تصدير
تقديم
1 - أقريطون يروي البداية
2 - تلميذ قاطع الحجارة في أثينا
3 - الآلهة
4 - المسير الطويل
5 - أنكسجوراس الملحد
6 - اكتشاف
7 - الآلهة تكلفه بالرسالة
8 - الرسالة
9 - ألقبيادس
10 - الحرب العظمى
11 - سقراط يتوجه إلى المحكمة
12 - الدفاع
13 - أقريطون يروي النهاية
تصدير
تقديم
1 - أقريطون يروي البداية
2 - تلميذ قاطع الحجارة في أثينا
3 - الآلهة
4 - المسير الطويل
5 - أنكسجوراس الملحد
6 - اكتشاف
7 - الآلهة تكلفه بالرسالة
8 - الرسالة
9 - ألقبيادس
10 - الحرب العظمى
11 - سقراط يتوجه إلى المحكمة
12 - الدفاع
13 - أقريطون يروي النهاية
سقراط
سقراط
الرجل الذي جرؤ
على السؤال
تأليف
كورا ميسن
ترجمة
محمود محمود
مقدمة
بقلم حسن جلال العروسي
عبارة قصيرة واحدة، أرادت الكاتبة كورا ميسن أن تعبر بها عما قصدته من هذا الكتاب، وأن تكشف عن الفكرة التي اتخذتها أساسا لرسم شخصية سقراط هي وصفها له بأنه «الرجل الذي جرؤ على السؤال».
هذه هي النظرة التي نظرت بها إلى سقراط، تلك الشخصية التي عاشت بين سنتي 469 و399 قبل الميلاد، وبقيت حية طوال هذه القرون، يحاول الناس والعلماء استجلاء معانيها، وفحص اتجاهاتها ومراميها، فلا يصلون إلا إلى نتائج خير ما توصف به أنها قريبة إلى آرائه.
فالصعوبة القائمة في معرفة آراء سقراط هي أنه لم يخط حرفا ولم يترك أثرا مكتوبا، بل ظل الاعتماد في معرفة آرائه على ما نقله عنه تلميذاه - أفلاطون وزينوفون - وكل منهما قد رسم له صورة قد تختلف عن صورة الآخر وقد تتعارض في بعض الأحيان، ولكن كلا من الصورتين تكمل الأخرى وتنتج عنهما صورة ممتازة تسترعي النظر.
ظل سقراط رجلا عاديا حتى بلغ الثلاثين من عمره، ثم أخذ يشعر بأن عليه رسالة دينية يؤديها، هي أن يعمل على هداية الأثينيين إلى طرق استعمال العقل وإلى فائدة التمسك بالأخلاق، فترك عمله العادي وأهمل أمور نفسه وصار يغشى المجتمعات والمنتديات العامة يتحدث في الفضيلة والعدل والإيمان وما ماثل ذلك من موضوعات، وكانت طريقته هي الجدل والمحاورة، ولم تكن آراؤه حاسمة متصلبة بل كان فيها الكثير من المرونة والكياسة، ولم يكن في أمر الدين متشددا غير أنه كان من القائلين بالوحدانية، وذاع صيته وصار له أكبر التأثير على حياة الرجال في أثينا لا سيما بين الشبيبة.
وكان من عادة اليونان - في مواسم خاصة - إذا ما أرادوا الاستعانة بالآلهة في أمر من الأمور أن يزوروا معبد أبولو في دلفي ويستطلعوا رأي الآلهة في أمرهم، فكانوا يسمعون من فم الوحي ما يطمئنهم أو ينذرهم، والغالب أن تكون العبارة تحتمل المعنيين، وقد سئل الوحي ذات مرة عن سقراط، فوصفه الوحي بأنه أحكم رجل في بلاد اليونان، وعلق سقراط على هذا القول من بعد بأنه لم يفهم معنى لهذا الوصف إلى أن تبين له أنه بينما غيره من المفكرين يعلنون معرفتهم للأمور وهم غارقون في الجهالة، فإنه الوحيد الذي لا يعرف من الأمور شيئا.
ولا حاجة بنا للإطالة أكثر من ذلك بل يكفي أن نقول: إن إيمانه بآرائه جمع من حوله الأنصار وجر عليه عداوة لم ينطفئ لهيبها إلا بالقضاء على حياته كما حدث لأكثر من واحد من دعاة الحق والفضيلة. •••
ألفت هذا الكتاب كاتبة أمريكية اسمها كورا ميسن درست فقه اللغات القديمة ونالت الدكتوراه من رادكليف، ثم اشتغلت بتدريس الآداب القديمة في عدة مدارس وكليات، وقامت بسياحات واسعة في اليونان، وعرفت أثينا والبلاد المجاورة لها حق المعرفة.
وقد وصفت - في هذا الكتاب - حياة سقراط وصفا أرادت به أن تصل بين هذا الرجل الذي عاش في فترة بعيدة وبين قلوب الجيل الناشئ في هذه الأيام، فخرجت بهذه الصورة الكريمة، وما أصعب أن ترسم صورة جديدة لرجل رسمه أساتذة في فن القلم مثل أفلاطون في «مجلس شرابه» و«محاوراته» وزينوفون في «ذكرياته».
غير أننا ننبه إلى شيء هو أنها لم تمس الآراء إلا مسا رقيقا، وأنها عنيت بأن تخرج كتابا أدبيا لا كتابا فلسفيا ولا بحثا عميقا.
وسترى أنها نجحت إلى حد بعيد، وأن هذا الكتاب إن يقرأ على أنه مقدمة لدراسة كتب أفلاطون وزينوفون يكن خير مقدمة تدخل إلى النفس مدخلا سهلا.
وقد وفق المترجم في نقل الكتاب للغة العربية إلى حد كبير، وحافظ على الأصل كل المحافظة، والأستاذ محمود محمود معروف في عالم الترجمة والتأليف.
ولعل القراء ينعمون بهذه الترجمة العربية ويستمتعون بها كما استمتع آلاف القراء بكتاب كورا ميسن.
كلمة المترجم
بقلم محمود محمود
هذا كتاب عن رجل بلغت به الشجاعة الأدبية أن يستقل برأيه في زمن كان الناس فيه يجلون القديم ويقدسون التقاليد، وقد احتمل الموت صابرا في سبيل دفاعه عن حرية الفكر.
وضعت هذا الكتاب بالإنجليزية الكاتبة الأمريكية الدكتورة كورا ميسن أستاذة الآداب الكلاسيكية، وقد رحلت إلى بلاد اليونان وارتادت أرجاءها ودرست عن كثب مدينة أثينا وما جاورها من الريف؛ فكانت الآداب الإغريقية والفلسفة اليونانية حية في ذهنها.
وقد قصدت بهذا الكتاب أن ترسم صورة لسقراط لا باعتباره معلما عظيما أولا، ولكن باعتباره بشرا ينمو ويتطور كما بدا لأصحابه الذين عاصروه، فعرضت علينا الرجل وهو عند صانع الأواني الفخارية، وعرضته علينا وهو يأخذ عن أبيه حرفة نحت الحجارة، وعرضته علينا إنسانا حيا يتنفس، يتساءل عن الحق، ويبحث عن الحقيقة، وصورت لنا أثينا في عصره وكبار الأشخاص في زمنه.
عرضت علينا ذلك كله في أسلوب قصصي، وقدمت لنا مأساة عاطفية تنتهي بموت البطل وبالحزن العميق، وبطل المأساة رجل لا يخشى السؤال، ولا يخاف البحث، يخضع للقانون ولكنه يفكر في صحته، لا يتملق الجماهير ولا يسير في ركبها، فيرتاب الناس في أمره ويصبح موضعا للشك والظنون، هي قصة الصراع القائم بين جمود الرأي وحرية الفكر على مدى الأيام والدهور.
وقد توجهت مؤلفة الكتاب بحديثها إلى الشباب المراهق خاصة كي تدربهم على الطريقة السقراطية في البحث، وتقدم لهم طرفا من الثقافة اليونانية وموضوعات الفلسفة الكبرى، وبابا للموازنة بين الحياة في أثينا القديمة وأمريكا الحديثة.
ماذا نفعل بالأفراد الذين يتحدون النظام القائم والرأي السائد؟ هذه مشكلة نلمسها في كل عصر من عصور التاريخ، وعلى كل مجتمع وكل جيل أن يلتمس منها مخرجا، هل نحكم على المعارضين بالموت؟ هل نصمهم بالزندقة؟ هل نبعدهم عن أوطانهم؟ هل نلقي بهم في السجون؟ أم نعطيهم حرية التعبير والكلام؟ هذه جميعا حلول مختلفة لتلك المشكلة الأدبية الأزلية .
وكتاب «سقراط: الرجل الذي جرؤ على السؤال» قصة صادقة قوية لرجل واحد استطاع أن يجد للمشكلة حلا بمفرده.
وقد رأيت أن أقدمه لقراء العربية لكي أنهض بشبابهم خاصة نحو المثل العليا الرفيعة التي ضحى من أجلها سقراط بحياته.
والله ولي التوفيق.
تصدير
هذا عرض لسقراط قائم - قبل كل شيء - على أساس من أفلاطون وزنفون، ولكنه يدين كذلك لغيرهما من الكتاب القدامى ولكثير من العلماء المحدثين دينا لا يسعنا إلا أن نعترف به بوجه عام، بيد أني لا بد أن أذكر خاصة ما أدين به لكتاب «بركليز وأثينا» لمؤلفه أ. ر. بيرن، الذي يحتمل أن يكون قد أعاد فيه بناء قصة حملة حربية غامضة، فتابعتها عندما كتبت «المسير الطويل»، وكذلك ما أدين به لمذكرات جون برنت في طبعته لمحاورات أفلاطون، وللمجلد الثاني من كتاب «بيديا» لورنر جيجر.
ولقد تصرفت بحرية تامة في ألفاظ أفلاطون في بعض ما اقتبست من مقتطفات، وبخاصة في الحوادث التي رويتها ملخصة عن «لاخيس ومجلس الحوار»، ولكني إنما فعلت ذلك لكي أكون أمينا على ما تتضمنه المحاورات، وهي مصدر ثمين لما روي عن سقراط من أحاديث رغم ما يبدو عليها من صبغة شبيهة بالقصصية، وقد قصدت بالمحاورتين القصيرتين في «المسير الطويل» وفي «ألقبيادس» أن أنقل في صورة مصغرة شيئا مما عنى أفلاطون، كما قصدت ذلك أيضا بالفصل الأول، وقد استخدمت ما روي عن أبي سقراط من أنه كان نحاتا كأساس لمعالجة الحياة الباكرة لسقراط.
وأشكر بصفة خاصة العلماء والكتاب الذين قدموا لي المعونة الصادقة دون أن يتحملوا أية تبعة عن الطريقة التي عرضت بها موضوعي، أشكر سترلنج دو لثاقب نقده للنص، ولنصحه بشأن الصور، وأشكر جون فنلي جر لقراءته المخطوط، وروبرت بيل لمعونته الكريمة الفاحصة في المراجعة.
وأخيرا لا بد لي أن أعبر عن شكري الخاص لوالدي للفرصة التي أتاحها لي لكي أؤلف هذا الكتاب، وللدراسة الكلاسيكية التي أدت إليه.
تقديم
كل شيخ كان طفلا ذات يوم، طفلا من نوع ما، وقد ترى شيخا دنيئا ساخطا لم يكن كذلك في طفولته، بيد أنه يشق علينا أن نعتقد أن شيخا حاضر البديهة جريئا مقداما مثل سقراط لم يلتقط بذور العظمة إلا عند نهاية رحلته في الحياة.
لم يحدثنا أحد حديثا مفصلا عن شباب سقراط، ومن الواضح أنه لم تكن له لدى الجمهور ما كان لصديقه العارض ألقبيادس من أهمية، ويبدو أنه قضى أيام شبابه - كما قضى كل أيام حياته - في مجرد النمو، فلسبعين عاما كان ينمو فحسب كغيره من الناس إلا أنه أحسن استغلال حياته، نما سقراط وسط الأسمال البالية من ضروب التفكير التي كانت تسود عصره، وإذا كانت للناس من بعده طريقة للتفكير أفضل من الطرق التي سبقتها، طريقة يستطيعون أن يستخدموها إذا شاءوا، فإن الفضل فيها - إلى حد كبير - يرجع إلى سقراط.
ومن ثم كان من المفيد أن نحاول فهم نمو سقراط، حتى إذا قامت بيننا وبين الحقيقة كثير من العوائق والظلمات، إن سقراط نفسه لم يكتب شيئا قط، ولم تكن الكتابة طريقته، غير أن أصدقاءه في سنواته الأخيرة قد كتبوا شيئا عنه، وبخاصة صديقه الموهوب وتلميذه الفيلسوف أفلاطون، ولا يمكن لأحد أن يقرأ محاورات أفلاطون المسرحية عن أستاذه دون أن يحس أن فيها شخصية حقيقية قد تكون إلى حد ما شخصية سقراط، أو هي محبة أفلاطون لسقراط، أو هي إلى حد ما أفلاطون نفسه، موضع الحيرة من قديم، ولقد حاولت أن أستبعد ما استطعت من آراء أفلاطون الخاصة به فلم أضمنها هذا الكتاب، غير أننا لا نجد اليوم من يخلص سقراط من محبة أصدقائه له، وليس هنا في الحقيقة ما يدعونا إلى هذه المحاولة.
وعطفنا على سقراط مجال آخر للخلط، وهو أقرب رجل في العالم الوثني القديم إلى أن نحشره في زمرتنا متجاهلين التطورات التي طرأت في القرون الأربعة والعشرين التي تفصل بيننا وبينه، إن ألفاظنا تحمل معاني مسيحية، سواء أدركنا ذلك أو لم ندركه، ومن اليسير لنا أن نلتمس معنى مسيحيا في ألفاظ سقراط كذلك، بيد أن هذا ضرب من ضروب الاضطراب في التفكير ، ولقد كان سقراط أشد مقتا لهذا الاضطراب من أكثر الناس، وإنه ليود أن نفهم ألفاظه اليوم كما فهمها أصدقاؤه في زمنه.
وإذن فإن الشباب من أصدقاء سقراط - أفلاطون خاصة وكذلك زنفون الجندي الصحافي - قد قدموا لنا الرجل الواسع الحكمة، المسن الذي جاوز الستين، الذي أحبوه حينما كانوا في العقد الثالث من أعمارهم، أما سقراط الآخر، سقراط في دور النمو، الذي نحتاج إلى معرفته الجندي المتوسط العمر والشاب الدارس والصبي والطفل؛ أما هذا فإنه يتراجع تدريجا إلى أبعد مما كانوا يرون، وإلى أكثر بعدا مما نرى.
ولا نستطيع أن نقول في البداية إلا أن طفلا قد ولد، وكان ذلك حوالي عام 470ق.م، في بيت مغمور من بيوت الطبقة الوسطى، لا هو بالخطير أو الحقير، في مدينة أثينا، وكانت أمه تدعى فيناريتي وأبوه يدعى سفرونسكس، وكانت لفيناريتي - كما يذكر ابنها فيما بعد - سمعة طيبة عن مهارتها الفطرية وصبرها على توليد جاراتها من النساء، أما سفرونسكس فقد كان - على الأرجح - صانعا، والظاهر أن الرجل المهذب أفلاطون قد أشار إلى ذلك مرة بلباقة، وقد روى فيما بعد صراحة أن أباه كان نحاتا، وأن الابن قد أخذ عن أبيه حرفته، ومهما يكن من شيء فقد كان ذلك متوقعا منذ اللحظة التي شب فيها الصبي عن طوق الطفولة.
وإذن فقد كان هناك سفرونسكس النحات، واقفا إلى جوار سرير زوجته، ينظر إلى يدي ابنه الوليد الجديد ويرى فيهما بذرة الصناعة، ولو عرف الحق لأدرك أنه كان طوال الوقت أبا لفيلسوف.
وبطبيعة الحال لم يتم في الواقع مولد سقراط الفيلسوف إلا فيما بعد، وأقصد المولد التدريجي للآراء التي علمته بدوره أن يعين غيره من الشباب على مولد جديد كمولده، ولن نعرف أبدا حقيقة الوقت أو السبب أو الطريقة التي بدأت بها ولادة هذه الأفكار عند سقراط، ولا نستطيع إلا أن نسير في الاتجاه العام للحقيقة - كما فعل أفلاطون - ثم نخلق من هذا الاتجاه أسطورة.
الفصل الأول
أقريطون يروي البداية
[نعود إلى أثينا القديمة، قبل أربعة وعشرين قرنا؛ أي منذ أكثر من أربعة قرون ونصف قبل ميلاد المسيح، حينما كانت روما مدينة ريفية تافهة، وحينما كانت إنجلترا أسطورة من أساطير الملاحين، وأمريكا قارة في سبات عميق، والعالم الغربي يتطلع إلى بلاد اليونان.
ولكن أحدا لم ير في مدينة أثينا الإغريقية صبيا باسم سقراط بدأ يتطور إلى فيلسوف، أقول: إن أحدا لم ير ذلك، اللهم إلا إن كان صديقه أقريطون، فلربما رأى ذلك أقريطون وذكره عندما صار شيخا، ورواه في شيء يشبه ما يلي، أما بقية القصة حتى نهايتها فمصدره جهات متعددة، فهو يصدر عن كتاب التاريخ، كما يصدر عن الحجارة القديمة، وعن الصغار من أصدقاء سقراط، وبخاصة صديقه أفلاطون، بيد أن هذا الفصل الأول لا يمكن أن يذكره إلا أقريطون وحده، وعلى أقريطون أن يرويه لنا.] •••
عندما رأيت سقراط لأول مرة - وكان ذلك في المدرسة فيما أذكر، أو ربما كان قبل أيام الدراسة؛ لأن بيته لم يكن يبعد عن منزلي - حسبته أقبح صبي في أثينا، ولم تكن هذه الفكرة صادقة كل الصدق؛ إذ لم تكن بوجهه كآبة أو ندوب أو علة، إنما كانت المادة التي صيغ منها كأنها أكثر خشونة وأشد صلابة من المادة التي صيغ منها غيره من الأطفال، عيناه تجحظان كعيني ضفدعة، وشفتاه غليظتان، وأنفه الأفطس يبدو كأنه دلك على طريقة خاطئة وهو في المعهد، وكانوا يسمونه في المدرسة «وجه الضفدع».
إني أحدثكم عن وجهه، وإن كنت أنا نفسي كففت عن النظر إليه - والصديق يختلف إحساسه بجلد الوجه وعظامه - لأنكم هكذا ستنظرون إليه لأنكم غرباء، ثم إني أعرف أن الأمر يختلف لديه، فلقد سمعته يضحك منه منذ ذلك الحين، سمعته يزعم أن العيون التي تشبه عينيه إنما خلقت لتنظر في جميع الجهات، وأن الأنف الأفطس يلتقط الروائح أحسن مما يلتقطها أنف طويل مستقيم، ولكني أعرف أنه قبل أن يتعلم المزاح بشأن خلقته كان كثيرا ما يتشاجر بسببها مع الصبية الآخرين، وأنه أحيانا - بعد أن يكف عن الصراع في الخارج - كان يعاني صراعا داخليا.
ولذا كان للقبح تأثير عليه - تأثير أكبر مما يظن أي إنسان - لأنه كان في جملته طفلا سعيدا متطلعا إلى الخارج، ولقد حدثني محدث عن دعاء سمع سقراط مرة يدعوه بعد ذلك بسنوات؛ خرجا معا إلى الريف، وأراد سقراط أن يؤدي صلاة لآلهة المكان الذي قصد إليه، وما أكثر ما كان يفعل سقراط ذلك؛ يصلي عندما يستمتع بحياته، وكذلك كانت صلاته تتفق وما جبلت عليه نفسه، دعا الآلهة أن تهبه كنوز الحكمة، ونفسا متزنة تحمل هذه الكنوز، كما دعاها أن تهبه البساطة، وأن يتفق مظهره مع مخبره، ولكن فاتحة الدعاء هي أشد ما أذهلني، فلقد قال: «اجعليني جميلا في داخلي.» وتذكرت عندما سمعت ذلك أنني كنت هناك عندما بدأت الفكرة لديه، عندما بدأ يوجه الأسئلة عن الجمال منذ سنوات مضت.
وعندما أقول «الجميل» قد تحسبونني في أذهانكم أعني «الظريف»؛ لأنكم أجانب، ولكن لكي تفهموا قصدي اعلموا أنني إنما أعني «الفاخر» أو «الجليل»، ذلك ما يعنيه لنا لفظنا «الجميل»، وكثيرا ما نستخدم هذا اللفظ، ولكن عندما بدأ سقراط يتساءل عن الجميل لم نفهمه بادئ الأمر أكثر مما لو كنتم أنتم تفهمونه.
وأول ما لحظت ذلك كان في درس من دروس الموسيقى، فلقد طلب إلينا جلوكس العجوز أن ننشد الأغاني المألوفة من «الشاعر» في ذلك اليوم، وكثيرا ما كنت لا ألتفت البتة لما كنا نقول إلا أن أصيب في إلقاء الكلمات، بسبب العصا التي كانت في ركن من الأركان، غير أن جلوكس اختار هذه المرة أنشودة من الأجزاء التي كنت أحبها؛ ولذا فقد تنبهت كما تنبه سقراط الذي كان يجلس إلى جواري.
لا شك أنكم تعرفون القصة: كيف تشاجر البطل أخيل مع الملك ورفض أن يقاتل من أجله في المعركة بعد ذلك، غير أن صديقه قتل وهو يحاول أن يحل محل أخيل، وبعدئذ لم يستطع أي شيء أن يصد أخيل عن القتال، بالرغم من أن أمه الإلهة أنذرته بأنه إنما يسير نحو حتفه، فأجابها أخيل بخطاب جليل عندئذ، قائلا إنه يؤثر الموت على أن يتخلى عن الصديق ، وأنه إن ابتعد عن المعركة في ذلك الحين فإنما يصبح عبئا على وجه الأرض.
وكان خطابا جليلا ترن فيه أصداء المعركة، وقد عرفتم أن أم أخيل كانت على صواب في رأيها عما سيحدث، وأنه كان يعلم صواب رأيها، وأن خيوله ذاتها سوف تحزن عليه بعد وقت قريب، ومن ثم فقد أحسست أن الخطاب كان جليلا، فصوبت نظري نحو سقراط لأعلم رأيه فيه، إذ كان بالفعل يهمني أن أعرف رأي سقراط في كل شيء.
ألقيت عليه نظرة من عل - وكان أقصر مني قامة، وإن كنا في سن واحدة - فرأيت عليه مسحة أحببت من ذلك الحين أن أراها عليه في كثير من الأحيان، انفرجت عيناه العجيبتان الجاحظتان، وتألق وجهه القبيح الصغير بشرا مصدره القلب، وهمس قائلا: «كان خطابا جميلا يا أقريطون، أفسمعت؟» ثم اضطر كلانا إلى الصمت بسبب العصا، وسرعان بعد ذلك ما أطلق شخص ما صرصورا استقر تحت أنف جلوكس تماما، فنسيت ما كان بشأن أخيل.
تذكرت هذا فيما بعد عقب مباراة المصارعة، وكنت بطلا فيها بين أترابي في ذلك الحين رغم حداثتي في التمرين بطبيعة الحال، ولم أتقدم قط للألعاب الكبرى، ولكني أحسنت في ذلك اليوم وعرفت ذلك، وسرني أن سقراط كان حاضرا يشهدني.
ودخلنا معا بعد ذلك غرفة الملابس، وذراعانا متشابكتان، وكلانا تشمله السعادة الكاملة، وقال سقراط: «مصارعة جميلة يا أقريطون.» وأخذ يكرر هذه العبارة، وهي كلمات قد تصدر عن أي إنسان، وإن يكن حملها من المعني أكثر من ذلك، ثم وقف ونظر إلي، وصمت لأني أدركت أنه كان يفكر في أمر ما.
وبعد لحظة قال لي: «أجل جميلة يا أقريطون، وكان الصباح جميلا كذلك، هل تذكر أخيل؟ كان الأمر مختلفا في ذلك الحين، ولكنه جميل أيضا، إني لأعجب ...» ثم شرع يفكر ثانية حتى نبهته فأقلع عن التفكير، ثم انصرفنا معا للتدريب.
ولم أفهم حينئذ ما كان يدور بخلده، بل ولم أعجب له، حتى كان ذات مساء بعد ذلك في نفس الأسبوع وبينما نحن جلوس بمصنع ماوس ، ولم يكن ماوس هذا إلا صانع فخار، أجنبي المولد، ولكنه كان ذائع الصيت في أثينا في تلك الأيام لإتقانه صنع الأواني، وكان فظا مع الناس، ولم يسبق لي قبل اليوم أن اقتربت من بابه إلى هذا الحد، بيد أن سقراط قد تعرف إليه بطريقة ما، وصحبني ذلك المساء لكي نراقبه.
وعندما دخلنا المصنع وجدنا ماوس قد شرع في صناعة إناء جديد على عجلته، فأشار إلي سقراط أن ألزم الصمت، وجلسنا على الأرض قريبا منه وبعيدا عن الطريق، ولست أدري إن كنتم شاهدتم من قبل خبيرا بصناعة الفخار وهو يقوم بأداء عمله، فإن كنتم قد شاهدتموه، فستدركون لماذا لم يدركنا ملل عندما جلسنا لديه نراقبه.
كانت على عجلته كتلة ضخمة من الصلصال، وظل فترة طويلة كأنه لا يفعل شيئا إلا أن يلعب بها، دافعا بها إلى أعلى وإلى أسفل بين يديه، بينما احتفظ طفل من الرقيق بالعجلة دائرة، وبدا كأنه سيبقى على ذلك طيلة المساء، ولكن الموقف تغير فجأة، وإذا بماوس يقلب يديه، ويدفع بإبهاميه إلى وسط الصلصال ويقبض ويرفع حتى تشكل الإناء بشكل ما.
ارتفع الإناء من جذوره كأنه مادة حية، وإن المرء ليحسب من غير شك أن به حياة، ولكن الحياة لم تكن بطبيعة الحال سوى الخطة التي دبرها ماوس في رأسه، وإنك لتراقبه ويصيبك شيء من الدوار، وإنك لتستطيع أن تشهد الخطة وهي تنطلق من ماوس، ومن بين يديه إلى الصلصال، والخطة تخلق من الصلصال شيئا، إن الصلصال لم يكن من قبل شيئا، ولكنه الآن إناء.
ونظرت إلى سقراط، وعرفت أن أمره الآن مثل حاله عند خطاب أخيل وفي المصارعة، وأحسسنا ذلك معا، وبعد برهة أوقف ماوس العجلة لكي يقيس شيئا ما، ووجه إليه سقراط هذا السؤال: إن هذا لجميل يا ماوس، وكان جميلا وهو يتكون، ولكن ما هذا الشيء الذي نسميه بالجميل يا ماوس؟ وما معناه؟
قال ماوس وقد بدت عليه الحيرة لحظة، ولمس طرف الإناء الذي كان يصنعه: «جميل؟ عجبا! إنه مثل هذا فيما أحسب، ومثل ذاك الذي تراه، وليس الذي شهدتني أصنعه بالأمس، لقد أفسدته وإن كان أكثر الناس لا يعلمون.»
ووضع سقراط يده على الإناء كذلك لكي يلمس استدارته، وكان جليا أنه لم يكن راضيا. - كلا يا ماوس، ليس الأمر كذلك! ذلك ما يفعله الناس دائما، إنهم يشيرون إلى الأشياء، يشيرون إليها ويقولون: «هذا جميل، وذاك جميل.» والأشياء كلها على خلاف، إناء جميل ومصارعة جميلة وشجاعة جميلة، كل هذه أمور مختلفة، ولكن ماذا عسى أن يكون بينهما من تشابه؟ لا بد أن يكون هناك تشابه ما، وليس الأمر مجرد أن يكون هذا جميل وذاك جميل، وإنما لا بد أن يكون هناك «الجميل» يا ماوس، هذا ما كنت أفكر فيه، وأنت تصنع الأشياء الجميلة، فلا بد أن تكون على علم.
وعرفت عندئذ ماذا يعني، وإن كنت لم أفكر من قبل قط في مثل ذلك، وأدرك ماوس الأمر كذلك، ولكنه لم يبادر بالجواب، وأخيرا قال: «إنني لا أعرف شيئا عن «الجميل» يا سقراط، ولست أعرف سوى الأواني الجيدة، والإناء الجيد عندي إناء جميل.»
فسأله سقراط: «ولكن لماذا يكون جيدا يا ماوس؟»
فقال ماوس مشيرا مرة أخرى حتى حسبته قد نسي: «انظر إلى تلك الجرة، إنها جرة جيدة، إنها جيدة لسبب ما، إنها جيدة في انصبابها، ولو أنك زدت قليلا من تجويف حافتها لانسكب منها النبيذ، ولو فلطحت جوانبها أكثر من ذلك قليلا لسهل سقوطها، وعندئذ تكون جرة رديئة، ولا يسميها من يعرف جرة جميلة، وفي الحق أن من رأيي أنها إذا لم تؤد الغرض الذي قصد منها شق علينا أن نطلق عليها اسم الجرة إطلاقا، إنها مجرد كتلة من الطين.»
فقال سقراط متثاقلا: «إذن لا بد أن تكون الجودة في الأشياء هي التي تجعلها جميلة ونافعة، لا بد أن تكون جودتها هي التي تجعلها أي شيء إطلاقا.»
فأومأ ماوس رأسه بالإيجاب وأضاف قائلا: «هذا ما يبدو لي كذلك، وإني لأحسب أن كل من يصنع الجرار يجب أن يجيد صنعها.»
فسأله سقراط: «ولماذا لا يفعلون؟»
وأجاب ماوس : «إنهم لا يعرفون الطريقة، والحق أنهم لا يعرفون نموذج الجرة الجيدة، الجرة الحقيقية.»
وقال سقراط: «أجل، وبالطبع إنهم ليحبون أن يحاكوا النموذج لو أنهم حقا عرفوه، ولكن من ذا الذي صنع النموذج يا ماوس؟» - «لست أنا، وليس أبي، لقد استغرق زمنا طويلا، وما زلنا - في الواقع - ندخل عليه تعديلات صغيرة، وربما لم يصنع قط النموذج الحقيقي، إنه دائما في طريق الكشف، ولكنه قد وجد فعلا على صورة ما.»
