Syrian Magazine of 'Al Ma'arifa'
مجلة «المعرفة» السورية
ژانرونه
العدد ١ - بتاريخ: ١ - ١٢ - ١٩٤٦
ناپیژندل شوی مخ
هذه المجلة
بين قطبي الفكر والإخلاص تحيا هذه المجلة!
وهى تنبعث من الحاجة الشديدة إلى وجودها.
ففد شعر القائمون عليها، وآمنوا، بأن المعرفة جوهر الكون الإنساني ورأوا أن المدرسة ليست سوى تنظيم الحياة الاجتماعية في أسسها، وفي مستقبلها، على ضوء المعرفة والفكر، وكأنهم يرون المجتمع أصلًا وغاية، أصلًا لنزعة الإنسان نحو النجاح والتكامل، وغاية للسمو الإنساني الماثل في العقل والتمييز مع الدراية والتوي. ولولا هذا الاعتقاد لما أقدمنا على جمع الأمر وتأكيد العزم، بغية تحقيق حاجة بيئتنا العربية والسورية، ولما سمحنا لأنفسنا بجرأة افتتاح الطريق النافعة حتى يتسنى لأهل الفكر من مثقفي البلاد أن يعبروا فيها عن آرائهم، وعن أهدافهم، ويفصحوا عن آمالهم وعن جهودهم ويعبروا عن اقتراحاتهم وعن معضلاتهم، وعن ألامهم أيضًا. فهذه الجملة نشأة عن شعور بالحاجة صادق، ولا بد لها من الازدهار إذا استطاعت إرضاء الهدف السامي النبيل الذي تنشده.
إن الأمة العربية استمرار تاريخي، وحقيقة غنية، وواقع مجيد ممتاز. عرفت من عشق الخلود كل ما يصيب المتيمين. فكانت لها أيام ناصعات، وكان لها بريق وضاء. ثم رقدت. وهي تنهض اليوم عن وعي وقوة. وتريد أن تستعيد خيرًا من مجدها الباهر، وجوهره ومادته لأنها تفيء إلى شخصيتها الجديدة وترى أن ناموس البقاء حقل تبغي بناء مدرستها_بالمعنى الواسع_في ربوعه. وهذه المدرسة هي رسالة المثقفين من أبنائها أنفسهم. والحق الجلي أن ننصف أسرة التعليم خاصةً، رجالًا ونساءً، أساتذة وطلابًا، ونسمهم بصفة إحقاق النهضة العربية، وأداء هذا الواجب الرائع. فهم حلقت الاتصال، وجسر التقدم.
الجاهلون، بل البسطاء، بل المنكرون والمنعوتون، يعبدون اللفظ ويمجدون المعنى. يحسبون الجسم روحًا، والمدرسة بناءً وأحجارا. ينظرون إلى المعلم ليروا فيه صورة جهلهم وجنايتهم. فيرمقوه بالنقص والعجز، ويتخذونه بمثابة العضو لأشل المبتور. وفي وهمهم أن المدرسة كيمياء العذاب. فيها التجارب الاتفاقية، وفيها الفشل المقبول. وفيها الغموض والسحر. يزدرون الصانع وما صنع ويهملون كرامة الإستاد ومستواه وحجاته المعنوية والمادية وكأنه في رأيهم أدنى من العامل والقروي والبائع والزعيم. ذنبه أن تعلم فصبا عن الجهل، وأخلص فعوقب بالحرمان والكفاف. ونحن نريد مقاومة هؤلاء جميعًا،
1 / 1
لأنهم أعداء الصواب، وجرثومة التقهقر وعنصر التأخر ودعاة الهزيمة.
هذه المجلة تحترم الفكر والثقافة، وتقدس ما تحترم. وهي تحب المعلم وتحترمه وتناصره، فتدفع عنه الظلم والجور والعدوان. وهي لسان المثقفين عامة، والمساهمين في حقل التربية والتعليم خاصة. تقول كلمة الحق بوضوح وتعمل في سبيل تحقيقه بثبات وجرأة وإخلاص. وهي أخيرًا مجلة الرقي لأنها وجدت كميا تحيى بالمعرفة، وتشيد الغد وتنشئ الجيل والقوم!
أهدافنا تظهر في الإنتاج، لا في النظر والادعاء. ولعل أية ذلك مثال أسرة تعليم ذاتها. فأفرادها مطلقة نصبوا أمام أعينهم خدمة المجتمع عن طريق المدرسة. ورأوا الابتعاد عن جعجعة الفراغ. وأقسموا أمام التاريخ جهد إيمانهم صبرًا ويقينًا. حتى يتفوق التلميذ على معلمه والطالب على أستاذه. وتتقدم الأمة والوطن. فترقى بتقدمها الإنسانية كلها.
ولسنا نود الغلو والإفراط في التمني، ولا نرغب في المبالغة في رسم المناهج، وتنمية المشاريع. لأننا لن نجعل هدفنا الأوحد التحليق في السماء المثل النظرية، ولا الإبحار في عالم القيم المجردة، البديعة، الزاهية الفاتنة نريد التقرب من الواقع النير، نعرفه كما هو من جهة، ونعرفه كما يجب أن يكون من جهة أخرى. دون مزج غامض بين الناحيتين. وسنجعل هذا النظرة التحليلية انتقاديه أيضًا. هدفنا يقين الإنساني ولذا لا تخشى التبصر، ولا التجنب النقد والانتقاد. بل نسعى السعي الحثيث إلى ذكر سيئات الواقع، وأن قبحت، لتلافيها. ونحاول تبيان الهدف الأمثل وأن ندى من شدة جماله ما يبهر الأبصار ويتركها حصيرة تخال فيه المستحيل، أو البعيد الإمكان.
