كنت أعيش النجاح لا أعرف الفشل ولا الهزيمة. يتساقط الكاتب وراء الكاتب وأنا في مكاني إلى جوار الإمام ثابت. لا أكف عن الكتابة ولا أقرأ ما أكتبه، وأنظر إلى صورتي داخل البرواز. والنهار أقضيه كمساحة من العمر بين الحلم والحلم، والليل طبقات من النوم أقضيها في السهر مع الإمام، نشرب نخب الصداقة القديمة، ونتسلل في الظلمة معا إلى بيت السعادة. وفي الحفلات والأعياد أقف إلى جواره أسمعه وهو يتهته تحت الشمس، وعين السماء مفتوحة بألوان الطيف والناس تهتف، وأدرك أن في الكون إرادة فوق إرادة الشيطان تدفعني إلى دخول حزب الله والهتاف مع الناس، وأتلفت حولي وأنا واقف تحت الضوء أبحث في الكون عن هذه الإرادة فوق إرادتي. لا أعرف من أين تأتي؛ فهي تأتي من مكان خارج كياني، من قبة السماء أو من بطن الأرض، من الشوارع أو الأزقة والحواري، من البيوت كالقبور ومن فوقها الدخان، من عيون الناس المكسورة، من وجوه الأطفال يغطيها الذباب، من العلم المرفوع يوم الهزيمة، من صواريخ العيد تدوي في أذني كطلقات الرصاص، وأنا واقف إلى جوار الإمام وقدمي فوق الأرض ثابتة لا أحركها. أخشى إن حركتها أن يضيع مكاني. وأرى عين السماء فوق الرءوس ترعاها. وحين سقط وجه الإمام من السماء إلى الأرض تظل السماء كما كانت، والهتاف يدوي وصواريخ العيد تفرقع، وأنا راقد إلى جواره أخفي وجهه في الأرض كأنما لم أر شيئا، وكأنما الإمام الجديد ليس هو القديم؛ فالوجه هو الوجه ولم يتغير إلا الجسد، وهو إلى جواري راقد، وأمام عيني سحابة شفافة كالضباب، وذرات تراب تدخل أنفي، ورأسي لم يعد متوازنا مع جسدي، وجسدي لم يعد في وضع عمودي مع رأسي، وقدمي دفعتها قدم أخرى واحتلت مكاني. عيناي تتحركان من تحت الجفون المغلقة ناحية اليمين واليسار، ولا أثر لأحد من حزب الله أو حزب الشيطان، وجسد الإمام أيضا اختفى، وأنا راقد وحدي تحت عين السماء، وملمس الأرض تحت صدري بارد، وصوت أبي يدوي في أذني كصوت الإمام، وأنا أمد إليه بصري لكن بصره ممدود إلى الناحية الأخرى، ويسري الفشل في عروقي كالدم البارد، وأغمض عيني في راحة أبدية. أستنشق التراب على مهل لا أتعجل الموت، وفي عنقي مفتاح الجنة لا أتعجل السعادة أو الفردوس، وفي خيالي سبع وسبعون حورية شقراء وسمراء لا أعرف كيف أختار، وفي حلقي يسري الموت بطيئا لا يخلو من اللذة، أرشفه على مهل رشفة رشفة كالخمر. أوله مر، وآخره حلو. وأضحك بصوت عال وأقهقه طاردا الهواء من صدري وبطني، ويرن صوتي في أذني أكثر انطلاقا من صوت زوجتي الأخيرة. لم يعد في أعماقي هواء مكبوت منذ الطفولة، ولا شيء يثير في الغيرة أو الشهوة. شبعت من شهوات الدنيا حتى الزهد، ولم يبق على وجهي إلا بسمة الملاك. •••
حملوه في الصندوق المزركش إلى زوجته الأخيرة، وعلى ظهر الصندوق اسمه بالبنط العريض، وصورة داخل برواز يبتسم فيها كالفتاة العذراء. وظلت هذه الابتسامة في ذاكرة الزوجة الأخيرة تكشف لها عن أعماق زوجها الحزينة، وعن ظهر قلب حفظتها كدليل مادي على أنه قادر على الحزن. لم تكن تسمعه إلا وهو يضحك ويقهقه، وجمعهما الحزن وهو غائب كالحب. كان يغيب العام وراء العام وهي تذكره. وفي كل لقاء تحوطه بذراعيها فينزلق من بينهما كالسمكة. تحاول الإمساك به دون جدوى. تخرج يدها من البحر خاوية ولا ترى منه إلا الصورة داخل البرواز، وحروفه المطبوعة فوق الصحيفة لا تقرؤها ولا هو يقرؤها، ولا أحد يقرؤها إلا الإمام. وفي الليل تراه راقدا مفتوح العين يرمق أنف الطفل النائم بعيون يملؤها الشك. الأنف ليس أنفه ولا أنف أبيه ولا جده. يمسك أنف الطفل بين أصابعه كمن يقبض على دليل الخيانة. يفتح الطفل في الظلمة عينين واسعتين تتسعان لخوف العالم، يغمضهما على الفور حين يرى عين أبيه حمراء كعين الشيطان. وسمع أباه يسأل أمه: ابن من هذا؟ قالت أمه: ابن الحب. وأدرك وهو طفل أنه ليس ابن أبيه. أغمض عينيه ونام في سعادة حتى الصباح.