فسأله سقراط: «وإذن فكيف تكشف عنه؟ هذا ما أريد أن أعرفه يا ماوس، كيف يكون ذلك؟»
وكان هذا آخر سؤال، وقد تطلب من الشيخ العجوز زمنا طويلا لكي يجيب عنه، وفي نهاية الأمر قال: «أشك أنني أستطيع أن أخبرك بذلك يا سقراط، ولكن ينبغي لك أولا أن تعرف الجرار، ولا يكفي أن تعرف شكلها، كما يشاهدها أي زائر للمصنع، ينبغي لك أن تعرف ماذا بها مما يجعلها جرارا جيدة، جرارا حقيقية، تؤدي ما يجب للجرة أن تؤديه، المعرفة هامة جدا يا سقراط.»
وكان الحوار في ذاك المساء بمصنع ماوس كمباراة الكرة، رمي ومتابعة، إلى الخلف وإلى الأمام، وأحسست قرب النهاية كأن المباراة فوق مستواي، وإن كنت قد بدأت من ذلك الحين أحسن فهمها، وربما كان الأمر فوق مستوى سقراط نفسه قليلا في ذلك الوقت، ولم يكن ماوس سوى صانع فخار يتحدث عن الأواني الفخارية، فإن ذكر شيئا عن الجودة على اعتبار أنها نموذج يبحث عنه، فإنه لم يذكره إلا عرضا، بيد أني ما زلت أعتقد أن هذا الحديث مع ماوس كان بداية لشيء هام بالنسبة لسقراط، بداية - على الأقل - كأية بداية أخرى يحتمل أن تصادفك.
الفصل الثاني
تلميذ قاطع الحجارة في أثينا
ربما كان أقريطون على صواب، وأن سقراط بدأ يفكر كما يفكر الفيلسوف، ويبحث عن معاني الأشياء، وهو لا يزال صبيا في المدرسة، كما اعتاد فيما بعد أن يعين الصبية الآخرين على التفكير وهم في هذه السن ذاتها تقريبا، معتقدا أنهم يكونون حينئذ على استعداد لذلك، وربما جاءت بداية سقراط بعد أيام الدراسة ؛ لأنه بالتأكيد لم يتجاوز الثالثة عشرة أو الرابعة عشرة حينما أخرجه أبوه من المدرسة.
ولم يأسف لذلك سقراط، فسيبقى معه حتى نهاية حياته بعض ما تعلم في المدرسة، وبخاصة قصائد الشعر في الأبطال القدامى، كما أنه أفاد من تعلمه المصارعة والعدو وما قام به من أعمال في ساحة اللعب، لقد أفاد من ذلك أيضا وإن لم يجعل منه رياضيا من الطراز المألوف، غير أن سقراط كان يعرف كيف يتعلم لا من المعلمين والمدربين فحسب ولكن من كل إنسان يقابله، وقد دأب على هذا اللون من التعلم - بطبيعة الحال - سواء أكان في المدرسة أم لم يكن بها.
وحان الوقت لسقراط - فوق ذلك - لكي يتعلم مهنة أبيه، وقد ولد لأب يشتغل نحاتا كما جاء في قصة قديمة يحتمل صدقها.
وعاش سفرونسكس على مستوى عال من النحت، وكان سقراط يأمل أن يحافظ على هذا المستوى، فهناك عمل كثير لصانع مدرب في الأشغال العامة الكبرى، مثل «الأسوار الطويلة» التي تم بناؤها، التي تصل ما بين أثينا والبحر، وفي النقوش الدقيقة للقوانين وغيرها من المدونات العامة (وكان سقراط يستطيع أن يكثر من هذا الضرب من العمل، ما دامت الديمقراطية المتزايدة في أثينا تحب أن تنشر مدوناتها حتى يراها الناس جميعا)، وبالطبع في المقاولات الخاصة كذلك، وبخاصة في شواهد قبور الموتى، وكانت أكثر أعمال سفرونسكس بطبيعتها بعيدة عن منزله مع العمال الآخرين، وقد أحب سقراط هذه العشرة، وإن يكن قد تعلم أيضا أن يعين أباه في بيته كذلك عاملا في فناء المنزل في بعض صغائر الأعمال.
وكان سفرونسكس يستعمل الرخام في أعماله الدقيقة، الرخام الناعم المتماسك الأبيض الشاهق الذي يقطع من محاجر جبل بنتلكس القريب، ويستخدم الأدوات عينها التي كان يستخدمها من قبل أبوه وجده، وهي المطارق المدببة للعمل الخشن أولا الذي يتعلق بشق الحجر، أما المثاقب، من أمثال المسامير الكبرى - المدببة أو المربعة الأطراف، فكانت تدق بمطارق حجرية ثقيلة، أما الأزاميل المقدسة أو ذات الأسنان في أطرافها فكانت تستخدم للعمل في تسوية السطوح ، كما تستخدم الخرامات لعمل الثقوب، وقد شهد سقراط أباه يستخدم كل ذلك مئات المرات، ثم تناولها بيديه وسنها وتعلم المنافع الخاصة لكل منها.
وظل سقراط - بطبيعة الحال - أمدا طويلا لا يستطيع أن يؤدي سوى المراحل الأولى من عملية النحت، فالرخام أثمن من أن يضيع سدى، فإذا اقتضى الأمر أكثر من تشكيل السطح تشكيلا بسيطا تولاه سفرونسكس، ووقف إلى جواره سقراط يناوله الآلات ويراقبه.
كان أبوه مرة - على سبيل المثال - يريد أن ينحت رأس أسد لنافورة، فتناول الكتلة المستديرة وأخذ يصورها، وكانت الضربة في أول الأمر تغوص في الحجر إلى عمق نصف بوصة، ثم أخذ يتناول الآلات الأدق فالأدق، واستخدم المثقب المربع والمثقب الحاد والأزميل المخلبي، وأخذت تظهر تدريجا تفصيلات الرأس؛ الفم ومن فوقه الأنف الأفطس والعينان المفترستان والمعرفة المتشابكة، واستطاع سقراط الآن أن يقدر المهارة والمعرفة المودعتين في هذا العمل، إن أباه قد استغرق السنوات الطوال لكي يحذق الضرب بالمطرقة ويحسن تناول الآلات، ولما سأل سقراط أباه كيف عرف الطريقة التي يضع بها أزميله وإلى أي عمق يضربه، حاول سفرونسكس جاهدا أن يبين له الجواب.
قال: «عليك بادئ ذي بدء أن ترى الأسد كامنا في الحجر، وتحس كأنه رابض هناك تحت السطح، وعليك أن تطلق سراحه، وكلما أحسنت رؤية الأسد، أحسنت معرفة أين وإلى أي عمق تشق الحجر، والعماد بعد ذلك بطبيعة الحال، على التمرين والتدريب.»
وأنعم سقراط الفكر في هذا القول، وذكره بحديث حدثته به أمه ذات مرة، وكانت الأم تشتهر بين جاراتها بمهارتها في توليد الحبالى من الأمهات، وسألها سقراط مرة كيف تقوم بهذا العمل فأجابته قائلة: «إنني في الواقع لا أفعل شيئا، وإنما أكتفي بأن أعين الطفل على الانطلاق.»
وظن سقراط أن هذا ما حدث أيضا يوم كان في مصنع ماوس، فإن ماوس لم يكون فكرته عن النماذج ويحشرها في ذهن سقراط حشرا، إنما كانا يتبادلان الحديث، يسألان ويجيبان، ونبتت الفكرة فجأة، وأحس سقراط أنها كانت كل الوقت تكمن هناك على صورة من الصور، وإن يكن إدراكه لمعرفته إياها إدراكا ناقصا، ولم يفعل ماوس شيئا سوى أنه أعان الفكرة على الانطلاق.
وأثار سقراط مجرد التفكير في هذا، فمن ذا الذي يعرف كم فكرة هناك تنتظر الانطلاق، ولو تعلمت أن تسأل السؤال الصحيح لاستطعت أن تحررها.
بيد أن الأفكار شيء - وكان سقراط يكتشف منها الجديد دائما - ورؤية الأسد أو أي مخلوق آخر من هذا القبيل تحت سطح الحجر شيء آخر، ولم يتجاوز سقراط العام عاملا في المصنع حتى بدأ أبوه يدرك أنه لا يحتمل قط أن يصبح سقراط نحاتا فائق المهارة، لا لأن الصبي كان خاملا أو ضعيفا، فقد كان يفيض قوة ونشاطا، بل إن الخطر قد ينشأ من ضربه المطرقة في الحجر بحدة زائدة فيفتته شظايا متناثرة، إذ لم تكن له بطبيعته أصابع رقيقة حساسة كأمه وأبيه، وكانت مهاراته مع الناس لا مع الحجارة.
وعرف سقراط ذلك بنفسه وإن لم يتحدث عنه، وفي تلك الأيام لم يفكر أحد في تغيير عمله، وكان الطفل يأخذ عن أبيه مهنته وينتهي بذلك الأمر، ومع ذلك فقد كان يسر للقاء الزبائن الوافدين، وحينما يخرج إلى المدينة بنفسه، وكان يحب الخروج ومشاهدة ما كان يدور في المدينة.
وإن أردت أن تدرك ما كان يحدث لسقراط في تلك الأيام فلا يكفي أن تذكر المصنع الذي كان يعمل فيه فحسب، بل يجب أن تذكر كذلك المدينة التي كان يعيش فيها، ولم تكن أثينا بالمدينة الكبرى في عداد المدائن، وتمكن سقراط أن يعرف أكثر من فيها من الناس أو يعرف عنهم شيئا، ولكنها كانت مدينة مثيرة، فقد كانت تجرى فيها التجارب وتصاغ فيها الآراء، وتصنع فيها التحف الجميلة، أيام كان يعيش فيها سقراط، أكثر - على الأرجح - مما حدث في أي مكان آخر في تاريخ العالم حين ذاك.
وكانت تعلو أثينا، وتميزها في عيني كل إنسان وفي ذهنه، صخرة الأكروبول أو «قمة المدينة» وهي قلعة ومعبد في آن واحد، وكان كل طفل يعلم أن إله البحر بوزيدون والإلهة أثينا تنافسا في هذا المكان، كل منهما يحاول أن يبز الآخر في الهدايا القيمة لكي يظفر برعاية المدينة، وقدم بوزيدون جواد الحرب، وضرب الصخرة بصولجان متشعب فتفجر منها ينبوع من الماء، وما عتم الينبوع هناك، ولكنه لملوحته كماء البحر لم يبلغ في قيمته مبلغ هدية أثينا - شجرة الزيتون المقدسة التي ترعرعت إلى جوار الينبوع.
وأمست أثينا الإلهة الملكة على المدينة، وعاشت مدينة أثينا أمدا طويلا على الزيتون، وانتشرت أشجار الزيتون الخضراء القاتمة متكاثفة في السهل المحيط بها، وصدر الأثينيون زيت الزيتون، وقدموه جوائز في المباريات واغتسلوا به وطهوا طعامهم به، وأحرقوه في المصابيح، وكنت تشاهد الشاب الأثيني المهذب وهو في طريقه إلى الملعب حاملا زجاجة من الزيت يتدلك به معلقة بمشبك فوق ذراعه، والأرجح أن يتناول الصانع من أمثال سفرونسكس حفنة من الزيتون مع طعامه في الغداء ظهرا.
وفي عام 480ق.م؛ أي قبل مولد سقراط بنحو عشر سنوات، أحرق الفرس أكروبول أثينا في غزوتهم الكبرى، وشهد سقراط وهو في العقد الثاني من عمره بقايا جذوع الأعمدة التي سودها الدخان قائمة في مكانها، ولما كان في العقد الثالث بدأ برنامج المنشآت الكبرى، وأخذت ترتفع المعابد الرخامية كأنها تنطح السماء، وهي المعابد التي ما فتئت حديث العالم حتى اليوم.
والرجل الذي رسم مشروع المباني هو بركليز، وقد أضحى آنئذ من زعماء السياسة في أثينا، وكان يزمع أن يسد نفقات المعابد من الأموال التي تبرع بها الإغريق في المدن الجزرية وعلى السواحل الشرقية لحمايتها من عودة الفرس، وبدأت أثينا تتزعم هذه الجامعة الدفاعية، فأخذت تتطور شيئا فشيئا إلى أن صارت المدينة ذات السيادة في إمبراطورية بحرية، وكانت جاراتها من المدن ترقبها وقتئذ في غيرة وخشية، هذه المدن المنتشرة فوق بلاد اليونان الأصيلة، وخاصة في الجنوب في شبه الجزيرة الكبرى المعروفة باسم بلبونيسس، وما كانت أسبرطة (مدينة الجند) لتسمح للقوة الأثينية باطراد النمو.
ولا بد أن تؤدي الغيرة والخوف إلى القلاقل إلى اشتعال الحروب فورا، وإلى القتال الطويل المريع فيما يقبل من الأيام، بيد أن القوة الأثينية في عين سقراط، وهو في العقد الثاني من عمره، كانت مثيرة ولم تكن مخيفة، وكانت إصبع المجلس - وهو اجتماع المدينة الأثيني - الذي ينعقد فوق التل الذي لا يبعد كثيرا عن السوق، تلعب دورها في أمور صقلية ومصر وآسيا الصغرى والبحر الأسود، وتهيأت لسقراط وصحبه الفرصة لكي يشهدوا قوما جذابين من أقاصي البلاد، من فرس شامخي الأنوف متراخين في حركاتهم يعتقدون - كما يقال - في صراحة القول قبل كل شيء، إلى ملاحين من الجزر يعرفون ساحل روسيا الجنوبي كما يعرفون مرافئ بلادهم، وقد قاموا بعشرين رحلة بحرية إلى النيل، إلى فنانين وصناع من جميع أصقاع البحر الأبيض وفدوا إلى أثينا - ولا نذكر الفنانين والصناع الذين أنجبتهم أثينا بنفسها - إلى شعراء وموسيقيين ومخططي المدن ومهندسي المباني ومؤرخين وتجار ومبعوثين دبلوماسيين وأرستقراط مبعدين عن بلادهم، إن سقراط لم يكن بحاجة إلى أن يتطلع بعينيه إلى أبعد من مدينته لكي يرى قوما من أكثر الناس إثارة للاهتمام في العالم.
ولم يكن عجبا في هذه الظروف أن يهوى رجل كسقراط - بما لديه من خيال وتطلع إلى المعرفة - الاستماع إلى الناس والتوجه إليهم بالسؤال، وكان كل فرد في أثينا محدثا، كانوا يتحدثون في السوق صباحا، وفي الملعب بعد الظهر، وفي حفلات العشاء وفي النوادي مساء، كانوا يتحدثون عن الرياضة («من ذا تظن ستكون له الغلبة في المصارعة في الألعاب الأولمبية في هذا الموسم؟») ويتحدثون عن السياسة («قلت في ذلك الحين: إن مشروع بركليز الذي يقضي بدفع الأجور للمحلفين سيكون فيه خراب المدينة!») ويتحدثون عن الحرب والسلم («لماذا لا تبلغنا أي أنباء عن أسطولنا في مصر؟») وكانوا يديرون حكومتهم بالكلام، وهي أول ديمقراطية في العالم، وكان لكل مواطن من الذكور الحق في التعبير عما يدور في نفسه قبل أن يدلي بصوته في المجلس، وربما صاح الأعضاء في وجهه مطالبين إياه بالصمت إذا لم يحسن الحديث.
ومن ثم فقد أصغى سقراط إلى كثير من الأحاديث، أصغى وفكر فيما كان يقال، ووفق بين مختلف الأحاديث في ذهنه، وأدرك أن كثيرا من الكلام كان يتعلق بأشياء لم يعرف عنها المتكلمون في حقيقة الأمر إلا قليلا، واتضح ذلك من الطريقة التي كان المتكلم يناقض بها نفسه دون أن يدرك هذا التناقض، ومن المؤسف أنهم لم يفكروا في أمورهم تفكيرا كاملا.
ولما شب سقراط واشترك في الحديث لحظ الناس أن له طريقة خاصة به، كان يحب أن يوجه الأسئلة، وينتقل من سؤال إلى آخر، حتى يظهر جليا ما بعقل محدثه من اضطراب، وكانت هذه الطريقة تربك المسئول، ولكنها تسر السامعين وتسري عن نفوسهم، وكان كثير من الناس يحسب سؤال سقراط ضربا من ضروب اللعب تداخله الحيلة ويدعو إلى القلق، وربما كان كذلك بادئ الأمر.
ولم تكن الحياة كلها في أثينا كلاما، وكان لسقراط أصدقاء من سنه، هم جيرانه من الصبية، تتفق أوقاتهم في العمل مع أوقاته، ويتعلمون مهنتهم نحاتين أو نجارين، وكانوا يلعبون في الطرقات معا بعد ساعات العمل، أو وقت الظهيرة حينما كان الشيوخ يخلدون إلى الراحة، وكان أصدقاء سقراط يتبارون ويتصارعون ويتقاتلون مع صبية الأحياء الأخرى، شأنهم في ذلك شأن جميع الصبية في أثينا، كانوا يلعبون بعظام الكعوب ويستخدمونها زهرا، وكونوا النوادي والصداقات الوثيقة ثم فضوها، وكان سقراط فردا في جماعة، ولما شبوا فيما بعد وأصبحوا أساتذة في حرفهم، واهتدى إلى حرفته الحقيقية، رحبت به كل مصانع المدينة.
ولم يعد سقراط يلتقي كثيرا بزملائه الذين تعرف إليهم أيام الطلب، من أبناء الطبقة العليا الذين لا يحترفون سوى السياسة والخدمة العامة، ولم يرافقهم إلا في أيام الأعياد، كانوا يصعدون التل معا مقتفين الموكب العظيم ليشهدوا حفل أثينا الجليل، وكانوا يحشرون في الحشد الذي يشهد سباق الزوارق وسباق الشعلة والمباريات الرياضية والاستعراضات العسكرية، كانوا يجلسون على سفح التل - في الشتاء والربيع - يشهدون سويا حفلات التمثيل، مآسي الأبطال والملاهي الصاخبة، وفي كل حفل خمس عشرة مسرحية جديدة، مليئة بالحكم والخيال والفكاهة التي يضعها أحذق المفكرين في أثينا.
ولذا فقد كانت مدينة أثينا بأسرها في أيام الحفلات شخصا واحدا، لا يحول حائل بين سقراط النحات وأقريطون الشاب الرياضي المهذب ، ولكنه في الأيام الأخرى كان لا بد له أن يتوجه إلى الملعب لكي يلاقي هؤلاء الأصدقاء، فقد كانوا ينفقون طيلة النهار وجميع الأيام هناك، يعملون جادين في الألعاب الرياضية والتمرينات الخلوية التي تلقوا في المدرسة مبادئها، وكان كثير من حديثهم يدور حول الخيل، وكانت تقوم بينهم صداقاتهم الخاصة الوثيقة التي تبعد عنهم سقراط.
وبرغم ذلك كان يحب أن يشاهدهم، وما كان أروعهم وهم يتألقون على طول طريق السباق في الشمس، يكسبهم الزيت لونا بنيا لامعا، أو حين يقذفون الأقراص في رشاقة واتزان وسيطرة تدل على الساعات الطوال التي أنفقوها في التدريب، وكانوا كذلك مهرة كما كان ماوس وسفرونسكس، ولم تكن مهارتهم في الأداء بالنسبة لسقراط أكثر من مهارة الصناع، بيد أنه أحبها كما أحب كل ما هو جميل وحي.
الفصل الثالث
الآلهة
في تلك الأيام كان سقراط يمارس ويحس بعمل المصنع وحديث المدينة، وبالألعاب في الطرقات وبمواكب الأعياد والمسرحيات، شأنه في ذلك شأن الصبية الآخرين من زمرته، ومع ذلك فقد بدأ بينه وبينهم الخلاف بعدما شب عن طوقه، فمتى بدأ هذا الخلاف؟
لا بد أن يكون قد نشأ قبل أن يلحظه أكثر الناس بوقت طويل، وربما لحظوا أنه كان أشد رغبة في معرفة الأشياء، ومعرفة الأفكار خاصة، من أغلب أصدقائه، وربما أدركوا أنه أكثر دقة في تفكيره من معظمهم، لم يقنع بشتات من الأفكار المتناثرة، كالطير يسبح في الجو هنا وهناك، وإنما كان يحتاج إلى أن يضم فكرة إلى أخرى ثم يرى الفكرتين تسيران في اتجاه واحد، وربما لحظ ذلك قلة من الناس، ولكن ربما لم يلحظ أحد لفترة طويلة من الزمن ما كان في نظر الأثيني أعجب الفروق جميعا، وهو ما يتعلق بالآلهة.
لما شرع سقراط في وقت باكر جدا يفكر ويسأل الأسئلة عن الآلهة، ألفى خليطا عجيبا من الآراء لا بد من طرقها، كان صديقه ماوس - مثلا - واحدا من خيار الصناع في المدينة، كان يستطيع أن يصنع الجرار والأواني الجميلة البسيطة المتناسقة، وأن يعمل بدقة، وعلى مستوى واضح في ذهنه، حتى لا يتعارض جانب من التصميم مع جانب آخر، ولكنه إذا ما احتاج إلى التفكير في الآلهة، ظهر أنه لا يسير البتة على أي مستوى من المستويات، ولم يكن التصميم واضحا أو متناسقا في ذهنه.
ولما شب سقراط، واتسعت دائرة كشوفه، وجد أن أكثر من لاقى من الناس يضطرب هذا الاضطراب عينه بشأن الآلهة، وكأن طبقات عديدة من الأفكار قد انضم بعضها إلى بعض في وقت من الأوقات، ولكن الصورة لم ترسم طبقا لمستوى معين، وأسوأ من هذا كله أن قليلا جدا منهم من أدرك إلى أي مدى كان الاضطراب مشوشا، أو من حاول أن يبذل جهدا فيه.
ولذا فلما ألقى سقراط أسئلته عن الآلهة، أجيب بمختلف الأقاصيص، منها الجيد ومنها الرديء، كان الناس في الزمن القديم يحسبون أن للآلهة بهم شأنا أكبر مما لهم بنا اليوم، وكان للآلهة من بين الناس من يخصونهم بفضلهم ويقدمون لهم المعونة، ذلك ما حدث لأوديسيس - مثلا - في القصص القديم، فقد وقفت أثينا الحكيمة إلى جواره تعينه في محنته، مختفية حينا، ظاهرة حينا آخر في صورة امرأة جميلة فارعة، وحينا كإلهة ذات عينين رماديتين براقتين ودرع تتلوى على أطرافه الأفاعي، تستطيع أن تستمع إلى دعواته إن أرادت حيثما كانت، وإن كانت تشغل عنه أحيانا، أو يعوقها إله آخر ممن يمقتونه، وعلى أوديسيس حينئذ أن يشق طريقه وحده، وقد فعل ذلك بشكل يدعو إلى الإعجاب نظرا إلى ما كان أمامه من صعاب حتى استعدت أثينا أن تعينه مرة أخرى.
وكان للآلهة كذلك أعداؤهم الذين يمقتونهم، ونجمت عن ذلك الصعاب الجمة للأبطال، فقد أعمى أوديسيس مرة سيكلوبس، ابن إله البحر بوزيدون، ذا العين الواحدة الذي عرف بالعنف، وفعل ذلك دفاعا عن نفسه، ولكنه أخطأ إذ تفاخر بذلك وأفصح عن اسمه فيما بعد؛ ولذا توجه سيكلوبس بالدعاء إلى أبيه لكي ينتقم له، وكان كلما شهد بوزيدون أوديسيس بعد ذلك على متن البحر أثار في وجهه عاصفة، وإذا لم يستطع أن يقبض على أوديسيس نفسه، استطاع أن ينزل العقوبة بربان السفينة وملاحيها الذين تفضلوا عليه وحملوه على سفينتهم، ومن أجل ذلك حول بوزيدون مرة إحدى السفن إلى حجر بعد ما خرج منها أوديسيس، واستقرت السفينة وصارت جزيرة تذكر الأحياء بألا يعينوا عدوا من أعداء إله البحر.
هكذا كان الناس يعتقدون في مسلك الآلهة فيما مضى، يتصرفون كما تتصرف الكائنات البشرية في قوة وعناد، ويعيشون إلى الأبد، يقيمون الولائم ويتشاجرون من أجل محسوبيهم من البشر فوق جبل أولمبس الذي يرتفع في أجواز الفضاء، أما الآن فقد أدرك الناس أن الأمر لم يعد كما كان من قبل تماما، فقد بعد موطن الآلهة ولم يعد لهم - فيما يبدو - محسوبون من عامة الناس، ومع ذلك فلربما كانت أحسن الوسائل لوصف الشعور العجيب الذي ينتاب الظافر في المباريات الرياضية أن تستخدم الألفاظ القديمة فنقول: إن إلها من الآلهة يرعاه.
ولا بأس - بطبيعة الحال - من التوجه إلى الآلهة بالدعاء، بل لقد كان المرء حقا يتوسل إليهم ويقدم إليهم العطايا الملائمة في هدوء وبطريقة طبيعية كأنه يتناول وجبة من وجبات الطعام، ولكل عيد موكب وضحية لإله من الآلهة، وكانت المباريات الرياضية والمسرحيات وحفلات الموسيقى من الشعائر المقدسة، وكانوا يضحون بالحيوان، لا يقتلونه فحسب، قبل أن يطهى للغذاء، وكلما ولد طفل أو بلغ سن الرشد أو تزوج أو مات، أو خرج إلى قتال، أو أقلع على ظهر سفينة، أو تولى وظيفة عامة، قدمت الضحايا التي تليق بالمناسبة، وقد أعطى هذا الأسلوب من العيش أسرة سقراط وأصدقاءه شعورا مريحا بأنهم على صلات طيبة بالآلهة وكذلك بعضهم ببعض؛ لأن هذه الحفلات جميعا كانت مناسبات اجتماعية، تختلف عن طريقة الانزواء في ركن من الأركان للصلاة، وكلما شب امرؤ تحدد له في الموكب أو في الضحية مكان، كما تحدد له دور خاص يؤديه، وليس أثينيا البتة من لم يأخذ في عبادة المدينة بنصيب.
وإذا كانت الآلهة الآن آلهة المدينة، وقد تخلت عن أن تخص بالرعاية قوما دون الآخرين، إلا أنها ما زالت تملك أن تنزل العقوبة بمن تشاء ، كانت الآلهة في الزمن القديم تعاقب في أغلب الأحيان من يسيء إليها إساءة شخصية، وبرغم زيادة اهتمامها بالعدالة عامة، فما برحت تعبأ كثيرا بشرفها وكرامتها، وكان ذلك من الأسباب الهامة جدا التي تدعو المرء إلى عدم الحنث بيمين مقدسة، إذا أقسم المرء أن يؤدي عملا، وأشهد زيوس أو أبولو على صحة ما اعتزم، فإنه يقحم بذلك في الأمر كرامة الآلهة.
وكانت الآلهة بالطبع تمقت القتل كذلك، وبخاصة إذا ارتكب في معبد أو عند موقد بيتك؛ لأن الموقد كان كذلك مذبحا، وحتى إن قتلت عن غير قصد فإن الدماء تبقى لطخة تصعب إزالتها، وأهم من ذلك كله كانت الآلهة تمقت الكبرياء؛ لأن المتكبر يرتفع إلى مكانة عليا فوق المستوى الذي يحق له أن يحل فيه.
وتذكر الناس ما حدث منذ أقل من اثني عشر عاما قبل مولد سقراط، حينما غزت بلاد اليونان جيوش أجزرسيس - ملك الفرس - الجرارة، كانت هذه الجيوش الفارسية كأنها الجراد في عددها، شربت من الأنهار حتى جففتها، وظللت سهامها الشمس، وكان أجزرسيس بقوته مزهوا، وشيد من الزوارق قنطرة عبر هلسبنت، ولما حطمت العاصفة القنطرة، ألهب المياه بالسياط ووسمها بالعار كأنها رقيق عصي.
ولم تنس الآلهة كبرياء أجزرسيس، ولا كيف أحرق المعابد فوق الأكروبول في أثينا، وكانت الآلهة ترقب سير المعركة من خليج سلامس المجاور، حيث التقى أسطول الفرس بأسطول الإغريق، وإلا فكيف استطاع الإغريق أن ينتصروا؟ وجلس أجزرسيس موشى بالذهب ومحلى باللون الأرجواني على عرشه فوق الخليج يشهد القتال، ووقف إلى جواره كتابه يحملون الألواح يدونون عليها أسماء القادة - طبقا لأدائهم - للثواب أو العقاب، وكان الفرس أكثر عددا، كما كانوا من الفوز واثقين، وبرغم ذلك اندحروا، وتحطمت سفنهم وغرقت، وقتل جندهم المسلحون، الذين كانوا يحسبون أنهم لا يقهرون، عند الساحل وفي المعركة البرية فيما بعد، وهرع أجزرسيس نفسه عائدا إلى بلاده، حيث قابلته إمبراطوريته بالعصيان، ومن ذا الذي يشك في أن الآلهة أذلت الغزاة المتكبرين، فالكبرياء إساءة للآلهة؟
ومن الخطر كذلك أن يتوافر للمرء مزيد من الحظ السعيد ، وقد رويت لسقراط قصة ما حدث لبوليكراتس من أبناء ساموس برهانا على ذلك، كان بوليكراتس حاكما قويا على الجزر الشرقية منذ سنوات عديدة، وكان ثريا موفقا في كل ما أدى من عمل حتى استرعى التفات فرعون مصر، وعقد معه حلفا، بيد أن فرعون كان يخشى أن تغار الآلهة مما أصاب بوليكراتس من حظ سعيد، فنصحه أن يستخرج أثمن ما يملك ويلقي به بعيدا؛ لكي يصيب قسطا من سوء الحظ فيتجنب بذلك غضب الآلهة.
وظن بوليكراتس أن هذه النصيحة فكرة طيبة، وبعدما بحث في كل كنوزه استخرج خاتما، صاغه من الذهب صانع ماهر معروف وأودعه فصا من الزمرد، وكان ذلك أغلى ما يملك، وفي سفينة من سفن الدولة يدفعها خمسون مجدافا أقلع إلى مسافة بعيدة عن الساحل وألقى بالخاتم في أعماق المياه، وخيل له أنه بات من بعد ذلك في أمان.
