89
قال: - أعني ابن السبكي - وهذا الذي أردناه في هذه الحكاية هو ما ثبت من غير زيادة ولا نقصان، ومنهم من زاد فيها ما لا يثبت، فاحفظ ما أثبتناه، ودع ما عداه، فليس عند ابن أبي داود من الجهل ما يصل به إلى أن يقول: جهلوه. وإنما نسبه هذا إليه تعصب عليه، والحق وسط، فابن أبي دواد مبتدع، ضال مبطل لا محالة، ولا يستدعي أمره أن يدعي شيئًا ظهر له، وخفى على رسول الله ﷺ، والخلفاء الراشدين، كما حكي عنه في هذه الحكاية، فهذا معاذ الله أن يقوله أو يظنه أحدٌ يتزيي بزي المسلمين، ولو فاه به ابن أبي دواد لفرق الواثق من ساعته بين رأسه وبدنه. قال: وشيخنا الذهبي، وإن كان في ترجمة ابن أبي دواد حكى الحكاية على الوجه الذي لا نرضاه، فقد أوردها في ترجمة الواثق من غير ما وجه على الوجه الثابت. قال: وقد دامت هذه المحنة شطرًا من خلافة المأمون، واستوعبت خلافة المعتصم والواثق، وارتفعت في خلافة المتوكل. وقد كان المأمون الذي افتتحت في أيامه، وهو عبد الله المأمون بن هارون الرشيد، ممن عُني بالفلسفة، وعلوم الأوائل، ومهر فيها، واجتمع عليه جمع من علمائها، فجره ذلك إلى القول بخلق القرآن. قال: وذكر المؤرخون أنه كان بارعًا في الفقه، والعربية، وأيام الناس، وكان ذا حزمٍ، وحُكم، وعلم، ودهاء، وهيبة وذكاء، وسماحة، وفطنة، وفصاحة، ودين. قيل: ختم في رمضان ثلاثًا وثلاثين خنمة، وصعد في يوم منبرًا، وحدث فأورد بسنده نحوًا من ثلاثين حديثًا، بحضور القاضي يحيى بن أكثم، ثم قال له: يا يحيى، كيف رأيت مجلسنا؟ فقال: أجل مجلس يفقه الخاصة والعامة. فقال: ما رأيت له حلاوة، إنما المجالس لأصحاب الخلقان والمحابر. وقيل: تقدم إليه رجل غريب، بيده محبرة، قال: يا أمير المؤمنين، صاحب حديث، منقطع به السبيل. فقال: ما تحفظ في باب كذا؟ فلم يذكر شيئًا. قيل: فما زال المأمون يقول: حدثنا هُشيم، وحدثنا يحيى، وحدثنا حجاج، حتى ذكر الباب. ثم سأله عن باب آخر، فلم يذكر فيه شيئًا. قيل: فقال المأمون: حدثنا فلان، وحدثنا فلان، إلى أن قال لأصحابه: يطلب أحدُهم الحديث ثلاثة أيام، أنا من أصحاب الحديث! أعطوه ثلاثة دراهم. قال: وكان المأمون من الكرم بمكان مكين، بحيث إنه فرق في ساعة ستة وعشرين ألف ألف درهم، وحكايات مكارمه تستوعب الأوراق، وإنما اقتصر في عطاء هذا السائل - فيما نراه والله أعلم - لما رأى منه من التمعلم وليس هو هناك، ولعله فهم عنه التعاظم عليه بالعلم، كما هو شأن كثير ممن يدخل إلى الأمراء، ويظنهم جهلة، على العادة الغالبة. وكان المأمون كثير العفو والصفح، ومن كلامه: لو علم الناس حبي للعفو لتقربوا إلي بالجرائم، وأخاف أن لا أؤجر فيه. يعني لكونه طبعًا له. قال يحيى بن أكثن: كان المأمون يحلم حتى يغيظنا. وقيل: إن ملاحًا مر والمأمون جالس، فقال: أتظنون أن هذا ينبل في عيني، وقد قتل أخاه الأمين؟ فسمعه المأمون، وظن الحاضرون أنه سيقضي عليه، فلم يزد على أن تبسم، وقال: ما الحيلة حتى أنبل في عين هذا السيد الجليل. قال - أعني ابن السبكي -: ولسنا نستوعب ترجمة المأمون، فإن الأوراق تضيق بها، وكتابنا غير موضوع لها، وإنما غرضنا أنه كان من أهل العلم والخير، وجره القليل الذي كان يدريه من علوم الأوائل، إلى القول بخلق القرآن، كما جره اليسير الذي كان يدريه في الفقه، إلى القول بإباحة متعة النساء، ثم لم يزل به يحيى بن أكثم، رحمه الله تعالى، حتى أبطلها، وروى له حديث الزهري، عن ابني الحنفية، عن أبيها محمد بن علي، رضى الله عنه، أن رسول الله ﷺ نهى عن متعة النساء يوم خيبر. فلما صح له الحديث، رجع إلى الحق. وأما مسألة خلق القرآن فلم يرجع عنها، وكان قد ابتدأ بالكلام فيها، في سنة اثنتي عشرة، ولكن لم يصمم ويحمل الناس، إلا سنة ثمان عشرة، ثم عوجل ولم يمهل، بل توجه غازيًا إلى أرض الروم، فمرض، ومات، في سنة ثمان عشرة ومائتين. واستقل بالخلافة أخوه المعتصم محمد بن هارون الرشيد، بعهد منه، وكان ملكًا شجاعًا، بطلًا مهيبًا، وهو الذي فتح عمورية، وقد كان المنجمون قضوا بأنه يكسر، فانتصر نصرًا مؤزرًا، وأنشد فيه أبو تمام قصيدته السائرة، التي أولها:

1 / 89