وما احسن اشتراطه العلم، ومعرفة مدلولات الألفاظ، فلقد وقع كثيرون بجهلهم في جرح جماعة بالفلسفة، ظنًا منهم أن علم الكلام فلسفة، إلى أمثال ذلك مما يطول عَدُهُ. فقد قيل في أحمد بن صالح، الذي نحن في ترجمته: إنه يتفلسف. والذي قال هذا لا يعرف الفلسفة. وكذلك قيل في أبي حاتم الرازي، وإنما كان رجلًا مُتكلمًا. وقريب من هذا قول الذهبي في المُزني: إنه يعرف مضايق المعقول. ولم يكن الذهبي ولا المزني يدريان شيئًا من المعقول.
والذي أفتى به، أنه لا يجوز الاعتماد على كلام شيخنا الذهبي في ذم أشعري، ولا شكر حنبلي. والله المستعان.
انتهى كلام ابن السبكي بحروفه.
قلت: أكثر هذه الشروط مفقودة في أكثر المؤرخين، في غالب التواريخ، خصوصًا تواريخ المتأخرين، وقلما تراها مجتمعة، حتى إن ابن السبكي نفسه يخالفهم في كثير من المواضع، ومن تأمل " طبقاته " حق التأمل، ووقف على كلامه في حق بعض المعاصرين له، ظهر له صحة ما ذكرنا، ونحن نسأل الله تعالى أن يوفقنا للعمل بجميعها، وأن يعيننا عليه، ويسامحنا بما طغى به القلم، وحصل فيه الذهول، وكل عنه الفكر، وقصر في التعبير عنه اللسام، بمنه وكرمه.
فصل
في كيفية ضبط حروف المعجم
قالوا: الياء الموحدة، وبعضهم يقول: الباء ثاني الحروف، والتاء المثناة من فوق، لئلا يحصل الشبه بالياء، لأنها مثناة، ولكنها من تحت، وبعضهم قال: ثالثة الحروف، والتاء المثلثة، والجيم، والحاء المهملة، والخاء المعجمة، والذال المهملة، والذال المعجمة، والراء والزاي. وبعضهم يقول: الراء المهملة، والزاي المعجمة، والسين المهملة، والشين المعجمة، والصاد المهملة، والضاد المعجمة، والطاء المهملة، والظاء المعجمة والعين المهملة، والغين المعجمة، والفاء، والقاف، والكاف، واللام، والهاء، والواو، والياء المثناة، وبعضهم يقول: آخر الحروف.
هكذا يقولون إذا أرادوا ضبط كلمة؛ فإن أرادوا زيادة قالوا: على وزن كذا. فيذكرون كلمة توازنها، وهي أشهر منها، كما إذا قيدوا فلوا، وهو المهر، قالوا فيه: بفتح الفاء وضم اللام وتشديد الواو، على وزن عَدو، فحينئذ يكون الحال قد اتضح، والإشكال قد زال.
فائدة مهمة
يُعرف منها فضيلة بيان طبقات الفقهاء، ومراتبهم والاحتياجات إلى ذلك.
رأيتها في آخر " رسالة " ألفها الإمام العلامة أحمد بن سليمان الشهير بابن كمال باشا. تتعلق الرسالة بالكلام على مسألة دخول ولدِ البنت في الموقوف على أولاد الأولاد.
قال رحمه الله تعالى: " لا بد للمفتي المقلد أن يَعلم حال من يُفتى بقوله، ولا نعني بذلك معرفته باسمه ونسبه إلى بلد من البلاد، إذ لا يُسمن ذلك من جوع ولا يغني، بل نعني معرفته في الرواية، ودرجته في الدراية، وطبقته من طبقات الفقهاء، ليكون على بصيرة وافية في التمييز بين القائلين المتخالفين، وقدرة كافية في الترجيح بين القولين المتعارضين.
فنقول وبالله التوفيق: أعلم أن الفقهاء على سبع طبقات: الأولى، طبقة المجتهدين في الشرع، كالأئمة الأربعة، ﵃، ومن سلك مسلكهم في تأسيس قواعد الأصول، واستنباط أحكام الفروع عن الأدلة الأربعة؛ الكتاب والسنة والإجماع والقياس، على حسب تلك القواعد، من غير تقليد لأحدٍ لا في الفروع، ولا في الأصول.
والثانية: طبقة المجتهدين في المذهب، كأبي يوسف ومحمد، وسائر أصحاب أبي حنيفة، القادرين على استخراج الأحكام عن الأدلة المذكورة على مقتضى القواعد التي قررها أستاذهم أبو حنيفة، وإن خالفوه في بعض الأحكام الفروع، لكن يُقلدونه في قواعد الأصول، وبه يمتازون عن المُعارضين في المذهب، ويُفارقونهم، كالشافعي ونظرائه، المخالفين لأبي حنيفة في الأحكام، غير مقلدين له في الأصول.
والثالثة: طبقة المجتهدين في المسائل التي لا رواية فيها عن أصحاب المذهب، كالخصاف، وأبي جعفر الطحاوي، وأبي الحسن الكرخي، وشمس الأئمة الحلواني، وشمس الأئمة السرخسي، وفخر الإسلام البزدوي، وفخر الدين قاضي خان، وأمثالهم؛ فإنهم لا يقدرون على المخالفة لشيخ، لا في الأصول، ولا في الفروع، ولكنهم يستنبطون الأحكام في المسائل التي لا نص عنه فيها حسب أصول قررها، ومقتضى قواعد بسيطة.
1 / 11