دليل البراءة
كان واقفا ممشوق الظهر رأسه في السماء تحت الشمس، فوق جبينه علامة الإيمان، وفوق صدره نجمة النصر، وفي أذنه يدوي الهتاف «الله معك». يهتز رأسه من شدة الدوي، ويرتخي وجهه، وينحني ليسقط بين قدميه وهو يخطب، وعن يمينه رئيس الأمن، وعن يساره المعارض الشرعي وكاتبه الكبير، وصواريخ العيد تفرقع. رأسه لم يعد عاليا تحت الشمس، ووجهه يتجه ناحية الأرض وذرات التراب تدخل أنفه، ورئيس الأمن ينظر إليه في صمت كأنما لم يحدث شيء. يفتح فمه ليسأل قبل أن ينسى السؤال: إيه جرى في الكون؟ ويفتح رئيس الأمن فمه ليرد: ولا حاجة يا فندم كله تمام والله معك. ويرتج جسده بالغضب. معي إيه يا أعمى ألا ترى؟ ويشد رئيس الأمن جفنيه ليفتح عينيه ويشد النني من داخل العين، وينظر حواليه في الظلمة يلمحها تجري كالغزال، ويضم عضلات شفتيه مطلقا زمارة الخطر. تنشق الأرض عنهم جميعا من حزب الله وحزب الشيطان. يأتون من جميع الأركان يتدافعون بالمناكب ويتراشقون بالاتهامات، ومن خلفهم كلابهم تنبح، وأمامهم رئيس الأمن يجري وفي يده الكشافات، وهم من خلفه يجرون. لا يعرفون لماذا يجرون، لكن الأمر صدر، وحين يصدر الأمر فلا سؤال ولا جدال؛ فالجدل بدعة أجنبية لم ترد في التراث، ومن أحدث في أمرنا ما ليس في التراث فهو فتنة، والفتنة أشد من القتل، ولا يجادل في ذلك إلا كافر بالله خائن للوطن والإمام. وإذا صدرت الخيانة من الأنثى فهي تزيد عن الكفر وخيانة الوطن إلى الفاحشة وفقدان الشرف. والشرف عندنا هو الأرض، والأرض هي العرض، ولا شيء أثمن عندنا من امتلاك أجساد نسائنا، فلا يتسرب الشك إلى قلوب الرجال في النسب. تظل الأبوة معلومة باليقين، ويتم الفصل بين الطفل الشرعي والآخرين المجهولي الأب. ولا يجوز لطفل أن يكون ابن أبيه إلا باعتراف أبيه، وإذا أنكر الأب ابنه فليس للابن حق إلا الصلاة والصوم والتكفير عن الذنب. وذنب البنت ضعف ذنب الولد، وفي غير ذلك من الحقوق يكون للبنت نصف حقوق الولد. •••
أقدامهم من خلفها تدب بأحذية حديدية، وأنفاسهم تلهث، ومن خلفهم كلابهم تلهث. وهي تجري لا تعرف لماذا تجري، والظلمة داكنة. وفي الضوء البعيد ترى أمها واقفة تنتظرها وصوتها يناديها: بنت الله، تعالي. ذراعاها ممدودتان نحوها لا يفصلها عنها إلا ثلاث خطوات. قفزت الخطوة الأولى والثانية، ولم تبق إلا الأخيرة. وتوقفت عند منعطف الطلعة بين البحر والنهر، تملأ صدرها برائحة المكان حيث ولدت وحيث تموت. أصابتها الطعنة من الظهر، وقبل أن تسقط وتنسى الحروف استدارت وقالت: ما هي جريمتي وأنا عذراء لم يمسسني بشر؟ قالوا: الأنثى إذا ماتت وهي عذراء تدخل الجنة، ولن نرسلك إلى العالم الآخر إلا وأنت غير عذراء. •••