وإلى جانب هذه الروح التحليلية الانتقادين، ترمي مجلتنا إلى البناء الايجابي، والإنشاء المنتج، وتود أن تسير خطاها بانتظام جلي، ولذلك فأنها تجهر بخطتها منذ الآن. وترى أن ترتكز جهود المساهمين فيها حول حاجات البيئة العربية في مختلف أقطارها، على أن تكون سوريا الحبيبة نقطة الاتساع الجغرافي، ولولب الاتصال بين بلدان الأمة العربية الكبرى حتى إذا نمت الأمواج التي تحملها هذه المجلة، اقترنت بما تلقاه من إصدار مماثل في الأقطار العربية الأخرى، وكان أن تداخلت أمواج الفكر التربوي والاجتماعي في البلاد العربية قاطبة، وتماسكت، واتسعت. وبذا يتسق جهد الأمة العربية في الوجود والإبداع، وينسجم اشتراكها في التطور العالمي أجمع وإننا سنأخذ الحكمة أين وجدناها، فهي ضالتنا
1 / 2
وإن سطرت في لغات أجنبية، ولن نفرق من هذا الاعتبار بين لغة وأخرى من لغات الأمم الراقية في مضمار التربية والتعليم.
لقد رأينا أن ندعو في سبيل هذا كل ذي نية سليما، فيساعدنا ويؤازرنا وهو يساعد فعلًا أخاه وابن عمه أولا، ويساعد ابنه وابن أخيه ومواطنه ثانيًا. والأجيال كلها تعاقب في صعيد الوطن العربي، بيد أن سلامتها ومصيرها وكمالها يتوقف جميعًا على نجاح الآباء ونبل المدرسين.
1 / 3
التربية والمجتمع
للدكتور عادل عواد
منذ أن وجدت الإنسانية وعيها، أبدعت مفهوم المدينة واتخذته هدفًا أعلى لها، وغاية قصوى، بما آمنت، وفي سبيل تحقيقها بذلت، ولا تزال تبذل، كل جهد وعناء.
المجتمع
ومن تعهد تاريخ الأفكار البشرية بالبحث، والإمعان، عرف أن الإنسان كان ينعم بالعمل ويحيا حياة الطبيعة الأولى، تقوده غرائزه، وتسيره قناعته بالوجود فحسب، شأنه الحيوان الأعجم، لا فرق بين هنائهما الطبيعي، ولا اختلاف في وسائلهما الابتدائية الرامية إلى تأمين الغذاء والدفء والسكن. غير أن ممارسة الحياة_صيما الحياة الاجتماعية_نقل الإنسان تدريجيا من نعيم السذاجة إلى شقاء الفكر.
وتفصيل ذلك أن اشتراك الناس في اجتماعيًا بتأمين حاجاتهم دفعهم إلى التنافس والنزاع والاختلافات. ولولا اختلاف البشر وتنازعهم منذ القدم لما تم انفصالهم عن سائر الحيوانات الراقية أولا_وفيها أنواع تعيش بصورة اجتماعية_ولولا اختلافهم وتنازعهم لما صح انقسامهم إلى أمم وقبائل وشعوب وأسر، ولولا هذا وذاك لما امتازت البشرية بأفراد عظام. . . .
وأن كان العقل البشري لا يطمئن سارعًا لصحة هذا التفسير إلا إذا اطلعنا على السر الخفي فيه، فإننا نجهر بهذا السر دون إبطاء. فنقول أن أفراد الجماعات الإنسانية كانوا_وما زالوا_يتساوون من حيث طبيعة التركيب العضوي والحاجات العامة والوظائف الحيوية المشتركة. وكان سلاح كل واحد منهم اليد ثم الفكر. ولم تكن الفروق الفردية بين الناس ذات أثر يفوق ما نشاهده اليوم من فروق بين الأفراد.
وهذا التساوي في الحاجات وفي الوسائل جعل قاموس حياة الإنسان يدور حول تنمية ما يفرق به أحدهم عن أخيه ضمن الإطار الاجتماعي العام، إلى أن غدت غريزة الوجود والبقاء عاجزة_وحدها عن أرضاء الإنسان الاجتماعي، فمال كل واحد إلى الاستثمار بالوجود، والحرص على البقاء الجيد، وصبا الناس عن القناعة بالوجود فحسب وأخذوا يتبارون في التفوق، وأبدعوا في التفكير مفاهيم مجردة للحياة تعلو على الطراز الحيواني
1 / 4
وتستند إليه. وبعبارة أخرى أخذت الاجتماعية تدرك وعيها، وتسرف في استعمال الفكر والنظر وخاصة الخيال، وأصبحت تتصور أمثلة أكثر من الوجود سعة وتنميقًا من الحياة النباتية والحيوانية قد يكون التفكير الإنساني_في أشده_أصل شقاء الإنسان، وجرثومة النزاع القائم بين الناس حتى يومنا هذا، ولكن من الثابت الراهن أن نشأة المثل العليا ووعي الإنسان لها إنما يرتكز إلى هذا التفكير، وهو ذاته ظاهرة من ظواهر الحياة الاجتماعية، وعنصر من عناصر الوجود المشترك.
المجتمع والمدينة
وقد تعددت التأويلات المتفاوتة، واختلف المفكرون والمفسرون. وكلهم يحاور في ظهور الإنسان على الأرض، وسببه أو أسبابه، وتاريخه أو تواريخه غير أن الباحثين جميعًا يقررون إنصاف البشر بالصفة الاجتماعية، منذ عرف الشر. فما وجد الإنسان الواعي المفكر إلا ووجدت معه الحياة المشتركة بين الناس. وعلى ضوء المجتمع اتقد سراج المثل الأعلى، واتضحت مفاهيم الأهداف السامية، ومن ذلك إيمان الإنسانية بما تسميه المدينة. وهي الشعلة القصوى التي تجمع الآن أبناء النوع الإنساني مهما أمنعوا في التأخر، أو بالغوا في التقدم. فهي غايته وأن طالت إليها الطريق أو قصرت.
روح المدينة
والمدينة هي غير الحضارة على كل حال، ولسنا نود هنا إظهار الفوارق بينهما، وبلغتنا الإشارة إلى تفاوت المفاهيم الإنسانية في التركيب والتعقد، وليس مفهوم أكثرهم بساطة وسهولة. وعندنا أن روح المدينة تلخص في استباق الفكر للعمل عن طريق التنظيم. وهذه الروح هي التي تربط_في رأينا_الغاية بالوسيلة، والنهاية بالطريق. فإذا كانت المدينة غاية الإنسانية اجتماعيًا، فإنا روحها تقوم على التنظيم، ومن وسائلها الفعالة علميًا، بل وسيلتها الوحيدة بوجه عام، التربية بالمعنى الذي تشير هذه الكلمة في رأس هذا المقال.