وجاء ذات يوم إلى باب القصر صائد سمك يحمل سمكة جميلة صادها ذلك الصباح، وكانت من الجمال - كما يقول - بحيث لم يرض أن يبيعها لرجل من عامة الناس، وأتى بها هدية لبوليكراتس، وسر بوليكراتس بالهدية وبالثناء، ودعا الصائد للغداء، وأمر أن تعد السمكة للطهو، ولكن ما إن فتحها الطهاة حتى أذهلهم أن يجدوا بداخلها الخاتم عينه الذي حاول بوليكراتس أن يلقي به في اليم.
ولما سمع فرعون مصر بعودة الخاتم فصم في الحال صداقته مع بوليكراتس؛ إذ إنه بات من الجلي أنه رجل تعد له الآلهة مصيرا مريعا، وكان ذلك ما حدث، فسرعان ما قتل بوليكراتس بقسوة وتمزقت إمبراطوريته، إن الآلهة لم تعف عنه لوفرة ما أصابه من حظ سعيد.
تلك كانت الأقاصيص التي ترامت إلى سقراط عن الآلهة وهو في سن الطفولة، آلهة كانت في قديم الزمان تتشاجر وتكذب وتسرق وتهبط في صورة الناس تحمي أصدقاءها أو تؤذي أعداءها، أما الآلهة في زمانه فقد بعدت مكانتها ولكنها ما برحت جبارة لا تتسامح في نقمتها من السوء والكبرياء أو وفرة الحظ السعيد.
وفي غضون ذلك، وبرغم الأقاصيص المقبضة، كانت تقام الحفلات بما فيها من مواكب وضحايا وولائم، وكان تمثال أثينا الخشبي القديم الذي يشبه جذع الشجرة يؤخذ لحمام سنوي في مياه البحر، كما كانت تقدم للأفعى المقدسة كعكتها في المعبد، وكان الناس يقسمون بالآلهة إيمانا مقدسة، ثم يحنثون في أيمانهم، فينجون برغم ما تروي الأقاصيص، وكان من دواعي الاجتماع ومن الحكمة أن تضحي للآلهة في الأوقات الملائمة، غير أن قلة من شواذ الناس - ممن «تمتلئ قلوبهم بخشية الآلهة» كما كانوا يقولون - كانوا يذهبون في تفكيرهم إلى أبعد من ذلك، ولم ينزعج حقا في تلك الأيام من نقمة الآلهة على السرقات والأكاذيب إلا الشيوخ الذين كانوا يخافون مما عساه يحدث بعد موتهم، ومهما يكن من شيء فإن القوم لم يكونوا ليعبئوا إلا بما يحدث في المحاكم.
تلك كانت الآلهة، وهكذا كان الناس يعبدونهم! فماذا كان رأي سقراط؟
لحظ في وقت مبكر أن أصدقاءه لم يهتموا ولم يضطربوا، ربما أزعجتهم القصص التي تروى عن حسد الآلهة، ولكنهم يحلمون بالثراء والحظ السعيد لأنفسهم، وربما تندروا بمهارة الآلهة في السرقة والكذب، يحسون مع ذلك بالأسى العميق حين يشهدون المسرحيات التي تعرض عقاب الآلهة للآثام، يستطيعون أن يخدعوا غيرهم في اللعب ومع ذلك يشعرون بالارتياح إلى الصلاة أو تقديم الضحايا، أما سقراط فقد خلق على غرار آخر، كان يتعجب ويطابق بين الأمرين في ذهنه.
وهناك فارق آخر، فإن الناس قد يذكرون عن الآلهة ما يشاءون، ولكن سقراط يضع لنفسه حدا من الخبرة العملية يسير وفقا له، وكان لديه منذ طفولته ما كان يسميه «الإشارة المقدسة».
وكان ينتابه من آن لآخر شعور يحول دون ما كان يوشك أن يؤديه؛ لأنه - كما قال - ليس من الخير له أن يؤديه، وقد كان في مبدأ الأمر يحس بما تعنيه كلمة «الخير» هذه ولكنه لم يستطع تفسيرها، لا بد أن يكون لها شأن بالسعادة؛ لأنه وجد أنه إذا فعل كما أوحت إليه الإشارة كانت عواقب الأمور جميعها طيبة، ثم عرف أنه يستطيع أن يعتمد عليها، وأن يطيعها دون سؤال، حتى إن لم يدرك لذلك سببا، وجلي أن الإشارة كانت أكثر منه حكمة، وإذن فلا بد أنها هابطة من الآلهة الذين يعرفون كل شيء.
ولم يتحدث سقراط كثيرا عن الإشارة حتى بعد أن صار رجلا، وربما لم يذكرها البتة وهو في عهد الطفولة، فإن الناس ما كانوا ليفهموه آنئذ كما لم يفهموه فيما بعد، لم تكن الإشارة إلها خاصا صغيرا بداخله كما ظن بعض الناس، ولم تكن ضميرا يخبره بما كان قاسيا وما كان رحيما، وما كان صادقا وما كان كاذبا، أحس هذه الفروق كما نحسها، ولكنه لم يذكر قط أن الإشارة بذلك قد خبرته.
وكانت الأعمال التي تمنعه الإشارة من أدائها عادية مما نعمله كل يوم، كالذهاب إلى مكان معين أو الحديث مع شخص بذاته، ولربما ربط الأمر شخصا آخر بالحظ، وجعل منه خرافة، كالامتناع عن الخطو فوق الشقوق أو السير تحت السلم الخشبي، غير أن الطريقة التي استخدم بها سقراط إشارته كانت تختلف عن ذلك كل الاختلاف، فقد اتخذها كمثال بسيط لما لا بد أن يكون قد أحسه قلبه من قبل، إنها تعني - فيما ظن - أن الآلهة كانت تقود إلى طريق الخير، وليس عليه إلا أن يطيع.
كان ذلك أمرا معرفته يسيرة، ولكن سقراط كان إذا عرف شيئا عرفه بكل قلبه؛ ولذا فقد سارت مع الإشارة المقدسة طريقة جديدة بأسرها من طرق التفكير بشأن الآلهة، طريقة لو أخطر بها سقراط أكثر أهل المدينة ما فهموها.
إن الآلهة أولا تعنى بالناس، ولقد عرف سقراط ذلك لأنه أحسه، وهي لم تعن بالملوك أو بأبطال الماضي فحسب، وإنما عنيت به، بسقراط بن سفرونسكس النحات.
ثم كانت الآلهة طيبة كذلك، ولقد عاونته الإشارة على الإيمان بذلك أيضا، كانت فيها كل صفات الخير التي تجدها عند الناس، وهي لم ترد للناس سوى الخير، أما القصص القديمة عن الآلهة التي تكذب وتسرق وتغار وتغضب فقد وضعها رجال هذا هو مدى ما يعلمون، إن الخير هو العلامة الخاصة التي تتميز بها الآلهة، وكل ما لا يتفق وما لديهم من خير فهو من نسج الخيال.
وقد تحدث بهذه الفكرة قوم آخرون في أثينا بعد ذلك بفترة وجيزة، وقالوا لا بد أن يكون صادقا، وكان سقراط على يقين من صدقه، إن الآلهة طيبة، تتطلب الخير ممن يعبدونها أكثر مما تتطلب أي شيء آخر، والدليل على أن الشخص يعتقد في الآلهة هو طاعته لما تتطلبه من الخير، ولم يكن في حياة سقراط ما يجعله يعدل عن إيمانه بذلك بعدما أدركه، وكان لهذا الإيمان أثر في الطريقة التي أدى بها سقراط أعماله.
وهناك تفصيلات أخرى لم يعرفها سقراط ولم يتساءل عنها، لم يعرف أشكال الآلهة أو عددها، وكان يصلي لأي إله يطيب له، ويتحدث عن «الإله» (وربما كان يعني «الآلهة» عامة، فإن اليونانية لا تبين عن ذلك) أو يتحدث عن الآلهة بغير اعتناء، لم يساوره القلق بشأن التماثيل القديمة أو الضحايا أو الشعائر، وإنما كان يستشعر اللذة في تمجيد الآلهة الطيبة بأية وسيلة من الوسائل.
وكان يقوم بكل ما كان مألوفا في مدينته من جميع وسائل التقديس والعبادة المعروفة، إلا أنه كان أكثر تفكيرا في معنى ما كان يقوم به، فقد لحظ أصدقاؤه مثلا أنه لم يحب أن يستعمل باستخفاف اسم أي إله من الآلهة، وإن أراد أن يؤكد قولا فمن المحتمل ألا يقول: «أقسم بزيوس» كما كان يفعل أكثر الناس، وإنما يقول: «أقسم بكلب مصر»؛ لأن إله مصر الذي يحمل رأس الكلب كان عنده وحشا ولم يكن البتة إلها، وإن هو أقسم بالآلهة لم يكتف بأن يهتم بتنفيذ ما وعد، وإنما حاول كذلك أن ييسر لغيره من الناس أن يفوا بما وعدوا.
ومن ثم ترى أن الفرق عند سقراط الذي نشأ عن طريقة إحساسه بالخير وبالآلهة بدأ يطفو على السطح بوسائل صغيرة في طفولته، ووسائل أكبر منها فيما بعد، وأخذ الناس بمرور الزمن يحسون الفرق إحساسا قويا، ويحبونه أو يمقتونه من أجل ذلك، ولكن هذا الفارق كان لا يزال كامنا عنده في سني صباه حينما كان يتعلم مهنته مع غيره من الصبية ، ولم يتوقع أحد من ابن النحات شيئا غير عادي.
الفصل الرابع
المسير الطويل
غربت الشمس خلف الجبال منذ نصف ساعة، وأخذ الظلام يزداد حلكة دقيقة بعد أخرى على المعسكر في الممر الأجوف، وتناول الجند عشاءهم حول النيران، وجاء الحطابون بآخر حمولة من الحطب في ذلك المساء، وخلف النار المتوهجة - قريبا من حافة الغابة - كنت تستطيع أن تستمع إلى تذمر حراس الفترة الأولى، وكان القائد إندوسيديس في ظنهم صارما في فرضه الحراسة الشديدة ذلك المساء، فهم على مسيرة أقل من يومين من أثينا وفوق أرض ميغارا الصديقة، وميغارا كأثينا تقيم فيها حامية أثينية.
وكانت تدور في رأس سقراط هذه الأفكار عينها وهو يستلقي على ردائه إلى جوار النار مع أقريطون وملسياس وجلوكن وأرستون ورفاقه في المخيم، وكانت أول حملة يقوم بها منذ أيام التدريب، وما زال يحس إحساس من يلعب دور الجندية.
ووجه سؤالا إلى أقريطون قائلا: «هل تحسب أن هناك ما يدعو إلى ذلك كله؟ إن الشغب الذي أثارته يوبيا في الشمال لا يكفي وحده سببا لإرسالنا إلى الغرب خلف ميغارا إلى هذا الجحر الجبلي المنكود، وددت لو أن بركليز قد أخذ قبيلتنا معه إلى يوبيا، إذن لاستطعنا أن نقاتل وأن نبلغ بالأمر غايته، إن القائد أندوسيديس قد استقر في هذا المكان كأنه يتوقع أن يلبث هنا شهرا.»
وتمطى أقريطون واسترخى إلى جوار النار وخاطب الآخرين قائلا: «انظروا إلى سقراط عاشق المدينة، لم يغب عن أثينا سوى خمسة أيام حتى جن بالعودة إليها، أما أنا فلست آبه قط، وكنت أزمع أن أهبط إلى المزرعة هذا الأسبوع لكي أعد الكروم للصيف، ولكن الملاحظ سوف يؤدي هذه المهمة خير الأداء، ويبدو أن الصيد سيكون حسنا فوق هذه التلال، هل رأيتم الغزال الذي جاء به ليسكليز إلى خيمته بالأمس؟»
وقال ملسياس: «إنكم لا تعرفون الإسبرطيين قط، إنني لا أستبعد أن يتسللوا خلال هذه الممرات لكي يضربوا أثينا في غيبة بركليز، هذا ما فكر فيه قومنا في المجلس.»
قال سقراط: «هذا إذا كان القوم يفكرون في المجلس.» وضحك الجميع، وطلب الاستماع إلى النكات القديمة في ذلك المساء وبالجو دخان الحطب ورائحة العشاء، وقمر الربيع يعلو في السماء، ودائرة التلال السوداء تجتذب الجماعة إلى الالتفاف سويا حول النار.
وقال أقريطون مفكرا: «انقضت ست سنوات منذ دعيت جماعتنا للتدريب، وكنا آنذاك ثمانية عشر، أفتذكر يا سقراط؟»
وأومأ سقراط قائلا: «نعم أذكر، وأذكر قولنا في القسم: ولن ألطخ بالعار أسلحتي المقدسة، أو أترك في صفوف المعركة الرجل الذي يقف إلى جانبي.» وكان في هذه العبارة يستشهد بقسم الجنود، ثم استمر: «وسوف أقاتل من أجل ما يتعلق بالآلهة والناس سواء كنت وحيدا أو مع كثيرين آخرين، وسوف أخلف موطن آبائي أعظم وأحسن مما وجدته، ولن يكون أسوأ مما كان.»
ثم توقف عن الكلام ثم عاد واشترك معه الآخرون: «وسوف أحسن الإصغاء للقرارات الحكيمة التي يصدرها القضاة وأطيع القوانين القائمة، وما يوضع منها مستقبلا باتفاق الشعب، سوف لا أخضع لأي إنسان ينبذ القوانين أو يعصاها، ولكني سوف أوقفه سواء كنت وحيدا أو مع الآخرين جميعا، وسوف أقدس معابد آبائي، ولتشهد الآلهة على ما أقول!»
وقال أرستون: «أجل، ظننا أننا سنؤدي عملا عظيما في تلك الأيام، وكان ذلك قبل أن يسيرونا نحو الثكنات عند الميناء ونبدأ تدريبنا، كان يسرني أن «ألطخ شرف أسلحتي المقدسة» باستخدامها في أستاذ التدريب الصغير الأحول - ولست أذكر اسمه - قبل أن ننتهي من عامنا الأول.»
وقال أقريطون: «لم يكن الأمر سيئا جدا، فقد ظفرنا على الأقل بمقاعد أمامية في المسرح، وأذكر أن ذلك كان في العام الثاني، حينما كلفنا بالعمل في الحامية، وقضيت الأسابيع المتتالية في تلك القلعة الجبلية الصغيرة عند فايل، محبوسا هناك مع سقراط وأسئلته الخالدة.»
وضحكوا جميعا مرة أخرى، وكان وفاء أقريطون لسقراط معروفا، وكانت رفقة عجيبة كذلك، أقريطون ابن مالك الأرض، الثري، المتأني، الثقيل، العملي، وسقراط النحات الذي كان ... حقا إن أحدا لم يستطع أن يضعه موضعه تماما، ولكنه بالتأكيد لم يكن متأنيا ولا ثقيلا.
ولم يخجل الضحك سقراط ، وقال: «كنت أحاول أن أتعلم شيئا، وكنت أحسب في تلك الأيام أن الحكمة أمر هين، لو قضيت بضع سنوات باحثا عنها وجدتها، ولكن ها أنا ذا بلغت الرابعة والعشرين من عمري، قضيت منها ستا في الجيش، وصار لي حق الانتخاب منذ أربع سنوات، وإنه ليبدو لي أنني الآن أقل علما مما كنت عليه حينما أقسمت يمين الجندية وأنا في العقد الثاني من العمر، وعلى سبيل المثال حين قلت هذه الكلمات: «سوف أخلف موطن آبائي أحسن مما وجدته» حسبت في ذلك الحين أني أدركت معناها كل الإدراك.»
ووخز أقريطون ملسياس بمرفقه منبها إياه، وأما أريستون - وكان أقل الأربعة معرفة بسقراط - فوقع في الفخ، وتساءل قائلا: «حسنا، وما وجه الصعوبة في ذلك؟»
فأجاب سقراط: «هو في تلك الكلمة الصغيرة «أحسن»، إنني كلما أنعمت فيها النظر، تبين لي أنها أكثر حاجة إلى التعريف، ماذا تعني هذه الكلمة في رأيك؟»
فقال أريستون: «الأمر هين جدا، معناها ... أكبر، زيادة في الفن وزيادة في المباني وفي المال وما إلى ذلك.» (وهمس أقريطون لملسياس قائلا: «لقد تورط.») وأجاب سقراط جادا: «دعنا ننظر إذا كنت قد أصبت فهمك، لا بد أنك قد رأيت كليونيمس، إن المرء كثيرا ما يلقاه في السوق في خيام باعة الحلوى.»
فضحك أريستون من الصورة التي في ذهنه عن أضخم شاب في أثينا وقال: «إن المرء لا يسعه إلا أن يراه، فلديه الكثير مما يرى، ولكن ما شأن ذلك؟» - وأفاجون؟ - الظافر في الأولمبياد؟ قطعا. - أيهما أكبر؟ - كليمونيمس طبعا. - وأيهما رياضي «أحسن»؟
وقد أدرك أريستون هزيمته منذ ورد ذكر أفاجون وقال: «ولكن لا ينبغي أن تؤاخذني هكذا حرفيا، لقد عنيت طبعا أن المدينة أحسن إذا كانت أقوى وأقدر على أداء الأشياء، حينما تستطيع أن تؤدي كل ما يعن لها أن تؤديه.»
وقال سقراط معتذرا: «فهمت الآن، إذن دعنا ننظر في هذا كذلك ... ولنبدأ أولا بالسؤال: من ذا تفضل أن يكون زميلا لك، الرجل الشجاع أم الرجل الجبان؟» - الشجاع طبعا. - إذن فالشجاع أحسن من الجبان. - قطعا . - وأين يتميز الشجاع من الجبان؟
فقال أريستون وقد تنبه الآن: «في ساحة الوغى بالتأكيد.» ولكنه لم يستطع أن يدرك إلى أين يؤدي كل ذلك.
وواصل سقراط حديثه قائلا: «أليس في ساحة الوغى كثير من الأشياء التي يستطيع أداءها الجندي عندما يتقدم العدو؟ ألا يستطيع مثلا أن يخر على ركبتيه ويطلب الرأفة، أو يلقي عنه درعه ويعدو في أي اتجاه يشاء؟»
فانفجر أرستون قائلا: «أجل، ولكن الجبان وحده هو الذي يفعل ذلك!»
وقال سقراط: «بالضبط، الجبان وحده، وإذن فكم عملا يؤديه الرجل الشجاع أو يستطيع أن يؤديه باعتباره رجلا شجاعا؟ أليس من الحق أنه لا يستطيع أن يؤدي إلا عملا واحدا، وذلك أن يطيع أوامر ضباطه ويتقدم؟»
فقال أرستون: «حقا.» وقد سار رأسا إلى الفخ، ولم يكن له اتجاه آخر يسير فيه. - إذن فالجبان دون الشجاع في المعركة هو الذي يستطيع أن يؤدي أي عمل يريد.
قال أرستون: «أجل.» - ولكنا قلنا: إن الجبان «أسوأ» والشجاع «أحسن».
فأومأ أستون واعترف بأنه هزم مرة أخرى.
وأنهى سقراط الحديث بقوله: «إذن فإن القدرة على أن «يفعل المرء ما يشاء» ليست دليلا على الحسن، يجب أن نحاول مرة أخرى يا أرستون، فإن هذا المعيار لا يفي!»
وقهقه أقريطون وملسياس وجلوكن بالضحك عاليا، وشاركهم أرستون، وكان رياضيا طيبا.
وقال أقريطون: «ينبغي أن أحذرك يا أرستون، إنك لا تستطيع أن تهزم سقراط في المساجلة.»
وتبسم سقراط، ولكنه هز رأسه وقال: «لست أنا الذي هزمت أرستون، وإنما هزمه الجدل نفسه، ولم تكن مساجلة يا أقريطون.» وأضاف إلى ذلك وقد ازداد جدا: «وأظنك تعرف أنها لم تكن مساجلة.» إن طبقة جديدة منا ممن تبلغ السن تقسم هذه اليمين كل عام، وقد نمزح بشأن «أسلحتنا المقدسة» في مسير طويل حار، ولكنا نقصد كذلك ما نقول، من منا لا يريد أن يترك أثينا خيرا مما وجدها؟ إذن فكيف ننفذ ما نريد؟ إننا نعنى بالأشياء التي تتعلق بالمدينة ولكنا لا نعنى بالمدينة ذاتها، نبني السفن والمواني والترسانات، كأننا نجعل المدينة أحسن مما كانت بجعلها كبيرة قوية وقادرة على أن تفعل «ما تشاء» بجهلها الأحمق، يا كلب مصر! متى يتيقظ الأثينيون ويدركون مقدار ما علينا أن نتعلمه!
ألقى سقراط هذا الحديث الطويل، وحدق فيه الأربعة الآخرون لحظة في صمت، وكاد أقريطون أن يعود إلى الكلام حينما جاء من الظلام إلى دائرتهم متثاقلا أحد الأشخاص، ذلك هو ليسيكليز من الخيمة المجاورة.
وقال: «لقد حضرت لتوي من لدن القائد أندوسيديز أحمل نبأ، لقد ثار حزب الأرستقراط في ميغارا في وجه حاميتنا هناك، وذبحوا أفرادها، والبلاد كلها في هياج، واشتركت في المؤامرة كورنث وأبيدورس وسيكيون، وفر من الرجال رجل يحذرنا، بيد أن الثوار يستولون على طريق أثينا، ولسنا ندري إن كان قد استطاع أحد الأفراد أن يتسلل إلى بركليز أو لم يستطع، وإنا الآن نتوقع الإسبرطيين من خلفنا في أية لحظة، تأهبوا للمسير عند الفجر.»
وهكذا بدأت مغامرة سقراط العسكرية الأولى، تيقظ مع غيره قبل الفجر، وسار في الظلام يتعثر ويتحسس، وعندما بزغ الخيط الأول من خيوط النهار صدر الأمر، وابتعدوا عن المكان سائرين في أشد ما يكون الصمت، وهبطوا خلال الغابات الندية، مترقبين أن يقابلهم في الطريق كمين، ولكنهم لم يجدوه، وما إن هبط الأثينيون من التلال المرتفعة، حتى كانوا في بقعة لا بد أن يقرر فيها قرار، حيث يتشعب الطريق يمينا ويسارا، يمينا إلى ميغارا ومنها إلى أثينا، وهو الطريق إلى الوطن، الذي يسده جنود العدو، ويسارا إلى الشمال وإلى جبال بيوتيا، جارة أثينا من الشمال، وأصدر أندوسيديز أمره بالاتجاه يسارا.
ويرى كتاب التاريخ المتأخرون أن هذا المسير لم تكن له أهمية تذكر، فما هو إلا مسير القائد أندوسيديز وثلاث فصائل قبلية تشق طريقها إلى الوطن متخذين دروب البغال ومسالك الغنم خلال الجبال الشمالية المقفرة، ولكنه لم يخل من الأهمية بالنسبة لسقراط وصحبه، فلقد قاتل سقراط في معارك شهيرة فيما بعد، في المعارك التي تحدث عنها الناس الآخرون، وإن كان سقراط لم يذكر قط رأيه فيها، إلا أن الجندي ينبغي أن يلزم مكانه، كان جنديا شجاعا، بل شجاعا يشار إليه بالبنان فيما بعد، ولا بد أنه كان زميلا طيبا لأقريطون ولغيره في هذه الحملة الأولى.
وقد اتخذوا الطريق الشمالي إلى باجي، وهي القرية التي تقع على البحر حيث ينتهي الطريق، ثم تابعوا مسيرهم على دروب البغال إزاء الساحل، ودرب البغال معناه أن يكون الطريق وعرا حجريا غير مستو، وكثيرا ما تنزلق فوقه الأقدام، وساروا هنا في صف واحد، يسير كل منهم على هواه، ولا يوحدون الخطى، وفي أسفل، في السهول المنزرعة الصغيرة التي عبروها مرة أو مرتين، كان الطريق عبارة عن وحل جاف متخلف من فصل الربيع، ولا يقل عن الطريق السابق سوءا، ومروا بقريتين متزاحمتين، وانتهوا عند قلعة رمادية اللون بالقرب من البحر، وكان ذلك عندما كادوا يتأهبون للتوغل داخل البلاد.
وكان لا بد أن يتوغلوا في الداخل، وقد فقدوا الأمل في أن يجدوا هنا سفنا أثينية تنقذهم في الوقت الملائم حتى لو عرف مواطنوهم مكانهم، ولما كانوا جميعا قد ولدوا ونشئوا على شاطئ البحر كان شعورهم إزاءه وديا، يمقتون أن يهجروه إلى الجبال.
وكانت جبالا حقيقية، فمن فوقهم السلسلة الكبرى لجبال سثيرون شامخة تناطح السماء، وقد عرفوا أن الميناد، عبدة ديونيسس إله الخمر أنصاف المجانين قد رقصن فوقها، وهن نساء يستطعن تمزيق الحيوانات الكاسرة إربا إربا بأصابعهن البيضاء، وكان من السهل أن يتصوروا حدوث ذلك فوق هذا الجبل ذي القمم الرمادية، والذي تكسوه أشجار الصنوبر المتشابكة النحيلة، وكذلك كانت الدروب سيئة ومحيرة، وقد يضل الأثيني طريقه إذا لم يرشده مرشد.
ومن حسن الطالع في ذلك الحين أن كان من بينهم بثيون، وقد ضموه إليهم عند باجي في نهاية الطريق، وربما كان راعيا أو حارق فحم؛ لأنه كان يعرف دروب الجبال النائية عن موطنه، وكان بثيون زميلا ودودا ومرشدا مخلصا، وكانت هذه الرحلة المغامرة الكبرى في حياته، وهو الذي رواها فيما بعد، وأمدنا بالطريق وبأسماء أندوسيديز وفصائله الثلاث، وربما بولغ في القصة أثناء روايتها، وكان بثيون يفخر كثيرا «بتحطيم رمحه في أجساد سبعة من الرجال»، وكان القتال عنيفا فيما يبدو بعد التحاقه بالجيش بفترة ما.
بيد أن كثيرا مما يذكره سقراط من تلك الأيام التي قضاها فوق التلال لا يحسب بثيون - وهو الخبير بالجبال - أنها تستحق الذكر، مثل الساعات التي أنفقها في تسلق الجبال وفي الهبوط منها خلال الأعشاب الشائكة التي تخز الأعقاب، والسير المضطرب وقطع الحجارة التي تترامى عليك ممن يسبقك، وعطش الظهيرة على سفوح الجبال مع ظهور واد صغير في أسفل الجبل كأنه شريط براق، ونسور سوداء تحوم فوق رءوسهم وتتطلع إليهم، وثعالب تصيح في جوف الليل في غابة الصنوبر.
وكانوا دائما في شك مما كان يحدث بأثينا، فيدفعهم الشك إلى الإسراع في الخطى، فكل خطوة تقربهم من الوطن، وفي المساء يحسبون ويعيدون الحساب حول النار الموقدة، كم يستغرق الإسبرطيون ليأتوا خلال الممرات، وإلى أي مدى يسيرون حتى يبلغوا ميغارا ثم إليوسس ثم أثينا؟ ومتى يستطيع الرسول - إن حالفه الحظ - أن يبلغ بركليز في الشمال؟ وكم يستغرق حتى يعود؟ وكل منهم يحسب فرص بركليز حسابا مختلفا، وقل منهم من جرؤ على الاعتقاد بأنهم سيصلون في الميعاد.
وهكذا بلغوا أخيرا القلعة الرمادية عند فايل وأول مشارف الوطن، وبلغت صيحتهم: «هذه أثينا!» آخر الصف وهم يسيرون حول منحنى الجبل، فقد بدت لهم أثينا بعد كل هذه الأيام التي كانت لا تغيب عن مخيلتهم خلالها، ذلك هو الأكروبول بأسواره، وتلك هي السوق في أسفلهم وإلى جوارها مكان الجمعية، ومنازل المدينة المتقاربة، وذلك هو البحر الذي عاشت عليه المدينة، وسلامس حيث دارت المعركة البحرية الكبرى مع الفرس، وهناك في السهل الغربي - كما أشار إليه أحدهم في انفعال نفسي - تستطيع أن تتبين بريق الحراب والتراب الذي يثيره الجيش السائر.
وتبعد فايل عن أثينا نحو أربعة عشر ميلا، ولكن العشرة الأخيرة منها على الطريق المعبد فقطعوها في سرعة فائقة، وقبل أن يرخي الظلام سدوله كانوا واقفين إلى جوار زملائهم من الفصائل السبع الأخرى، بينما كان العدو ينصب خيامه قريبا جدا من مدخل أثينا الأمامي، واستطاع سقراط في ذلك المساء أن يشهد نيران المعسكر من مقر حراسته فوق سور المدينة، وتوقع أن يكون الغد يوما مشئوما، فالكل يعرف أن العدو يتفوق على الأثينيين في العدد بدرجة كبرى.
ولم يحدث قتال في الغد، ولا في اليوم الذي يليه، بل لم يحدث البتة قتال، ولبث الإسبرطيون يوما أو يومين، ثم جمعوا خيامهم وانصرفوا، وتم الأمر في هذه البساطة، وتجمع الأثينيون فوق مرتفع الأكروبول ليرقبوا، وشق عليهم أن يصدقوا ما وقعت عليه أعينهم، ماذا حدث؟
لم تر المدينة يوما كهذا كثر فيه الحديث، وهي المدينة التي تخصصت في الحديث، غير أن بركليز لم ينبس ببنت شفة، وإن لم تبد عليه الدهشة لما حدث، ولم يمض وقت طويل حتى أشيع أن الملك الإسبرطي الذي قاد الجيش قد حوكم في مدينته وحكم عليه بغرامة كبيرة، وأرسل مع قواده إلى المنفى، أما بركليز فقد عرض في نهاية العام - حينما قدم حسابه ليصادق عليه الشعب - بندا كبيرا بغير تعليق نصه: «للنفقات الضرورية عشرة تلنتات (التالنت يساوي 250 جنيها تقريبا).»
وكانت نكتة أثينا عدة سنوات، وبدأ الحديث مرة أخرى، وذكر كل امرئ لأخيه: «إن هذا هو شأن الإسبرطيين، إنهم لا يستطيعون أن يقاوموا الرشوة قط.»
ولبث بثيون في أثينا، واعتاد سقراط أن يلقاه بين الحين والحين، ويروي للمستمعين المعجبين قصة مسير الفصائل الثلاث، القصة التي لم يكن بد من زيادة المبالغة فيها كلما تجددت روايتها، ولما مات فيما بعد (ودفن إلى جوار بوابة حارقي الفحم) نقشت القصة على شاهد مقبرته، وتستطيع اليوم أن تطالعها.
