وتوهمت حين قرأت هذه الرسالة أن خاتمة مسرحية «المليون الضائع» قد وجدتها، وأنني كذلك أهم بأن أجد حلا يصلح خاتمة لمشكلة حياتي؛ وكأن عنوان المسرحية استحال من «المليون الضائع» إلى «المنبوذ»، وكأن حياتي استحالت من جهود فردية مبعثرة إلى نظامية نشاط في مؤسسة.
ولقد جرى ذلك بعد أن جاءني الأستاذ عبد الله قبرصي، مصطحبا كتب الحزب يقول: «لقد درسنا كتاباتك كلها، ولاحظنا سلوكك؛ فاكتشفنا أنك منا، وأنه لا ينقصك إلا أن تحلف اليمين وتطلع على العقيدة.» وشوقني إلى قراءة الكتب التي يصطحبها، قلت: «ما لك وللمطبوعات؟ تعال أفهمني ما هي مبادئكم»، فلما شرحها صحت: «أهذا كل ما في الأمر؟ لماذا لم تأتوا إلي فور عودتي إلى لبنان؟ لا أرى في هذه المبادئ شيئا جديدا، ولا شيئا مغلوطا، غير أنني قبل أن أنتظم أريد أن أتثبت من أمور ثلاثة: أولها أن الحزب لا يحاول هدم لبنان؛ فإن الذي قال: «إذا قيل: لبنان قل: موطني إلهي، وصل له واسجد» هو عمي أخو أبي، وقد أفصح عن الكثير مما في نفسي نحو لبنان، وأما الأمر الثاني فهو أن لا يكون العنف من بعض أساليبكم، وثالثها: أن لا أؤمر بكتابة شيء أو الكف عن كتابة شيء.» فأجاب: فأما لبنان فهو بعض دمنا، وهو بعض بلادنا، وأما العنف فهي تهمة من التهم التي تصوب إلينا، وأما الكتابة فلك أن تكتب ما تشاء، أو أن تهمل كتابة ما تشاء، غير أنني - كذا قال الأستاذ قبرصي - أتنبأ لك بثروة أدبية تجنيها من تفاعل العقيدة في نفسك.
ولما رفعت يدي باليمين كان حسن الطويل الشاهد الموقع اسمه على بطاقة الانتساب؛ ولقد شعرت إذ ذاك بسبب ما ترسب في نفسي من أحقاد قروية، بشيء من الذل، وأخال حسن الطويل أحس بشيء من خيلاء الظفر؛ لعلنا كلانا إذ وقعنا البطاقة تراءت لنا الشمسية الصفراء.
هذه الطفولة، هذه القروية - وفيها الكثير من الفضائل هي التي في نقائصها، تسور مواطني هذه الأمة عن بعضهم بعضا، وهذا التحجر القروي أو الطائفي أو العائلي هو العقبة الكبرى في سبيل انتشار الأحزاب التي تستحق شرف هذه التسمية.
جورج عبد المسيح هو الذي منع الاغتيالات
خيروني، بعد أن دخلت الحزب السوري القومي الاجتماعي، بين أن أبقى عضوا سريا أو أن أعلن انضمامي، وتواعدنا على أن نلتقي بعد أسبوع؛ لأعطيهم الجواب. وخلال هذا الأسبوع جرت حادثتان قررتا أن أذيع أمر دخولي: فقد كنت أتناول الغداء مع الأستاذ عبد الله قبرصي في مقهى «أبو سليم» على الروشة، إذ مر بنا الأمير فريد شهاب مدير الأمن العام وسلم، وبعد أن مشى خطوات دار نحونا وصوب نحوي نظارتيه، ومن خلفيهما عينان تبرقان بالشك والذكاء، وصاح مبتسما، وسبابته حربة تكاد تمرق من كفه: «أو ... و... عى»؛ فشعرت إذ ذاك بشيء من الخداع اكتشفته لأول مرة في نفسي، إذ أخفيت - هكذا اعتقدت - ما كان يجب أن أجاهر به.
وخلال ذلك الأسبوع أحسست كأنني في بيتي وبين عائلتي وجمهور عشرائي وأصدقائي، كلهم للحزب عدو، كأنني على كل هؤلاء الأحباء طابور خامس. وكنا على أن نلتقي في بيت الأمين أديب قدورة في الساعة الرابعة بعد الظهر، وقبل الموعد حضرت مأدبة غداء في البريستول، تكريما للشاعر جورج صيدح، وكان بين الحاضرين الأستاذ جميل مكاوي، ومعرفتي به إذ ذاك سطحية وحديثة، غير أن صديقي طارق إليافي كان قد اجتمع به مرات كثيرة في باريس وفي سويسرا، وكان طارق شديد الإعجاب بجميل مكاوي، مشيدا بجرأته ووطنيته وبالمواقف المثلى التي وقفها في الميادين القومية، وبأعمال دبلوماسية باهرة من أجل عرب المغرب، ودارت الأحاديث حول المائدة في مختلف المواضيع، وجاء ذكر الحزب القومي الاجتماعي؛ فكالوا له الوزنات المعهودة من شتائم وسخرية واتهامات، ولقد تضايقت جدا في تلك المأدبة.
وبعد الغداء إذ كنا نتناول القهوة، ولسبب لا أدريه، انفردت بجميل مكاوي، وقلت له: «أنت مسافر في غد إلى سويسرا، وستسمع بعد أيام أنني دخلت الحزب السوري القومي الاجتماعي، ما رأيك؟» ولم يكن جواب الأستاذ مكاوي محقرا ولا مسيئا للحزب، بل إني أذكر أنه أثنى على مبادئه وتمنى لي النجاح. وكان مكتبي التجاري يومئذ على محطة الداعوق، وخرجت منه حوالي الساعة الثالثة والنصف قاصدا إلى بيت أديب قدورة، وفي ما أنا أنتظر تكسي، لم أشعر إلا وأتومبيل «كوبيه» يقف، وصوت صديق يدعوني إلى الجلوس معه، فدرنا على البولفار متمهلين متنزهين، وحين وصلنا إلى قرب بيت أديب قدورة شكرت صاحب السيارة الذي أوصلني، وكان الشيخ بيار الجميل.
ذكرني في مستقبل الأيام أن أروي لك، وقد جئنا على ذكر الأمير فريد شهاب - قصة المأدبة التي كدت أن أدعو إليها في أيار سنة 1949 ثم لم أفعل، ذكرني أن أروي لك هذه القصة، وكيف كان مكتبنا الهندسي، يقوم بعملية ترميم قصر الأمير فريد شهاب في الحدث.
شعرت بعد دخولي الحزب في الشهور الأولى بخيبة كبرى أين الدهاليز والأسرار؟ أين القائمة السوداء؟ أين الطلاسم؟ أين العبقريات؟
ناپیژندل شوی مخ