طبيعة المجتمع
ألف الإنسان فهم طبيعة المجتمع على أساس الموازنة بين شعور الفرد وشعور الجماعة. وأبسط الأقوال في هذا المضمار أن تنظر إلى الحياة الاجتماعية نظرتك إلى الحياة ألنفسيه. وهذا أصل الرأي القائل بان المجتمع عبارة عن وجدان وشعور، كما أن حياة النفس وجدان
1 / 5
وشعور. ومن الباحثين من يتابع الموازنة القياسية فيقول أن الحياة الاجتماعية ذات عقل وعاطفة وإرادة، مثل الحياة الفردية ألشخصيه. وكما اللاشعور النفسي حقيقة تعمل عملًا هامًا في حياة العقل الواعي، والعواطف الظاهرة، والعزيمة الصادقة، فكذلك يعتقدون أن المجتمع يتمتع بمعجزات اللاشعور ألاشعور الاجتماعي، وكأن له عقلًا باطنًا يأتي
المعرفة
بالسحر والعجائب ويكاد من حيث هو يفلت من ربكة الدراسة والبحث. غير أن التحريات ألعلميه ألحديثه تنمو نموًا جديدًا، فتنظر إلى المجتمع نظرتها إلى موجود حي له خصائص مميزة وسلوك خاص، وقوانين. وعلى ذلك فأن المجتمع متماسكة من الوظائف الناشئة عن الحياة المشتركة. ولا مجال لإنكار هذه الوظائف، إذ لا يمكن تجاهلها، والتعامي عن الاعتراف بها وعند أصحاب الرأي السديد من العلماء تظهر فكرة الوظائف الاجتماعية بثوب البداهة واليقين. فهي لا تقبل الشك ولا تتعرض لضعف الاحتمال.
خصائص المجتمع
ومن خصائص الحقيقة الاجتماعية أن الحادث ذاته يكون نتيجة في اعتبار، ويكون سببًا في اعتبار آخر. وهذا دأب الوظائف الاجتماعية كلها. فالدولة مثلًا نتيجة الحياة المشتركة، وهي بوجودها ذاته سبب مباشر لإحداث الوظائف الخاصة بها، والناتجة عنها. ومثل ذلك مفهوم الوطن والأمة والقومية. . . .
ونحن نقتصر في هذا المقال على بيان ما يربط وجوه الحياة الاجتماعية بعضها ببعض، وعندنا أن أشكال التنظيم الاجتماعي هي أحسن معيار يدل على درجة مجتمع ما من الرقي والتمدن، فالجماعة الابتدائية، والجماعة القديمة، والجماعة المعاصرة، والجماعة المتمدنة. كلها تختلف لا من حيث الطبيعة والنوع، بل من حيث الدرجة والشكل.
الوطن
ولكن ما يجمع هذه الأشكال كلها، ويبقى مستمرًا ما دامت، هو مفهوم الوطن، فهو وحده أصل لها، وهي تجسده وتجعله محسوسًا وملموسًا، وبهذا المعنى يسوغ لنا اعتبار الوطن، والعاطفة الوطنية، أساسًا ترتكز إليه الوظائف الاجتماعية، والوطن هو مصدر تعلون الأفراد وتنافسهم، وفي حدوده يكون الناس، وعلى ضوء المجتمع اتقد سراج المثل الأعلى.
1 / 6
واتضحت مفاهيم الأهداف السامية، ومن ذلك إيمان الإنسانية بما تسميه المدينة. وهي الشعلة القصوى التي تجمع الآن أبناء النوع الإنساني مهما أمعنوا في التأخر، أو بالغوا في التقدم. فهي غايتهم وإن طالت إليها الطريق أو قصرت.
روح المدينة
والمدينة هي غير الحضارة على كل حال، ولسنا نود هنا إظهار الفوارق بينهما، وبلغتنا الإشارة إلى تفاوت المفاهيم الإنسانية في التركيب والتعقد، وليس مفهوم المدينة أكثرها بساطة وسهولة. وعندنا أن روح المدينة تلخص في استباق الفكر للعمل عن طريق التنظيم. وهذه الروح هي التي تربط_في رأينا_الغاية بالوسيلة، والنهاية بالطريق، فإذا كانت المدينة غاية الإنسانية اجتماعيًا، فإن روحها تقوم على التنظيم، ومن وسائلها الفعالة عمليًا، بل وسيلتها الاجتماعية بوجه عام، التربية بالمعنى الذي تشير إليه هذه الكلمة في رأس هذه المقالة.
طبيعة المجتمع
ألف الإنسان فهم طبيعة المجتمع على أساس إقامة الموازنة بين شعور الفرد وشعور الجماعة، وأبسط الأقوال في هذا المضمار أن تنظر إلى الحياة الاجتماعية نظرتك إلى الحياة النفسية. وهذا أصل الرأي القائل بأن المجتمع عبارة عن وجدان وشعور، كما أن حياة النفس وجدان وشعور. ومن الباحثين من يتابع الموازنة القياسية فيقول أن الحيات الاجتماعية ذات عقل وعاطفة وإرادة، مثل الحياة الفردية الشخصية. وكما أن اللاشعور النفسي حقيقة تعمل عملًا هامًا في حياة العقل الوعي والعواطف الظاهرة، والعزيمة الصادقة، فكذلك يعتقدون أن المجتمع يتمتع بمعجزات اللاشعور الاجتماعية، وكان له عقلًا باطنًا يأتي بالسحر والعجائب ويكاد من حيث هو يلفت من ريقه الدراسة والبحث. غير أن التحريات العلمية والحديثة تنموا نمو جديدًا، فتنظر إلى المجتمع نظرتها إلى موجود حي له خصائص مميزة وسلوك خاص، وقوانين. وعلى ذلك فإن المجتمع جملة متماسكة من الوظائف الناشئة عن الحياة المشتركة. ولا مجال لإنكار هذه الوظائف، إذ لا يمكن تجاهلها، والتعامي عن الاعتراف بها. وعند أصحاب الرأي السديد من العلماء تظهر فكرة الوظائف الاجتماعية بثوب البداهة واليقين. فهي لا تقبل الشك ولا تتعرض لضعف الاحتمال.