الفصل الخامس
أنكسجوراس الملحد
ولما تقشع الخطر الإسبرطي؛ سر المدينة أن تستقر وأن تعود إلى شئونها السلمية، وامتلأ الملعب مرة أخرى بالرياضيين، وجلس الشيوخ يتبادلون الحديث في أبهاء الأعمدة وهم ينتظرون دورهم لأداء واجبهم كمحلفين، وكانت تنبعث رائحة الخبز الطازج المألوفة يشمها من يمر بمحلات الخبازين، وكذلك كنت تسمع طرق السندان المعروف يصدر عن حي الحدادين، وطقطقة المطارق في الحجارة في الشارع الذي كان يقطنه سقراط، وإن أنت دخلت بيت سفرونسكس، فالراجح أنك لن تجد سقراط وأباه فيه، ونستطيع أن نتصور أنهما كالكثيرين من أصدقائهما يقومان بأداء عهد عليهما للشعب، وربما كانا يعملان في عمود في معبد أثينا الجديد الذي كان يشيد في الجهة الجنوبية من الأكروبول.
ووجد سقراط أن إقامة عمود للمعبد الجديد كان أشق عمل أداه حتى ذلك اليوم، فالكتل الرخامية - التي تم من قبل تشكيلها في المحاجر على صورة خشنة، كانت تسحب فوق الطريق الوعر من جبل بنتليكوس في عربات ضخمة تجرها الثيران، ثم تفرغها عصابات من العمال غير المدربين يبذلون الجهد وينضحون العرق، ثم يتولى العمل سفرونسكس وسقراط وأعوانهما من الرقيق الماهرين، ويتعاون على العمل الأحرار والعبيد، يقطعون كل حجر على شكل قطاع عمود يشبه الطبلة، يكبر قليلا ما سوف يصير إليه بعد الفراغ منه، وبه أربعة مقابض بارزة تركت دون تهذيب لكي تمسك بها الحبال عند رفعه، وكلما أعدوا طبلة رفعوها بالبكر ووضعوها فوق سالفتها، وركزت في دقة بحيث يلتئم وتد خشبي بالطبلة السفلى في جيب بالطبلة العليا، وكان يلزم لجذع العمود اثنتا عشرة طبلة، ولا بد من إعداد أعلى كل عمود وأسفله في عناية تامة، حتى إذا ما تم العمل ارتفع العمود كأنه حجر واحد، لا ترى فيه سوى خط رفيع عند كل التحام.
وحتى بهذا لم ينته كل شيء، فإن العمود لا ينبغي أن يعتدل إلى أعلى وإلى أسفل على خيط البناء، بل لا بد أن ينحني إلى الداخل قليلا، كما ينبغي أن تتقوس واجهته الجانبية ويدق طرفها، أقل ما يمكن من تقوس، بحيث لا تمكن رؤيته، مثله مثل التقوس العلوي الذي لا يكاد يرى والذي تم بناؤه في أرض المعبد كلها، ولا يعرف الفارق حقا بعد الانتهاء من البناء سوى مهندسي المباني والعمال، أما من عداهم من الناس فإنهم يكونون أكثر اقتناعا على أية صورة من الصور، ويحسون أن السقف والأرض كلاهما لا يتقوس - كما يبدوان لو أن خطوطهما قد صنعت في استقامة تامة - وأن الأعمدة متينة تحمل العبء في يسر وخفة.
وبعدما يقام العمود ، يتسلق سقراط الهيكل الخشبي لكي يبتر الغطاء الحجري الخارجي الواقي، ويتم التخطيط الذي بدئ من قبل في الطبلة السفلى، وكان لا بد من تخطيط عشرين قناة دقيقة التقوس على طول الجذع حتى تاج العمود في أعلاه، وبين القنوات حافات حادة كأنها سكاكين من الحجر.
وقضى سقراط هنا عدة ساعات، على منصته الخشبية عاليا فوق المدينة، وكان يستطيع أن يرى في أسفله المسرح الذي تمثل فيه المسرحيات، خاليا في ضوء الشمس، وإلى يمينه الأسوار الطويلة تؤدي إلى الميناء بمياهه الزرقاء المتلألئة، تنتشر فيه الأشرعة اللامعة، ويستطيع كذلك أن يتطلع إلى الجبال، فهناك تل ليسابتس القريب، وبنتليكوس الذي تقع إلى جانبه محاجر الرخام، وهيمتس موطن نحل العسل، وهيمتس هو الجبل الذي كان وميضه القرنفلي الأرجواني يعطي لأثينا في المساء الصفة التي يحبها أهلها أكثر من سواها؛ «أثينا البراقة المتوجة بالبنفسج»، هذا ما قاله شاعر معروف، ولكنه كان صدقا كما كان شعرا فيما ظن سقراط، وحتى قبل مغيب الشمس في ضوء الأصيل الذهبي، كان من اليسير أن تشاهد المدينة وكأنها المركز البراق لتاج بنفسجي من التلال.
بيد أن منظر الطبيعة بغير سكان كان كأنه الصحراء في عين سقراط، فكان يسره أن يعمل مع أصدقائه في أرض المعبد، وكان الأكروبول في تلك الأيام يزخر بالحياة، وعصابات العمال تنتشر في كل مكان، فها هنا الرخام الجديد يصل من المحاجر، وهناك الطبلة الكبرى ومختلف المواد من المعبد القديم الذي لم يتم بناؤه والذي أحرقه الفرس، كلها تسوى حتى تصبح ملساء بيضاء كي يمكن استخدامها في جذع عمود رقيق في الدهليز الجديد، وأقيمت الهياكل الخشبية، وأخذ أحد المفتشين يراجع تخطيط قاعدة الأعمدة، وكثيرا ما مر الرجل الأول في أثينا - القائد بركليز بنفسه - يصحبه أحد مهندسي البناء، أو مع فدياس كبير النحاتين في هذا العمل.
وأحب بركليز أن يحضر إلى الأكروبول، فلقد كانت المعابد الجديدة مفخرته الخاصة، كافح من أجلها في الجمعية، وهو الآن يكاد يمر كل يوم ليشهد مسير العمل، وكان برنامج البناء - بطبيعة الحال - مطلوبا لرعاية المتعطلين، ولم يستطع أحد أن ينسى السنوات الشاقة، التي أعقبت إبرام الصلح مع الفرس مباشرة، حينما عاد الأسطول إلى الوطن ليستقر فيه، وكان سقراط في ذلك الحين قد بلغ سن الرشد حديثا، فذكر ذلك جيدا، وكان هناك قوم كثيرون في ذلك الحين وعمل قليل، أما الآن فقد أوجدت المباني الكبيرة عملا كثيرا لكل إنسان، رغم أن مدن الاتحاد قد تذمرت من اضطرارها إلى دفع النفقات، وكانت تحب أن تخصص أموالها في الإنفاق على السفن والملاحين ومقاتلة الفرس، ولا تنفق على المباني.
وكان بركليز يحب أن ينفق أموال الاتحاد - وأمواله أيضا إن كانت إليها حاجة - على المباني؛ لأن هذه المباني كان لها عنده معنى مختلف، لم يكن معناها فقط توفير العمل يشغل به مئات الرجال: من نجارين ونقاشين وعمال في الرخام والبرنز وخشب السرو والعاج والذهب، ولم يكن معناها فقط أن تصبح المدينة قانعة مرتاحة يتوافر فيها الطعام للزوجات والأطفال، وإنما كان بركليز يحلم لأثينا حلما بدا إمكان تحقيقه في فترة وجيزة من الزمن، كان يريد لها أن تمسي مكانا يؤدي فيه الناس خير ما عندهم وأجمل ما لديهم، ويعتقد بركليز أن ليس هناك شيء تقريبا يعجز عنه الإنسان، لا يعز على الإنسان جمال أو مهارة، ومن واجب أثينا أن تثبت ذلك للعالم أجمع، وأن تثبته في كل ما تعمل، على أثينا أن تكون مدرسة اليونان: بحياة أهلها النشيطة المتنوعة الألوان، وبحرية حكومتها، التي يحس فيها كل امرئ أنه جزء مما يحدث، وببهجة حفلاتها وحكمة مسرحياتها، والآن بجمال الأكروبول الذي تتوج به المدينة.
ولم يكن معبد أثينا كل ما بها، فقد بدأ برنامج المنشآت بمعبد هفيستس إله النار عند سوق المدينة. وتضمن البرنامج ثاني الأسوار الطويلة التي تصل أثينا بمينائها بيريس، كما تضمن إنشاء مدينة حديثة التخطيط بدلا من بيريس ذاتها، وأقيمت فوق الأكروبول سلسلة بأسرها من المباني، يبلغ كل منها أقصى ما يمكن تحقيقه في ضرب من ضروب الجمال.
وأروع هذه المنشآت الجميلة جميعا معبد أثينا، الذي أطلق عليه فيما بعد بيت العذراء أو البارثنون، وقد قامت من حوله مجموعة كبيرة من الأعمدة الرخامية، تتصف بتلك الاختلافات والمنحنيات السرية التي أمكن لسقراط وصحبه أن يروها ويشهدوا بصحتها، أما أكثر الناس فقد أحسوا بها وإن لم يروها، وفي القمة فوق الطنف كان من المزمع أن توضع ألواح منقوشة تصنع في مصنع فدياس، وسيظهر بريق لونها بعد الفراغ منها متباينا مع بياض الأعمدة، وكان في التصميم كذلك حزام من النقوش يمر داخل الصف الأول من الأعمدة، وقد أعدت الرسوم وشهدها سقراط، وفي التصميم أيضا عرض الحياة الجميلة للمدينة وهي تتجمع عند نقطة واحدة في موكب أثينا السنوي، وذلك على هذا الحائط الداخلي، ومن بين مواطني المدينة الفرسان وراكبو العربات والمشاة من الرجال والفتيات يحملن السلال، والكهنة وضباط المدينة بل والآلهة، وستأتي - فيما بعد - مجموعات كبرى من التماثيل الرخامية في أطراف السقف الهرمي الأمامي منها والخلفي، وسيبنى السقف بألواح من المرمر، ويزين داخله الأجوف بزخرفة كأنها خلايا النحل، وفي الداخل - كما كان يعلم كل إنسان - في الظل الرطب للمحراب الداخلي، أزمعت إقامة التمثال الجديد الذي صنعه فدياس للآلهة الواقية من العاج والذهب.
وبطريقة ما انتقلت أحلام بركليز وصحبه الذين كانوا يصممون البناء إلى الرجال الذين كانوا يؤدون العمل بأيديهم، وأعجب نحاتو الحجارة أيما إعجاب بالكمال الذي بلغوه في أدائهم لتفصيلات النقوش في جو مرتفع، وحتى الرقيق والأجانب من العمال الذين كانوا ينحتون وينقلون ويرفعون إلى جانب المواطنين الأحرار أصابتهم نشوة الفرح، وكان بركليز يسر كثيرا كلما مر كل يوم وشهد العمل كما شهد الملامح التي بدت على وجوه العمال.
وجاء إلى الأكروبول كذلك قوم آخرون غير بركليز، وأصبح المعبد مفخرة كل إنسان، ولا تكاد تجد مواطنا لا يأتي في وقت من الأوقات ليرى كيف كان يسير البناء، وحتى النساء أتين - النساء كريمات المولد اللائي قل ما كنت تشاهدهن في الأماكن العامة - يتخطرن بين العمال الذين يتصببون عرقا كي يلقاهن فدياس بحفاوة في مصنعه، وكثيرا ما دار اللغط حول هذه الزيارات، غير أن إحدى النساء الزائرات كانت مثار الحديث بين كل من كان فوق الجبل، تلك هي إسبسيا الأجنبية الشابة الحسناء التي جاءت من ملطية بآسيا الصغرى، والتي أشيع عن القائد بركليز - ذلك الرجل الصلب صاحب الذهن الصافي - أنه هام بها حبا، ولم تكن لإسبسيا مكانة البتة في أثينا، ولا يمكن - طبقا للقانون الذي وضعه بركليز نفسه ضد الزواج من الأجنبيات - أن يعترف بها شرعا زوجا له، ولا بد من صوت خاص من أعضاء الجمعية لكي يكون ابنهما مواطنا، ولبثت جماعة من أصدقاء سقراط مذعورة من حب بركليز لهذه الفتاة الأجنبية، ولكن سقراط مال إليها عندما لاقاها فيما بعد، فإن بركليز وجد امرأة تستطيع أن تفكر.
وكان لبركليز صديق آخر، زميل لا يكاد يفارقه، وهو أنكسجوراس العالم، وقد جاء كذلك من آسيا الصغرى عندما دعاه بركليز إلى أثينا، وقال عنه الناس: إنه رجل من العالم الآخر، أضاع ثروته في بلاده بينما كان يدرس السماء، وكان يكنى «بالعقل» في أثينا، وقاسى كثيرا من مضايقة الناس، ولم تتهيأ لسقراط الفرصة لكي يتحدث إلى أنكسجوراس، ولكنه أثار اهتمامه كلما رآه، وحاول أن يستنبط من أفكار الرجل ما استطاع، وحدثه الناس عنه كثيرا، وأكثر حديثهم هراء واضح، ولكنه عندما كان يصفي حديث الناس كان يظهر له أن وراءه كلاما معقولا يثير التفكير.
وقد حفز أنكسجوراس على التفكير حجر ضخم أسود هبط من السماء عند مكان يسمى نهر الماعز منذ سنوات عدة مضت، وقد رأى بعينيه الحجر ولمسه فألفاه مختلفا كل الاختلاف عن الصخور المحيطة به، وإذا كان قد هبط من السماء، فمن الواضح أنه لا بد أن تكون بها حجارة، ولم تقذف به الآلهة كما تروي القصص القديمة، وفكر أنكسجوراس طويلا في الأمر بعد ذلك، وخرج أخيرا بالنظرية التي أخذ يتحدث عنها كل امرئ في أثينا، ولم يأبهوا كثيرا لقوله بأن الأرض دائرة مسطحة، تسبح في الهواء كورقة الشجر فوق الماء، تدور حولها النجوم، فإن كثيرا غيره من العلماء قد اعتقد ذلك من قبل، ولو أن الأثينيين لم يكن من بينهم عالم حي حقا يعيش في أثينا ويؤمن بهذا القول، وإنما كان فيما قاله أنكسجوراس عن الشمس والقمر شيء يشين كرامة الآلهة خاصة.
قال أنكسجوراس: إن الشمس ليست بإله، وإنما هي كتلة متوهجة من المعدن، أكبر من بلبونيز كلها، وهي شبه الجزيرة التي يقطنها الإسبرطيون وستة شعوب أخرى غيرهم، وكأن هذا لم يكفه فتعرض للقمر وقال: إنه من التراب، وليس له ضوء خاص، وإنما هو يعكس ضوء الشمس، وبالقمر تلال ووديان وربما كان مسكونا، وعندما يقع في دورته بيننا وبين الشمس، تبدو الشمس مظلمة في رابعة النهار، وعندما تحجب الأرض ضوء الشمس عن القمر، يظلم كذلك القمر.
كل هذا أثار حديث الناس في أثينا، وجرى الحديث في شدة ولم يكن دائما حديثا وديا، واهتم الناس فجأة أشد الاهتمام بما عسى أن يكون لكل هذا الحديث عن الحجارة والمعدن الذي ابيض من الحرارة من أثر على الدين، وهم أولئك الذين لم يبد منهم من قبل أي اهتمام بالآلهة (اللهم إلا أن يقدموا إليها الضحايا المألوفة بطبيعة الحال)، ولحظ سقراط أن بعضا من مؤيدي الآلهة المتحمسين كانوا كذلك أعداء سياسيين لبركليز، وكان خصوم بركليز يسمون أنفسهم «السادة»، أما بركليز نفسه (الذي انحدر من أعلى الأسر في أثينا، وإن كان يعضد لديمقراطية الناشئة) فكان يحلو له أن يطلق عليهم «القلة»، وسواء كانوا سادة أو غير سادة فقد اتضح لسقراط أنهم كانوا يجرون أنكسجوراس ونظرياته العلمية إلى نزاع سياسي، أما ديوبيثس الكاهن العجوز المتعصب، الذي كان يكسب العيش عن طريق تفسير أسرار السموات وعجائبها، فله شأن آخر، وليس من شك في أنه كان يهتم في إخلاص بقداسة السموات ولو لأسباب عملية فحسب، أما ديون ابن عم ديوبيثس، الذي كان يعمل إلى جوار سقراط في بهو الأعمدة، فقد اعتاد أن يقول صراحة: إن المدينة لا يمكن أن تأمل في الظفر برضا الآلهة حتى يقتل أنكسجوراس.
وألف سقراط الحديث الخشن من مواطنيه، ومن الجائز أن يؤدي حديثهم إلى القيام بعمل ما؛ لأن الشعب هو الحكومة ولكنه قلما كان يؤدي إلى ذلك في تلك الأيام؛ ولذا فقد ذهل ذات مساء حينما جاءه ديون يقرع بابه ويحمل إليه نبأ جديا.
قال ديون في رزانة تامة وقد ولج الحجرة التي كان يجلس فيها سفرونسكس وسقراط وقلة من أصحابهم: «يجب على كل أثيني مخلص لبلاده أن يبتهج؛ لأنه يشهد هذا اليوم، فقد عاد إلى أثينا رضا الآلهة، فقد أدين الملحد!»
ولم يكن سقراط بحاجة إلى أن يسأل من هو ذلك «الملحد»، وإن كان هو نفسه لم يجد مبررا يدعو هذا العالم المشرد الذهن لكي لا يعتقد في الآلهة كما يعتقد فيهم سواه، واستطاع هو والآخرون - بشق الأنفس - أن يعرفوا من ديون ماذا كان يجري تماما، والأمر في عبارة واضحة هو هذا: لقد اتفق ديوبيثس وصحبه المتعصبون مع «السادة» الذين كانوا يمقتون بركليز، وظفروا بوعود التأييد من كثير من أصحاب الأصوات المحافظين في المدينة، وكان المزارعون - الذين كان ينتظر أن يفدوا إلى أثينا في الغد في جموع حاشدة - ينفرون من أي حديث خطر عن الدين، فقد كانوا يعتمدون على الآلهة في محصولهم، ومن المؤكد أنهم سيصوتون مع جانب الحق.
ولذا فسوف يبدأ الهجوم في الجمعية في اليوم التالي ديوبيثس بنفسه، ولن تكون به حاجة إلى أن يقول شيئا عن أنكسجوراس، وإنما يكتفي بأن يقترح قانونا جديدا ضد الأفراد الذين لا يمارسون الدين، وينشرون النظريات عن «الأشياء العليا»، ومن المؤكد أن يوافق المجلس على القانون، كم من الأعضاء يود أن يعارضه ويسمى بالملحد كذلك؟ وعندئذ يستطيع رجال السياسة أن ينقذوا في المحاكم ما يبقى بعد ذلك، وسيكون هذا كله عملا مشروعا.
ولما فرغ ديون من الإفضاء بهذه الخطة ثارت مناقشة حادة، ودافع عن أنكسجوراس بشدة - أحد رفاق سقراط - وهو أجنبي يدعى فيلينس طوف كثيرا وآمن بالآراء المتقدمة، ووجه خطابه إلى ديون قائلا: «مهما يكن من شيء، فإن ما يقال عن الشمس والقمر قد يكون صادقا إذا لم تكن هناك حجارة في العلا، فمن أين إذن جاء الحجر الأسود عند نهر الماعز؟»
وقال ديون غاضبا: «ليس من شأننا أن نبحث في مثل هذه الأمور، أنصحك أن تترك الآلهة وشأنها، وليس للناس أن يتساءلوا، سواء كانت هناك حجارة أو لم تكن، هل تريد أن تغضب الآلهة وتجلب للمدينة الطاعون والخراب؟»
وأجاب فيلينس في هدوء: «سل أي طبيب حاذق ينبئك أن الطاعون إنما يأتي إذا فسد الماء أو الهواء، أما عن «الخراب» فأيا كان ما تعني به، ألم يكن حكيمكم الخاص سولون هو الذي قال بأن مدينتكم لن تفنى بإرادة الآلهة، وإنما تفنى بحماقة مواطنيها وشراهتهم؟»
وكان هذا الكلام شديدا على نفس ديون، ثم أطلق على كل كافر فيضا من اللعنات المقدسة، وكان فيلينس بانتظاره عندما أفرغ ما بجعبته من ألفاظ.
فقال: «إنك تتحدث كأنك تألف الآلهة ألفة كبرى، هل رأيت إلها قبل اليوم؟ هل لمست إلها؟ هل تستطيع أن تخبرني بحادث واحد في الحاضر ولا أقول في الماضي، لا يمكن أن تعلله بالأسباب الطبيعية؟»
وكان أكثر الحاضرين معارضين لديون ومبالغته في التقوى، غير أن فيلينس قد غالى كثيرا هذه المرة، وعلت بالاحتجاج الصيحات، وبدءوا جميعا يتكلمون في صوت واحد، وأخيرا رفع سفرونسكس يده يطلب الصمت، وكان رجلا مسنا يحب أن يسود بيته السلام.
وتبسم قائلا: «ربما كان كلا الجانبين مصيبا من ناحية، وربما عرف أنكسجوراس حقيقة الشمس كما يقول فيلينس، وأذكر أنني سمعت بشيء من هذا في شبابي، قد لا يكون حجارة أو ترابا، ولكنه بخار ملتهب، وهو ما لا يقل مروقا على الدين عما زعم أنكسجوراس، غير أنا لم نحسب الموضوع في ذلك الحين مما يعرض على محاكم القضاء.»
ورد عليه ديون محتجا.
وواصل سفرونسكس حديثه مشيرا بإصبع طويلة وقال: «تمهل قليلا، قلت: إننا لم نحسب الموضوع مما يعرض على محاكم القضاء «في ذلك الحين»، وقد يكون الأمر على خلاف ذلك اليوم، ولست أحب الطريقة التي يتحدث بها فيلينس، وعندما أتلفت حولي إلى الشباب الناهض في هذه الأيام - وخذ على سبيل المثال كليون ابن الدباغ، بلسانه الحاذق اللاذع، وكراهيته لكل من يعلوه - أتساءل قائلا : أليس قليل من خوف الآلهة القديم مدعاة للسلامة، ولكن الزمن قد تغير ... أجل، لقد تغير الزمن»، ثم استمر في الكلام، وكأنما يتحدث إلى نفسه، وقال: «أذكر كيف كان إحساسنا بعد انتصارنا بحرا في سلامس، عندما أبحر الفرس مبتعدين، وعرفنا أننا أصبحنا أحرارا، «عرفنا» أن الآلهة كانت معنا آنئذ، وما كان لأحد أن يحدثنا بغير ذلك، وماذا كان يهمنا من الشمس والقمر وما إليهما؟ أما الآن أجل، قد يكون ديون على صواب، وربما كان ما زعم ضرورة لكي تحتفظ العقيدة القديمة بحياتنا، من يستطيع أن يحدثنا عما يمكن أن يكون لخير المدينة في مثل هذه الأوقات؟»
ولم يكن سقراط على اتفاق في هذا مع أبيه، بيد أنه لزم الصمت احتراما له، ولم يشترك في الحديث إلا بعد أن أوى سفرونسكس إلى فراشه، واستمر الجدل إلى ساعة متأخرة من الليل، ولم ينته عند حد، وتشبث كل من ديون وفيلينس برأيه في عناد، غير أن سقراط خرج من النقاش وهو أشد إيمانا من أي عهد مضى بأن ديون وإياه كان كلاهما على خطأ.
إن المهم هو الحقيقة كما عرف، إن الحقيقة لا تصيب الآلهة بأذى، إنها تحب الحقيقة، ولكنك إن أردت أن تخفي الحقيقة فهناك خطر آخر، فقد تؤذي أعز ما لديك، وذلك هو نفسك - أيا كانت هذه النفس - وهي أقرب شيء إلى الآلهة، لا شك في أن ديون كان غافلا، وسفرونسكس شيخ حكيم، ولكنه لم يدرك أنه بخنق الحقيقة يؤذي أثينا ولا يعينها.
ولكن ما هي الحقيقة؟ هل كان فيلينس على صواب حينما قال بأن «الأسباب الطبيعية» تفعل كل شيء؟ لا شك في أن فيما زعم صدى للصدق، وبرغم ذلك فإن به شيئا لم يقتنع به سقراط، وأوى إلى فراشه متعجبا.
وفي اليوم التالي فاز ديوبيثس بموافقة المجلس على مشروع قانونه كما توقع الناس جميعا، وسيق أنكسجوراس إلى المحاكمة بناء على ذلك وتهمته الكفر بالآلهة، وعقوبته المنتظرة هي الموت، وشغلت هذه القضية حديث الناس جميعا في أثينا عدة أيام ، ومن حسن حظ ضمائر أهل المدينة أن العالم لم يعدم، فقد أبعده بركليز عن المدينة، ولما عاد أنكسجوراس إلى آسيا الصغرى؛ وجد له حاميا آخر في مدينة لمباسكي، وهنا تابع دراساته حتى نهاية حياته.
وافتقد بركليز وصحبه أنكسجوراس، ولما صدر كتابه في العلوم الطبيعية لقي رواجا كبيرا، بيد أنه قد تبين أن آراءه عن الشمس والقمر لم تكن جديدة كل الجدة أو مما يدعو البتة إلى الدهشة والذهول، وظهر فيما بعد غيره من الرجال ممن يفضلونه في علم الفلك وتابعوا جهوده وصححوا أخطاءه، وربما كان أطفال لمباسكي من بين الناس جميعا خير من ذكره وأطال الاحتفاظ بذكراه، فقد طلب لهم عطلة مدرسية سنوية يوم مماته.
الفصل السادس
اكتشاف
وكذلك لم يغب أنكسجوراس عن ذكر سقراط الذي لم يعرفه قط تمام المعرفة، فإن الرجل الذي يستطيع أن يقول: إنه لم يولد للمتعة أو الشهرة، وإنما ولد لدراسة الشمس والقمر والسموات لا بد أن يكون لديه شيء من العظمة، وليس من شك في أن المعرفة كانت لها أهميتها القصوى كما ذكر صانع الفخار العجوز ذات مرة، ولكي تعرف لا بد أن تدرس، ولا يكفي أن تتعجب؛ ولذا فقد انغمس سقراط في حماسة شديدة في دراسة ما كان يتناقله الحكماء عن صورة العالم، وكان بالأرض والشمس والسماء أقل اهتماما منه بالناس، ولكن إن كانت للأشياء صور، فقد كانت بالتأكيد لها جميعا صورة واحدة، ولو عرف القوانين التي جعلت من الدنيا ما هي عليه؛ لاستطاع أن يأمل في تفسير الرجال والنساء كذلك.
ومن ثم أقبل على الدرس سقراط، استمع إلى حديث العلماء الذين تجمعوا في غرفة الملابس في الملاعب، أو ساروا بين الأعمدة، ومن بينهم تلميذ لأنكسجوراس يدعى أركيلوس، أطلق عليه فيما بعد اسم أستاذه، وآخرون من أمثال سمياس وسيبيز، من الأجانب الذين تشبعوا بنظريات العالم الرياضي فيثاغورس، أصبحوا أصدقاء له حميمين.
ولما كان لسقراط ذهن خاطف وعقل متطلع وذاكرة قوية، فسرعان ما عرف هو نفسه بالحكمة، وبات من المقرر أن يلتقي بأي عالم يهبط إلى المدينة ، ولما كان من دلائل التقدم أن تكون هذه الأمور مما يهتم به المرء، فقد كان سقراط يدعى لحفلات العشاء في بيوت لا ترحب بأكثر من يعملون بأيديهم، بيد أن هذا لم يغير من سقراط شيئا، كان يهمه أن يتعرف إلى كل قادم جديد يلاقيه، وكان يهتم بمعرفة الناس أجمعين، غير أنه كان يقيسهم بأفكارهم لا بأكياسهم، أو كان لا يقدرهم البتة أي قدر، فإن ما وجده لديهم من علم أو مهارة لا يمكن أن يقاس إلى الحكمة التي كان يبحث عنها، كان يبحث عن حكمة تفسر له السبب في وجود الأشياء كما هي، كما أن معرفة صانع الفخار الخبير بنموذج الجرة يفسر له شكل كل جرة يقوم بصنعها.
وذهل سقراط حينما عرف عدد الرجال الذين حاولوا من قبل أن يكشفوا عن نماذج الأشياء، فقد لبث الناس يتساءلون لأكثر من قرون من الزمان: مم صنع العالم؟ وكيف بلغ ما صار إليه؟ هذه الأسئلة كان يتساءل عنها أبناء الشرق والغرب من الإغريق، ولا تخطر على بال الأثينيين؛ لأنهم أشد جمودا، ولم يكن أنكسجوراس جديدا في زعمه، مثيرا في تفكيره للأقوام الآخرين، كما بدا للأثينيين الذين كانوا يجابهون الآراء العلمية لأول مرة.
وقد أظهرت المقترحات التي صادفت سقراط عن الدنيا ونشأتها أن العلماء - كغيرهم من الناس - يمكن أن يتعجلوا في التفكير، مثال ذلك فكرة أمباذقليس الصقلي الحديث عن الأسماك، فقد حسب أمباذقليس أن الأحياء المائية يتألف أكثر أجسامها من الماء، كما أن الأحياء الأرضية تتألف غالبا من التراب، والطيور التي تحلق في الهواء من النار، ولكن الأسماء استثناء من القاعدة، فهي مليئة بالنار وتهرب إلى الماء للتبريد، وفهم سقراط - عندما سمع بهذا - أن أمباذقليس كان يحاول أن يفسر شيئا شهده بعينه، لا بد أن يكون قد قصد المرفأ ذات صباح، ورأى الأسماك في زوارق السماكين، راقدة وهي تلهث طلبا للماء، ولكن لماذا لم يتناول قط سمكة لكي يتأكد من حرارتها؟ ومع ذلك فإن هذا العالم نفسه قد وصف دورة الدم في جسم الإنسان وعملية التنفس، وصفا يثبت ما لديه من ملاحظة دقيقة.
