف بأسراره.
أنت يا روما عالم! ولكن العالم بغير الحب لا يكون عالما، وروما لا تكون روما.
أشجان رومانية
المقطوعة الخامسة (بعد أن استحدث الشاعر علاقة غرامية)
على أرض الآثار تستخفني حماسة قدسية، وتحدثني العصور الخوالي والعصور الحواضر باللحن الجهير فتؤنسني. هنا أطالع فكر الأقدمين، وأقلب بيد الخشوع صفحات أعمالهم فتستجد لي متعة في كل نهار، أما الليل فيشغلني فيه الحب بشواغل أخرى، فإذا بات حظي من العلم نصفه فلقد أصبت من السعادة ضعفيها.
وبعد أفليس من التعلم والدرس أن يتأمل البصر تكوير نهد كاعب، وأن تجري الكف على استدارة خصر مبتل؟ إني لأفهم حينذاك ولا أفهم قبل ذاك ما الرخام، وما التماثيل، وإني لأفكر وأقارن، وأرى بعين تحس، وأحس بكف ترى.
ولئن سلبتني الغانية سويعات من النهار فإنها تعوضني عنها ساعات في الليل، وليس الليل كله بعناق! فإننا لنتحدث فيه الحديث الرصين، وتأخذها سنة من النوم فتنازعني ألف فكرة، وأنظم بين ذارعيها، وأقسم بأصبعي الماجنة على ظهرها تفاعيل بحر من القريض. وهي في منامها تتنفس فتضرمني أنفاسها حتى سويداء قلبي، والحب يتعهد أبدا مصباحه الوقاد، ويحلم بالعهد الذي أدى فيه هذه الألطاف للأسبقين من الولاة الرومانيين.
أشجان رومانية
الهجرة
الشمال والغرب والجنوب أقطارها تتصدع، وعروشها تنثل، وممالكها تنهار، فاهجرها! وامض إلى الشرق الطهور تستروح الطيب من الآباء الطيبين، ويرد عليك صباك بالحب والنشوة والغناء حكيم المشرق القائم على عين الحياة.
هنالك بالطهر والإنصاف أنشد الرجعى إلى أصول بني آدم، إلى الأزمان التي كان فيها الملأ يتلقون من الله كلمة الحق السماوية منزلة في اللغات الأرضية، لا يقدحون فكرا، لا يكدون ذهنا، إلى تلك الأزمان التي كان فيها الملأ يبجلون السلف وينهون عن كل دين غريب.
أريد التملي بهذه الطبائع الفطرية في عصور الفطرة: إيمان واسع وفكر ضيق لهما من الشأن ما للكلمة، فإنها كلمة منزلة.
أريد معاشرة الرعاة، والترويح عن النفس في ظلال الواحة، أرتحل مع القوافل وأتجر في «الشمل» والبن والمسك والطيب.
أريد أن أطرق كل سبيل من البادية إلى الحضر.
وسيان أصعدت في الوعوث أم هبطت في الوهود، فإن أغانيك يا «حافظ» تؤنسني أغانيك التي يترنم بها المرشد على ظهر برذونه مأخوذا طربا، وكأنما يوقظ بها النجوم الوسنى، ويرهب قطاع الطريق.
في حمامات الشرق وبين جدران الخان أريد أن أذكرك يا «حافظ» الملهم، وقد أماطت حبيبتي لثامها وتضوع من غدائر شعرها عبير الند والعنبر. أجل، ما أحرى بث الشاعر أن يبعث العشق حتى في قلب حورية من حور الجنان!
وإذا كنتم تنقمون عليه ذلك أدنى نقمة، فاعلموا أن كلمات الشاعر لا تفتأ تحوم حول جنة الخلد طارقة أبوابها تطلب الخلود.
الديوان الشرقي
الحرية
دعوني أنطلق على صهوة جوادي السابح، وابقوا أنتم في عقر مدركم وتحت خيامكم، إني لأركض جذلان في الفضاء الشاسع، ليس فوق عمامتي غير الكواكب.
وما جعلت الكواكب هدى لكم في البر والبحر إلا لتكون السماء أبد الدهر قبلة أنظاركم أجمعين.
الديوان الشرقي
حنين السعداء
لا تبح بقولي إلا لعاقل حكيم، فإن سواد الناس على الهزء مطبوعون، أقول نعم الحي من يشتهي المنية في اللهب.
في ليالي الحب الندية التي أنت فيها تتلقى الحياة وتبذل الحياة، تستحوذ عليك عاطفة غريبة إذا ما أنار القبس في سكون، يستدرجك شوق جديد إلى قران أسنى وأعلى، فلا يقعدك بعد المدى، وتخف مبادرا مفتونا. فإذا أنت يا صنو الفراشة من ولعك بالنور ذائب محترق!