1 / 7
خصائص المجتمع
ومن خصائص الحقيقة الاجتماعية أن الحادثة ذاته يكون نتيجة في اعتبار، ويكون سببًا في اعتبار أخر. وهذا دأب الوظائف الاجتماعية كلها. فالدولة مثلًا نتيجة الحياة المشتركة، وهي بوجودها ذاته سبب مباشر لإحداث الوظائف الخاصة بها، والناتجة عنها. ومثل ذلك مفهوم الوطن والأمة والقومية و. . .
ونحن نقتصر في هذا المقال على بيان ما يربط وجوه الحياة الاجتماعية بعضها ببعض، وعندنا أن أشكال التنظيم الاجتماعي هي أحسن معيار يدل على درجة مجتمع ما من الرقي والتمدن. فالجماعة الابتدائية، والجماعة القديمة، والجماعة المعاصر، والجماعة المتمدنة، كلها تختلف لا من حيث الطبيعة والنوع، بل من حيث الدرجة والشكل.
الوطن
ولكن ما يجمع هذه الأشكال كلها، ويبقى مستمرًا مادامت، هو مفهوم الوطن، فهو وحده أصل لها، وهي تجسده وتجعله محسوسًا ملموسًا، وبهذا المعنى يسوغ لنا اعتبار الوطن، والعاطفة الوطنية، أساسًا ترتكز إليه الوظائف الاجتماعية، والوطن هو مصدر تعلون الأفراد وتنافسهم، وفي حدود يكون التعاون واجبًا، والتنافس مشروع. أما إذا قصر التعاون عن أرضاء غاية الوطن أو غلا التنازع حتى مزق الوطن، فنيت الجماعة وباد أهلوها من الوجود، فذهبت ريحهم بذهابه، وأصبحوا أثرًا بعد عين.
الأمة
فلا غرو أن يكون الوطن أكثر ألاعتبارات الاجتماعية ذيوعًا_وقدسية_بين مختلف الجماعات الإنسانية، وهو أيضًا أكثرهم اتصالًا بالواقع المشخص المستمر. غير أن مفهوم الوطن حين ينظر إليه من الواجهة العلمية والتاريخية يلبس حلة الأمة، ويمثل في الأفراد أنفسهم، ومن قضى منهم. ومن لا يزال على قيد الحياة، ومن يتحمل له الوجود اجتماعية لها وجوه متعددة، كاللغة القومية دائمًا، والدين قديما، والقانون من الدستور إلى النظام حتما، فضلا في ذلك عن التاريخ والأرض والمادة البشرية التي يجمعها أبناء الأمة الواحدة، وأفراد الوطن ذاته.
القومية والدولية
1 / 8
ولعل الفكر الإنساني لا يعالج مرحلة تزيد في خطرها وخطورتها على قضية القومية والدولية. والإنسانية لا تزال في دور التمخض، فقد تجهض أو تلد رجعية في اعتبا آخر، أو تلد تقدما في اعتبار آخر، ومهما يكن في الأمر فأن الحياة الاجتماعية تتأثر كل التأثر من هذه العناصر، آية ذلك الحروب التي يشنها قوم على قوم، والغزوات التي تحققها أمة ضد أمة ونحن لا نحكم هنا على الحقيقة القومية والاتجاهات الدولية، بل نريد الإشارات أولًا إلى معنى المنظمات الدولية المتتابعة، تنتقل مراكزها من لاهاي إلى جنيف إلى سان فرانسيسكو أو نيويورك احتمالًا. وهدفنا ثانيًا إظهار ما يعرض لبعض مسائل التربية من حلول موقوتة، بعضها يعالج في المنظمات الدولية، وبعضها يترك للجامعات الدولية الضيقة أو الواسعة، وبعضها الأخر يحل على أسس القومية المستقلة الخالصة.
الواقع والتربية
بيد إن الجماعات الإنسانية تشترك اليوم في صفة ثابتة من الجهة الواقعية، إلا وهو وجود الدول الكثيرة على وجه الأرض، بعضها أقوى من بعض، إن ماديا وإن فكريا، وقد ألفوا وألفنا أن ندعو القوي منها باسم الدولة الكبيرة، كأن القوة والعظمة صنوان. والى جانب الدول الكبرى التي لا تستأثر بالوجود حتى الآن، وان كانت إلى ذلك تميل، وقي سبياه تسعى، عن شعور ولا شعور، يوجد دول نسميها بالدول الصغرى، ومن المنطق الرياضي تمييز دول متأرجحة نعرف بالدول المتوسطة، ونصيبا غريب عجيب!
إن الفكر الأنساني الذي يقر وجود الدولة في كل مجتمع واقعي، يقر ذاته إن التربية وظيفة من وظائف المجتمع، ما دامت الدولة تنظم الحياة الاجتماعية بوجه عام، فيجدر بالدولة إحقاق التربية، ولا يحسن ذلك بغيرها.
أغراض التربية
ومهما تفاوتت صفات التربية في الأمم المختلفة، فأنها تتقارب في بعض الخطوط العلمية ولكنها تتحد في أصلها الاجتماعي، وهدفها الاجتماعي ووسائلها الاجتماعية. فالتربية وظيفة لا تنفصل عن المجتمع، وهي ضرورة إنسانية في الدرجة الأولى. ومن المعلوم إن الطفولة عند الإنسان اكبر مدة منها عند صغار الحيوانات. وكأن الطبيعة تمهد للحياة الاجتماعية ذاتها، فلذلك جعلت الآباء والأمهات يجهدن في العناية بالطفل، ويغرزون عنده الميل
1 / 9
الاجتماعي، إلى إن يبلغ أشده فيؤمن بالمدينة الإنسانية ويحيا من أجل تحقيقها وفقا للمثل العليا الناتجة عنها، والسائدة في المجتمع.
وأما وسائل التربية فهي ذاتها تتنوع وتختلف من وسط اجتماعي إلى وسط آخر وأساليب التربية تتفاوت في الأسرة عنها في مستوى المهنة والسوق والشارع والوطن والأمة. وتفاوتها لا يقف عند زمان أو مكان ولكنها تستمد من البيئة الاجتماعية، ولا توجد إلا فيها.
