الحلم الثاني
رائحة البخور تملأ المكان وتضفي على خشونته أنوثة مستترة، لم يكن بخورا حقا؛ فلا أرى الأبخرة بل رائحة المكان الذي يحتفظ برائحة كل زواره ويعيد بثها مع أسرارهم على لسان العرافة الغجرية. - لا تخف مرة أخرى منهم (وأشارت بيدها للشياطين الكرتونية).
فوجدتهم في غرفة تشبه غرفة الحجز في أقسام الشرطة؛ ثلاثة حوائط حجرية، والحائط المشترك مع الغرفة التي نجلس فيها من القضبان الحديدية، وبه باب من الحديد أيضا وعليه قفل كبير.
شعرت بعدم الراحة بشكل خفي خلف شغف لمعرفة ما يجري لا يختلف عن رائحة الأنوثة المستترة بالمكان، نظرت إليها بشكل مباشر وحاولت استجماع كل الأدرينالين وإطلاق كل فرموناتي الجاذبة للفراشات مستنفدا آخر ما لدي للتأثير عليها، فردت بابتسامة من يذوب عشقا مغمضة عينيها وفاتحة إياهما مرة أخرى ببطء شديد، كانت حركتها تدل على تأثرها ولكن بريق عينيها يعلن قلب الطاولة تماما، التفتت ليمينها بعينيها قبل رأسها، فنظرت لأرى ابنتها أو النسخة الأصغر سنا منها تعتلي رجلا ممددا على ظهره في جماع كامل، وترقص بنصفها العلوي مطلقة شعرها المسترسل في الهواء، تعلق نظري بها لحظة، بل لحظات، فاتنة بحق هي، شعرت بحرارة في جبهتي وأذني، اكتشفت إضاءة المكان من المشاعل والشموع، من انعكاس النيران المتراقصة على جسدها المرمري، وكأن النيران تتراقص بنفس إيقاع رقصاتها، ازدادت حرارتي في الارتفاع، قفزت من مكاني كمن مسه الجان؛ فقد كنت أنا من تعتليه الفاتنة الصغيرة، نعم إنه أنا من أنظر إليه وهو في قمة نشوته أو نشوتي لا أدري، كنت مرتاعا، حاولت التحرك بلا أي فائدة، فقد تسمرت في وقفتي كتمثال يكمل تفاصيل المكان، لم يكن قادرا على الحركة مني سوى عيني فبدأت تدور في أنحاء المكان بشكل عصبي وسريع، المكان يشبه القصور القوطية بنوافذها الرمحية وزخارفها الماسونية وعقودها المدببة، شعرت بأنني في وكر لمصاصي الدماء، ويبدو أن الفكرة قد أطلقت التسمر لدمي فشعرت بأن الدماء تتصلب في عروقي من قدمي صاعدة لأعلى، فيتحجر كل ما تتصلب فيه الدماء بألم رهيب مع تزايد إيقاع الابنة واستسلامي لها، وأقصد «أنا» الذي تعتليه وليس «أنا» المتحجر في مكاني، كنت أعرف أن تصلب الدماء في قلبي سيودي بحياتي مما لا شك فيه، تملكتني قشعريرة تشبه الشحنة الكهربية؛ لا أعرف من تصلب شراييني أم من تسارع الإيقاع الهيستيري وامتلاء فراغ المكان بأنات وآهات الألم والنشوة، يد أمسكت برسغي فسالت الدماء مرة أخرى في عروقي، وشعرت مرة أخرى بجسدي، نظرت لمن أمسكني، كانت العرافة الغجرية، فأعدت النظر للابنة ولي، فوجدتهما تحولا لتمثال من المرمر في نفس وضعيهما، ينظران إلينا وعلى وجهيهما كل ملامح النشوة، زاد خوفي، ونظرت للعرافة مرة أخرى فأجلستني على مقعد مجاور لها غير المقابل الذي كنت أجلس عليه، لم أشعر بقبضتها سوى بأمان يسري أسفل جلدي، فجلست ونظرت إليها خائفا مرتعدا، فوجدت في عينيها صفحة بئر من حنان، وكأنني ألقيت بدلوي لأجترع من عينيها التي أزالت من قلبي كل الخوف، وتوقف ارتعاد جسدي، وانحنيت أقبل يدها فربتت على رأسي، وهمست في أذني بتمتمات لم أفهمها تشبه الترانيم، لكنها أراحتني كثيرا وتبدل هلعي بنعاس الرضيع بعد تناوله وجبته الأولى.