مت والبس لبوسا جديدا! فإنك - ما جهلت هذا - لعلى ظهر الأرض المظلمة ضيف حزين.
الديوان الشرقي
اللقاء
أصحيح هذا! أأضمك يا عروس الكواكب ثانية إلى صدري؟ أواه من ليل البعاد، يا له من درك سحيق، ويا له من عذاب وجيع!
بلى! إنك لأنت هنا يا مبعث أفراحي ومعدنها ويا أحلي تتمة لوجودي وأغلاها، إنني لذكرى آلام الماضي أرتجف بين يدي الحاضر.
قديما كان الكون جنينا في الهاوية السحيقة فأوحى الله بإرادة الخلق الأولى، ونادى: «ليكن العالم!» فما هو إلا أن دوت آهة أليمة وإذا العالم ينتثر في تعدد الكائنات بجهد مقتدر شديد.
افتر النور، وانشقت عنه الظلمات فرقا، وإذا بالعناصر تتشعب أشتاتا وتتدابر، وينطلق كل عنصر على عجل كما تنطلق الأحلام الشعواء، فينتحي بعيدا جاسيا في أرجاء الفضاء السحيق، لا بغية له ولا انسجام فيه.
وكان كل شيء أخرس جديبا، وكان الله في خليقته فريدا وحيدا! فخلق الفجر، فإذا هو يرق من الوحشة، ويبعث في هذه الغواشي أفانين الألوان المترقرقة، فتسنى إذ ذاك للحب أن يؤلف ما تفرق شمله فإذا الذين خلقوا بعضهم لبعض يتقاربون متلهفين، وأقبل على الحياة الخالدة النظر والشعور، وسيان الغصب والاختيار إذا صح التماسك والالتئام!
كذلك على أجنحة الفجر الأرجوانية درجت إلى شفتيك، وكذلك أرى الليل يطبع ألفتنا بآلاف الأختام الذهبية من منتثر نجومه، فكلانا على وجه البسيطة مثال الفرح والألم، ولو تكررت كلمة الآمر: «ليكن العالم!» لما فرقت بيننا بعد اليوم.
الديوان الشرقي
نشيد محمد أو فيض الإسلام
انظر إلى ينبوع الجبل جائشا صافيا، كأنما هو فوق السحب شعاع دري، وقد أرضعت ملائكة الخير طفولته في مهده بين أفلاق الصخور المعشوشبة.
إنه ينحدر من السحابة فتيا نميرا على صلد الجلاميد، ويتنزى منها جذلان فرحا إلى العلا.
إنه يسيل في وعر الأخاديد، يجرف أمامه مجزعة الحصباء التي لا تحصى ويسحب في إثر أقدامه العجلى أخوة من العيون الثرارة، كأنه المرشد الأمين.
وثمة في الوادي تنجم الرياحين عند قدميه، وتحيا المروج من أنفاسه، فلا يثنيه الوادي الظليل ولا الرياحين التي تطوق ساقيه وتحاول أن تسبيه بلحاظها الفواتن، بل هو يصمد في تدفعه متسلسلا متعرجا إلى فضاء السهوب.
وتبادر إليه الجداول ترفده، فيدخل السهل لامعا كاللجين، فيتلألأ السهل بلألائه، وتطفر طربا أنهار الوهاد وجداول النجاد، وتهيب به: «يا أخي، خذ معك إخوتك، وامض بها إلى أبيك الشيخ، إلى البحر المحيط الأزلي، الذي يترقبنا باسطا ذراعيه، وا أسفا! لطالما بسط ذراعيه بلا جدوى ليضم إليه بنيه الأنضاء، ونحن في البيداء الجدباء تبتلعنا الرمال المحرقة، والشمس في كبد السماء تشفي الغليل من دمائنا، ولا يستوقفنا غير كثيب نستحيل عنده إلى غدير! يا أخي، خذ معك إخوتك بالوهاد وإخوتك بالنجاد، وامض بهم إلى أبيك! تعالوا جميعا!»
وها هو العباب طاما زاخرا ترفده الروافد ويخلع في مجراه على الأمصار أسماءها، وتنشأ عند أقدامه المدائن، بيد أنه لا يني هادرا يتدفع، لا يثنيه أبدا ثان، مخلفا وراءه المنائر والصروح: بدائع خصبه وإنتاجه.
وإنه ليقل فوق مناكبه الجبارة منشآت السفن، تخفق الألوف من قلوعها فوق رأسه وتهفو مشرعة نحو السماء، شاهدة على قدرته وجلاله.
وهكذا يمضي بإخوته وكنوزه وبنيه نحو أبيه الذي ينتظره ويتلقاهم إلى صدره وهو يعج من الفرح.