فالتربية وظيفة اجتماعية معقدة دائمة متصلة، وفي قدرتنا أن ننظر إليها فنجدها في كل مرحلة وآن. هناك تربية يكون الأطفال موضوعا لها، وهناك تربية تكون الأسرة مادة تفعل فيها. وهناك تربية تتناول الطبقات الاجتماعية المختلفة سيان في تمييز هذه الطبقات المالية أو الشعبية أو السلكية.
والتربية في رأينا أعداد الأفراد والجماعات للاشتراك في الحيات الاجتماعية اشتراكا متكاملًا وهذا التعريف يظهر أن القائمين بوظيفة التربية هم ينوبون عن المجتمع في إحقاق ضرورة لابد منها وكل من ساهم في بالتربية بمعناها الواسع يضيف إلى صفته الشخصية صفة اجتماعية مميزة، فباسم المجتمع يمارس المهربون جهدهم، وتحقيقًا لأحدى_وأهم_وظائف المجتمع يبذل الأفراد والمؤسسات ذات الاختصاص العناية الممكنة، والعناء الشريف.
التربية والدولة
ولسنا ننكر تضارب الآراء حول استقلال الدولة وحدها بوظيفة التربية ونحب أن نفصح سبب هذا الاختلاف العميق، وعندنا أنه يرجع إلى جهل بالحقائق الاجتماعية، فليس الدول تتمتع الآن بدرجة واحدة من التطور، ونحن إذا انتقلنا إلى مستوى الحق والواجب، وجدنا أن ما يعارض تضلع الدولة بأمور التربية يسمى الأسرة أولًا ويسمى المؤسسات الدينية ثانيا.
التربية والأسرة
فمن قائل أن الطفل ملك أسرته، لها عليه حق التصرف والتوجيه والخلق والتنشئة، وله عليها بهذا القدر واجب القيام بوظيفة التربية والتعليم، وتكون الدولة متمتعة بأكبر قسط من الراحة. فلا يحق لها التدخل في أمور الأبناء إلا قليلًا، وفي حالات شاذة نادرة، وخاصةً
1 / 10
حينما يعجز الإباء عن القيام بهذه الرسالة. ويرى أصحاب النظرية أن يقتصر أثر الدولة على المساعدة المالية فتفتح الحكومة المدارس ويترك شأنها وتشرف عليها كما تشاء.
التربية والمؤسسات الدينية
ومن قائل أن التربية عمل هام، له الأثر الكبير في سلوك الأشخاص كبارًا، وفي توجيههم صغارًا. المؤسسات الدينية وحدها تختص بالسهر على التربية والتعليم، فالأفكار والعادات والتقاليد التي تحمل إلى النشء إنما يجب أن تصطبغ بالصبغة الدينية. ولأصحاب هذا الرأي نظرة عامة تجعلهم يعتقدون بتماسك الحياة الدنيا والحياة الآخرة، فإن فاعلية الإنسان النظرية العملية، والفكرية والأخلاقية، عاجلًا أو أجلًا، وقف على نجاح التربية وإخلاصها ديانا السائدة.
التربية والتاريخ
وإذا شئنا الأنصاف أن كلًا من القولين مصيب في دائرته ومخطئ خارجها. والطريق الصحيحة المستقيمة تظهر لنا خلال التاريخ الإنساني.
لقد ارتدت وظيفة التربية أثوابًا مختلفة، وسراويل عدة متنوعة. ولا يكاد يجهل باحث اليوم أن التربية كانت في السابق وقفًا على رجال الدين، يعاونهم في أدائها أحيانًا أفراد الأسرة من الراشدين الذكور، يمتنع اجتماع الصفة الدينية والصفة العائلية في الشخص المربى. تجد التربية منوطا بالكهنة من قدماء المصريين، وكانت اتجاهها عملية نفعية. أما التربية عند اليونانيين الأقدمين فكانت تختلف في إسبارطة عنها في أثينية. تستهدف خلق الجنود الشجعان في الأولى، وهي في الثانية أكبر عناية بتنمية المعارف والمدارك والشعور بالجمال والانسجام، ولكنها كانت في الحالتين إخضاع الفرد لأوامر الجماعة، وجعله قابلا لنزعات الحكومة، يتلقاها دون مقاومة، ويقبلها قبولا أعمى.
أما في روما، وإمبراطوريتها الواسعة، فقد كان اتجاه التربية عمليا يقدس الشرف العسكري في الدرجة الأولى، وبهمل حياة الفنون والآداب. وكانت الصبغة الدينية تبدو هنا وهناك في مختلف أقطار العالم القديم.
وفي القرن الوسطى الأوربية كانت التربية دينية مسيحية، ولما أشرق عصر النهضة انتشرت المبادئ العلمانية في التربية، وأخذت الناحية الأدبية الإنسانية تسود بانتظام وما
1 / 11
برحت الحركة العلمية والفنية في نمو وازدهار حتى أصبحت اليوم بمثابة التوجيه العالمي لقضايا التربية والتعليم الحياديين من الناحية الدينية.
وفي هذا الاتجاه تجد الدولة أصلًا في تأمين وظيفة التربية والتعليم اجتماعيا فلا تكاد تدع للأسرة مجالًا، أو للمؤسسات الدينية فسحة، محدود للتدخل في شؤون إعداد أبناء الأمة للحياة. وفي بعضها لازال أمر التعليم متروكا للمؤسسات الدينية من الناحية الروحية فحسب، على أن تكون هذه المؤسسات موضعًا لمراقبة حقيقية، لا تغفل ولا تماري.
التربية العربية
ونختم هذا البحث بالإشارة إلى ما كانت عليه التربية عند العرب منذ أقدم العصور وكما وصلت إلينا، ففي العصر الجاهلي كانت أهداف التربية تقتصر على إعداد الأبناء لتأمين أسباب الحياة المادية الضرورية. وكان العرب يقسمون إلى بدو وحضر. وكان تحصيل العيش واللباس ومدافعة الأعداء وقهر عوارض الطبيعة أكثر ما يرمي إليه البدو في تنشئته الأطفال، حتى تشتد سواعدهم، وتقوى أجسامهم، وكان الحضر من العرب يعملون إلى جانب ذلك بالصناعات والمهن كالطب والهندسة والنجارة والتجارة. والعرب جميعًا كانوا جد حريصين على غرس الخصال الحميدة والخصال النبيلة في النفوس، مما شهروا به، واشتهر بهم.