مسح رئيس الأمن العرق وهو يلهث بمنديل حريري من أجود الأنواع، ومسح الطابور من خلفه العرق بمناديل أقل جودة. كلابهم من خلفهم مسحت العرق بكفوفها السمراء المشققة دون مناديل. دوت أصوات السلاسل تجلجل بصوت عال كدوي الهتاف في عيد النصر وجلاجل الضحك في يوم الزفاف، وهي بين السلاسل تزحف كخروف العيد، وعين السماء حمراء تحت الشمس، والملائكة في الأثواب البيضاء تصفق . حزب الله على الدفة يضرب، وحزب الشيطان على الدفة يرقص. وهي مربوطة في الأرض. ذراعاها مفتوحتان، وقدماها مشدودتان؛ قدم إلى أقصى اليمين، والقدم الأخرى إلى أقصى اليسار، وفي نقطة الوسط حيث علامة الشيطان يقذفون الحجر وراء الحجر. وهي في مكانها ثابتة لا تتحرك. وجهها نحيل شاحب، وعيناها واسعتان تتسعان لثبات العالم، والنني أسود بلون الليل، وعقلها صاف كماء النهر.
في الغرفة المظلمة في بطن الأرض ظلت عيناها مفتوحتين لا تكفان عن الرؤية، وذاكرتها واعية لا تفقد الوعي. وجه أمها كوجه الله لا يغيب، وصوتها الناعم في أذنها ينادي: بنت الله، تعالي. ترفع عينيها إلى السماء، ويختفي وجه الله بين السحب، ويظهر وجه الشيطان، مليء بالشعر، وجلدة الرأس حمراء تحت الشمس. وتسمع صوت رئيس الأمن يقول: ما اسمك؟ قالت: اسمي بنت الله. قال: اسمك في حد ذاته جريمة كفر. من أعطاك هذا الاسم؟ قالت: كانوا ينادوني في بيت الأطفال بنت الله، وكانت لي اخت اسمها نعمة الله ماتت وهي طفلة، وكان لي أخ اسمه فضل الله مات فداء الوطن، فهل لك أخت ماتت وهي طفلة أو أخ مات في الحرب؟ قال: ما اسم أخيك بالضبط؟ قالت: اسمه فضل الله. هز رأسه ومسحه بالمنديل الحرير مرتين، واستعاذ بالله ثلاث مرات، وقال: أنا أعرفه، وله عندي صورة في الملف، وليس له اسم في حزب الله أو حزب الشيطان، وهذا دليل على أنه ليس واحدا منا، ومن ليس منا فهو تلبيس إبليس. قالت: مات أخي فداء الوطن، وحاربت معه في خندق واحد، ورأيته بعيني وهو يحارب الأعداء. قال: ماذا قلت؟ كنت معه في خندق واحد؟ قالت: نعم. قال: أنتما الاثنان فقط؟ قالت: نعم. قال: إنها جريمة أخرى، لا يجتمع رجل وامرأة في خلوة غير شرعية إلا والشيطان ثالثهما. قالت: إنه أخي. قال: أنت أخته في الرضاع، وحبكما حرام. قالت: لم يكن لنا أم ولا مرضعة، وشربنا لبن الجاموسة معا في بيت الأطفال. قال: جاموسة أو امرأة سيان؛ فهي ترضع ولها أثداء، وهو أخوك في الرضاع بأمر الإمام، وعقابك الرجم حتى الموت. قالت: أنا بريئة عذراء ولم يمسسني أحد. قال: سنكشف عليك لنرى دليل العذرية؛ فلا براءة بغير دليل مادي.