الرئيس
توالت الاهتزازات والاصطدامات فأفقت مذعورا، كان وجه السيد «رفاعي» مبتسما مطمئنا فزاد فزعي، أعرفه هذا الرجل، «كمال الراعي» رئيس المخابرات، نعم، نعم، لكني أعرفه من مكان آخر، لا أستطيع التذكر. - عفوا سيادة الرئيس، إنها صدمات هبوط الطائرة؛ فقد وصلنا، وأعد بتغيير الطيار أثناء العودة (قالها الراعي بنبرة مفتعلة).
لم أكن أعيره أي اهتمام، كنت أريد بعض الماء، كان حلما غريبا، لكن برغم غرابته أعاد لي بعض الطمأنينة، فما زلت أنا نفس الشخص، لا أشتاق الآن إلا لكوب من الشاي ومراقبة «توحة» وهي تمارس فنون الإغواء قبل أن أتمدد على سريري، لم أهنأ حتى بالتفكير في توحة؛ فقد اقتحم «الراعي» أفكاري لينبهني بأن الموكب سيتحرك الآن.
جلس «الراعي» بجواري في سيارة الرئاسة الفارهة، وجلس بجوار السائق رئيس طاقم الحراسة الرئاسية، هكذا قال «الراعي»، كانت تتقدمنا سيارتان ودراجة بخارية، وخلفنا عدد لا بأس به من السيارات، وانطلق الموكب في هدوء وسرعة تتناسب مع هيبته ومع الساعة المتأخرة من الليل، حتى وصلنا الكورنيش في لا وقت، ابتسمت كعادتي للنيل وأنزلت زجاج السيارة بجواري لأملأ رئتي من هواء النيل، وأغلقت الزجاج قبل أن يعلق «الراعي»، لم نتبادل أي كلمات أخرى حتى لاح معبد الأقصر.
بدأت الألفة تسري لنفسي بالقرب من رائعة الأسرتين الثامنة والتاسعة عشرة بالدولة الحديثة، لا أعرف لم تذكرت وقتها حديث «كمال الراعي» عن السلطة المهيمنة على الدولة أو القلب الجرانيتي كما ذكر، كنت أفكر في أخناتون، ولماذا تمرد سياسيا على سلطات الكهنة في طيبة، وأعلن أخيتاتون عاصمة البلاد، وأعلن رفضه كل الآلهة عدا أتون أو قرص الشمس، ولم يتمكن في نفس الوقت من القضاء على سلطات كهنة طيبة؛ مما أوجد معضلة ازدواج الشرعية الذي تسبب بانهيار اقتصاد الدولة، وتدهورت الأمور أكثر في عصر «سمنخ كا رع» الذي لا يعرف التاريخ عنه الكثير غير فرضية أنه بالمقبرة رقم 55 بوادي الملوك، ثم تدهورت أكثر في عصر ولده المشكوك في شرعية نسبه «الملك توت»، وقسمت السلطة بين الوزير «آي» وقائد الجيش «حور محب»، وبرغم نقل الملك «توت» العاصمة مرة أخرى لطيبة ومحاولة تقربه لكهنة طيبة ببعض الإضافات بمعابدها، إلا أنه لم يمكث في الحكم طويلا، وتولى شئون الحكم الوزير «آي» الذي تزوج من أخته وأيضا لم يمكث طويلا لتنتهي فترة الانهيار وازدواج الشرعية بحكم قائد الجيش «حور محب» والذي أصدر العديد من القوانين لتنظيم العلاقات داخل الدولة، شعرت أن مجيئنا لمعبد الأقصر هو تأكيد لرسالة «كمال الراعي» عن الدولة والمؤسسة المهيمنة، ازدواجية الشرعية تؤدي للانهيار، وقد ينتهي الأمر بالخروج من فكرة الملك الإله التي هي من أعمدة وأركان العقيدة المصرية القديمة حين يكون المخرج من الأزمة هو تولى قائد الجيش ملك مصر.
مررنا عبر البايلون الرئيسي (الصرح) بين تمثالي رمسيس الثاني ومسلة واحدة، بعد نقل الأخرى لميدان الكونكورد بفرنسا في القرن التاسع عشر، نظرت ناحية مقصورات الثالوث المقدس على اليمين والتي بناها تحتمس الثالث لثالوث طيبة المقدس: «آمون» إله الشمس ورب الأرباب، «نوت» إلهة السماء والخصوبة، و«خنسو» إله القمر، ورغم كون المقصورات تقع في توسعات رمسيس الثاني إلا أنه حافظ عليها، حتى حول الرومان هذا الجزء من المعبد لثكنة عسكرية!
ناپیژندل شوی مخ