وكانت الأسرة أو العشيرة هي التي تقوم إجمالًا بوظيفة التربية والتعليم.
وكانت أسواق العرب تغني عن المدن الجامعية وكان للمرأة في كل ذلك شأن أساسي عظيم، ونصيب وافر كاف.
ولما وجد الإسلام وذاعت تعاليمه في الجزيرة العربية وسوريا والعراق ومصر وأفريقيا الشمالية والأندلس وأنتشر شرقًا حتى عم فارس وقسمًا كبيرًا من الهند وغيرهما. . . . اتسعت آفاق التربية والتعليم، واختلطت ثقافات عديدة في ظل المملكة العربية الإسلامية، وكانت التربية آنئذ تجمع إلى أغراض الدنيوية، غرضًا أخرويًا، في جميع أوساط المجتمع العربي على السواء.
وكانت معاهد التعليم تتمركز في الجوامع والمساجد والمستشفيات ثم ظهرت المدارس ذات الاختصاص، ووجدت دور الكتب والمطالعة ولكن تنظيم التعليم والتربية كان يتفاوت من
1 / 12
قطر إلى قطر، ولم يتبع أسسًا شعورية موحدة، ومن المؤسف الاعتراف بأن موضوع التربية والتعليم لم يدرس بعد في اللغة العربية دراسة علمية تامة، فهناك أبحاث متفرقة، وجهود تحليلية أولى، لم تتناول مذاهب التربية وأساليب التعليم في نظرة جامعة، كما تجدها في المجتمع آنئذ، وكما نجدها في مؤلفات الغزالي وابن خلدون، وكما تظهر على أكمل وجه وأتم وضوح في أبحاث إخوان صفا التي أودعوها رسائلهم الشهيرة الإحدى والخمسين.
التربية في سوريا
والتربية في سوريا تصلح_إلى حد ما_أن تكون مثالًا على ما وصلت إليه التربية في البلاد العربية بعد انفصالها عن الدولة العثمانية. وأن كنا لا ننكر الفوارق التي أخذت تميز الأقطار العربية بعضها عن بعض من الناحية التربوية ما بين الحربين العالميتين.
تملك الدولة السورية_مبدئيًا_حق القيام بوظيفة التربية والتعليم، وتشرف بواجب أداء هذه الوظيفة على أفضل وجه، وقد مرت الدولة السورية إبان تاريخها الحديث بأدوار مختلفة، بأدوار مختلفة، وأزمات متعددة، وحالا من عدم الاستقرار ليست بالشيء اليسير أو القليل. ومن الواضح أن الدولة السورية تسير في ذلك وفق أصح الاتجاهات التربوية العالمية، فالتربية عمل اجتماعي ووظيفة تحققها الحكومة التي تنشأ في ظل الدولة، ولا خلاف في مشروعية هذا الوضع من حيث المبدأ والأصل.
كتاب مقدس
غير أن الحكومة السورية_في مستوى الواقع_لا تتمتع باستئثار شامل لوظيفة التربية والتعليم. وليس في نيتنا أن نتحرى هنا أسباب هذا الوضع، وهي موجودة في الحالة الراهنة، كما أننا لن نذكر اليوم التفاصيل ما كان وما هو وما يرجى، وقد أناط القائمون على الحكم مسألة البت في هذه الأمور بمشاور فني وضع لها كتابًا مقدسًا تفاوت فيه البحث حالة المعارف السورية واقتراحات لإصلاحها وقد جمعها في جملة من التقارير شهيرة تعمل الحكومة على تنفيذها بدقة وثبات.
ونحن إذ نرجو لهذا الكتاب حياة مستمرة، نحب أن نلفت الأنظار إلى أن وظيفة التربية والتعليم في سورية لا تصلح كلها إذا صلحت قضايا المعارف الرسمية فحسب. فهناك
1 / 13
حاجات تربوية لا تغني بها المعارف اليوم، ولكن البلاد تشعر بها شعورًا شديدًا، فمن هذه الحاجات، إلى جانب المعرفة، التربية الوطنية الشاملة التي يجب ألا تقتصر منذ الآن على المدارس الرسمية، وعلى الأطفال والشباب، بل تتناول القروي في حقله، والبائع في حانوته، والبدوي في صحرائه بين السماء والرمل. وهناك. . . وهناك. . . .
وبكلمة واحدة، نحن لا نزال نشكو_كالشقيقة المصرية_من الجهل والفقر والمرض. وعندي أكثر ما ينقصنا في المسائل التربية بكلمة التوجيه. فالتوجيه الصحيح_أن كان موجودًا عندنا_فهو ضعيف خجولا، حيران. وإحدى آيات ذلك الكتاب المشار إليه. ففيه حديث رائع ووصف ممتاز لماكينة ١ المعارف السورية ببيوتها ودويلاتها وزيوتها ودخانها ولكن الروح الشاملة الواعية، الجريئة الواضحة، لا تكاد تلمس خلال الأسنان والأمشاط والمحركات!. . ربما عدنا إلى بحث هذا الموضوع في عدد قادم، بحثًا تفصيليًا كافيًا.
خاتمة
ومهما يكن في الأمر، ومهما صلحت الناحية الفنية الخالصة، فأن أهداف التربية السورية تستمد حياتها_فعلًا ووجوبًا_من حاجات البيئة ذاتها، بيئتنا اليوم. ولا بد من أن ينظر إلى هذه الحاجات بإخلاص، واعتبار ما يربط بلادنا بماضيها من جهة أخرى، وبوجه خاص. لا يشذ ذلك عن نطاق الوطن العربي، لا يستهدف سوى صالح الأمة العربية ونفعها، وبقائها، ونجاحها.
