اختفى في الظلمة يتمتم بآيات الحمد لله. أنفاسه تفوح بالخمر وعرق امرأة فقيرة. ارتفع نباح مرزوق في الليل، لم يسمعه أحد. كانت صواريخ العيد تدوي في الآذان، والإمام يخطب في مكبرات الصوت. يبدأ باسم الله وينتهي بالصلاة على النبي. يتفرقون بعد الخطبة ويختفون في البيوت، في رءوسهم نشوة النصر، وفي حلوقهم مرارة الهزيمة. يظهر في الشوارع رجال يحملون السكاكين، كل منهم ينادي بصوت عال: جزار. ويعم الصمت والوجوم، ثم يرتفع من كل بيت صراخ الضحية، ودخان كثيف، ورائحة شواء اللحم. بعد الأكل يرتدون الملابس الجديدة، وأحذية في كعبها حديد كالحدوة. يدبون فوق الأرض حامدين الله على النعم. في اليد اليسرى مسبحة، وفي اليد اليمنى حجر. حان موعد رجم الشيطان.
ربطوها بالحبال، صنعوا من حولها دائرة، تسابقوا في الرماية وإصابة الهدف، نقطة الوسط فوق علامة الشيطان، الفائز الأول له وسام الشرق وقصر صغير بجوار قصر الإمام وحوريات.
الأرض من تحتها باردة، رائحة تراب في أنفها، مربوطة في الأرض، صدرها مكشوف، الركبتان والذراعان مفتوحتان، في أذنيها صوت الطبول، صواريخ العيد، ضحكات الأطفال والبالونات الملونة. تفتش في وجوه الأطفال عن وجه ابنتها، تلمح الوجه الصغير الشاحب، تلوح لها بيدها وتنادي بصوت كالحفيف: بنت الله، تعالي.
منذ ولدتني أسمع نداءها مع حركة الهواء وأوراق الشجر. صوتها في ذاكرتي نقش فوق الحجر. واقفة في الظلمة بلا حركة، صخرة على شكل تمثال، متشحة بغلالة سوداء تخفي معالم الجسم. من حولها دائرة ضوء مجهولة المصدر. يداها الكبيرتان فوق صدرها، تخبئان شيئا عن الكون. أصابعها منقبضة على موضع القلب. ملامح الوجه ثابتة في ارتخاء. وهبت حياتها دون مقابل. ألم الاكتشاف في العينين. الصدمة راحت ولم يبق إلا الحزن، كالضوء أو الرؤية الجديدة للكون. جسمها نحيل بريء من اللحم، كالروح أو الخيال، بلا حاجة إلى حركة أو لغة. ملموسة باليد داخل كتلة من الهواء. رأسها مرفوع. فقدت كل شيء ولم تخسر نفسها، على شفتيها ابتسامة. عرفت السر وهتكت حجب السماء. عذابها محفور فوق عظام الوجه. عيناها واسعتان مملوءتان بالبريق، ترقبان انطفاء الضوء الأخير.
وأغلق حارس الإمام آخر أبواب القصر. تمتم بآية الكرسي يطرد الشياطين وأرواح الجان. دب السكون في الليل. نام الإمام ونامت عيونه، الشياطين نامت، والملائكة نامت، والآلهة نامت، وأوراق الشجر نامت، وهي لا تزال واقفة تتلفت حولها. لا أحد يراها. انثنى جسمها وكاد رأسها يلامس الأرض. انتزعت من صدرها الشيء المخبوء. ساوت الأرض بكفها الكبيرة الحانية مثل كف الله. أبعدت قطع الطوب والحصى. فرشت الأرض بتراب ناعم كصدر الأم، وأرقدتني.
كنت نائمة. وجهي شاحب يطل من فتحة ثوب أبيض. عيناي مغمضتان. صدري يعلو ويهبط في أنفاس الأطفال العميقة. يدي تطل من فتحة الكم مفتوحة الكف. ابتهال في النوم كالنداء الصامت. خلعت شالها الصوفي الأسود وحوطتني. لامست يدي إصبعها فأمسكته بأصابعي الخمس لا أتركه. تركت إصبعها في يدي طويلا بطول الليل، بطول النفس العميق في صدر الأم، ثم بدأت تسحبه شيئا فشيئا، والدم ينسحب من قلبي قطرة قطرة. ارتج جسدي لحظة الانفصال، وصحوت من النوم. رأيتها واقفة تطل علي، رأسها في السماء وعيناها نجمان يلمعان في الليل، ثم استدارت، ظهرها مرفوع، خطوتها واسعة، لا سريعة ولا بطيئة، تحرك ذراعيها في الهواء كأنما تملك الهواء. ابتعدت شيئا فشيئا ثم اختفت دون أن ينقص حجمها.
