ولقد سبق أن قام في هذه الأرض من جمهر الناس إغراء أو تخويفا أو تملقا ووعودا، ولكن من معجزات رجل الجيل الجديد - وأعماله لا توصف بأقل من أنها معجزات - بل إن من معجزات رجل الجيل الجديد أنه استهوى بالحقيقة وبالعلم المجرد، فجاء الإيمان بعقيدته أقوى الإيمان؛ لأنه استهوى من النفس البشرية اسمى عواطفها، وأعمق مداركها، لا بهيميتها ولا أثرتها؛ ولأنه دلها على الاقتدار الكامن فيها - في الروح التي يحيا بها جسدها، وفي الجسد الذي هو جهاز روحها؛ ولأنه عرف أرضها جبهة يقاتل من أجلها مواطنون وفيها ينتجون.
إن الذي ولد في أول مارس، وارتفع رأسه إلى أعلى من منارة رأس بيروت، وعرضت كتفاه؛ فهما أقوى من الروشة وأضخم، هذا الرجل يمد فيئه في هذه البلاد يوما بعد يوم، وأن الألوف من الرجال والنساء هم أشد احتراما لأنفسهم وثقة بها وبمستقبل الأمة؛ لأنهم يعيشون في ظل عقيدته.
أريد أن أنشق فوح دمي ...!
مقدمة المقدمة: مهدت للمقال بالمقدمة؛ إذ إن القانون منع التحدث عن جورج عبد المسيح، وهو المحكوم بالإعدام مرات كثيرة.
كان مطعم مطار بيروت مكتظا حين فتشت عن كرسي فلم أجد، وهممت الخروج، فإذا بفتى منفرد إلى طاولة يدعوني، ويقدم لي الكرسي الوحيد قبالته، وتعارفنا وسهرنا؛ فقرأ علي الكثير من كتاباته، وحدثني عن أسفاره، وأخبرني أنه مسافر إلى البرازيل، ورجاني أن أنشر له الحديث الذي تذيعه اليوم «صدى لبنان»، حديث أشرف عليه - كالعادة - رفيقي محمد يوسف حمود، ولا أدري كيف نسيت اسم محدثي ذاك.
ولكنه وعد أن يكتب لي ثانية. *** «بلى، بلى، إني أعرف هذا الرجل، لقد اجتمعت به فيما سبق، أين ...؟ أين ...؟ مدينة بومباي ...!»
بهذه الكلمات كنت أحدث نفسي حين واجهني جورج عبد المسيح لأول مرة.
وكدت لا أسمع الكلمات القصيرة التي تعارفنا بها. وظلت مدينة بومباي ماثلة أمام عيني حتى دخلنا غرفة صغيرة كأنها قفص، وراح جورج عبد المسيح يقدم كرسيا حاملا غلاية قهوة، عرفت فيما بعد أنه أعدها بيديه، ونظف مرمدة سكاير، ثم نقل طاولة إلى حيث جلست، وكان يقوم بهذه الأعمال لا بتأدب من يتعمد الكياسة الاجتماعية، بل شأن من ألفت يداه تولي أموره.
وكنت متأكدا من أنني لم أشاهد لهذا الرجل صورة من قبل، ترى كيف خيل لناظري أنني اجتمعت به فيما سبق؟! «بومباي بومباي ... ما علاقة جورج عبد المسيح بمدينة في الهند؟!»
وبعد أن نظف وأصلح وهندس، دار بظهره إلي في طريقه إلى كرسيه خلف طاولته، فإذا الشعر الكثيف يبدو كلبدة، وإذا بصخرين يموران فوق عضلات، في زندين وساعدين، تكاد تمزق الكمين، وإذا هو يخطو على مهل، كأنه يمشي على وقع موسيقى هادئة.
ناپیژندل شوی مخ