فما لا بد من وضعه دومًا في طليعة الأبحاث التربوية، حقيقة علاقة التربية بالمجتمع، والمدرسة بالوطن، وعلى نجاح التربية وصلاحها تتوقف حياة الوظائف الاجتماعية الأخرى الاقتصادية والسياسية والعسكرية. وقد تؤمن الحكومة واجب التربية والتعليم، وقد تتدخل في ذلك_إلى حد ما_الأسرة والمؤسسات الدينية كما هو موجود فعلًا في بلادنا الحبيبة اليوم، والأصل في كل ذلك أن تتضافر الجهود، وتتعاون الأسرة والمدارس الأهلية والحكومة على القيام بعبء التربية الأقدس. ولسنا نعالج هنا قضية المدارس الأجنبية التي تضرب بسهم في الموضوع، ضمن شروط وظروف تدعو إلى التفكير. بل إن غايتنا من تباين هذا الواقع إنما هي استنهاض الهمم، واستفزاز العزائم الصادقة، في تدارك مسائل التربية والتعليم في بلادنا من الناحية. وعندما تصح ويصح لسائر البلاد العربية تحقيق
1 / 14
وظيفة التربية اجتماعيا على أحسن وجه من ناحية أخرى، يبلغ العالم العربي شأوه، ويكتب له الوجود والفوز والبقاء.
وعلى هذا الأصل، وبهذا القدر، تساهم الأمة العربية في المدينة العالمية وتعمل على تقريب الإنسان من الكمال، حتى يبلغ المجد!
عادل عوا
1 / 15
قصة هذا الجيل
للأستاذ عزة النص
مدير التعليم الإبتائي
في الرياضة الفكر على النقاش والجدل متعة وفائدة. وإذا لم نجن منها فائدة قريبة فنحن نستمتع بعض الوقت بما تتركه في نفوسنا من نشوة ولذة، فتعالوا نتناقش. . .
ولعل خير أسلوب للمناقشة أن نسوق المقدمات ونتفق على صحتها ثم نتدرج منها إلى النتائج، فهلم نسلك معًا هذا الطريق، طريق السادة المناطق. . .
ومن أوليات المنطق أن يكون هنالكقضيةتوضع موضع البحث، وقد فرض علينا القائمون على هذه المجلة موضوعًا معينًا وهوالمدرسة والمجتمع. وهي_كما ترى_قضية لا يبت فيها برأي قاطع بل تحتمل ألجدل والحجاج، فليس في المسألة هنا قولان. . . بل أقول وأقول.
ولعل في حصر الموضوع وتحديده ما يعين على بحثه ومعالجته، فلا أراني بحاجة لأن آتيك بالبينات التواضع على أثر المدرسة في المجتمع. . .
فهذا أمر مفروغ منه وقد اتفق عليه جلة أهل الفكر وإنما المهم أن نعمل الرأي في أمور ثلاثة هي:
١_هل كل شيء في مجتمعنًا يجريعلى أحسن ما يرام في أحسن عالم ممكن؟!
أم يبدو لك أنه يحتاج إلى قدر يسير أو كبير من هذه المادة العجيبة التي يسمونها الإصلاح؟!
٢_هل تقوم مدارسنا بأداء نصيبهم_ولو قليلًا_من هذا الإصلاح؟
٣_كيف تستطيع مدارسنا الاضطلاع برسالتهم في المجتمع على وجه أكمل؟
وشرطنا في البحث حرية معقولة في الرأي، فلك أن تدلوا بدلوك في عدد ثان من هذه المجلة وتزعم أن مجتمعنا مثل فذ في المجتمعات، وجيلنا آية فريدة في الأجيال. . . ووردت لو استطع تصدقك ولكن الحقيقة المائلة تجذبني بعنف من علياء القمر إلى سطح الأرض، أن لم يكن تحت سطحها بأمتار. . .
أنا أزعم أن مجتمعنا سديمي لم يتكتل وتبرز عناصره ويستقر على فلك معلوم. فلست أرى فيه صخرة ثم تكوينها بل لا أشاهد فيه بعد مظهرًا من مظاهر التضاريس الثابتة. . . ولا
1 / 16
يعكس المنظار إلا هواء وأهواء. . .
وما يكون حالة مجتمع قضى قرونًا أربعة في ليل برم؟! ولما غمرته موجة النور كانت نواظره قد الفت الظلمات فغدا يفتح الجفن على خوف وحذر ثم يغلقه وينعم بالظلام المألوف!
أربعة قرون ظالمة مظلمة تمخضت فولدت أبناء هذا الجيل. . . وحسبي أن أقص عليك سيرة واحدة منهم لتعرف قصتهم جميعًا. فهم سواسية كأسنان المشط، خلقهم الله من فصيلة واحدة على نموذج موحد، أن لم يتشابهوا في الخلقة وبنية الجسم فهم متشابهون في الخلق وبنية العقل، وأن تفاوتوا في السن فأعمارهم العقلية متقاربة على كل حال.
أنا أزعم أن مجتمعنا يتميز_أكثر مما يتميز_بالنزعة التجارية. .
فنحن مضرب المثل في معرفة مأتي الربح والغنيمة مما كان السبيل إليها. .
ولو وقف الأمر هنا لهان الخطب، ولكن غريزتنا التجارية النامية تسيطر على ألبابنا ومشاعرنا فأصبحت لنا أخلاق تجارية عريقة وعقلية تجارية مهنية.
أنا أزعم أن إنسان هذا الجيل تاجر مراب في كل شيء. . . في حبه وبغضه، ووده، وكرهه، وتدينه، وإلحاده، وحزبيته، وحياده وعلمه_وكدت أقول وجهله أيضًا. . . فالمدرسة والبيت والوظيفة والحانوت والحياة كلها. . عند الإنسان هذا الجيل، تجارة ترتكز إلى أساس صلد مكين من الأثرة وحب الذات. وصاحبنا_إنسان هذا الجيل_مولع بالغزو والسطو فأن لم يستطع بيده فبقلبه ولسانه، ونحمد الله على أن القوانين الوضيعة قد حدث الغزو باليد وبقي الغزو باللسان والقلب.
هذا الكائن الحي لا تستسيغ نفسه فضيلة التعاون. . وهو حسود كنود سباب عياب مغتاب شتام هدام. . وما شئت أن تضيف إلى ذلك. . .