وهكذا سارت الأمور سنوات عديدة، كما كشف سقراط الملاحظة والحدس، الطيب منها والخبيث، يختلط بعضه ببعض في ارتباط واضطراب، وكان التقدم بطيئا في بعض الأوقات، وكان من اليسير أن يثبط بالطريقة التي كان يعارض بها كل عالم غيره من العلماء، ولكن وراء هذا كله لمح سقراط الفكرة السامية عند هؤلاء العلماء التي جعلت حتى من حماقتهم ضربا من ضروب الحكمة، كانوا جميعا يبحثون عن قانون، قانون متوافق لا يتغير، يقسر جميع الأشياء.
فظن أحدهم أن الماء مصدر كل شيء، إذ رأى المخلوقات المولودة حديثا تزحف من الطين في مصر، بعد أن فاض النيل على شاطئيه، وظن الآخر أن العالم المادي مصدره البخار منتشرا أو مضغوطا، وربما رأى البخار يتكاثف ويتحول إلى ماء والماء يتجمد فيصبح جليدا، وقال ثالث: إن الدنيا لا بد أن تكون مصنوعة من النار التي تأتي إلى الوجود ثم تذهب، وثمت فكرة أخرى شاعت بصفة خاصة بين الأطباء في ذلك الحين، وهي فكرة أمباذقليس، الذي ارتأى أربعة عناصر - التراب والهواء والنار والماء، تمتزج بالشوق وتفترق بالنزاع، وهي في خلال ذلك تكون الدنيا والأجسام البشرية.
وفي كل هذه الأفكار عن مادة دنيوية أساسية مأخذ مشترك، وذلك أنه من العسير على أي امرئ أن يفسر كيف ولماذا تتحول هذه المادة - أيا كانت - إلى الأشياء التي نراها، وقررت - في الواقع - جماعة من الإغريق الغربيين أنه من المستحيل أن تقول: إن أي شيء من الأشياء يتحرك أو يتحول.
وكانوا يدلون بكل ضروب الحجج القوية، ومنها الحجة التالية: تصور سلحفاة، وهي أبطأ المخلوقات، وتصور البطل أخيل العداء السريع يتابعها جريا، فهل نستطيع أن نتخيل أن أخيل يمكن أن يلحق بالسلحفاة؟ إنه لن يستطيع لو فكرنا في الأمر مليا؛ لأننا لو فرضنا أن أخيل يبدأ وراء السلحفاة ويعدو حتى يبلغ النقطة التي بدأت منها السلحفاة، فإنه سيجد أن السلحفاة قد تحركت أصغر ما يمكن من مسافة، ولكن أخيل لم يلحق بها بعد، وقد تمر برهة قصيرة - قد تبلغ جزءا من مائة من الثانية - حتى يصل أخيل إلى النقطة التي كانت بها السلحفاة أخيرا، ولكن السلحفاة قد استغرقت تلك الفرصة من الزمن وتحركت إلى الأمام قليلا، ويمكن أن يتكرر ذلك في المخيلة ولا يلحق أخيل بالسلحفاة مطلقا، وهي فكرة تثير الضحك من غير شك، ولكن لما سخر منها الناس أجابهم زينون - وهو مؤلف اللغز - بأنه من الطبيعي أن يضطرب الأمر في أذهانهم لو اعتقدوا في الأمور المستحيلة مثل التغير والحركة.
هكذا قامت المشكلة، وكلما أمعن سقراط في التفكير اشتدت الأمور تعقيدا، وبدأت الأمور - التي كانت تبدو من قبل يسيرة - تظهر عسيرة لديه كالنمو وإضافة الواحد إلى الواحد، وكأن هذا الجدل بين العلماء لا يؤدي إلى نهاية، وربما كان من الأسباب أنهم يعيرون قليلا من الالتفات لما كان يحدث في الدنيا فعلا، ويصوغون بدلا من ذلك النظريات التي تقوم على غيرها من النظريات، ووجد سقراط أن الأطباء وحدهم هم الذين كانوا يحاولون فعلا أن يمعنوا في الملاحظة، وحتى هؤلاء كانوا يضطربون أحيانا عندما يحاولون أن يدخلوا كل شيء تحت نظرية العناصر الأربعة التي أخذ بها العلماء.
والعلماء أنفسهم في تلك الأيام كانوا يهتمون بما يهتم به الأطباء؛ أعني جسم الإنسان، تعجب العلماء من جسم الإنسان كما تعجب بركليز وصحبه الذين حسبوا الإنسان مخلوقا عجيبا، يكاد يفعل كل شيء تقريبا، وقالوا: ما أعجب الإنسان من مخلوق! إن له عينين يستطيع أن يتلفت بهما إلى أي اتجاه، ويستطيع أن يغلقهما لينام، لهما أهداب لتنقية الهواء، وحاجبان ليبعد بهما العرق، وله أسنان أمامية يقطع بها الطعام، وأسنان خلفية ليطحنه بها، وفمه قريب قربا ملائما لأنفه وعينيه التي ينتقي بها ما يأكله.
ولما فكر أمباذقليس في كل هذا، بدا له أن مخلوقا عجيبا كالإنسان لا يمكن إلا أن يكون قد تطور بعد كثير من المحاولة والخطأ، ولا بد أن يكون قد مرت بالعالم في الأجيال السابقة مخلوقات عجيبة نجهلها اليوم: مخلوقات لها رءوس وصدور في مختلف الاتجاهات ، ثيران لها وجوه الرجال، ورجال لهم وجوه الثيران، وقد اختفوا جميعا عن الأرض وتردوا في هوة النسيان؛ لأنهم لم يصلحوا للبقاء، ولكن لما حدث أن الحيوان الذي كان ظهره من قطعة واحدة - كما كانت الحيوانات جميعا في أول الأمر - قد التوى منه الظهر وانكسر كان هذا التطور مفيدا فاستمر، وظن أمباذقليس أن هذا يفسر لنا لماذا صارت السلسلة الظهرية عند الإنسان اليوم مركبة من قطع صغيرة متكسرة.
ووجد سقراط أن هذا الضرب من ضروب العلم شديد الجاذبية، وبخاصة عندما أخذ العلماء يتحدثون عن عقل الإنسان، كيف يفكر الناس؟ كانت للعلماء في ذلك عدة إجابات، كل منهم يحسب العقل عادة مصنوعا من المادة التي يعتقد أنها المادة الكونية الأساسية، فكان العقل أنقى البخار أو أجمل النار، أو ربما كان الدم الذي يحوط القلب يحمل صورا مما يرى وما يسمع، وذلك هو التفكير، وأمست الفكرة القديمة التي تقول بأن الناس يفكرون بالحجاب الحاجز فكرة بالية، وربما كان للذهن شأن به كما يقول بعض الأطباء.
وبعد ذلك بعدة سنوات، حينما كان سقراط يتحدث إلى بعض الشبان من أصدقائه الذين كانوا يحاولون أن يجدوا حلا لإحدى المشكلات، وقد أخفقوا في المحاولة مرة بعد أخرى، حذرهم من أن يكونوا من «الكارهين للتعليل»، وهو تعبير اخترعه ليصف به الشخص الذي تثبط همته كلما استخدم عقله، فيصبح «كارها للتعليل»، وقال: إن الحال مع مثل هذا الشخص تشبه إلى حد كبير ما يحدث للرجل الذي يبالغ في ثقته بالآخرين ثم يخيب فيهم رجاؤه، «من المؤسف أن الرجل الذي يلجأ إلى التعليل، فيجده صادقا مرة وكاذبا مرة أخرى، لا يلوم نفسه وعجزه، وإنما ينحي باللائمة في ثورة من الغضب على التعليل ذاته، ومن ثم فإنه يمقت التعليل ما دام حيا، ويسيء إليه في الحديث»، وذلك من أسوأ ما يحدث للمرء فيما كان يزعم سقراط، فكان يحث أصدقاءه ألا يقعوا في حبائله: «دعنا لا ندخل إلى نفوسنا هذه الفكرة، وهي أنه ربما كان التعليل غير سليم، بل لنعتقد - بدلا من ذلك - أننا نحن أنفسنا لسنا سليمين حتى الآن، ولنجاهد كما يجاهد الرجال في سبيل السلامة.»
وأدرك سقراط الخطر الذي يكمن وراء «كراهية التعليل»؛ لأنه هو نفسه قد تعرض لهذا الخطر، وقد استعاد في ذهنه خلال هذه السنوات كل ما ورد على ألسنة الحكماء من ألفاظ: الجدال والتناقض والتفسير والتصحيح، وبدأ سقراط يتساءل إن كان يملك العقل الملائم لهذا الضرب من ضروب البحث، وقد ظن الناس أنه حكيم، ومع ذلك فبرغم كل ما كان يعرفه، فأي شيء هام كان يعلمه؟ إن التفسيرات التي كانت تقنع الآخرين لم تكن لتقنعه، وبدا له أنه أبعد عن الحكمة من أي وقت مضى.
ثم استمع ذات يوم إلى رجل يقرأ من كتاب أنكسجوراس.
ولم يذكر فيما بعد ما كان يكتنف هذا الموقف من ظروف، هل كان ذلك في يوم عطلة ذات مساء بالملعب، أو في حفل عشاء في بيت أحد الأثرياء ممن يهتمون بالمعرفة؟
وأيا كان الظرف، فإن هناك من كان يقرأ ويستمع إليه سقراط، وكان سقراط يحسب أنه أعلم في تلك الأيام من أن تأتيه المعرفة من أي إنسان، غير أن هذا الكتاب كان جديدا، وصل إلى أثينا منذ عهد قريب، وكأنه كتاب غزير المادة، وكانت أكثر من لفافة من أوراق البردي ملقاة بجانب القارئ، وسر سقراط لما عرف بأن ذلك العالم الذي كرس حياته للعلم، والذي نفته أثينا بجهلها من المدينة، ما زال يواصل التفكير والعمل، وتساءل: أي كشوف جديدة عن النجوم يا ترى قد تمت؟
والكتاب مستهل بعبارة منسقة عن العناصر الأولى وأصل الأشياء، وقد ذكر أنكسجوراس أن كل الأشياء التي نشاهدها خليط، فهناك حرارة حتى في الشيء البارد، وإنما نسميه باردا؛ لأن فيه من البرودة أكثر مما فيه من الحرارة، يقول أنكسجوراس: «هناك سواد حتى في الشيء الأبيض»، فأطرق سقراط رأسه؛ لأنه شاهد في الثلج بقعا سوداء، كما أن بياض الثلج يختفي عندما يذوب، إن ذلك شديد الاحتمال.
واستمر القارئ يقول: «إن الأشياء الأخرى فيها جزء من كل شيء، أما العقل فهو غير محدود ويتحكم في نفسه ولا يختلط بشيء، وإنما هو قائم بذاته، له سلطة عليا، ويسود كل شيء فيه حياة، صغيرا كان أو كبيرا، وكل ما قدر وجوده، وكل ما وجد، وكل ما لا يوجد الآن، أو ما يوجد ... كل ذلك رتبه العقل ...»
وقيل كثير غير ذلك، ولكن سقراط لم يستمع إليه، ولو أن الآلهة أرسلت إلى قلبه ضياء خاطفا، لما بهره الضوء مثلما أحس الآن، إذ كان لهذا الكلام في النهاية معنى لديه، فلقد وجد أنكسجوراس الحل الوحيد الذي يفسر كل شيء، فإن في العالم فكرا واحدا يعمل، يرتب كل شيء على أحسن ما يكون الترتيب، ومن المؤكد أن العقل يعمل بهذه الطريقة، ينظر دائما إلى ما هو خير كالصانع الماهر، ولا يصنع الأواني الرديئة إلا صانع الأواني الجاهل.
وهكذا فإن العقل قد صنع - ولا زال يصنع - كل شيء على خير ما يكون! إن تفصيل ذلك كله لا بد أن يكون في ذلك الكتاب، وسوف لا يكفي أنكسجوراس أن يذكر أن الأرض مسطحة أو مستديرة، بل إنه ليذكر أنه من الخير للأرض أن تكون كذلك، كما يذكر الأسباب، وسوف يذكر أية فكرة طيبة كانت في العقل الذي شكل كل شيء، وكاد سقراط أن يذهل عجبا واهتماما بهذا الكشف العظيم، لن يكون بعد اليوم نزاع، ولن يكون عبث بذكر التراب والهواء والنار والماء كأسباب ما أتفهها من أشياء إن هي قورنت بهذا العقل الكبير المتحكم الذي يعمل طبقا لمبدأ الخير!
وأثنى المستمعون على القارئ، وصاحوا قائلين: «ما أمتع هذا! وما أبرع أنكسجوراس!» وكان بعضهم لا يصغي إلا لأن الاهتمام بالعلوم كان واجبا من الواجبات، ولما ألقى بالكتاب جانبا تنفسوا الصعداء، ونقلوا الحديث إلى شيء يستطيعون إدراكه، فتناول سقراط الكتاب وحمله إلى حيث يستطيع أن يدرسه بنفسه.
وأسرع في القراءة بمقدار ما سمحت له طريقة الكتابة المضطربة التي كانت تستخدم في تلك الأيام، إذ كانت الكلمات كلها تتشابك بغير انفصال، وطالع الكتاب بأجمعه وإن كان قد أحس بعدم الجدوى من القراءة قبل أن ينتهي من الكتاب بوقت طويل؛ لأنه بعدما ألقى الكتاب جانبا عرف دون أدنى أمل في الشك أن أنكسجوراس كان - بعد هذا كله - كغيره من الناس، فقد فسر العالم حقيقة كما فسره غيره بالتراب والهواء والنار والماء، ولم يزج بالعقل إلا لكي يشتت الخليط ويدفع بالأشياء إلى الحركة.
وليس الأمر إلا كأنك تضع يدك في حوض من الماء به أوراق من الشجر وأعواد وريش، كلها طاف فوق سطحه، وتستطيع أن تحدث بيدك دوامة فتتفرق الأشياء على صور مختلفة، بعضها يقذف إلى حافة الدوامة، وبعضها ينجذب إلى مركزها، وليس «عقل» أنكسجوراس سوى اليد التي تحرك الدوامة، وإنما تفعل الدوامة ما بقي.
وأعاد سقراط الكتاب إلى صاحبه، وأخذ يتدبر ما فيه، وأحس بفراغ النفس لأن نشوته إنما كانت لكشف عظيم لم يتحقق، ورأى الآن في هدأته ذلك الحق الذي كان يزحف عليه خلال هذه السنوات التي قضاها في الدرس، إن العلماء قد يكونون محقين فيما يقولون عن التراب والهواء والنار والماء، وقد يجدون الجواب عن «كيف» كانت الأشياء و«كيف» صارت، بيد أن ذلك هو كل ما يستطيعون أن يجدوا، ولن يتبين لهم أبدا «لماذا».
إن السبب (لماذا) لا يتعلق بمادة الأشياء، وإنما يتعلق بالغرض في الذهن، وقد عرف سقراط ذلك منذ اليوم الذي قضاه في محل ماوس، بيد أنه لم يعرفه حق المعرفة إلا في هذه اللحظة، والغرض الثابت في الذهن هو ما يراه المرء خيرا، وسأل سقراط نفسه لكي يختبر هذه الفكرة «لماذا» أجلس هنا؟ و«لماذا» لست في الخارج مع أقريطون والآخرين، أقضي وقتا طيبا، ومحاولا أن أنسي خيبتي وجهلي؟ هل ذلك لأن لي عظاما متصلة تحت الجلد واللحم وعضلات تجذبها إلى هذا الوضع من الجلوس؟ أم هل ذلك لأني أعرف أنه من «الخير» لي ألا أنسى، وأنه من «الخير» لي أن ألبث هنا وأفكر، وأستخرج الحقيقة حيثما قادتني؟ وكان الجواب الصحيح على ذلك واضحا.
هذه الحقيقة التي جابهها سقراط كانت حقيقة جليلة، وكانت كذلك حقيقة مزعجة من ناحية ما ، وقبل أن يبعدها عن ذهنه فحصها من كل نواحيها ورأى كل جوانبها، وماذا عساها تدفعه إلى أدائه، رأى أن ليس في العالم بأجمعه بعجائبه ومشاهده وأصواته ما يبلغ في أهميته معرفة «الخير»، وما يظنه الناس خيرا هو السبب (لماذا) في كل شيء يفعلون، وهم مرغمون على أداء ما يرونه خيرا، ولو أن رجلا سرق من جاره وانقلب لصا وكاذبا فإنما ذلك لأنه يتوقع أن يجد في هذا العمل خيرا، وليس هناك من يسير وراء الشر وهو عالم بذلك.
ثم ما أفظع أن يكون المرء جاهلا، وأن يخدع فيما هو خير، لا يهم المرء حسن تكوين جسده، ولا صفاء ذهنه؛ لأن حياته كلها تسير في اتجاه خاطئ لو كان «بالخير» جاهلا، لقد كان سقراط دائما يمقت الجهل، ولكنه الآن رأى قبحه أوضح من أي وقت سلف، وأزعجه من التفكير في مدينة أثينا هذه العظيمة، بكل من فيها من أفراد أذكياء عاملين يسيرون وراء ما يظنونه خيرا، ولكنه قد يتبين كذلك أنه شر، إنهم لم يفتحوا أعينهم أبدا حقا لكي يروا ويدركوا.
لقد عاش الناس وفقا لقواعد يسيرة صدقوها وهم خاملون لا يفكرون، «لا تفر من المعركة.» أو «لا تعط المال للشحاذين.» أو «كون لك أصدقاء، فقد تحتاج إليهم ذات يوم.» أو «استخرج المتعة من الحياة بقدر ما تستطيع.» ولكن من ذا الذي اكترث بالبحث عن «الخير»، وهو الغرض الحقيقي من الحياة، الذي ينبغي أن يتحكم في كل عمل، وصاغ كل دقائق الحياة طبقا للنموذج الحق، كالجرة يصنعها الخبير؟
وعرف سقراط عندئذ أن هذا البحث هو عمله الحق، إن معرفة «الخير» لها من قوة الجذب ما ليس للعضلات والعظام، وما رآه سقراط من أهمية معرفة الخير سوف يصوغ حياته، وسوف يقرر له كل ما يقوم به من عمل.
وأمكنه أن يرى أن أمامه طريقا شاقا، ولسبب ما سيق سقراط إلى البحث عن أعمق المعارف وأشدها عسرا، وهو النحات الذي أحس أنه أشد الأثينيين جهلا، ولا يستطيع حقا أن يفهم علم العلماء أو صناعات الصناع، وكأن عقله أصغر جدا من أن يبحث عن هذا الأمر الجليل.
ولم يستطع العلماء أن يعينوه أكثر مما فعلوا، وأدرك ذلك الآن في جلاء ووضوح، فقد كانوا يعملون في مشكلة أخرى، وخير وسائلهم وأدقها هي دراسة الأشياء التي يمكن أن ترى وأن تمس، ولكن لكي يفهم المرء السبب (لماذا) لا بد من إيجاد طريقة جديدة، وليست ملاحظة مسير الشمس والقمر، فقد انتهى سقراط من ذلك إلى الأبد، بل وليست دراسة جسم الإنسان العجيب.
لم تكن مشكلة سقراط هي الإنسان ممثلا في عضلاته وعظامه وإنما هي مشكلة الإنسان كذات مفكرة راغبة حية، تهتم بالخير والشر، الإنسان الذي يمكن أن لا تقيسه العضلات والعظام وشق على سقراط أن يجد لهذه «الأنا» من الإنسان اسما فاستعار لفظة كانت لها معان أخرى، وتشجع فأطلق عليها «النفس».
الفصل السابع
الآلهة تكلفه بالرسالة
ولما تحدث سقراط فيما بعد عن كتاب أنكسجوراس، روى القصة كأنها حدثت كلها في بضع لحظات، في حين أن مجرد قراءة الكتاب كانت عملا طويل الأجل في تلك الأيام، والقرارات بعيدة الغور تقتضي نموا بعيد الغور كذلك، ولا بد أن يكون سقراط قد أخذ في النمو - لسنوات عدة - نحو إدراك عمله الحقيقي، وربما سار في صمت عدة أشهر أخرى قبل أن يتخلى عن نحت الحجارة، ويكرس كل وقته للفلسفة.
ولا بد أن يكون ثبات الغرض - الذي تعشقه أصدقاء مثل أفلاطون - قد أخذت جذوره تمتد خلال تلك الفترة، وكذلك التأكد من أن الآلهة كانت تؤيده؛ لأن شيئا لم يكن أشد ثبوتا في ذهنه فيما بعد من الاعتقاد بأن الآلهة قد كلفته برسالة، فقد أمرته الآلهة الحكيمة أن يبحث عن الحكمة - كما قال - وذكر قصة كاهنه شيرفون دليلا على ذلك.
وكان شيرفون - كما عرف كل إنسان - أحد الشبان المتحمسين الذين بدءوا يلتفون حول سقراط، وهو ذلك الشاب الذي لقبه أحدهم «بالوطواط» لنحول جسمه واصفرار بشرته، وقد بلغت بشيرفون هذا الجرأة أن يقول: إن سقراط كان أحكم الناس جميعا، بل أكثر من ذلك ناشد الآلهة أن تبرهن على ذلك، فذهب إلى دلفي لكي يسأل كاهنه أبولو.
وكان دلفي، مكان معبد أبولو وكاهنته المعروفة من قديم، يقع في أعلى التلال شمالي وغربي أثينا، وكان مكانا عظيم التقديس، وتروي القصص أن زيوس والدنيا في حداثتها أرسل ذات مرة نسرين من طرفين متقابلين في السماء لكي يقيسا الأرض، والتقى النسران في دلفي، وكان الحجر الذي يتوسط الأرض لا يزال هناك، وتردد على وادي الجبل فيما بعد وحش غريب: هو أفعوان الأرض، وقتل أبولو الأفعوان بقوسه الفضية، وأحل كاهنته ومائدته المقدسة ذات القوائم الثلاث محل حجر الأفعوان، وجاء الرجال من جميع أنحاء اليونان يوجهون إلى الكاهنة الأسئلة؛ لأن أبولو كان إلها يقول الصدق ويعرف الماضي والحاضر والمستقبل، وكل ما تفوهت به الكاهنة كان صدقا مؤكدا.
وكانت توجه إلى أبولو في دلفي كل أنواع الأسئلة، وكانت المدن ترسل سفراءها ليعرفوا لها كيف تتخلص من الطاعون، أو أين تؤسس لها مستعمرة، ووفد كذلك الرجال البارزون ليسألوا إن كانوا سيرزقون أبناء يحملون من بعدهم أسماءهم، وتساءلت المدن الإغريقية - كما تساءل كذلك ملوك الشرق في الزمان القديم - هل تشن الحروب؟ ومن ذا تختار حليفا لها؟
وبالطبع لم تكن الكاهنة دائما على صواب، وذلك إذا طالعت السجل قبل أن يتوافر للكهان الوقت للتصحيح والتفسير ومع ذلك فما أكثر ما صدقت! وما دام الإغريق يعتقدون في الآلهة، فإن أكثرهم كان يعتقد في كاهنة دلفي، وحتى بعد أن بلغ سقراط شيخوخته تراه ينصح صديقا شابا أن يستشير أبولو قبل أن يشرع في حملة محفوفة بالمخاطر، وأثبت سوفوكليز صديق بركليز، الذي كان قائدا وسياسيا وأمينا على أموال الإمبراطورية، كما كان شاعرا معروفا، أثبت في مسرحياته أن كلمات أبولو لا بد أن تصدق، ومن الإثم أن يشك المرء فيها.
ولذا ذهب شيرفون إلى دلفي ليلقي هناك سؤاله، وسافر على ظهر سفينة من كورنث مع الحجاج الآخرين، وربما سافر برا بالطريق الذي يتلوى خلال الممرات الجبلية المقفرة من بوتيا، وكان شابا سمع بالكاهنة منذ طفولته ، ولما بلغ مطلع الجبل ووقعت عيناه على المكان المقدس لأول مرة تقطعت أنفاسه عجبا، كانت دلفي، باستشرافها عالية في حضن الجبل الأجرد العاري، وهي ترن بأصداء أصوات الحجاج، مكانا من اليسير أن تحس فيه بعظمة أبولو.
وحتى في ذلك الحين كان لا بد لشيرفون أن ينتظر أياما قبل أن يستطيع ولوج المعبد، وعلى كل حاج أن يمثل أمام الإله في دوره الصحيح، وعليه أن يقدم سؤاله للكهان قبل موعد المثول بوقت طويل، وأخيرا جاء دور شيرفون، وقدم الضحايا اللازمة ودخل خلال بهو الأعمدة الرخامية حتى بلغ الحرم المظلم حيث يقوم الحجر المقدس - مركز الأرض - إلى جوار مائدة أبولو المقدسة ذات القوائم الثلاث.
وألقى بسؤاله، وأجابت الكاهنة في صيحات بدت كأن لا معنى لها، إن أبولو كان يتكلم عن طريقها، غير أن الكهان وحدهم هم الذين يستطيعون الإدراك، ولما خرج في النهاية شيرفون إلى ضوء الشمس كان يحمل في يده الجواب الذي دونه الكهان، وكان سؤاله: «هل هناك من هو أحكم من سقراط الأثيني؟» فكان الجواب: «ليس أحكم منه إنسان.» ولم تكن هذه الإجابة في غموض الألغاز - كما كان يحدث في أغلب الأحيان - وإنما كانت في عبارة واضحة لا لبس فيها، وأسرع إلى بلده يحمل هذا النبأ.
ولما عاد إلى أثينا وتحدث عما أجاب به أبولو، كان لكل امرئ على الأمر تعليق، فقال التقاة خاشعين: إن كلمة الإله لا تؤخذ مأخذا هينا، وتحاشى أكثرهم بعد ذلك الحديث مع سقراط ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا، وزعم المتشككون أن الكاهنة لم تصدق دائما، فهناك تلك النبوءات المشئومة خلال الحرب الفارسية لا بد من تعليلها، ويبدو اليوم أن الإسبرطيين في حظوة عند دلفي، ومهما يكن من شيء فإن الكاهنة تمكن رشوتها، وليس الكهان إلا رجالا.
أما سقراط فلم يتحدث إلا قليلا، واعتقد أن هذه العناية الشخصية التي أخذ يظفر بها لم تكن البتة ما أراد أبولو، ولما سأله الناس قال: «لا بد أن يكون الإله قد اتخذ من اسمي مثالا، وليس من شك في أن الكاهنة تعني أن الرجل يكون حكيما عندما يدرك جهل نفسه.»
قال سقراط: إن الكاهنة اتخذت اسمه مثالا فحسب، ومع ذلك فإنها قد استخدمت اسمه، وأحس أن هناك رسالة سيقع عليه أداؤها، وكما بحث في طفولته عن معنى «للشارة المقدسة» فسر الآن رسالة الآلهة - دون أن يفخر بذلك أو يعتقد في خرافة - على أنها نداء للعمل طائعا، وهذه الإجابة التي أتت علنا دون سؤال منه - على مسمع من المدينة بأسرها - اتخذها سقراط دليلا على أن عليه واجبا عاما، وأن الآلهة قد بعثت به ليبحث وأخطرته بأن البحث لا يكون لنفسه فقط.
وهذا الإحساس بالقربى من الآلهة الذي جاء مع كاهنة أبولو قد يفسر لنا الحدث الثاني الغريب الذي وقع في ذلك الحين.
التحق سقراط بالجيش مرة أخرى في حملة على الشمال لحصار بوتيديا، وفي هذه السنوات المتوسطة من حياته كانت هناك عدة حملات، وبدأ القواد أنفسهم يلحظون أنه كان جنديا بالغ الشجاعة، كما لحظ مرافقوه أنه لم يكترث قط ببرد أو جوع أو طول مسير، وإذا لزم غيره من الناس دورهم أو لفوا أقدامهم بالجلد والفلين فلقد ذهب بأقدام عارية وبزيه العادي لا يبالي إن كان صيفا أو شتاء، وفي هذه الحملة بالذات اتخذ مكانا له في مقدمة الجيش؛ لكي يحمي صديقا جريحا مخاطرا بحياته، والصديق هو ذلك الشاب الذي يدعى إلقبيادس الذي لعب دورا هاما جدا فيما بعد في حياة سقراط، ولكن تلك قصة أخرى، أما الأمر العجيب الذي حدث في ذلك الحين فلم تكن له صلة بالسير أو القتال أو حتى الأصدقاء، إنما حدث بين سقراط وبين عقله.
كان بالمعسكر ذات صباح في الصيف، وقد انقضى فصل الشتاء بما يتطلبه من عمل لتوفير الدفء والغذاء، وكان العدو ساكنا، ولم يكن لدى أي فرد ما يعمله - اللهم إلا إن كان مكلفا بحراسة - سوى النوم، أو التقاعد للحديث عن الوطن أو اللعب لقتل الوقت.
ولأول مرة لم يكن سقراط بين المتحدثين، وربما تساءلوا ما دهاه، غير أن أحدا منهم لم يلحظ سببا خاصا حتى قارب النهار أن ينتصف، عندئذ سرت بينهم إشاعة، وأخذ حشد من الجنود المتطلعين يتجمع حول خيمته، وكان سقراط واقفا هناك كما كان منذ الفجر بشهادة الناس، قدماه العاريتان ثابتتان في الأرض، ورداؤه مدلى على كتفه في استرخاء، وعلى وجهه القبيح نظرة ساكنة بعيدة، كأن نفسه كلها قد تركزت فيما كان يفكر فيه.
ولجأ الجند إلى مختلف الحيل لكي يجتذبوا التفاته، فجذبوا رداءه ونادوه باسمه، بيد أنه لم يتحرك أو يتنبه، وبعد فترة من الزمن ملوا انتظار شيء يحدث وتشتتت كثرتهم، وبقيت قلة طيلة العصر قابعة ترقب في انتظار سقراط أن يتنبه.
وكان سقراط في ذلك الحين معروفا لأكثر الأثينيين، وربما شهدوه من قبل مغرقا في التفكير كما يفعل الآن، وإن لم يمتد به التفكير إلى هذا المدى الطويل، وكانت تلك ناحية من غرابة أطواره التي ألفوها، بيد أن إغريق الجزر الملتحقين بالجيش كانوا شديدي الاهتمام، وبعد العشاء أخرج بعضهم حصير نومهم وافترشوه قريبا من موقفه كي يقضوا ليلتهم هناك.
