وبعد أيام قليلة تعود سعيد على أن يرد تحية الصباح دون خجل شديد، وأصبح هو وإحسان حديث الكلية، يجلسان في المحاضرات معا ويخرجان إلى الفناء معا، وينفردان على الأريكة البعيدة ويراجعان المحاضرات، ويكملان ما فيها من نقص. وكان سعيد بطيئا في الكتابة، بطيئا في الفهم، وإحسان سريعة كالآلة الكاتبة، تختزل الكلمات وتفهم المحاضرات بمجرد سماعها؛ ولهذا ارتاح سعيد لهذه الصداقة. لم تعد الكلية شبحا مخيفا ثقيلا، ولا الطلبة «عفاريت» تلاحقه لتسخر منه وتشد منه حقيبته وتنفخ في قفاه. ولم تعد المحاضرات كالطلاسم في نظره، ولا الأساتذة عمالقة بالنسبة له أو جبابرة يركبون في حناجرهم أجهزة ذرية للكلام!
أصبحت علاقة سعيد بإحسان أكثر من صداقة، أصبحت حاجة ملحة لم يعرفها سعيد إلا حينما غابت إحسان عن الكلية ثلاثة أيام كاملة. نظر إلى جانبه في المدرج فلم يجدها، خيل إليه أن ليس مقعدا واحدا خاليا بجواره وإنما خرابة كبيرة إلى جواره، وشعر بالوحشة والخوف، وكأن الطلبة والأساتذة سينقضون عليه كالوحوش، وأخذ يفكر ماذا يفعل؟ هل يذهب إليها في بيتها؟ لقد أعطته العنوان على قصاصة ورق ذات يوم. وأخرج الورقة الصغيرة من جيبه يحملق فيها، كيف يقدم على عمل جريء كهذا، وجلس على الأريكة البعيدة وحده يشد شفته السفلى كعادته كلما تورط في أمر من الأمور.
وأخيرا وقف وتأبط حقيبته وقرر الذهاب إليها. إنه بدونها ضائع وحيد ضعيف أعزل، كأنما هي التي تحوطه وتكلؤه برعايتها وتحميه، وسار في الطريق يستمع إلى وقع حذائه على الأرض، ويرى المارة كأنهم أشباح متحركة.
وأحس في أعماقه بشعور قاتم غريب، يشبه نفس الشعور الذي أحسه حين مات أبوه وهو طفل صغير، شعور باليتم والضياع، رغم ما كانت تعوضه أمه من حنان ورعاية، وكانت لا تزال شابة في الخامسة والثلاثين. وتذكر دموعها ذات ليلة وهي تنام إلى جواره في السرير، ولم يكن قد رأى أمه تبكي من قبل ، حتى حينما مات أبوه لم ير لها دموعا، ولم يدهش «سعيد» لأنه هو نفسه لم يكن يحب أباه، كان يخافه ويرتجف كلما سمعه يرغي ويزبد في البيت، وتتكهرب معدته وتتقلص، ويشعر برغبة في القيء والبكاء معا.
بل إنه ليذكر أنه قال لأمه مرة بعد موت والده: «يعني أفرح يا ماما وأنت كمان تفرحي، فيه واحدة ست قالت إنك فرحانة عشان حتورثي سبعين فدان، فدان يعني إيه يا ماما؟»
ولم تقل أمه شيئا، أخذت تربت على ظهره حتى استغرق في النوم، ولم يفهم سعيد شيئا إلا بعد سنوات قليلة. وكانت الليلة التي رأى فيها دموع أمه لأول مرة، كانت تنام بجواره على السرير كعادتها تكلمه عن أشياء كثيرة وتحكي له القصص، ثم رآها تسكت وتمسح دموعها بمنديلها، ونظر إليها في دهشة وهو يقول: «إيه ده؟ إنت بتعيطي يا ماما؟»
وأفهمته أمه ليلتها وهي تبكي أن رجلا يريد أن يتزوجها، لكنها رفضته لأنها صممت على أن تكرس حياتها لابنها، وأفهمته أيضا أنهما ورثا عن أبيه سبعين فدانا وبيتا؛ ولذا فهي ليست في حاجة إلى الزواج، وأن كل من يتقدم لها لن يكون إلا طامعا في هذه الثروة.
واحتضن سعيد أمه بكل قوته، وأطبق عليها ذراعيه الصغيرتين وقال لها وهو يبكي: «أنا باحبك يا ماما، الناس كلهم وحشين، أنا مش بحب حد غيرك إنت بس.»
وسمع أمه تقول له وهو يغالب النوم: «خليك شاطر يا سعيد وخد بالك من المدرسة عشان ما حدش يسبقك.»
ومن يومها وسعيد يحس بالنفور من الناس والكراهية لهم، خيل إليه أنهم وحوش تريد أن تخطف منه أمه، وتستولي على بيتهما وأرضهما، حتى زملاؤه في المدرسة لم يحبهم، ولم يشاركهم اللعب والمرح، كان يجلس وحده ويضع حقيبة كتبه على ركبتيه، ويراقبهم وهم يمرحون. وأصبح يحب المذاكرة؛ فهي ليست إنسانا حتى يكرهه، وأصبحت هي عمله وهوايته وتسليته حتى وصل إلى الجامعة.
ناپیژندل شوی مخ