واحمر وجه نفيسة من الغيظ وسألتها دون خجل: «طيب ليه مش بيجوزك؟»
وتأودت فاطمة ولوت خصرها ورفعت حاجبها الأيمن، وخرج من فمها صوت يشبه الشهقة، وقالت وهي تتثنى: ليه مش بيجوزني يا روحي! دا انت لسه خام قوي، خام قوي!
وراحت تتثنى في طول الحجرة وعرضها وهي تردد بصوت مخمور قبيح: خام، خام قوي! خام قوي!
وبعد هذه الليلة بدأت نفيسة تفهم من فاطمة أشياء لم تكن تعرفها من قبل، فهمت أن الحب شيء والزواج شيء آخر، وأنها ما دامت تسكن في حارة «شق التعبان» وأبوها المعلم حنفي المنجد، وأمها أم إبراهيم بنت الفران، فلن يتزوجها سوى ابن عمها علي الجزماتي، أو جارهم متولي المكوجي الذي يغازلها من الشباك، ولكنها تستطيع أن تحب الدكتور رشيد طبيب القسم الذي تعمل فيه، وتستطيع أن تركب عربته، وترى الدنيا، وتحس لمسات يديه النظيفتين، وتكسب هداياه الثمينة، من حين إلى حين، كما تفعل فاطمة مع الدكتور فتحي.
ودخلت رأس نفيسة الصغير مفاهيم كثيرة لم تكن تعرفها، واتسعت مساحة الأرض في عينيها، وتعدت حارة شق التعبان وعنابر المستشفى.
وروضت أفكارها، وأصبحت المبادئ والفضيلة في تفكيرها الجديد شيئا مطاطا يمتد مسافات بعيدة.
وذات يوم، لاحظت نفيسة أن الدكتور رشيد يصوب لها نظراته الطويلة، فسألت نفسها هل كان ينظر إليها هكذا من قبل حين كانت لا تزال «خام قوي» كما قالت فاطمة، أم أنها بدأت تطبق مفاهيمها الجديدة بطريقة عملية!
وانتبهت نفيسة فجأة إلى نفسها، وتذكرت أنها تقف على محطة الأتوبيس، فضمت ساقيها قليلا لتتأكد من أن حقيبة الملابس لا تزال موجودة، وكانت الظلمة قد أوغلت، فرفعت نفيسة ذراعها اليسرى إلى عينيها لترى الوقت في ساعتها الرجالي الكبيرة، وكانت هذه الساعة أيضا هدية من الدكتور رشيد، وإنها لتذكر كلماته حين قدمها لها: «أنا جايبها كبيرة مخصوص علشان تشوفي بيها سرعة نبض القلوب!» ثم نظر إليها نظرته المتلهفة دائما.
واسترجعت نفيسة في ذاكرتها هذه الكلمات وهي تنظر إلى رأس الشارع كأنما تتلهف على قدوم الأتوبيس، وهي في الحقيقة لا تتعجل الأتوبيس، ولا تشعر برغبة في العودة إلى حارة شق التعبان لتقضي فيها إجازة الخميس والجمعة، ولا تريد أن تدخل بيتها المظلم وتصعد السلالم المتهدمة، وتقابل وجه أمها بعظامه البارزة وفمها المدبب كفم الفأر، وتشم الرائحة الكريهة المنبعثة من حجرة «الكرار» ممتزجة برائحة الطبيخ البايت وهو يغلي على وابور الجاز. إنها تحس بغليان في دمها كلما دخلت هذا البيت، وخصوصا حجرة نومها المظلمة الرطبة، والسرير القذر والسقف «بعيدانه» الخشبية المتوارية التي عشش عليها العنكبوت، ثم اصطادت خيوطه الماهرة البعوض، والفراش، والصراصير، وحشرات أخرى لا تعرف أسماءها! فرق كبير بين حجرة نومها هذه وحجرة الدكتور رشيد، سرير نظيف وسقف أملس ناعم ليس فيه عنكبوت وهواء طلق ليس فيه أثر لرائحة الطبيخ.
وأحست أنها تشمئز من بيتها وبيئتها، وأنها تفضل البقاء في الشارع على أن تعود إليهما. ورفعت عينين فاترتين فيهما دموع كثيرة، وراحت تحملق في العربات المارة أمامها كالسهام، كل عربة فيها رجل وامرأة يضحكان في سعادة، لقد مرت هي مرة، بل مرات، مع الدكتور رشيد في عربته، وكانت تضحك في سعادة، لكنها الليلة حزينة باكية. لقد أحبها الدكتور رشيد ثلاثة أشهر فحسب، مارس وأبريل ومايو، ثم بدأ يتهرب منها، بعد أن منحته كل شيء لديها، وكانت تحس أنها لا تعطيه شيئا، كانت تحس أنها ضئيلة فقيرة بالنسبة له، فكانت تبذل أحسن ما عندها في خزي، ونسيت نفسها في حرارة الحب، ونسيت أباها المعلم حنفي المنجد وأمها و... و... ونسيت كل المفاهيم التي تلقتها من زميلتها فاطمة، وانطلقت منها دون وعي طبيعتها الطيبة الساذجة شديدة الصدق والإخلاص.
ناپیژندل شوی مخ