وكانت ليلة هادئة، وبزغت النجوم وأخذت تنتشر تدريجا في السماء، وأخذت الأصوات المضطربة في المعسكر تتلاشى شيئا فشيئا، وشهد المراقبون سقراط كأنه شبح مظلم ساكن، كأنه صخرة أو جذع شجرة يفصل بينهم وبين نجوم السماء، وأخذ الكرى بمعاقد أجفانهم، واستغرقوا في النوم، بينما لبث سقراط واقفا يفكر طول الليل حتى تساقط الندى وتنفس الصباح.
ولما أشرقت الشمس اهتز سقراط، ورأت القلة التي كانت إلى جواره متيقظة ترقبه أنه التفت صوب الشرق، وقد رفع يديه نحو الشمس في صلاة ودعاء، ثم انطلق من مكانه كي يقضي يومه كما اعتاد.
فيم كان يفكر سقراط؟ لم يكن لأحد علم بذلك؛ لأنه لم يخبر به أحدا، وبعد ذلك بفترة طويلة لوحظ أن سقراط كلما تحدث عن حياته كرسالة كلفته بها الآلهة، حلا له أن يقارن نفسه بالجندي الخاضع لأمر قائده، وربما تم وثوق سقراط من رسالته بينما كان في خدمة الجيش، أو خلال هذا اليوم وتلك الليلة اللذين قضاهما في تفكير هادئ، وربما أحس القربى من الآلهة خاصة في تلك اللحظة التي كان من الطبيعي له فيها أن يؤدي صلاته عند يقظته.
ولم يعتد الأثينيون أن يؤدوا الصلوات في أوقات معينة أو يقدموا التضحيات للشمس، وليس هناك ما يدل على أن سقراط قد فعل ذلك، ولكنا نعلم أنه كان يمقت ظلام الجهل كما كان يحب إدراك الخير إدراكا واضحا جليا، ولما حاول تلميذه أفلاطون، الذي لم يولد بعد حتى ذلك الحين، ولكنه عرف سقراط فيما بعد أكثر مما عرفه أي من أصدقائه الآخرين، لما حاول أفلاطون أن يصور فكرة الخير التي أحبها سقراط وبحث عنها، استخدم لذلك صورة الشمس.
وقد تحدثنا صورة أفلاطون عن سقراط أكثر من أي شيء آخر نستطيع أن نتخيله لأنفسنا.
قال أفلاطون: تخيل كائنات بشرية تعيش في كهف تحت الأرض، وقد عاشت هناك مكبلة في السلاسل محجوبة في الظلام منذ طفولتها، لا تعرف من الضوء إلا ضياء النار الذي يلقي على الجدار الذي يقابلهم ظلالا متحركة، تنفق كل أيامها في مراقبة الظلال، تلاحظ ماذا تشبه وكيف تتحرك، وأبرعها في الحكم على الظلال وفي الحدس أكثرها نيلا للإعجاب.
ولنفرض أن واحدا من هؤلاء السجناء قد تحرر بطريقة ما وتسلل خارج الكهف وشهد ضوء الشمس، لا شك في أن الضوء المفاجئ يعشي بصره، ولربما بدت له الحقائق التي يراها حوله أول الأمر أقل صحة من الظلال التي ألف رؤيتها وكلما اعتادت عيناه ضوء الشمس تدريجا استطاع أن يتلفت حواليه، إنه ينظر إلى صور الرجال في الماء، ثم إلى الرجال أنفسهم، وإلى القمر والنجوم، وأخيرا ينظر إلى الشمس واهبة الحياة والضياء، إنه لا يخشى الضوء بعد ذلك وإنما يعشقه، ولا تبدو له الآن حياة الجهل في الكهف حياة خير.
ماذا يحدث للرجل المتحرر لو عاد إلى الكهف مع السجناء، إن عينيه سوف تظلان مفعمتين بالضياء، ولن يكون حكما طيبا على الظلال، وسوف يضحك منه السجناء، سوف يقولون: إنه خرج مبصرا وعاد كفيفا، سوف يقولون: إن من الواضح أنه خير للمرء ألا يخرج من الكهف، وسوف يقررون أن كل من يحاول أن يطلق سجينا ويقوده إلى الضياء يجب أن يعدم، أما الرجل الذي شاهد الشمس، فلو أنه دافع عن نفسه في ساحة القضاء أو في أي مكان آخر؛ لكان عمله أمرا غريبا وداعيا للضحك والسخرية؛ لأنه - برغم امتلاء عينيه بالضياء - إنما يتعامل مع الذين لا يعرفون سوى الظلال.
ولما رسم أفلاطون هذه الصورة عن الشمس والكهف، لم يذكر صراحة أنه عنى سقراط بالرجل الذي شهد الشمس، ولم يقل سقراط نفسه إلا أنه كان يبحث عن المعرفة الحقيقية للخير، ولم يقل: إنه وجدها، وما نعرفه على وجه التحقيق هو أن أصدقاء سقراط - شيرفون وأفلاطون وكثيرون غيرهما - قد أحسوا أنه كان أكثر تحررا من ظلام الكهف من أي رجل آخر عرفوه، وأنه كان أقدر على تحرير غيره من أي فرد آخر، وربما كان ذلك النهار وتلك الليلة التي أطال فيها الوقوف متأملا ومفكرا، هو الوقت الذي شهد فيه الشمس بأجلى وضوح: شمس الخير التي كانت بالنسبة إليه وثيقة الصلة بالآلهة.
ونستطيع أن نتصور أن سقراط بعد عودته من حملة الشمال بفترة ما قد أدخل في حياته التحول الذي ظل يفكر فيه سنوات طوالا، فقد كف عن عمله كنحات، ومن الطبيعي أن تنزعج زوجته زانثب، وقد أرغت في ذلك وأزبدت لجيرانها، ولم يكن موقف سقراط مما يدعو إلى اليأس، إذ كان لديه ما أمهرته به زوجته عند قرانها به، كما خلف له أبواه البيت الذي يقطنه ومبلغا يسيرا من المال، وقد حول سقراط هذا المبلغ إلى أقريطون يستغله له، فاستطاع أن يعيش على دخله عيشا بسيطا، غير أن زانثب اعتقدت أن العيش كان يمكن أن يكون أرغد وأكثر ضمانا لو أن زوجها كان بطبيعته عاقلا كغيره من الناس.
وقد لحظ أقريطون شيئا آخر دفع سقراط إلى التفكير، وكان أطول معرفة به من زانثب، كان سقراط يتأهب لنوع من أنواع النضال، ولم يكن في ذلك شك، وكان أقريطون في زمانه رياضيا، يلمح الدلائل على ذلك ، فإن التدريب الذي أخذ سقراط به نفسه قد أثر على مأكله ومشربه ومضجعه، وكما أن العداء يرسم حياته بحيث لا تتدخل هذه الأمور في حذقه العدو، فكذلك كان الأمر مع سقراط، فقد تحاشى النوم الثقيل الذي يعقب الإكثار من الطعام، كما تحاشى النشوة النزقة التي تصاحب الشراب.
ومع ذلك فمن الواضح أن نضاله لم يكن من النوع المألوف، وإن كنت تستطيع أن تلقى سقراط في الملعب في عصر أي يوم من الأيام، إلا أنك تلقاه متحدثا، ولا تلقاه عاديا أو مصارعا، وكان دائما يحب الحديث، ولكنه الآن يتابع حديثه جادا كما يتابع غيره من الناس أعمالهم، فيخرج من بيته عند شروق الشمس، ويقضي النهار في السوق أو الملعب، فما معنى كل هذا؟
وسر أقريطون لحقيقة لمسها آنذاك، وتلك هي أنه مهما حدث لسقراط الآن فإنه لم يصب بأي ضرر فلا زال يدرك النكتة كما كان، ولم يداخله الغرور، ولو كان هناك خطر من ذلك في أيام حياته العلمية، فقد قضى عليه الآن، واشتد إخلاصه لأصدقائه عن ذي قبل، وكان زميلا طيبا، وقلما تشهد فيه ذلك الغضب المفاجئ الجامح الذي كان ينفجر به فيما مضى من الزمان، وكذلك تخلص من بعض ما كان يساوره من قلق، وفي الحق لقد بدا لأقريطون أن سقراط تحل به أحيانا طمأنينة عجيبة، وكأنه من بين الأثينيين جميعا يعرف إلى أين يسير، وقد أعد نفسه وتأهب للرحيل.
الفصل الثامن
الرسالة
ولذا ترى سقراط في فترة من فترات كهولته وقد بدأ في أداء الرسالة التي سوف تستغرق بقية حياته، وكانت لديه وسائل عديدة يصف بها طبيعة هذه الرسالة، كان جنديا للآلهة يجب أن يلزم مكانه، وكان شوكة حادة أرسلتها الآلهة لتخز المدينة، وطبيبا يولد أفكار غيره من الناس كما تولد أمه الأطفال، وقال إنه دعا الناس إلى الإدلاء بطريقة عيشهم، وإنه اختبرهم أو فحصهم، أو إنه «تفلسف» وهو تعبيره عن «ممارسة حب الحكمة».
ومهما ظن في بحثه أول الأمر، فقد بات الآن في جلاء واجبا عاما يؤديه من أجل غيره من الناس كما يؤديه من أجل نفسه، وكان إدراك الخير الذي كان يبحث عنه دائما بعيدا جد البعد عنه، ولكنه أدرك وجوده، كما أدرك أن الأحياء جميعا يجب أن تتجه إليه، أما جيرانه الذين أحبهم فإنهم لم يعموا فقط عما رأى، وإنما يظهر أنهم - كالسجناء في الكهف - قد قنعوا بالعمى وظنوا أنه الإبصار الطبيعي، والواقع أننا لو وضعنا نصب أعيننا تصوير أفلاطون للكهف سهل علينا أن نفهم إحساس سقراط إزاء الحياة الغافلة التي كانت تتصيد الظلال، الحياة التي كان يحياها الناس في مدينته، كما سهل علينا أن نفهم ما كان يحسب أن الآلهة تريد أداءه إزاء ذلك.
كانت أثينا مدينة تتصيد الظلال، ولكنها كانت مع ذلك مدينة عجيبة، مدينة جريئة حرة جليلة، وأحب سقراط أثينا وما كان ليهجرها حتى في عطلة لو استطاع ذلك، وعرف أكثر من أغلب الناس الأشياء الجميلة التي كانت تؤدى في مدينته كل يوم، فالصناع يقومون بالعمل مخلصين بغير رقابة، والأصدقاء يخلصون للأصدقاء، ورجال الأعمال يوفون العهود، والمواطنون في المجلس ينادون بما يظنونه الحق.
وإنما كان سقراط يتوجع لهذا الخير عينه في مدينته؛ لأن كل هذه الأشياء الجميلة كانت تحدث في أكثر الأحيان ولا تحدث دائما، وتحدث بغير إدراك لها، كان الناس يكادون يصطدمون بالخير عفوا، دون أن يعرفوا ماذا هم فاعلون، وربما اصطدموا بالشر في اللحظة التالية، بهذه المعرفة الضئيلة عينها، وأسوأ من هذا كله تقريبا إن أي خير يحصلون عليه لا يستطيعون أن يورثوه أبناءهم، انظر مثلا إلى أبناء بركليز: إنهم لا يفضلون الأبناء العاديين، بل لقد كانوا في الواقع أشد منهم سوءا، فإما أن بركليز لم يأبه بأبنائه، وإما أنه لم يعرف كيف يعلمهم الصفات التي جعلت منه رجلا عظيما.
ووجد سقراط أن المعلمين المحترفين لم يكونوا خيرا من ذلك، فلم يكن لديهم شيء لا تملكه عامة الناس، سوى مدد كبير من المعارف وتدريب على براعة الحديث، وحتى أكثرهم شهرة بين الناس: السفسطائيون أو «المفكرون الحكماء» الذين زعموا أنهم يبشرون بفن الحياة الخيرة الناجحة، يظهر أنه لم تكن لديهم معرفة حقة بما كانوا يبشرون به.
وتلقى سقراط على أحد السفسطائيين درسا قصيرا لم يكلفه كثيرا، وتحدث إلى أكثرهم، وتخلى عن محاولة التعلم على يديهم، كما تخلى عن محاولة التعلم على أيدي رجال العلم من قبل، وقرر أن الخبراء في الخير ليسوا أولئك الذين يعلمون الخير، إنما هم من يملكونه.
ولذا فحيثما ذهب سقراط كان يبحث عن خبير، وكان يختبر الناس في صيغ الخير نفسها التي كان مفروضا أن يعرفوا أكبر قدر عنها، وكانت تلك ميزة للطرفين، كانت ميزة لسقراط في بحثه عن الإدراك، كما تبين أنها في صالح الخبراء أنفسهم كذلك.
لم يسبق سقراط سائل مثله، ويلذ لنا أن نرى كيف كان يفعل ذلك، خذ لذلك مثلا حديثه مع لاخيس، إن أي حديث لسقراط مما دونه أفلاطون جدير بالتمعن في قراءته، ولكن حديثه مع لاخيس حديث يصلح للبدء به، لم يكن لاخيس رجلا بارعا جدا، وقد تحدث مع سقراط عن لون من ألوان الخير يعرف عنه كل امرئ شيئا ما، وذلك هو الشجاعة.
وكما اعتاد سقراط، اختار الرجل الصحيح ليوجه إليه السؤال، وكان لاخيس قائدا أثينيا معروفا، ولم يكن مجرد سياسي كبعض الآخرين، وإنما كان رجلا يجعل من الحرب عملا له أهميته، ولو كان هناك من الأمور ما يعلمه، فذلك هو القتال، وقد سأله وزميله القائد نسياس بعض الأصدقاء النصيحة بشأن تربية أبنائهم تربية عسكرية، واستدعوا سقراط يستعينون به.
ونزل القواد إلى الملعب مع أصدقائهم وأبناء أصدقائهم لكي يشهدوا عرضا، وكان أحد معلمي القتال بالدرع يقوم بالعرض، ويأمل أن يجتذب إليه بعض التلاميذ الجدد، وراقبه لاخيس ونسياس برهة من الزمن، ثم شرعا يتناقشان إن كان هذا الضرب من التدريب نافعا أو غير نافع في المعركة الحقة.
وظن نسياس أنه نافع، أما لاخيس فلم يكن واثقا من ذلك مثله، وقال: «بمناسبة الحديث عن العروض، لقد شهدت هذا الرجل عينه يعرض فنه على صورة أخرى من زمان ليس ببعيد، كان واحدا من رجالي، وقد أتى على ظهر السفينة برمح جديد من اختراعه، مقوس كالمنجل، وكان مفروضا أنه يؤدي أعمالا جليلة، ولكي أوجز الكلام أقول: إن رمحه الذي يشبه المنجل اشتبك في حبال سفينة من سفن العدو أثناء قتالنا ونحن مبحرون، فاجتذبه ولم يستطع تخليصه، واضطر إلى أن يعدو على ظهر السفينة خلال مجراها كي يمسك بالمقبض، وأخيرا ألقى عليه أحدهم حجرا سقطت عند قدميه، فترك الرمح وانطلق، وقد ضحك منه الملاحون في كلتا السفينتين، ولم يسعنا غير ذلك، ويا ليتك رأيت الرمح مدلى من الحبال!» وضحك لاخيس من هذه الذكرى، ثم أضاف قائلا: «وإني لجاد حين أشك في أن هذا المعلم بما لديه من مهارات آلية ومن حيل يصلح لمهام الأمور، ماذا ترى يا سقراط؟ بعضهم يؤيده، وبعضهم يعارضه، وعندك الصوت المرجح.»
ولم يكن سقراط يحب أن يتبين الحق من الباطل بعد الأنوف، فأشار قائلا: «ألا تظن أن في أمر هام كتربية أبناء أصدقائك ينبغي لنا أن نبحث عن خبير لنأخذ بمشورته؟»
وبدا هذا الاقتراح مقبولا.
فتساءل سقراط قائلا: «إذن فيم ينبغي أن يكون خبيرنا خبيرا؟»
وأجاب نسياس جوابا معقولا وقال: «ألم نكن الآن نتباحث في أمر القتال بالدروع، وإذا كان من واجب شبابنا أن يتعلمه أو لا يتعلمه؟»
فقال سقراط: «أجل يا نسياس، ولكن أليس هناك أمر آخر ينبغي أن نقرره أولا؟ فإذا سأل المرء مثلا عن وضع دواء في عينيه، فما الذي يهمه في الواقع: الدواء أو العينان؟»
قال نسياس: «العينان طبعا.» - «وعندما يفكر هل يلجم الجواد أو لا يلجمه، فإن الجواد بالتأكيد هو الذي يفكر فيه وليس اللجام، أليس كذلك؟»
فأجاب نسياس: «حقا ما تقول.» - «ألست ترى إذن يا نسياس أن تعلم القتال بالدروع يشبه الدواء كما يشبه اللجام، ليس سوى وسيلة لغاية، إن ما نفكر فيه حقا عندما نتحدث عن ألوان مختلفة من المعرفة هو الشباب، فإن هذا التدريب سوف يتناول نفوس الشباب أو أرواحهم، إن الطبيب يعرف ما ينفع العين، ومدرب الجياد يعرف ما ينفع الخيل، ولكن من منا يعرف ما ينفع الروح؟ ذلك هو السؤال الحق.»
وضحك نسياس وقال إنه كان يتوقع ذلك من أول الأمر، لقد تحدث مع سقراط من قبل، وكان شديد الرغبة في أن يتعرض للامتحان الذي أدرك اقترابه منه. «ولكن ماذا ترى في ذلك يا لاخيس؟ إني أحذرك!»
وقال لاخيس: إنه ليس بالعادة رجل كلام، اللهم إلا إن عرف أن الرجل الذي يتحدث إليه فعال كما هو قوال، ثم قال: «ولكني كنت مع سقراط ونحن نتقهقر بعدما خسرنا معركة دليم، ولو أن كل امرئ سلك مسلك سقراط لكسبنا المعركة، وإني على استعداد لأن أتلقى الأسئلة في أي يوم من الأيام من رجل كهذا.»
ولذا تلقى لاخيس السؤال الأول، قال له سقراط: «إن الخير كله أوسع من أن نتناوله بالبحث، ولكنا نستطيع أن نتناول منه الجانب الذي يهم في التدريب العسكري، ما هي الشجاعة «عموما» يا لاخيس؟»
وسر لاخيس إذ كان بالشجاعة عليما. - ذلك أمر هين يا سقراط، الرجل الشجاع يلزم مكانه ولا يهرب.
فأجاب سقراط: «حسنا، هذا تعريف جيد للشجاعة كما يراها أحد الجنود المشاة، ولكن ما الرأي في الفرسان الذين يتحركون دائما؟ وأعتقد أن من المناورات المحببة لأهل سيثيا أن يفروا أثناء الصيد إلى الوراء، وماذا ترى في الشجاعة في العواصف البحرية وفي المرض والفقر أو في الحياة السياسية؟ وبعض الناس شجعان عند مواجهة الألم، ولكنهم خائرون حينما تغريهم ملذات الحياة، ما هي الشجاعة «عموما» يا لاخيس؟»
وحاول لاخيس مرة أخرى. - يبدو لي أن الشجاعة ضرب من ضروب احتمال الروح.
وظن سقراط أن هذا التعريف أوسع مما ينبغي، كانت الشجاعة دائما فضيلة، وكانت شيئا حسنا، أليس كذلك؟ وإذن فالاحتمال الذي لا ينطوي على معنى ليس من الشجاعة في شيء، أليس كذلك؟
ولم يفكر لاخيس في ذلك من قبل.
وقال: «إنما قصدت الاحتمال «الحكيم» وحده.»
فسأله سقراط: «ولكن ماذا تعني بالاحتمال الحكيم؟» وأورد بعض الأمثلة، قال: «ما الرأي في رجل يحتمل في الحرب ويرغب في القتال، ويقدر تقديرا حكيما، ويعلم أن غيره سيعاونه، وأنه يقاتل ضد رجال أقل عددا ممن يقاتلون إلى جانبه وأشد منهم ضعفا، وأنه أقوى مركزا، هل تقول: إن الرجل الذي يحتمل بهذه الحكمة وهذا الاستعداد أشجع من الرجل الذي يريد أن يقف ثابتا في الجانب الآخر؟»
ولم يشك لاخيس في أن الجندي الذي لم يحسب للمخاطر حسابا أشجع من الآخر. - إذن فالرجل الذي يغطس في بئر ولا يعرف كيف يغطس، أشجع من الغطاس المدرب وإن يكن أشد منه حماقة.
ووافق على ذلك لاخيس مرة أخرى، مع أنه كان يناقض ما ذكره من قبل من ضرورة الحكمة للشجاعة، غير أنه أضحى الآن أكثر اهتماما من ذي قبل، ومن الجلي أن الشجاعة صفة أعظم مما ارتأى من قبل.
وأصر قائلا: «لا زلت أعتقد أني أعرف ما الشجاعة، ولكنها فرت من بين يدي بطريقة ما، ولا أستطيع أن أقبض عليها.»
وجاء دور نسياس في النقاش الآن، وسر لاخيس لكي يرى صديقه في موقف سيئ كما كان هو منذ حين، وزعم سقراط بطبيعة الحال أنه لا يدري من الأمر شيئا.
وأنهى الحديث بقوله: «يحسن بنا أن نلتمس لنا معلما في الحال، فلسنا الآن بالتأكيد خبراء، ولسنا صالحين لإسداء النصح في شئون التربية!»
وقد تحسب أن الحديث لم يؤد إلى غاية، وهكذا كان يبدو عادة، غير أن أصدقاء سقراط سرعان ما تعلموا أن ينتبهوا إلى الأفكار التي ترد أثناء الحديث.
وقد تعلم لاخيس في الواقع الشيء الكثير، وكانت فكرة جديدة عنده أن تتعلق بالشجاعة بأية ناحية سوى الحرب، وأكثر من ذلك جدة أن تكون للشجاعة علاقة بالحكمة، وفي الواقع أن هذه الفكرة - وهي أن المعرفة كالعمل ضرورية للشجاعة الحقة - كانت جد غريبة على لاخيس حتى لقد حيرته كما يبهر الضوء الحبيس عند أول خروجه من الكهف، بيد أنه كان يتجه في تفكيره اتجاها سليما برغم حيرته.
ومشكلة لاخيس التي لا بد أن يلمسها لو أنه واصل الحديث مع سقراط هي أن الشجاعة عنده كانت محصورة في مجال ضيق لمجرد العادة، عرف لاخيس طريقة معينة للسلوك الصحيح في المعركة، ولكنه لم يعرف المبدأ الذي يجعل سلوك المرء صحيحا في جميع الظروف والحالات، هل هذا الضرب من الشجاعة الذي يمنعه من الفرار من المعركة يمكنه من مقاومة الأسباب الأخرى التي تغري المرء بارتكاب الخطأ؟ ما يغري المرء مثلا بالهروب من المتاعب بالكذب الهين اليسير؟ كيف يمكن للتدريب على شجاعة المعركة أن يعين لاخيس على الوقوف في وجه ذلك؟
وكانت أفكار لاخيس محدودة من ناحية أخرى، كما تبين عندما قال: إن الشجاع خير دائما، ومع ذلك زعم أن من الشجاعة أن يقفز في البئر غطاس غير مدرب! إنه لم يفكر في أهمية «الغرض»، وإنما اعتاد أن يفكر في عمل بعينه - التقدم وعدم التقهقر - يعده الشجاعة، والخير في ذاته، بيد أن البئر يمكن أن يثب فيها إما حيوان خائف أو رجل شجاع لكي ينقذ طفلا، والغرض أو السبب (لماذا) في قرار الوثب يجعل الأمر خيرا أو شرا، ويقول سقراط: إنه لا يكفي أن يتقدم المرء، إنما يجب أن تتقدم نحو الخير، والموضوع الأساسي لبحث سقراط كان يندفع إلى قمة النقاش عند هذه النقطة، غير أن سقراط لحظ أن لاخيس قد اكتفى بذلك وتخلى عن الموضوع، وكان سقراط يستطيع أن يرد على لاخيس قائلا: «إن الشجاعة هي المعرفة، هي المعرفة التي تكفي المرء أن يختار الخير وينبذ الشر في «كل» حالة من الحالات»، ولكن ما جدوى لاخيس من ذلك لو خبر به، إنه سوف يصل إلى ذلك بنفسه في يوم من الأيام.
ولم يكن لاخيس سوى أحد الخبراء الذين وجه إليهم السؤال في اختصاصهم، وأية صورة جديدة من صور الخير كانت بالنسبة إلى سقراط كالشهد بالنسبة إلى النحلة.
ومر ذات يوم - وقد عاد حديثا من الجيش - بإحدى مدارس المصارعة، وتجمع حوله الناس يتسقطون أنباء المعركة، ثم ظهر كارميدس في أقصى الغرفة، وهو أكثر الشبان أناقة وشهرة في المدينة في ذلك الحين، ويتناقل عنه الناس أنه جميل في مخبره كما هو جميل في مظهره، طاهر لم يلحقه دنس، وهرع كارميدس للقاء سقراط ، وكان قد نمى إليه أن لدى سقراط علاجا للدوار الذي كان يشكوه، وقبل أن يعرف سقراط ماذا كان يجري جره بشدة إلى بحث في التواضع والسيطرة على النفس.
وعاون ثيتياتوس الشاب، الذي كان يبشر بأنه سيصبح عالما رياضيا عظيما في يوم من الأيام، عاون سقراط على دراسة ما يقصد بالمعرفة، وتساءل سقراط: «هل المعرفة والرؤية والإحساس سواء؟»
وسئل ليسيز ومنكسينس - وهما من زملائه في المدرسة: «ما الصداقة؟ هل هي أن تحب أو أن تحب؟»
أما أوطيفرون - الخبير في شئون الدين - فكان يعبر السوق في طريقه إلى اتهام أبيه الشيخ بالإساءة إلى الآلهة، فالتقى بسقراط وألفاه يتحدث عن التقوى، وأراد سقراط أن يعرف «إن كانت الفعال تعد حقا لأن الآلهة تتطلبها، أم هل تتطلبها الآلهة لأنها حق؟»
وكان هناك قوم آخرون يتساءلون هنا وهناك في أثينا وبخاصة في سني سقراط الأخيرة، وبعضهم ممن استمع إلى سقراط وتعلموا طريقته في السؤال ولكنهم لم يأخذوا عنه الروح والغرض، ومهما يكن من شيء فقد كان ذلك ضربا من ضروب التلاعب يلذ لهم أن يحتذوه، فالمرء يستطيع أن يبرهن بالسؤال على أي أمر تقريبا، لو أنه لم يكترث لتحريف معاني الألفاظ.
فقال السفسطائي ديونيسو دورس - على سبيل المثال - لشاب أثيني، وهما يتحدثان في الملعب: «هل أبرهن لك على أن أباك كلب؟» (وسمع سقراط هذا الحديث وضحك منه، وكان هذا السفسطائي ممن يزعمون التبشير بالخير بطريقة أحسن وأسرع من طريقة أي إنسان آخر على وجه الأرض).
وواصل السفسطائي كلامه قائلا: «هل تقول إن لديك كلبا؟» - أجل، وهو متوحش. - وهل عند الكلب جراء؟ - أجل، وهي شديدة الشبه به. - وهل الكلب أبوهم. - أجل، وأنا من ذلك على ثقة. - أوليس الكلب لك؟ - إنه بالتأكيد لي.
فقال السفسطائي، وقد تلفت حواليه ظافرا: «الكلب إذن أب، وهو لك، وإذن فهو أبوك وأنت أخ للجراء!»
وكان سقراط يستطيع أن يقوم بهذه الألاعيب لو أراد، كان يستطيع أن يوجه الأسئلة ليتظاهر، كما كان يفعل بعض أصحابه مع أسرهم عند عودتهم إلى بيوتهم للغداء ، بل كان يستطيع أن يقوم بلعبة أخرى أشد من ذلك خطرا كان يؤديها بعض السفسطائيين، إذ كانوا يعلمون تلاميذهم أنهم لن يجدوا الحق مهما بحثوا عنه، وكانت رسالة سقراط تختلف جد الاختلاف عن التلاعب بالسؤال والجواب الذي كان يقوم به غيره، كان يبحث عن أساس متين للحياة، وكان يفعل ذلك من أجل أصدقائه.
وقد أخذ سقراط أمر الصداقة مأخذا جديا، كان له أصدقاء لا تلاميذ؛ ولذلك عنده أهميته، وقد رفض أن يقبل أجرا لما أسماه بعض الناس تعليما منه، برغم استحثاث زانثب له وإصرارها على ذلك، كيف يستطيع أن يعلم وهو إنما يحاول أن يعرف فحسب؟ وفوق ذلك، يستطيع كل امرئ أن يقصده إذا هو لم يتناول أجرا، وكان يريدهم جميعا، ولا يحب أن يستبعد أحدا، ويمكن أن يتبين للشيوخ والشبان والطلاب والمواطنين والأجانب بل وللنساء والعبيد أن في رءوسهم أفكارا طيبة، ويود لو أن كل امرئ في أثينا كان له صديقا لو شاء أن يكون، وكان يحزنه أن بعض الناس - وبخاصة الشيوخ الذين ثبتوا على طرائقهم ولا يريدون لها أن تهتز بعد ذلك - يسيئون إدراك ما كان يفعل.
وأكثر أصدقاء سقراط الذين قصدوه كانوا شبابا في بداية طور النمو، وأحبوا سقراط لأنه كان مثلهم عاشقا للحياة شغوفا بالمعرفة، ورأوا نوعا من الجمال بداخله جعلهم يتمنون أن يكونوا مكانه، وكذلك رأى سقراط فيهم جمالا وقوة، وربما أحسوا هم أنفسهم بذلك، ورأى أنه يمكن لهم أن يسارعوا جريا وراء الفكرة وأن يصارعوا الرأي المتناقض، كما يسارعون في الجري ويصارعون في الملاعب، إنهم لم يتقاعدوا حذرين حينما كان الجدل يدفعهم إلى الأمام، كما عشقوا الخير بمجرد إدراكهم له.
واعتقد سقراط أن الصداقة حق، وأن من أثمن ما في هذه الدنيا: أن يرى الناس جمال الخير في دخائل أنفسهم وأن يهيموا به حبا، إن الناس الذين يتصادقون لهذا، ولا يتصادقون لأن كلا منهم يعشق ملامح الآخر، إنما يترابطون لإنماء الخير في أنفسهم وفي نفوس الآخرين؛ لأن الصديق يحب الخير لصديقه كما يحبه لنفسه ، كما ينمي في نفسه ما يحبه الصديق، إن الآراء الجميلة والصفات الطيبة إنما تتولد من هذا اللون من الصداقة، والأصدقاء الذين يبدءون بحب الخير لأصدقائهم يرون كذلك الخير ويحبونه حيثما يكون.