وكان إلى عهد قريب يعيش مع ذويه ضمن إطار الأسرة فكان له من فضائل التعاون الاجتماعي نصيب العصبية القبلية على الأقل. . . فلما أخذ بالمدينة الحديثة وتحلل من قيود الأسرة أضاف إلى الأسرة التجارية الموروئة ميزة الانفرادي، فكان يقولنحنويريد أسرته وذويه فأصبح ألان لا يعرف إلاأنا. . .
هذا الكائن الحي يسألك بلهفة أين كنت؟ وماذا أكلت؟ إلى أين أنت ذاهب؟ وكيف حالك؟ فلا
1 / 17
تحسبن ذلك منه دليلًا على الود والولاء. . . وإنما هو يتحرى في قرار نفسه أن يعرف إذا كنت أحسن منه وأوفر مالًا وهو يألم غي قرار نفسه أن تكون أحسن منه حالًا وأوفر مالًا.
ووليد هذا المجتمع يتحدر من قوم آلفوا_في عهد بني عثمان_إظهار الفقر وارتاحوا إلى الشكوى، لئلا يتهموا بجريمة الثروة أو يظن بهم اليسار فيعرف ذلك الجابي والوالي. . . رحم الله بني عثمان، ما أشد مذاجتهم، فلقد كان أجدادنا يتملصون من دفع الإتاوة بلبس الرث من الثياب، ودنانيرهم الابريزية مدفونة في التراب أو في حنايا الجدران: أين بنو عثمان من الملك الغربي الذي كان يقول لمن ينفق عن سعة: أنك تصرف فأنت إذن غني، فيجب أن تدفع، ويقول لمن لا ينفق: إنك لا تصرف فأنت إذن تدخر فيجب إذن أن تدفع، فما كان ينجو منه غني فقير!
وصاحبنا من قوم أولعوا بالإمارة ولو على الحجارة. . . صغيرهم ككبيرهم زعيم حاكم يأمره يأبي ويطلب أن يطاع.
وهو بعد من أمة لا تعرف التوسط في الحب والخصام ولا تقف بعنفها عند حد معقول مقبول، الحب عندها كالبغض يرغي ويزيد وينقم ويهدد ويشتم ويهدم. ولا تسلني كيف ولد صاحبنا_إِنسان هذا الجيل_ومتى ولد؟ فقد حملت به أمه في جو محموم مسموم وقذفت به لهذا العالم في جو محموم مسموم: ضيق يد ومجاعة وخوف وهلع وحروب وثورات على الترك والإفرنج. وجو مثل هذا حليق بأن يخرج جيلًا عصيبًا سوداويًا مضطربًا مكتئبًا مهمومًا. . إِنه جيل زئبقي ينتقل بسرعة الكهرباء من قطب الخير إلى قطب الشر، وهو إلى الشر أسرع.
جرب مرة أن تحصي عناصر الخير والشر فيما يدور حديث بين أبناء هذا الجيل واعمل (نسبة مئوية) ثم احكم. .
لقد خرج هؤلاء الأبناء إلى عالم الكون والفساد وهو في بحران مد لهم: أجنبي أحمق يدعي انه جاء ليعلم الكياسة، أجنبي لص يزعم انه جاء لينشر الحضارة ويفرض الكرامة. . إنه نشر الجهل والفقر والمرض.
ومهما يكن من أمر فلقد كان من لهذا الأجنبي البغيض فضل على الأبناء هذا الجيل لم يقصد إليه عن طوع فقد جمعهم على عداوته ووحد بين قلوبهم على كرهه فتعاونوا على
1 / 18
طرده وخذلانه، تسلقه ألسنتهم تدمير حجارتهم وتصم آذانه أصوات حناجرهم: وآل التعاون إلى ما يؤول إليه كل تعاون على البر، فزال الأجنبي ولكن الغرائز المكبوتة لم تزل والعضلات الضامرة لا تنفك بحاجة إلى رياضة، والحناجر الغضة لا بد لها من الاستمرار في المران. . .
لقد تمرد هؤلاء الأبناء على آبائهم وتحللوا من طاعتهم، ومن آباؤهم؟ جهلة لا يعرفون العلوم العصرية ولا يوطنون بالغة الأجنبية، وهم بعد في شغل عنهم: الآباء في المقاهي والأمهات في الحفلات، والجو المنزلي لا حب فيه ولا تعاون. وبعد أتحسب أنني استعرضت لك جميع عيوب الجيل؟ لا، أنا لم أذكر إلا أهونها.
قيل أن (روسو) فكر في خير السبل لتحقيق مبادئه في الإصلاح الاجتماعي والسياسي فوجد أنجحها تهيئة جيل مستعد لهذا الإصلاح عن طريق التربية، فهل مدارسنا تعمل على ذلك؟
لقد ذهب أبن الجيل إلى المدرسة_وقد رأيت تراثه الضخم بالعلل الخفية والظاهرة_فماذا وجد فيها؟
وجد فيها الحساب والهندسة والجبر والفلك والمثلثات والفيزياء والتاريخ الطبيعي والتاريخ والجغرافية الخ. . . . لكنه لم يجد لم يجد ما يقوم نقائصه ويسدد خطاه. أن كل شيء يسير في مدارسنا كما لو كان التلميذ فيها سويًا حلوقا بريئًا معتدل المزاج. . . . يحتاج فقط إلى كمية لا بأس بها من المعلومات، وكأن مشاكل المجتمع لا وجود لها وكأن جميع تلك العلل لا أثر لها.
أنا أفهم المدرسة بأنها (تأخذ الطفل كما هو وترده كما يجب أن يكون).
أنا أفهم المدرسة بأنها مكان يصلح فيه ما أفسده المجتمع فتدرس فيه أخلاق كل تلميذ ومواهبه وميوله وعواطفه وتوجه الوجهة الحسنة.
مجتمعنا بعوزه التعاون ونحن نعود الأبناء في المدارس على التنافس والتزاحم وكان بوسعنا أن نعلمهم التضامن المبدع في الألعاب الرياضية والأشغال والمشاريع المشتركة.
مجتمعنا يعوزه الحب الصحيح فهل في مدارسنا آثر لهذه الحب بين التلميذ ورفاقه وبين المعلم وتلاميذه؟
1 / 19