مقطوعة
الجزء الأول
رسالة في 10 مايو
نفسي يغمرها صفاء بديع يوائم ما لأسحار الربيع الحلوة من صفاء تلتذه كل جوارحي، وأنا هنا وحيد، مستسلم لبهجة الحياة في هذا البلد الذي يوافق هوى كل نفس كنفسي، وإني يا صاح! هانئ جد الهناءة، مستغرق في دعة الإحساس بوجودي، حتى جار ذلك على فني، فهيهات لي الآن أن أرسم خطا واحدا وإن كنت لا أحسبني في يوم من الأيام كنت رساما أعظم مني اليوم. فكلما تصاعدت حولي هبوات البخار من ذلك الوادي الحبيب، وكلما طرحت شمس الضحى على حلك غابتي الطخياء أشعتها فلم يسنح لغير النزر القليل منها التسرب إلى قرار هذا المحراب، وكلما افترشت العشب النامي عند منحدر أمواه الجدول فانكشف لي لصق أديم التربة العدد العديد من شتى ضروب النبات الصغيرة، وكلما أحسست بجوار قلبي ذلك العالم الصغير يتحرك ويموج في حشده وينطوي تحت وريقة من أوراق الكلأ على تلك الحشرات والهوام الجمة الأشكال التي تحير الناظر بتنوع أفانينها، أحسست شهود «العزيز المقتدر» الذي برأنا على صورته، وشعرت بذلك الذي وسعت محبته كل شيء يمدنا بروحه ويسبح بنا في نعيم مقيم ... إذ ذاك - يا صاح - يغشى ناظري ويستقر العالم المحيط بي والسماء جميعا في قرارة نفسي كما تنطبع في النفس صورة المحبوبة، ورب شوق لاعج ينازعني فأقول في سريرتي: «آه، ليتك تستطيع الترجمة عن كل ذلك! ليتك تستطيع أن تنفث في الطرس وتثبت عليه ما هو حي ماثل في وجدانك بهذه الحرارة كلها وهذا الامتلاء كله، إذن لأصبحت تلك الصورة مرآة نفسك كما أن نفسك مرآة الله»! ولكن هذا الهيام - يا صاح - يضعضع حواسي، فأنوء به طليحا عاجزا من سطوة هذه المشاهد الرائعة.
فرتر
رسالة في 13 يولية
كلا، لست واهما! إني أطالع في عينيها الدعجاوين حسن التفات نحوي واهتماما حفيا بي وبمصيري. أجل، بل أحس - ويحق لي أن أصدق ما يهجس به قلبي - أنها ... وهل أجرؤ ... هل أستطيع أن أفوه بهذه الكلمة التي تحمل في ثناياها جنة الخلد؟ أحس أنها تحبني!
إنها تحبني! ولكم أصبحت من ذلك الحين عند نفسي حبيبا أثيرا، أوتدري مقدار ذلك؟ يجدر بي أن أخبرك أنت فإنك خليق بفهمي ... شد ما أنا كلف بنفسي منذ أن أحبتني!
أترى هذا وهما يخيل إلي؟ أم هو الإحساس بحقيقة حالي؟ إني لا أعرف رجلا أخشى منه على المنزلة التي لي في قلب شرلوت، ومع هذا فحينما تتكلم عن خطيبها وتتكلم عنه بكل تلك الحرارة والعاطفة، يقوم في نفسي أنني امرؤ خلعوه عن رفيع مقامه وسلبوه كل رتبة سنية، وجردوه من حسامه!
فرتر
ملك العفاريت
من الراكب المدلج في غبش المساء تحت وابل المطر وعصف الريح؟ ذاك والد ووليده، وهو يضمه ويدفئه ويحتضنه بين ذراعيه. - بني، ما بالك تحجب وجهك؟ - أبتاه ألا ترى ملك العفاريت، ملك العفاريت بإكليله وطيلسانه؟ - بني! تلك سدفة من غسق المساء. «أيها الطفل العزيز، هلم إلي، سنلهو معا بأجمل الألاعيب! هنالك حيث تزدان ضفافي بالرياحين، وحيث أمي عندها كثير من الحلل الذهبية والشفوف!» - أبتاه! أبتاه! عجبا! ألا تسمع ما يوسوس به ملك العفاريت؟ - هدئ روعك! هدئ روعك يا بني، إنها الريح تهمس في ذابل الأوراق. «ألا تريد أيها الطفل اللطيف، ألا تريد الذهاب معي؟ بناتي سوف يدللنك وأي تدليل، بناتي يرقصن في جنح الظلام، بناتي سوف يغنين لك ويجلبن إلى جفنيك طيب النعاس.» - أبتاه، أبتاه! عجبا! ألا ترى هنالك بنات ملك العفاريت؟ - بني، بني، أرى جيدا، أرى أنها أشجار الصفصاف العتيقة تتخايل من بعيد. «أنا أحبك، وطلعتك الحلوة تروقني، فإذا أبيت أخذتك غصبا.» - أبتاه، أبتاه! ها هو ذا يمسكني، لشد ما آذاني ملك العفاريت! ارتعد الوالد، ودفع جواده، وضم في ذراعيه ولده المختنق بالنشيج وبلغ داره بعد جهد جهيد، وإذا الطفل في ذراعيه ميت.