قال سقراط مرة: «إنني أكتسب من الأصدقاء الطيبين متعة لا يكتسبها غيري من الجياد المطهمة أو الكلاب الجيدة أو ديوك القتال، وإذا كان لدي شيء من الخير علمته أصدقائي، ووضعتهم مع غيرهم ممن يكتسبون منهم جانبا من الخير فيما أحسب.»
ومن الجلي أن زمرة الأصدقاء كانت لسقراط البيئة الصحيحة الطبيعية التي يواصل فيها بحثه في طبيعة الخير، وفي الحق لقد بلغ البحث إلى حد ما عند سقراط هذا المبلغ؛ لأنه لم يكن أولا معلما أو مناظرا وإنما كان صديقا، وللكلمات وقع مختلف حينما تصدر من صديق، وروح ما يقال وما لا يقال كانت تثب من فرد إلى آخر كما تشتعل النار من النار، وتذكر أصدقاء سقراط صداقته بقدر ما تذكروا قوله، ولما دون أفلاطون ما ذكر من أحاديث أستاذه كان لا بد له أن يصوغه في ملابساته الودية: في الملعب أو السوق أو حفل العشاء أو في نزهة ريفية.
الفصل التاسع
ألقبيادس
لو استثنينا أفلاطون الذي جاء إلى سقراط متأخرا كان أشهر أصدقائه ألقبيادس، حارس بركليز ومدلل أثينا العجيب إلى أهلها، ولم يخبرنا أحد كيف تقابلا أو ماذا قال أحدهما للآخر، ولكنا نستطيع الحدس مما نعرفه عن كليهما.
ويجب أن نعود بضع سنوات إلى الوقت الذي كان سقراط فيه في أوائل عقده الرابع، لا يزال مشتغلا بالنحت في الأغلب، ولكن عقله قد أخذ يتنبه إلى بحوثه، وكان معبد أثينا أو البارثنون يسير في البناء منذ عشر سنوات، وكان الإفريز الطويل بما يحمل من جياد وثابة وآلهة متعالية حديث عهد بالنحت حول سور المعبد، وتمثال الآلهة الذهبي العاجي يقف بالداخل وقد تم تدشينه من قبل، ولم يبق ناقصا سوى أطراف السقف الهرمي، وأعمال النحت الحجري الدقيق كانت تنتظر أيدي أكبر النحاتين في المدينة، وقد انتقل النحاتون من أمثال سقراط من قبل إلى العمل ببوابة الأكروبول الرسمية إلى بروبيليا، التي بدأ بناؤها منذ وقت قريب عند حافة التل الغربية.
وقد ألفت يد سقراط الآن المطرقة والأزميل، فكان يستطيع - وهو يؤدي عمله - أن يرقب ضجيج البناء الجديد كله، جماعات الرقيق وهي ترفع الكتب الرخامية، والنجارين وهم يقيمون الهياكل الخشبية، والنحاتين وهم منكبون على الرصف أو التأسيس، فتمكن من رؤية صبي يتسلق منحدرا حادا، يتلمس طريقه وسط جماعات العمال، متجاهلا - لسبب عرفه سقراط فيما بعد - عبدا كان يتبعه على مسافة كبيرة منه، وكان للصبي وجه صبوح، يسير وكأنه يعلم أن الناس يشخصون بأبصارهم إليه، وقد تقدم إلى سقراط ونظر إليه فاحصا دون اضطراب.
قال الصبي: «أهلا.»
وأجابه سقراط في أدب: «أهلا وسهلا» ثم استمر في عمله، وحاول الصبي مرة أخرى.
وقال وعلى فمه ابتسامة حلوة أشرقت على وجهه كله: «أنت تعرف من أنا، أليس كذلك؟ أنا ألقبيادس.»
وأومأ سقراط برأسه ثم تناول أزميلا آخر.
وواصل الصبي حديثه قائلا: «أنت سقراط الحكيم أليس كذلك؟ كان بركليز يتحدث عنك في الليلة الماضية، وليس مفروضا أن أمثل هنا ساعة الغداء بطبيعة الحال، ولكن ها أنا ذا قد أتيت، إنهم لا يستطيعون الوقوف في سبيلي إن أنا أردت ذلك.» وكف عن الكلام فجأة، ثم تناول حجرا، وشخص سقراط ببصره إلى أعلى، واستمع إلى عويل، ثم رأى رأس شيخ تختفي خلف كتلة من المرمر، إذ إن الحجر قد أصابه في أذنه.
ووضح ألقبيادس الموقف مسرورا، وقال: «هذا زوبيرس إنه من عبيدي، وقد اختاره بركليز ليكون مربيا لي ولكي يتابعني حيثما ذهبت، ولست أريد أن يتابعني أحد من العبيد.»
وسأله سقراط في شغف إلى المعرفة: «وكيف عرفت أنه من العبيد؟»
فنظر إليه ألقبيادس في دهشة وقال: «لأن بركليز أعطاه إياي، إنه يفعل ما آمره به أو ما يأمره به بركليز، وهو لا يستطيع أن يقوم بالعمل الذي يريده لنفسه.»
وتلفت سقراط وجابه ألقبيادس لأول مرة وقال: «وإذن فكيف تعرف «أنك» لست عبدا؟» أما زوبيرس فقد قبع في مخبئه وكادت أنفاسه أن تتقطع، ولسبب ما لم ينفجر ألقبيادس غاضبا، وحدق في سقراط وقال متثاقلا: «إنك تعرف أنني ابن كلينياس ودينوماك، وقد فاز عم أبي بجائزة الشجاعة في القتال البحري ضد الفرس، ومات أبي وهو يقود رجاله عند كورنيا، وأمي ابنة عم بركليز، وأنا أقيم في بيت بركليز، فكيف أكون عبدا؟ ولكنك لم تقصد ذلك.»
قال سقراط: «كلا، لم أقصد ذلك.»
وفكر ألقبيادس برهة ثم قال: «أنت تعني أن العبد هو من لا يستطيع أن يفعل ما يريد، وأنت تسألني إن كنت عبدا بهذا المعنى؟»
فأومأ سقراط برأسه.
فضحك ألقبيادس وقال: «ذلك أمر هين، لقد شهدتني أضرب زوبيرس، إني أفعل ذلك كلما أردت، وإني أقوم بكل ما أريد في أي وقت، ولا أقوم بشيء غير ما أريد.»
قال سقراط: «إني لأعجب.»
وأجاب ألقبيادس: «نعم، هذا عين الحق، سل زوبيرس إني أحيانا أعتقد أني أكثر الناس حرية في أثينا، إذ إن بركليز نفسه عليه أن يتلقى الأمر من المجلس، ولكني أفعل ما أشاء، كنت أعلم كلينياس - وهو أخي كما تعرف - أن يفعل كذلك ما يشاء عندما أبعدوه، وقال بركليز: إن لي على كلينياس أثرا سيئا، ولكني لا أعتقد ذلك، إنما كنت أعلمه كيف يعيش، ولما ابتعد دبرت إضرابا ناجحا جدا ضد دروس المزمار في المدرسة، وربما ترامى إليك ذلك، وأخيرا استسلم لي المعلمون، أجل، إني لأعمل ما أشاء.»
ولم يبد على سقراط أنه تأثر بما سمع، وعاد إلى عمله قليلا، ثم قال: إني لأعجب إذا كنت تفعل ما تريد «حقا» يا ألقبيادس، خذ مثلا هذا الأمر اليسير، أمر إلقاء الحجارة، هب أني ذهبت إلى بركليز وقلت له: «إن ألقبيادس لا يريد يا بركليز أن يكون في الفرسان، كما رسم ورسمت معه، إنه يحب أن يخدم مع الفرق الأجنبية ويستعمل المقلاع؛ لأن إلقاء الحجارة هو ما يحب أن يقوم به، فهل توافقني لو أنا قلت له ذلك؟»
فقال ألقبيادس: «بالطبع لا أوافقك، إنني لا أريد أن ألقي الحجارة فحسب، إنني ألقي الحجارة على زوبيرس؛ لأنني أريد شيئا آخر، أريد أن أظهر لزوبيرس أنني خير منه.»
فرد سقراط قائلا: «فهمت، ولكن فيم تفضله؟»
ولم يفهم ألقبيادس ما أراد سقراط.
فقال سقراط: «دعني أقدم إليك بعض الأمثلة، ألسنا نقول: إن صانعا من صناع الأحذية يفضل الآخر؟» - «أجل.» - «فيم يفضله؟» - «في صناعة الأحذية بالتأكيد.» - «وإن ملاحا يفضل الآخر في توجيه السفينة، وإن خبازا يفضل الآخر في عمل الخبز.»
قال ألقبيادس: «بالتأكيد، ولكن ما شأن ذلك بي؛ لست خبازا.»
واستمر سقراط يقول: «وإن رامي حجارة يفضل الآخر في رمي الحجارة، ولكنك بالتأكيد لا تعني أن تقول: إنك تتبارى مع زوبيرس في رمي الحجارة، وإنك تريد أن تدل على أنك خير منه في إلقاء الحجارة!»
فأجاب ألقبيادس وقد ضرب الأرض بقدميه: «إنك تعرف حق المعرفة أنني لا أعني يا سقراط بلفظة «أفضل» الأفضلية في عمل الخبز أو صناعة الأحذية أو أية مهنة من مهن الرقيق، بل ولا أعني الأفضلية في إلقاء الحجارة، إنما أعني أنني أفضله كرجل ولا شك!»
وأشرق وجه سقراط القبيح كأنه عثر على كنز غير منظور، وألقى مطرقته ومد يده وقال في صيغة الجد: «ينبغي لي ولك يا ألقبيادس يا ابن كلينياس أن نكون أصدقاء، إن الخير الذي يجعل الرجل أفضل من غيره «كرجل» هو ما يريده كلانا، وإن أنت وافقتني - ورغبت في ذلك - بحثنا معا عنه حتى نلقاه»، ثم عاد إلى عمله، وافتر ثغره عن ابتسامة ماكرة تجعدت منها أركان عينيه وقال: «أشك في أننا سوف نجده بإلقاء الحجارة!»
ولما رأى الناس ألقبيادس يطوف مع سقراط بعد هذا - يتبعه في الملعب، ويدعوه للغداء - ضحكوا وقالوا: إن ألقبيادس يتعلم طريقة جديدة يظهر بها نفسه، وحسبوا أن التلاعب بالسؤال والجواب لن يلبث معه طويلا، ولكنهم أخطئوا فيما حسبوا.
وكان ألقبيادس يقصد سقراط لأول الأمر؛ لأنه كان شغوفا بالمعرفة، ثم انصرف عنه ليحاكيه، وحاكاه في النظرة الجانبية من العينين الجاحظتين وفي مشية البجعة وفي الحديث عن الخبازين والملاحين وصانعي الأحذية، واختنق أصحابه من الضحك وقالوا: إن ألقبيادس لم يكن من قبل أكثر من ذلك مدعاة للسخرية، غير أن شيئا آخر بدأ يحدث لألقبيادس منذ ذلك اللقاء الأول، شيئا لم يتوقعه، ولم يكن يدركه في ذلك لحين.
إن ألقبيادس لم يتخلف في أمر من الأمور قط في حياته: منذ طفولته حينما فقد أباه وتعلم أن يكيف حياته بغير بيت حقيقي، ومهما حدث - إذا لم يكن ألقبيادس هو البادئ فيه - كان يعرف كيف يشق طريقه ويأخذ مكان الصدارة فيه، كان غنيا وكان أنيقا ومحببا إلى الناس، وكان يهمه أن يكون أكثر من يتحدث الناس عنه في المدينة من الشبان، وظن أنه يعرف كل ما يستحق المعرفة، وأنه يعمل كل ما يستحق العمل حتى التقى بسقراط.
وكان عند سقراط سر من الأسرار، وأحس ذلك ألقبيادس منذ البداية، وشرع في الكشف عنه، وكأن سقراط كان يعيش في مدينة أخرى، كل ما يملك ألقبيادس وكل ما يقيم له وزنا لا يساوي فيها شيئا، وكان سقراط يطوف بشوارع أثينا، يحيا حياتها في عزم وقوة كما يحياها أي إنسان، يتفكه ويداعب ويستمتع، ويتعرف إلى اسم كل من فيها، شغوفا بكل أخبارها وأبنائها، في حين أنه كان خلال ذلك كله يسكن مدينته الأخرى.
ولما تحدث ألقبيادس إلى سقراط رأى في المدينة التي كان يعيش فيها الرجل لمحات غريبة أخاذة أوضح مما رأى غيره من الناس، كان المرء في مدينة سقراط حرا، كان حرا بمعنى جديد لم يدركه ألقبيادس من قبل، كان حرا في أن يعمل كل شيء في اتجاه واحد واضح، لا تتجاذبه مئات الاتجاهات من الدوافع والمخاوف والمكاره، وكأنها مائة أستاذ مختف يجذبونه في هذه الناحية وفي تلك، وبمقياس مدينة سقراط وجد ألقبيادس نفسه عبدا.
كل شيء آخر كان مقلوب الوضع في مدينة سقراط، وربما كانت مدينة سقراط صحيحة الوضع، وغيرها من مدائن الناس مقلوبا، وما ألف ألقبيادس أن يلقى في أثينا من استحسان وإعجاب، يحسهما على كتفيه كالرداء الأرجواني، انكمش حتى تلاشى في الجو الثاقب الذي كان يسود مدينة سقراط ، وحتى جسم الرياضي لم يشاهد هناك، ووقف ألقبيادس في روح عارية ضعيفة صغيرة عندما نظر إليه سقراط وأحس بالبرودة؛ لأن المواطنين في مدينة سقراط كانوا يرتدون ثيابا أخرى كالحق والاستقامة، لا تقليد الحق والاستقامة الذي كان يسود أثينا، ذلك الثوب الكئيب الضيق الذي يخجل المرء أن يرتديه أمام الجمهور، وللحق والاستقامة في مدينة سقراط كل ما للشر في مدائن الناس الأخرى من قوة وحرية.
وكم كان ألقبيادس يود أن ينتمي إلى مدينة سقراط، وكان يعرف أن سقراط يسره أن ينضم إليه، إلا أنه كانت عليه ضريبة لا بد أن يؤديها قبل أن يدخل المدينة، وكان في ذلك برهان آخر على غرابة المدينة، فلقد كان ألقبيادس غنيا، وكان سقراط فقيرا، ومع ذلك فإن ضريبة الدخول في مدينة سقراط كادت أن تربو على ما يستطيع ألقبيادس أن يؤديه، وأسوأ من ذلك أنه بدا لألقبيادس كأن الإقامة في المدينة تقتضيه أن يدفع الثمن عدة مرات حتى يصبح بالنسبة إليه لا شيء كما هو لسقراط.
وقل في أثينا من كان يدرك شيئا مما كان يجري بين سقراط وألقبيادس، وما كان يجري بين ألقبيادس ونفسه، إنهم كانوا يلمسون ما كان يحدث في الظاهر تماما، يشهدونهما متلازمين في أغلب الأحيان حتى باتت صداقتهما الوثيقة حديث العامة، ثم أصبحت أمرا مألوفا، كما كانوا يشهدون ألقبيادس في الوقت ذاته يتطور من طفل مدلل إلى شاب مندفع خطر، وقد أعجبوا بذكاء ألقبيادس في ذلك الحين ودللوه من أجلها، وحملوا سقراط فيما بعد تبعة الضرر.
تلك كانت أعنف ما عقد سقراط من صداقات وأكثرها إثارة للمشاعر، وهي دليل على مقدار ما رأى في ألقبيادس من مكانة حتى آثر أن يتريث وأن يصبر، فإن ألقبيادس سوف يتبع سقراط في لحظة من اللحظات كما يتبعه الكلب المربوط بالحبال، وفي لحظة أخرى سوف ينطلق في مغامرة وحشية فينطق أثينا كلها بالكلام، وكان سقراط ومدينته في ذهنه شيئا واحدا، فإذا فر من أحدهما فر من الآخر.
وأذكر على سبيل المثال أنه ذاع بين الناس ذات يوم أن ألقبيادس قد سار نحو هبونكس - ذلك الرجل الصلب الواسع الثراء، الذي تزوج من ابنته فيما بعد - وصفعه على وجهه، أتدرون لماذا؟ «أوه، إنكم تعرفون ألقبيادس، ربما كان رهانا أو كان مزاحا!» وذاعت عنه في اليوم التالي قصة أخرى أشد من ذلك رعبا، فلقد تقدم ألقبيادس بالاعتذار فعلا.
وعفا عنه هبونكس بطبيعة الحال، وكان الناس دائما يعفون عن ألقبيادس بقلوبهم، وإن كانوا قد تعلموا ألا يثقوا فيه بعقولهم، وعفا عنه أيضا صديق آخر من أصدقائه يدعى أنتيس، وذلك عندما سطا ألقبيادس على منزله وانتشل نصف ما أعده أنيتس لحفل من الأطباق الموشاة بالذهب والفضة، وقال أنيتس لضيوفه: «نستطيع أن نشكره؛ لأنه ترك لنا نصف الأطباق.»
وظن الناس أن هذه قصة مثيرة سارة، وأرادوا أن يعرفوا كيف أغلق على المصور أجاثاركس بيته حتى غطى جدران البيت كلها بالصور، وكيف حمل زوجه على كتفه وعاد بها إلى بيته، وذلك عندما ذهبت إلى المحكمة تطلب الطلاق منه كما استحق، وربما كان سقراط وحده في المدينة كلها هو الرجل الذي راقب ألقبيادس دون أدنى إعجاب خاص بخروجه على القانون، وكان ذلك مما يدعو إلى الحسرة؛ لأن ألقبيادس كان سريع الإدراك لما يعجب به الناس، سريع الأداء له، ولو أن أحدا غير ألقبيادس نفسه كان يحمل وزر الضرر فيما بعد، فذلكم هم أهل أثينا الذين ظنوا أن شيئا من فعل الشر يثير المشاعر ويجذب الأنظار.
ولما صحب ألقبيادس سقراط استطاع أن يقوم بعمل غير هذا، وقد قضيا خير أوقاتهما في حملة بوتديا، وكان ذلك أول عهد ألقبيادس بالقتال، وقد أذهل أصدقاءه بخدمته في سلاح المشاة، إذ إن كل الشباب من طبقته وثرائه كانت لهم الجياد، وتدربوا لسلاح الفرسان بطبيعة الحال، وقد صار ألقبيادس نفسه من ضباط الفرسان فيما بعد، ولكنه الآن كان يخدم في المشاة ويقاسم سقراط خيمته، والظاهر أنه تخلى عن كبريائه لكي يصحب زميله.
وفي هذه الحملة رفع ألقبيادس سمعته كجندي، وقد وقع عليه الاختيار من بين صفوف الجيش كله لكي يتسلم جائزة الشجاعة ، ولو أنه أصر على أنها من حق سقراط الذي وقف إلى جواره وأنقذه عندما أصيب بالجراح، وكانت الجائزة شرفا عظيما، وكانت أثينا لا تزال تذكر قريبا له لشيء مثل هذا يعود إلى حروب الفرس، ومما زاد من دهشة الناس الذين عرفوا ألقبيادس في وطنه الطريقة التي سلكها في الخضوع لنظم الجيش، فقد كان يسير ويجوع ويقاسي زمهرير البرد ويقف في حراسته كغيره من الجند، دون أن يكون في ذلك متكلفا ودون أن يتوقع الجزاء، وربما كان يعرف ما يدعو إلى الإعجاب في الجيش، أو ربما استطاع أن يأخذ نفسه بالطاعة بمعونة سقراط.
وهكذا قضى ألقبيادس وسقراط عامهما معا، وكان ذلك هو الوقت الذي توثقت بينهما فيه الصداقة إلى أقصى حدودها، ولما تصرم العام عادا إلى أثينا، حيث يمارس سقراط عمله العام مطيعا في ذلك ربه، وحيث يرتد ألقبيادس إلى السياسة، وبرغم سمعة ألقبيادس الطيبة في الجيش، فإن الفارق بينهما الآن أمسى أكبر من أي عهد مضى، ولما عاد ألقبيادس إلى السياسة بدأ يتأكد بينه وبين نفسه مما كان يتوقعه طوال الوقت الماضي، وذلك أنه لن ينتسب إلى مدينة سقراط، غير أنه ما لبث يحبها كلما أدركها خلال صديقه، أما عن نفسه فإنه في الواقع لم يرد أن يدفع الثمن.
وبعد نحو خمسة عشر عاما - كما يحدثنا أفلاطون - أقيم في أثينا بمنزل الشاعر أجاثون حفل عشاء كبير، وكان أجاثون قد ظفر من عهد قريب بجائزة على أولى مسرحياته، وأقام العشاء احتفالا بفوزه، وكان الحافلون من الممتازين، من بينهم: أرستوفان كاتب المسرحيات الهزلية، وأرستوديمس صديق سقراط، الذي روى القصة فيما بعد وسقراط ذاته، ولم يدع للحفل ألقبيادس، وكان قائدا في الجيش وسياسيا متزعما، ولم يكن عنده أقل من سبع مجموعات من خيل السباق، كل مجموعة منها تتألف من أربعة جياد، يدربها للألعاب الأولمبية القادمة، غير أنه تحاشى الالتقاء بسقراط.
ولم يغن الضيوف أو يلعبوا أو يشهدوا العبيد في تمثيلهم بعد حفل العشاء عند أجاثون، كما لو فعلوا في منزل آخر، إنما كانت تلك وليمة لرجال الأدب والمفكرين، فانصرف لاعبو المزامير ودار بين المجتمعين حديث رفيع، وكان الحب موضوع المساء، وألقى كل منهم حديثه بشأنه، فكها كان أو علميا أو شاعريا وفقا لمهنته وأسلوبه في التفكير.
ولم يكد سقراط ينتهي من حديثه عن الحب كما عرفه - الحب بين الأصدقاء الذي يؤدي كدرجات السلم إلى نظرات جديدة في الخير - حتى سمع فجأة صوت المزامير وقرع شديد على الباب، وبعث أجاثون بالعبيد للاستطلاع، وبعد برهة كان صوت ألقبيادس مسموعا في الفناء، وكان ثملا جدا وأخذ يصيح قائلا: «أين أجاثون؟ خذوني إليه!» وأخيرا تمكن من التماس الطريق إلى الداخل ومعه فتاة تعزف على المزمار وبعض الرفاق يساندونه.
وكان قادما لتوه من حفل آخر، ودخل مدخلا بارعا، حيث ظهر عند الباب متأبطا الفتاة العازفة على المزمار، ويتحوطه رجاله جميعا، ورأسه متوج بإكليل ضخم من اللبلاب وزهر البنفسج والشرطان.
وقال: «عموا مساء أيها الخلان، هلا سمحتم لرجل ثمل جدا أن ينضم إلى حفلكم؟ أم هل أكتفي بتتويج أجاثون بهذه الأشرطة كما اعتزمت ثم أنصرف؟»
وصاح الضيوف جميعا يطلبون إليه البقاء، وقد سر أجاثون لدعوته، فقاده رجاله إلى الداخل وأجلسوه بين أجاثون وسقراط.
وصاح أجاثون بخدمه قائلا لهم: «اخلعوا نعليه، وأريحوه هنا فوق الأريكة بيننا.»
ورد ألقبيادس قائلا: «أجل، حقا، ولكن من هذا الرجل الآخر؟» وقد شغله تتويج أجاثون بالأشرطة عن الملاحظة، ولما تلفت ووقعت عيناه على سقراط هب مذعورا.
وقال: «أسقراط هنا وحق هرقل! إنها حيلته القديمة، يرقد في انتظاري في مكان هو أبعد ما أتوقع وجوده فيه، أعد إلي بعض أشرطتك يا أجاثون، يجب أن أتوج هذا الرأس العجيب لهذا الرجل، الذي لم ينتصر مرة - كما أنتم الآن - وإنما هو في نصر دائم.» ونزع بعض الأشرطة من رأس أجاثون ووضعها في وقار على رأس سقراط.
وواصل حديثه قائلا: «كنتم أيها القوم تتبادلون الحديث في الثناء على الحب، وأنا ثمل إلى حد لا يمكنني من ذلك، ولكني أستطيع أن أثني على سقراط.»
وسأله سقراط قائلا : «ماذا تحاول أن تفعل؟ أتهزأ بي؟»
وأجابه ألقبيادس متشاجرا: «الزم الصمت، لن أثني على أحد آخر ما دمت في هذا المكان، وسوف أقول الصدق لو سمحت لي.»
فقال سقراط: «إنما الحق هو ما أريدك أن تقول.»
وأجاب ألقبيادس: «وإذن فلأبدأ، هل رأيتم تلك الأشكال الممسوخة، التي نصفها إنسان، ونصفها الآخر حيوان، التي تباع في محلات التجارة؟ أقصد ذلك النوع الذي يصنع على شكل صندوق؛ مسخ قبيح عجوز يضرب على المزمار من الخارج، وتماثيل جميلة صغيرة للآلهة من الداخل عندما تفتح الصندوق، إن سقراط شبيه بذلك، إلا أنه لا يحتاج إلى مزمار لكي يسحر العالم، ففي كلماته الكفاية.»
وقطب ألقبيادس جبينه وتكلم بجهد كأنه يحاول أن يجمع شتات أفكاره، ولم يكن متحدثا طلق اللسان حتى في أحسن حالاته.
واستمر يقول: «إني أحاول أن أكون في وعيي وأنا أذكر ذلك، ولو أني تكلمت كما أحب عما تفعله بي كلمات سقراط، قلتم: إني فاقد الوعي من الشراب، إن كلماته تثير فؤادي، وتدفعني إلى الرغبة في الصياح.
إنه إحساس عجيب، وقد كان بركليز خطيبا مصقعا، ولكنه لم يفعل بي مثل ذلك قط، لم يجعلني أسخط على نفسي لأني أعيش عيشة العبد، أو أخجل، أجل، أخجل! وهل تظنون أنني كنت أعرف ما الخجل؟ إن سقراط يجعلني أخجل، وهو وحده الذي استطاع ذلك.
إن ما يقوله حق بالطبع، ولا أستطيع إجابته، ولكنه لا يكاد يختفي عن ناظري حتى يغلبني حب الثناء؛ ولذا فإني أفر وأهرب، وعندما أراه مرة أخرى أشعر بالخجل كما ترونني هذا المساء، كم وددت لو مات، ومع ذلك فلو أنه مات لازددت بؤسا، لست أدري ماذا أفعل بهذا الرجل.»
واستلقى ألقبيادس على الأريكة بين سقراط وأجاثون، يتفوه بألفاظ ما كان ليتفوه بها نهارا، وعيناه بالدمع مبتلتان، ويتدلى على جبهته في سخف شديد إكليل ثقيل من اللبلاب والبنفسج، وأخذ يتحدث كيف اقتفى أثر سقراط كي يتعلم سره، وعن العام الذي قضياه معا في بوتديا، ولكنه كان يعود دائما إلى القوة العجيبة التي كانت تكمن في كلمات سقراط .
ثم قال: «إن كلماته قبيحة كذلك مثل الصندوق الممسوخ، هي كلمات عن الحدادين وصانعي الأحذية والصباغين، حتى إن الرجل الذي يجهلها قد يضحك منها، غير أنك لو فتحت الصندوق وجدت أنه ليست هناك كلمات أخرى لها معنى، إن كلماته مليئة بصور الخير، وهي كلمات ضخمة - ضخمة ضخامة الحياة بأسرها.»
وختم حديثه قائلا: «والآن، هذا هو ثنائي على سقراط ولست وحدي الرجل الذي عانى من جرائه، خذ حذرك يا أجاثون وإلا وقعت أيضا في حباله.»
وأعقب ذلك كثير من الضحك والدعابة، وبعد لحظة وجد بعض الماجنين في الطريق إلى الداخل، واضطرب نظام الوليمة وانحل عقدها، ولم يبق سوى سقراط مع أجاثون كاتب المآسي وأرستوفان كاتب المسرحيات الهزلية يتحدثون حتى مطلع الفجر، أما أرستوديمس الذي روى القصة فيما بعد فقد أخذته سنة من النوم خلال أكثرها، ولكنه ذكر أن سقراط قد أرغم الزميلين الآخرين على الاعتراف بأن المسرحية الهزلية والمأساة يتماثلان في أساسهما، وأن الشاعر التراجيدي يجب أن يكون شاعرا كوميديا كذلك، ولم يستطيعا أن يتابعاه تماما؛ لأن رأسيهما أخذا يميلان، وأخيرا استغرقا في النوم: أرستوفان أولا، ثم أجاثون عند منبثق النهار، ثم نهض سقراط وهم بالانصراف يتبعه أرستوديمس، وقصدا الملعب حيث اغتسل سقراط وقضى نهاره كما ألف، وفي المساء ذهب إلى بيته كي ينام في داره.
هذه هي نهاية قصة أفلاطون، وبعد عام اتهم ألقبيادس بمحاكاة «ألغاز اليوسس»، وهي أقدس الشعائر الدينية التي عرفها الأثينيون وأكثرها غموضا، وقد أوشك ألقبيادس أن يفقد حياته من أجلها، كان يعمل كقائد حربي في صقلية في ذلك الحين، ولم يجرؤ أن يعود إلى الوطن ويقف أمام المحاكمة، وفر إلى الأعداء، ولما وقع الجيش الأثيني في الفخ وهو يتقهقر في صقلية فيما بعد، وقتل ألوف الشبان من الأثينيين أو ماتوا في السجون، كان لنصح ألقبيادس الإسبرطيين شأن كبير بذلك، ولما تطلع الأثينيون من فوق أسوارهم لكي يشهدوا الغزاة الإسبرطيين وهم قادمون على ظهور الجياد من معسكرهم في حصن دسليا عند الحدود، عرفوا مرة أخرى أن على نصح ألقبيادس تعود اللائمة.
وعفا عنه الأثينيون كما كانوا يعفون عنه دائما، وقضى بعد ذلك أربعة أشهر في أثينا، ثم عاد إلى الخدمة في صفوف الأثينيين، وفاز ببعض الانتصارات الباهرة، غير أن كل تألقه تلاشى في النهاية؛ لأنه فقد ثقة القوم فيه، ولما هزم أسطوله في المعركة، ظن الأثينيون أنه تعمد الهزيمة.