القاضي
في الغرفة المظلمة في بطن الأرض رأيت وجه القاضي تحت الضوء. عرفته على الفور، وقلت قبل أن يختفي الضوء: أنت الإمام. قال: أنا القاضي ولست الإمام. قلت: أيكون القاضي هو الجاني؟ قال: أنا الذي أسألك، وأنت ليس لك حق السؤال. وانطفأ الضوء الأخير، وأصبح الليل أسود. عيناي أفتحهما وأغلقهما سيان. السواد هو السواد. والهواء بارد كالبحر الأسود، وصوته في أذني ثقيل الكثافة كالذهب السائل، وهو واقف أمامي يرتدي وشاحا أسود فوق اللحم، ورأسه يلمع بغير شعر، ووجهه يغطيه الشعر، وعيناه غائرتان حتى القاع. قال: ألا تعرفين وجهي؟ قلت: نعم أعرفه، إنه وجه الإمام. قال: أنا لست الإمام، أنا القاضي، ألا تعرفين القاضي؟ قلت: لا أعرفه، لم أر في حياتي قاضيا. قال: ألم تري وجهي في الصحف أبدا؟ قلت: لا أشتري الصحف. قال: ولماذا لا تشترين الصحف؟ قلت: ثمن الصحيفة يطعمني الخبز ثلاثة أيام. قال: هل يعيش الإنسان المتحضر بالخبز فقط؟ ألا تهتمين بالثقافة؟ هل أنت جاموسة أم امرأة؟ قلت: ثمن الجاموسة أغلى من ثمن المرأة، ويملك الرجل جاموسة واحدة وأربع زوجات، ولم يكن لي أم ترضعني، أرضعتني الجاموسة في بيت الأطفال، وكان لي أخت ماتت وهي طفلة، وأخ مات في الحرب، فهل ماتت لك أخت وهي طفلة؟ وهل مات لك أخ وهو يقاتل؟ قال: مات الإمام وهو يقاتل، ومات الرسول وهو يقاتل، ومات المسيح وهو يقاتل. وأنا القاضي أقاتل مثل الأنبياء، جعلني الإمام قاضيا في الدورة الأخيرة، وأمرني أن أوضح للناس ما علمني إياه منذ صباي، والنفس البشرية لها أربع دورات؛ منها من تعشق الضلال والكفر مثل نمرود وسفروت وعازوراء الذي قاد الكفر في عهد النبي. وقد رأيت الله في المنام قبل أن يراه أحد من حزب الشيطان، وشاهدت الرسول في ليلة الوضوح قبل العيد الكبير، ورأيت جميع الرسائل ابتداء من آدم إلى نوح ويوسف وهارون وداود وسليمان وزكريا وعيسى وموسى، ووقفت بين يدي الرسول مرفوع الرأس أنكمش في تواضع داخل ذاتي، ويأتي جبريل عليه السلام على شكل الملاك الطاهر، فيحملني على جناحيه إلى ممتد المشاهدة، وأغمض عيني ثم أردهما فإذا بي في الملكوت الأعلى وهو سدرة المنتهى، وأسمع صوت الله يناديني: يا قاضي القضاة، الآن أكشف عنك غطاءك ليكون بصرك حديدا، ووجهك جديدا، وذاتك جديدة. وتنكشف ذاكرتي تماما، وأدرك أنني ذات الإمام أو الإمام ذاته في دورات سابقة، والله أعطاني أسرار الكون والعلوم والطب؛ فأنا أعرف الداء وأصف الدواء، وأعرف الصادق من الكاذب، وأعرف صوت الله من صوت الشيطان، وأعرف المرأة الحامل من غير الحامل، وأعرف العذراء من غير العذراء، وأعرف نوع الجنين قبل أن يولد، وأعرف الأب الشرعي من غير الشرعي، وأداوي النساء من آلام الطمث أو الحرمان أو الشبق الزائد عن الحدود المشروعة، وأعطي كل امرأة من الأسرار بقدر ما تعطيني من خير وما تتصدق به لوجه الله، ولا يضيع أجر من تدفع بسخاء، وإذا أعطيت مما أعطاك الله فسوف أقول لك إذا كنت عذراء أو غير عذراء، وإذا كان الجنين في بطنك ذكرا أو أنثى، وإذا كان ابن حلال أو ابن حرام.
انسحب الدم من وجهها الشاحب، وقالت: أقسم لك أنني عذراء لم يمسسني رجل، وإذا وجدت في بطني جنينا فلا بد أنه المسيح، وقد زارني الله في الحلم عدة مرات. قال: اخرسي، قطع لسانك، اخلعي ملابسك لأفحصك؛ فأنا الذي أعرف إن كان لمسك أحد من الإنس أو الجن، وهناك أرواح من الجان تقترن بنساء من البشر في ظلمة الليل، فاخلعي ملابسك ولا تخافي.
ناپیژندل شوی مخ