أساطير
مختارات أخرى
يغلب ألا نتعلم فن التعبئة في الحياة إلا بعد انتهاء المعركة.
من كتاب الشعر والحقيقة
غاية الحياة هي الحياة نفسها.
من حديث مع ماير
أتريد تعرف كلمة الحياة الأخيرة؟ كن فرحا، فإن لم تستطع فكن قانعا.
أكزيني
لا تبلغ القمة إلا بدوران.
ولهلم ميستر
نحن نحسب الناس أخطر مما هم في الحقيقة، إن الأبله والكيس كلاهما لا خطر منه، وإنما أشد الناس خطرا نصف العاقل ونصف المجنون.
كلمات
يقال إن الرجل لا يكون بطلا في عين خادمه، وإنما سبب ذلك أن البطل لا يعرفه إلا بطل، أما الخادم فلا يعرف إلا من هم على مثاله.
كلمات
كان كل شيء قبل الثورة «الفرنسية» جهدا فأصبح بعدها مأربا.
كلمات
من أصدق الأشياء وأعجبها أن ينجم الخطأ والصواب من ينبوع واحد، ولهذا كان من سوء الرأي في بعض الأحيان أن يقسى على الخطأ، لأن القسوة عليه تصيب الصواب.
حكم وأمثال
يندر أن نرضي أنفسنا، فليكن أكبر عزائنا أن نرضي الآخرين.
كلمات
المدرسة الفكرية أشبه شيء برجل يكلم نفسه مائة سنة ويفرط في الفرح بنفسه كائنا ما كان حظها من السخف والحماقة.
كلمات
إذا جاز أن يزدرى الفن لأنه محاكاة للطبيعة ففي الوسع أن يقال كذلك إن الطبيعة لا تخلو من المحاكاة، وإن الفن لا يحكي ما يرى بالعين تمام الحكاية وإنما يرجع إلى عنصر البصيرة الذي يقوم به تركيب الطبيعة وتعمل هي على أساسه.
كلمات
أظهر ما يبدو جلال الفن في الموسيقى؛ إذ ليس في الموسيقى مادة تصاغ وليس فيها إلا شكل ومعنى، وهي تعلو بكل ما تعبر عنه.
كلمات
ميول الحس الخاطئة هي ضرب من النزعة «الواقعية» وهي أبدا خير من تلك الميول الخاطئة التي تسمي نفسها بالأشواق «المثالية».
كلمات
الجمال مظهر لقوانين خفية في الطبيعة لولاه لما ظهرت.
كلمات
لو ضاع كل شيء من قبيل رواية هنري الرابع التي كتبها شكسبير لأمكن أن تستعاد فنون الشعر والبيان جميعا من هذه الرواية الفريدة.
كلمات
لفكتور هيجو ملكات فائقة بغير جدال، وهو يجدد الشعر الفرنسي وينضره، ولكننا نخشى أن يحيد أشياعه ومريدوه - إن لم يحد هو - عن الجادة التي أقدم عليها؛ إذ الأمة الفرنسية أمة النقائض فهي لا تقف عند حد أو قياس، وهي بما منحت من قوى في النفوس ونشاط في الأجسام خليقة أن تزحزح الأرض لو وجدت مكان الارتكاز ، ولكنها على ما يظهر لا تبالي أن تعلم أن المرء إذا تصدى للأحمال الثقيلة فعليه أن يلتمس البيئة والوسيلة، إن هذا الشعب لهو الوحيد بين شعوب العالم الذي يجمع في تاريخه نقائض كمذبحة سان برتلمي ومذهب الحرية الفكرية، أو كاستبداد لويس الرابع عشر وعربدة جماعة «العراة»
Sans Culottes ، أو كفتح موسكو وتسليم باريس في نحو سنة واحدة؛ ومن ثم يحق لنا أن نخشى في عالم الأدب أيضا أن يتلو استبداد «بوالو» خروج على جميع الأصول وفوضى بغير عنان.
حديث مع كزميان
الفرح والحب جناحان يرتفعان بنا إلى جلائل الأعمال.
إفيجيني
ناپیژندل شوی مخ