أطفال الله
حين دوت الطلقات رأيته يسقط، وفي لحظة السقوط تغير وجهه. أصبح له وجه آخر. ليس هو الوجه الذي عرفته؛ وجه غريب لم أره من قبل. ليس وجه رجل ولا أب ولا إمام، ليس وجه إنسان ولا حيوان، كالوجه المخيف في كوابيس الطفولة، وحكايات الجدة العجوز أرضعتني مع اللبن حكايات العفاريت والجان. جدتي الحقيقية لم أرها مثل كل الأطفال في ذلك البيت. أطفال كثيرون بلا أم ولا أب ولا جدة، يسمونهم أطفال الله، وأنا اسمي بنت الله. لم أكن رأيت الله وجها لوجه. تصورت أن الله هو أبي، وأمي هي زوجة الله. وفي النوم أرى أمي واقفة تنتظر الله. الليل مظلم والناس نامت وهي واقفة، وأنا راقدة ورأسها عال في السماء. عيناها مليئتان بالضوء وصوتها كالهمس: بنت الله، تعالي. أنهض من سريري وأسير حافية نحو الصوت. يأتي من بعيد من وراء الباب. أفتح الباب وأنظر، لا أحد. أسير في الممر الطويل حتى نهايته، لا أحد. باب آخر مغلق لا ينفتح. النافذة مفتوحة تطل على الفناء. أصعد إلى النافذة بقفزة واحدة. أسير على حافة الجدار. أمد ذراعي أمامي وجسمي يحفظ توازنه. حركتي خفيفة كالريشة. قدماي لا تلامسان الأرض. كالروح بغير جسد أسير على الحافة دون أن أقع، ثم أقفز في الفناء فوق يدي وقدمي كالقطة. أتوقف في الظلمة أتسمع الصوت. من وراء الباب يأتيني الهمس. باب من الخشب طلاؤه أخضر بلون الزرع، مفتوح عن شق صغير ينفذ منه ضوء. - من هناك في الظلام؟ - أنا. - مين انت؟ - بنت الله. - تعالي يا بنت الله.
أدخل إلى الغرفة الصغيرة نصف المعتمة. زوجة الحارس واقفة وراء الباب. يداها ممدودتان نحوي بلون الأرض. جلبابها أسود واسع. رأسها مربوط بمنديل أبيض. عيناها واسعتان تلمعان. وجهها ناعم كصدر الأم. أنفاسها تعلو وتهبط في نشيج خافت. ثدياها مملوءان باللبن. الحلمة السوداء منتصبة نافرة، تضغطها بين إصبعين تعتصر الألم. قطرات اللبن تتساقط قطرة قطرة. فراش طفلتها إلى جوارها خال. زوجها نائم شخيره مسموع. وجهه مليء بالتجاعيد والشعر، متكور تحت بطانية منحولة الوبر. رأسه يطل من تحتها منحول الشعر. جفناه مغلقان انفتحا فجأة ورآني بين ذراعيها. حملق في وجهي بعينين حمراوين، وصاح: ليست بنتي، بنت مين هي؟ قالت إنها بنت الله. ارتفع كفه في الهواء وسقط على وجهها: يا زانية يا بنت الزانية. •••
فتحت عيني في الظلمة. أسرة كثيرة تطل منها رءوس الأطفال. إلى جواري سرير طفلة من عمري اسمها نعمة الله، أقول لها أختي. شعرها أسود ناعم يطل من تحت الغطاء. عيناها مفتوحتان. أنفاسها متقطعة كالنشيج، تهمس بصوت خافت: بنت الله، تعالي. أنهض من سريري وأنام إلى جوارها. تحوطني بذراعيها وجسمها يرتعد: أنا خائفة. ماذا تخافين؟ أخاف الله. لماذا؟ لا أعرف. ألا تخافين الله؟ أنا بنت الله، فهل أخاف من أبي؟ تلف ذراعيها حولي، وتحت أذني قلبها يدق. صدرها ناعم كصدر الأم. ننام متعانقتين حتى الفجر. قبل شروق الشمس توقظني: بنت الله، عودي إلى سريرك.
ناپیژندل شوی مخ