وصافحته وانصرفت، ووقف ينظر إلى ظهرها، وشعر برغبة في أن يجري خلفها، ويمسكها من يدها ويقول لها: لا تذهبي، لا تتركيني، إني أحبك، تعالي نعش معا، لكنه تسمر في مكانه كالتمثال وظل يتابعها بنظراته حتى اختفت في الشارع الواسع.
وفي اليوم التالي غيرت إحسان مكانها في المدرج، بعيدا عن سعيد ولم تقل له صباح الخير ، ولم تحاول أن تسلم عليه بعد المحاضرة.
وكثر همس الطلبة: إحسان وسعيد اتخانقوا، زعلوا، يا عيني! شوفوا سعيد رجع غلبان تاني! لكن ليه؟ إيه السبب؟ لعلها لم تحبه، لعله لم يحبها، لعل ...
وكان سعيد يسأل نفسه: إيه السبب؟ ولا يجد لديه الجرأة ليذهب إلى إحسان ويسألها، إنها تتجاهله، لعلها كانت لا تحبه، لعلها أحبت شخصا آخر، لعل ... لعل ...
وتفككت علاقتهما، واتسعت الفرقة بينهما، وتراصت بينهما كالمتاريس كلمة «لعل»، هي تقول «لعل»، وهو يقول «لعل»، وطلبة الكلية يقولون «لعل». ولم يعرف أحد الحقيقة أبدا، حتى بعد أن تخرجوا واشتغلوا، وكبروا، وتزوجوا، وأنجبوا، لم يفهموا الحقيقة. وكلما جاءت سيرة الكلية وأيام زمان وسنين المراهقة والحب الأول، و... و... يبتسمون في سخرية ويقولون لأنفسهم: كانت أوهام، كلام فارغ، طيش.
وينظرون إلى أبنائهم في حذر ومكر ليكتشفوا مقدار ما ورثه أبناؤهم من هذه الأوهام، وهذا الطيش.
شيء جديد
في صباح كل يوم كان يسير في الشارع من بيته إلى مكتبه، وفي أول كل ليلة كان يسير في الشارع من بيته إلى حيث يغيب حتى منتصف الليل.
وكانت له شخصية كل شيء فيها يوحي بالإهمال والفتور؛ مشيته البطيئة، وخطواته الطويلة وهو يحرك ذراعيه وساقيه بلا اكتراث كأن الأرض من صنعه، وجفناه المتدليان على حافتي عينيه في تكاسل من لا يهمه أن يرى شيئا لأنه عرف كل شيء، وبذلته الرمادية البسيطة كأنها بلا خياطة، من تحتها ياقة قميصه مفتوحة بلا ربطة عنق، والسيجارة، أو نصف السيجارة، في فهمه دائما تحترق وحدها ببطء دون أن يدخنها، كأنه نسيها أو أشفق من أن يضغط عليها، فتركها تنهار وحدها بين شفتيه.
كل يوم وكل ليلة يسير في هذا الشارع أربع مرات، نصفها ذهاب ونصفها إياب، ولا شيء فيه يتغير، هو هو، بالأمس كاليوم كأول أمس، سائر كأنه نائم، سارح في ذهابه وإيابه، حتى تظن من فرط إهماله أنه لا ينظر أبدا إلى المرآة، لولا تلك الوسامة الغريبة التي يتميز بها قوامه وملامحه.
ناپیژندل شوی مخ