ولذا قضى ألقبيادس نهاية الحرب منفيا في تراقية البربرية، وجلس على الشاطئ وشهد الأسطول الأثيني وهو يتحطم دون أن يستطيع حراكا، ثم حاول أن يفر للاحتماء في بلاد الفرس، وقبض عليه وقتل في الطريق، ومات دون صديق، ولم يخلف بعده شيئا سوى قصة القدرات المضيعة.
كان عبدا يمكن أن يتطور إلى رجل حر عظيم، لو اختار أن يكون حرا.
الفصل العاشر
الحرب العظمى
إن السنوات التي جعلت من ألقبيادس بطلا فاشلا، السنوات التي كان ينمو فيها أفلاطون ويقوم فيها سقراط بأداء الرسالة التي تلقاها من الآلهة، كانت سنوات الحرب العظمى مع إسبرطة، وكان سقراط في نحو التاسعة والثلاثين من عمره عندما نشبت الحرب، وكان في نحو السادسة والستين من عمره عندما انتهت.
وكان الجيش الأثيني يخرج تباعا كل صيف، كما يبحر الأسطول إلى الأصقاع النائية، وخدم سقراط نفسه في حملتين عرفناهما، وليس من شك في أنه خدم في كثير غيرهما، ولا بد أن تكون زانثب قد أنزلت خوذته البرنزية وصداره الحديدي من الصندوق الذي أودعا فيه بحجرة النوم، كما خلعت الدرع والرمح من جدار حجرة الجلوس، وربما كانت مشابك الصدار الحديدي بحاجة إلى ربط، وهل تتحرك المقابض عند الكتفين في يسر يا ترى؟ ويجب أن يذكر شارة الشرف المصنوعة من شعر الخيل ويتأكد من ملاءمتها وثباتها في الثغرة التي أعدت لها بالخوذة.
ويصقل الدرع حتى يلمع كالمرآة بالرغم مما به من ندوب، وتغسل زانثب رداء سقراط العتيق وتصلحه، ويصر على أنه حسن على هيئته، ولكنها لا ترضى له بالمظهر الحقير بين زملائه، ثم تحزم له طعام ثلاثة أيام، من سمك مجفف وزيتون، وخبز الشعير والجبن ، وتهبط كي تراه وهو ينطلق مع الآخرين من باب المدينة، وبعدما ترزق بطفلها الأول - «الذي ولد متأخرا، وبعد كثير من الدعاء فكان إلى القلوب حبيبا» كما جاء في الشعر القديم - تراها تحمله على كتفها.
لم تكن الحياة يسيرة على زانثب في ذلك الحين أو فيما بعد، وربما اقترن بها سقراط قبل الحرب بزمن ليس بطويل، وربما بعد نشوب الحرب بسنوات، وقد انتقاها عن طريق خاطبة أو عن طريق إحدى قريباته، كما كانت تتم الزيجات في أثينا في ذلك الحين، وربما كانت ابنة جاره، فتاة رآها تحمل جرة الماء إلى البئر من بيت في أقصى الشارع، لم يعرفها قبل أن يقترن بها ولم تعرفه، تزوج منها لأنه كان يريد لنفسه ذرية، وتزوجت منه لأن ذلك ما كانت تتمناه لنفسها دائما، أن تتزوج وأن تنسل وأن تكون ربة بيتها، وحتى لو كان شاذا قبيحا فهو يستطيع أن يكفل لها أمنا وعطفا، وكانت تصغره بعدة سنوات.
وكان سقراط عطوفا على زانثب، وربما تبادلا شيئا من الحب، وإن كانا لم يتبادلا منه الكثير، فالأزواج والزوجات لم يتوقعوا عادة أن يتبادلوا حبا عميقا في أثينا، وكان على الأقل صبورا كلما أنبته وكانت معروفة بتأنيبها، وكان من اليسير عليه أن يبتسم، وأن يدرك أن نيتها طيبة، فيوجه تفكيره إلى أمور أخرى، وكان يقول للأطفال: «إن الكلمات لا تؤذيكم، واذكروا كيف كانت تسهر عليكم في مرضكم.»
وهكذا منح سقراط زانثب عطفه، وإن يكن لم يمنحها ما كانت تعده ضمانا لها، ومنحته هي الأطفال، وكان له أبناء ثلاثة عرفناهم: لامبروكليز، سفرونسكس، ومنكسينس الصغير، وربما كان له كذلك بنات، وإن لم تعش واحدة منهن حتى تكبر؛ إذ لم يعش له أطفال ويكبروا ممن ولدوا قبل أن يبلغ أبوهم الخمسين، ولكن سقراط في سنواته الأخيرة على الأقل كانت له الأسرة التي تمناها، وكان لذلك شاكرا، وأراد أن تكون زانثب معه في الليلة التي سبقت وفاته.
وبخلاف زانثب والأطفال كان له بطبيعة الحال أصدقاء: أصدقاء قدامى وأصدقاء جدد، وقد نما جيل جديد بأسره من الصبا إلى الشباب خلال الحرب، وأتى أقريطون بابنه كريتوبيولس، وكان يتوقف أحيانا للاستماع شاب صغير طيب القلب يدعى زنفون شديد الاهتمام بالخيل والكلاب، وكان هناك أجاثون الشاعر الشاب، الذي أقام حفل العشاء المشهور، كما كان هناك سفالس الصقلي العجوز صاحب مصنع الدروع، الذي كان بيته عند الميناء مجالا لنقاش آخر لا يقل عن سابقه شهرة وذيوعا، وكان هناك كريتاس وكارميدز من أقرباء أم أفلاطون، ومن قواد الثورة فيما بعد، وقد كانا مثل ألقبيادس خطرا على سمعة سقراط الطيبة، كما كان هناك جلوكن واديمانتس الأخوان الأكبران لأفلاطون، وأخيرا عندما أوشكت الحرب أن تضع أوزارها، كان هناك أفلاطون الشاب نفسه.
ولا يكاد أفلاطون يذكر متى بدأت تبلغه أنباء سقراط من أحد أفراد أسرته، وكان قد سمع عنه قبل أن ينضج للكلام معه بنفسه، وحتى في ذلك الحين بقي في محيط الدائرة لفترة من الزمن، ولو أنك قلت له في تلك السنوات: إنه سوف يصبح فيلسوفا وينشئ مدرسة من الفلاسفة ذات يوم لسخر منك؛ لأن الحياة السياسية كانت الحياة العملية الملائمة الوحيدة لشاب من أسرة كأسرة أفلاطون: أسرة نبيلة، تنحدر من سولون المشرع، بل إنك لو رجعت حقا إلى الزمن السالف القديم، لقلت: إنها تنحدر من بوزيدون إله البحر ذاته.
وقد اختط أفلاطون لنفسه أن يكون من رجال السياسة، ولن يكون بطبيعة الحال رجلا ممن يطعنون الناس من الخلف كما كان الساسة في سني الحرب تلك الذين تزدريهم أسرته، وإنما يرمي أن يكون زعيما وطنيا محافظا للمدينة بأسرها كسلفه سولون، وقد أحس في نفسه القدرة على الزعامة، وسيكون كرتياس ابن عم أمه عونا له على ولوج باب السياسة بمجرد ما تتاح للمحافظين الفرصة مرة أخرى.
وفي غضون ذلك ربما كان يدرس فن التصوير وتأليف الشعر أو «صناعته» كما كان التأليف يسمى في لغته، وكان يلزمه دائما ضرب من ضروب «الصناعة» كما كان البحث لازما لسقراط، وإن كان لا يستطيع صنع القوانين فهو يستطيع صناعة المسرحيات، وبعدما كتب مسرحيته الأولى - إذا صدقت القصة القديمة المشكوك في صحتها - بدأت كلمات سقراط بعدما كانت من قبل لا تمس إلا ظاهر فكره أولا؛ بدأت تخزه كما وخزت من قبل ألقبيادس وجعلته ساخطا على كل شيء فكر فيه أو أداه فيما سبق، وبدت له مسرحيته ضحلة فألقى بها في النار، ولم يكتب بعد ذلك مسرحيات إلا بعد سنوات، وكانت في صيغة جديدة تعلمها من سقراط.
ونستطيع الآن أن ندرك أن اكتساب أفلاطون كان يفوق كثيرا في أهميته فقدان ألقبيادس، غير أن سقراط بطبيعة الحال لم يستطع أن يتصور ذلك، ولم تكن سني الحرب هذه سهلة مريحة في جملتها لأي امرئ في أثينا، وبخاصة لرجل متوسط العمر ذي أسرة يعولها، وموارد مالية قليلة للانفاق عليها، عنده إدراك للحق أسمى حتى من مستوى الأخلاق في زمن السلم في مدينته، ولديه رسالة تجعله يقف في وجه الظلم والجهالة، ومرت بسقراط أوقات كان مجرد بقائه وبقاء أسرته أحياء مشكلة من المشكلات، وقد صاحب المعركة طاعون لم يكن أقل منها فزعا، وأمسى كل شيء ناقصا لعدة سنوات، نقص في الدفء ونقص في المسكن وفي الطعام، وعانت المدينة أشهرا من الجوع في أعقاب الحرب، وذلك حينما امتلأت باللاجئين، واستولى الأسطول الإسبرطي - الذي كان يسد نفقاته الذهب الفارسي - على البحار من البسفور إلى خليج سلامس، ولم ترد في ذلك الحين السفن محملة بالحبوب. وأغلقت الأسواق لقلة ما يباع فيها من طعام.
وكابد سقراط وزانثب شظف العيش خلال الحرب والطاعون والمجاعة، وكابدت كذلك أسر أخرى، غير أن ما أزعج المفكرين في ذلك الحين، وجعل رسالة سقراط أوجب من أي عهد سبق هو التغير الذي طرأ على قلوب الناس نتيجة فيما يظهر لما كابدوا من الآلام وأعمال العنف، فإن عشرين عاما من القتال كانت أمدا طويلا برغم ما توسطها من سلم شاق تنفس فيه الناس قليلا، ويبدو أن التقاليد والعادات الثابتة في حسن المعاملة قد أخذت تنهار في سرعة فائقة، كما يبدو أن ثقة بركليز في أن الأثينيين يستطيعون أن يقوموا بأي شيء فيه رقة وجمال - على حساب جيرانهم مؤقتا - قد انقلبت إلى ثقة ألقبيادس في أن من يملك القوة يستطيع أن يقوم بأي شيء، وبدأ التصدع القديم الذي أشاح عصر بركليز بوجهه عن رؤيته، والذي كان يمكن خلال سنوات الدعة - وأقصد به أن الغاية تبرر الوسيلة - بدأ يظهر ثغرات قبيحة في أسس المدينة ذاتها.
فكان من الدلائل السيئة مثلا أن يصوت أهل المدينة في صراحة وجرأة في المجلس على قتل الرجال واسترقاق النساء والأطفال جميعا في جزيرة ملس العاجزة الصغيرة، وكان من الدلائل السيئة كذلك أن يكف كثير من الأثينيين عن العناية بالمرضى من ذوي قرباهم وعن الاهتمام بدفن موتاهم أثناء انتشار الطاعون، وقد أذهلت هذه الأمور القوم من جيل بركليز، أما القوم من جيل ألقبيادس، وأما معلموهم من الشبان السفسطائيين، فقد زعموا أنهم لا يعتقدون في شيء ولا يصعقون لأمر، وكانوا يقولون: «إن القواعد القديمة التي تتعلق بالحق والباطل إنما سنها رجال جبناء في الماضي، ولا يمكن لرجل قوي أن يتقيد بها، إن قانون الطبيعة يتضح من الطريقة التي يسلكها الحيوان، وإن الناس جميعا ليسيرون وفقا لهذه القاعدة لو كانوا شجعانا: انج بحياتك، وخذ ما تريد لنفسك.»
وكثير من الأثينيين المحتشمين المهذبين كان يزعجهم ما يزعم السفسطائيون، وأرادوا أن يبرموا بشأنه أمرا، والتقى سقراط بأنيتس ذات يوم، وهو الصديق الذي ضحك عندما سرق ألقبيادس نصف أدوات المائدة قبل الحفل، ولم يكن أنيتس هذه المرة ضاحكا، وقال لسقراط: إن السفسطائيين ينبغي أن يبعدوا عن المدينة.
وسأله سقراط: «هل استمعت لهم مرة لتعرف ما يقولون؟»
فأجاب أنيتس: «لست في حاجة إلى ذلك، وخير لك أن تراقب لنفسك كذلك يا سقراط، خلال تجوالك ونقدك ساستنا كما تفعل، إنه لأمر خطر!»
ولم يكن أنيتس الرجل الوحيد في أثينا الذي خلط بين سقراط والسفسطائيين، فلما كتب الشاعر أرستوفان مسرحيته الهزلية المشهورة «السحب» ضد السفسطائيين، جعل سقراط بطلها الشرير، وضحك الناس عندما رأوا سقراط يظهر كأستاذ «لزمرة المفكرين» من السفسطائيين، الذين يعلمون الشباب أن ينكروا الآلهة ويهاجموا آباءهم ، ويجادلوا فيما عليهم من ديون فلا يدفعونها.
ضحك الناس، بيد أنهم ذكروا المسرحية، وقد كانت سببا في متاعب سقراط فيما بعد، ولم يدرك الكثيرون أنه يملك الوسيلة الوحيدة الفعالة حقا في معالجة السفسطائيين، فإن أحدا لم يستطع أن يسوق الأسئلة نحو إجابات أحسن، وسأل كالكليز السياسي قائلا: «هل تختار أن تحيا حياتك بجسم عليل؟ بله أن تريد حقا أن تعيش بروح عليل!»
وسأل سقراط السفسطائي ثراسيماكس - الذي كان يفخر بقوله: إن الشر أقوى من الخير: «هل فكرت مرة يا ثراسيماكس فيما يمسك الناس بعضهم إلى بعض؟ وهل تستطيع حتى ثلة من اللصوص أن تبقى قوية موحدة إلا إن كان لديهم شيء من الإحساس بالعدالة فيما بينهم؟ ماذا ينجزون لو أن كل واحد منهم سرق من الآخرين؟ فكيف إذن تكون حال مدينة يقسمها الشر شيعا وأحزابا، وكيف تكون حال الروح إن اضطربت وعارض جانب منها جانبا آخر؟ إن الضعف دون القوة هو بالتأكيد ما ينجم عن الشر!»
وفيما بين حرب جيش مع جيش تدور رحاها خارج المدينة، وصراع الخير والشر تدور معركته في أذهان القوم، كان لدى سقراط عمل يكفي رجلين من عامة الناس، فبقي بعيدا عن ميدان السياسة، كما شجعته حقا إشارته على ذلك، وبرغم هذا كان لا بد أن يستلفت الأنظار لما كان عليه من صفات، وقد اضطر إلى أن يخوض في معمعان الشئون العامة مرتين خلال الأوقات العنيفة التي أعقبت الحرب، وفي كل مرة منهما كاد الأمر أن يكلفه حياته.
وكانت المرة الأولى عند محاكمة القواد الستة بعد معركة آرجنيوزي البحرية الكبرى بعيدا عن ساحل آسيا الصغرى، وقد عبئت السفن لهذه المعركة بكل أثيني تقريبا - عبدا كان أو حرا - يستطيع أن يستخدم المجداف أو يحمل السلاح، أما سقراط الذي كان آنئذ في منتصف عقده السابع، فالأرجح أنه تخلف في وطنه ليقوم بواجب الحراسة، ولكن صديقه الشاب أفلاطون قد خاض المعركة بالتأكيد وأسهم فيما أحرزته من نصر وما أعقبها من عار بعد ذلك، إذ إنه بعد انتهاء المعركة وبينما كان القادة يتجادلون بشأن من يجمع منهم شمل الأحياء وينقذ حطام السفن التي ظلت طافية حول ميدان القتال، هبت عاصفة ولم ينج البتة أحد في النهاية، وتركت للغرق على مرأى من الساحل اثنتا عشرة سفينة أثينية حربية على الأقل بنيت للسرعة لا للنجاة كما كان ينبغي، فلم تزود بقوارب النجاة أو بوسائل الوقاية من الغرق، ولم تبحر سفينة واحدة لإنقاذ السابحين.
وصعق الناس وغضبوا لما بلغت أثينا رسائل القادة التي تصف النصر والعاصفة وعدد الموتى، وأعفي من القيادة القواد التسعة جميعا الذين كانوا بالمعركة، وأعيدوا إلى الوطن للمحاكمة وقد أدركت المنية أحدهم خلال ذلك، وصمم اثنان منهما ألا يعودا، وعاد إلى أثينا الستة الباقون، وكان أحدهم ابن بركليز وإسبسيا، وكلهم من الموظفين العاملين المعروفين، وطلب إليهم أن يتقدموا بتقاريرهم إلى مجلس الخمسمائة للتحقيق المبدئي.
وكان مجلس الخمسمائة هو الهيئة التنفيذية الكبرى التي تعد العمل «للمجلس»، وحدث أن انتخب سقراط بالاقتراع لكي يكون أحد أفراد مجلس الخمسمائة في ذلك العام، وكان فوق ذلك أحد أفراد المجلس الخمسيني لقبيلته الذين كانوا يقومون بالرياسة في ذلك الشهر، وتكلل بإكليل رسمي من الريحان، وكان يقضي كل يوم في قاعة المدينة حيث كان الأعضاء والرؤساء يعقدون اجتماعاتهم ويتناولون طعامهم، ولا بد أن تكون زانثب قد ارتأت في ذلك وفرا عظيما، بل كان يقضي الليالي هناك أحيانا، إذ كان من المفروض أن يكون بعض الرؤساء ميسورا دائما للحالات الطارئة.
وبعد التحقيق أمام مجلس الخمسمائة، جيء بالقادة الستة أمام المجلس، وهنا بدأت تثور الخواطر، وكان المتهم واحدا من قوادهم البحريين، سياسيا واسع الحيلة يدعى ثرامينس، كانوا قد أصدروا إليه أمرا - متأخرا جدا على الأرجح - لكي يبحر في مهمة الإنقاذ، واستطاع سقراط - الذي تمرس على ملاحظة دوافع الناس الحقيقية - أن يدرك لماذا كان ثرامينس عنيفا جدا في اتهامه القادة، فقد كان ثرامينس يرى أن التهمة سوف تلتصق بشخص معين لم يرد له أن تلصق به، وربما أدرك قوم آخرون كذلك أن ثرامينس قد تكون لديه دوافعه الشخصية، ومهما يكن من الأمر ، فما إن انتهت الخطب المطولة، ووصف الشهود العاصفة التي حالت دون الإنقاذ حتى بدأت الأكثرية تعتقد أن القادة ينبغي أن يبرءوا، غير أن الظلام قد احلولك في تلك اللحظة حتى أمسى من العسير أن يرى المرء أيدي الرجال مرفوعة للتصويت، فأشار أحدهم - ولم يلاحظ فرد منهم من هو على التحديد - بإعادة القضية إلى مجلس الخمسمائة لتوصي بما يتبع قبل انعقاد المجلس القادم، وكانت الأيام الثلاثة لعيد الأسرة مقبلة، ومن المنظور أن تبرد حرارة القضية عند عرضها مرة أخرى بعد عطلة العيد.
ولما توجه سقراط إلى منزله ذلك المساء سيرا على قدميه سره أن يجد المدينة هادئة بعد أن ثارت خواطرها نهارا، ولم يسمع سوى العويل هنا وهناك حيث كانت الأسر تعلن حزنها على ابن أو أخ ابتلعه اليم، وإذ هو يسير في المدينة انفتح أحد الأبواب وأطل منه رجلان ومعهما الغلام الذي يحمل الشعلة، واستودعا صديقا، حليقا، في ثياب الحزن السوداء، وقف كالظل خلف الباب، ثم أخذا طريقهما وانصرفا، وقد عرفهما كليهما سقراط، إذ كان أحدهما كالكسينس، عضو له نفوذه في مجلس الخمسمائة، والآخر ثرامينس.
وفي اليوم التالي وما بعده وما تلاه؛ كرر ثرامينس زياراته، وازداد في المدينة ظهور الثياب السوداء، وكان عيد الأسرة في العادة عيدا بهيجا في جملته، تقيم فيه العشائر ولائم العشاء، ويرحب فيه الناس بمن استجد من المواليد ومن بلغ سن الرشد في غضون العام، بيد أن عيد الأسرة هذا العام كان مختلفا، زعم الناس فيه أن أشباح الموتى - الذين لم تدفن جثتهم والذين قضي عليهم بالتجوال في عالم الظلام السفلي بغير راحة - ترفع الصوت مطالبة بالانتقام، ولما اجتمع مجلس الخمسمائة في الصباح الرابع ليستأنف النظر في قضية القواد الستة، احتشد خلف قضبان غرفة المجلس جمهور ساخط من المحزونين ذوي الثياب السوداء، ثم نهض كالكسينس للكلام.
واقترح كالكسينس قرارا غير شرعي، ذهل له سقراط عندئذ، واشتد ذهوله حينما عرض القرار على المجلس فيما بعد، قال كالكسينس متئدا: «لقد تعطلنا طويلا في هذا الموضوع التعس الذي يتعلق بالقواد الستة، إن بين أيدينا من الدلائل ما يكفي، والشعب الأثيني الثائر يطالبنا بالعمل، وإني لذلك أقترح أن يصوت المجلس فورا، ولنعد للتصويت وعاءين، يخصص أحدهما لمن يرون أنهم مذنبون، ويخصص الآخر لمن يرونهم غير مذنبين، وليبرأ القواد جميعا أو يدانوا معا بصوت واحد.»
وكان الجدل في مجلس الخمسمائة طويلا حارا رغم ضجيج الشعب المحتشد عند الباب، وطبقا للقانون الأثيني كان لكل امرئ الحق في أن يستدعي شهوده ويعرض قضيته كاملة، وكان له - قبل كل شيء - الحق في المحاكمة الفردية، وكان أحد القواد المقدمين للمحاكمة على ظهر إحدى السفن التي تحطمت، فكيف يمكن أن يعد مسئولا مثل الآخرين؟!
غير أن كالكسينس أصر على موقفه، واشتد ضغط الجماهير على القضبان، وعزى كل عضو في المجلس نفسه بأنه فرد واحد بين عدد كبير، وإن هذا التصويت لم يكن على قرار وإنما كان على توصية بقرار، وكان سقراط وقليل آخرون من المعارضين لكالكسينس أقلية، فحولت القضية على المجلس بتوصية كالكسينس، وتحول معها الجمهور المجلل في الثياب السوداء.
وبدأ هذا اليوم في المجلس الأثيني - كما ارتآه سقراط من مكانه بجوار منصة الكلام - كالكابوس الذي لا يفوقه فزعا أي شيء عرف فيما مضى، وبدت وجوه أصدقائه وجيرانه الطيبين من تحته كأنها غريبة عنه، وحتى قبل البدء في الخطب بدا له كأن علة من علل النفوس قد أخذت تنتشر في صمت من الرجال ذوي الثياب السوداء المحتشدين حول درجات المنصة إلى الجماهير، وأخذ العضو المجاور له، الشيخ الطيب أرستوجينس الذي ينتمي إلى الجناح الآخر من الحراس، يعبث بعصاه في حالة عصبية، وقال: «إنهم لم يظهروا بهذا المظهر منذ سنوات، منذ الأيام السيئة التي أعقبت الهزيمة في صقلية، ويبدو أن اقتراح كالكسينس المضحك قد يعرض للتصويت فعلا، فماذا عسانا إذن فاعلين؟»
وطاف القوم بالخنزير الرضيع حول مكان الاجتماع في حفل التطهير التقليدي، وقيلت دعوات الافتتاح، وصبت اللعنة على أي فرد يعمل بما يخالف القوانين في هذا المجلس، وقرأ الرائد اقتراح كالكسينس، ووقف صديق من أصدقاء القادة يعلن بطلانه شرعا، وكاد القوم أن ينزلوه من فوق المنصة، واقترح خطيب شعبي «أن يتركوه يموت مع القادة، وأن يدينوهم جميعا دفعة واحدة!» وصاحت الجماهير بالتأييد.
وفي غضون ذلك اندفع صوب المنصة ملاح زعم أنه يحمل رسالة من رفاقه الموتى، وقال لهم: «لقد كنت أنا نفسي في غمرة المياه عدة ساعات بعد المعركة، ونجوت بتعلقي ببرميل دقيق، وعهد إلي صحابي بهذه الرسالة قبل أن يفارقوا الحياة، قالوا: «قل للأثينيين: إننا متنا بعد المعركة، بعد قتال خاطرنا فيه بكل شيء من أجلهم، وقد تركنا قادتنا للموت»، وكانت الدموع تنهمر على وجه الملاح، واستحال صياح الجماهير إلى زئير، وسواء كان القادة أبرياء أو مذنبين، لم يعد لهم بعد ذلك أمل.»
ولم يكن لسقراط مفر - وهو قريب من المنصة - من أن يسمع ويرى الخطأ الجسيم الذي كان القوم يسيرون فيه، وكان يعرف كل رجل في الحشد تقريبا، وكانوا في جملتهم قوما عطوفين مهذبين يحبون الأطفال، وأكثر من عدول في أكثر الأحيان حتى مع عبيدهم؛ لأنهم مهما عاد بعضهم بالذاكرة إلى الماضي لا يذكرون إلا أنهم كانوا يخوضون معركة من أجل مدينتهم، وأما الآن فهم في عماهم يشنون القتال على بلدهم وعلى أنفسهم وبنيهم، كانوا يحاولون أن يحطموا العقل والعدالة واحترام الأفراد الذي من أجله كافحت أثينا، والأمر الآن أكبر من موت ستة رجال أو حياتهم.
ومال سقراط على أرستوجنيز وقال: «سوف أرفض عرض الأمر في هذا الاجتماع، فهل تؤيدني؟ إنهم لا يستطيعون التصويت ما دمنا نرفضه.»
وابيض لون أرستوجنيز، وكان يفكر في ذلك من قبل، غير أن الفكرة كانت أكبر منه وصاح قائلا: «هل جننت يا سقراط؟! إن القواد سوف يموتون، وتموت معهم لو حاولت أن تتدخل.»
وقال سقراط في تؤدة: «إنني لا أفكر في القادة، وإنما أفكر في وجوه القوم تلك التي أشاهدها، لقد جن أكثرهم، والباقون في خوف شديد، أعتقد أننا جميعا سوف نموت ذات يوم، غير أن هذا الأمر يجب أن يقف عند حد، ونستطيع نحن على الأقل أن نذكر اليمين التي أقسمناها للاستمساك بالقانون، فهل تؤيدني؟»
فأجابه أرستوجنيز: «لست بطلا، وعندي زوجتي وأطفالي أفكر فيهم.» ولكن لما وقف سقراط، وقف كذلك أرستوجنيز.
ومن العسير أن نفهم ما حدث بعد ذلك، ونعلم أن سقراط عندما قدم احتجاجه كانت تحوطه جماعة صغيرة من الرؤساء، ولا بد أنهم أدركوا ما سوف يحدث، فقد شهدوا ما حدث لصديق القادة الذي حاول أن يتهم كالكسينس قبل ذلك، ومع ذلك فقد نهضوا ورفضوا أن يقدموا الاقتراح للشعب، ولا بد أن يكون ضغط الجماهير شديدا بعد ذلك؛ لأن هؤلاء الرجال الأمناء الشجعان تخلوا عن المعارضة واحدا بعد الآخر، وبقي سقراط وحده، وأصر أنه أقسم أن يطيع القوانين وأنه سوف يطيعها، وليس من شك في أنه قد اتضح بعد وقت قصير أنه كان يعني ما يقول، ومع ذلك فقد عاد سقراط إلى به وإلى زانثب ذلك المساء كعادته، ليس حيا لم يصبه أذى فحسب، لكنه كذلك من الأحرار.
وقدم الاقتراح بطبيعة الحال بالرغم من احتجاج سقراط، وتمت عملية التصويت، وتحقق لثرامينس وكالكسينس ما أرادا، وأوشك القادة أن يعدموا، غير أنه من العسير أن نتصور أن سقراط قد عاش، في حين أن كثيرا من الرجال الآخرين قد اعتقدوا أنه لم تكن له فرصة في الحياة، لولا أن حدث في الاجتماع شيء عجيب، وانقشع الكابوس وعاد للجماهير شيء من الإحساس باللياقة ولو لبرهة من الزمان، ولم ينقض بالتأكيد وقت طويل قبل أن يشعر الأثينيون بالخجل مما فعلوا.
وأوقعوا بكالكسينس العقوبة من أجل ذلك، في حين أنه كان من الأجدر بهم ألا يلوموا إلا أنفسهم، وليس من شك في أن موقف سقراط كان له أثره، وحتى بعد مضي زمن طويل لا بد أن يكون بعض من الأثينيين - وربما كانت قلة منهم، ولكن الفرد الواحد كان عند سقراط ذا قيمة كبرى - قد ذكروا ما شهدوه في ذلك اليوم وعلموه أبناءهم.
أما القصة الأخرى فلا تستغرق روايتها وقتا طويلا، لما انتهت الحرب بهزيمة أثينا واستسلامها، عاون القائد الأسبرطي ثرامينس على إقامة حكم دكتاتوري في المدينة، وحل ثرامينس وتسعة وثلاثون رجلا آخرون - يسمون الثلاثين - حلوا محل الجمعية في الحكم، وهم رجال معروفون بمودتهم لإسبرطة أو على الأقل بمعارضتهم للديمقراطية، ولما اتضح أن قوة الشرطة التي تخضع لهم وتسمى ب «الجلادين» لم تستطع أن تقمع المعارضة، أسلمهم القائد حامية من ستمائة جندي إسبرطي ليعسكروا فوق الأكروبول وينفذوا لهم ما يأمرون به.
وانقلب الجنود الإسبرطيون دمارا على «الثلاثين»: أولا لأنهم كانوا مكروهين من الجميع، وثانيا لأنه كان لا بد من دفع أجورهم، والوسيلة الهينة على «الثلاثين» للحصول على المال هي أن يأخذوه، ومن ثم فقد ساروا من سيئ إلى أسوأ: يقتلون أولا خصومهم السياسيين، ثم من قد ينقلبون عليهم خصوما سياسيين، وأخيرا أولئك الذين لا سياسة البتة لهم ولكنهم أثرياء، وكان من عادتهم أن يزجوا بالرجال الأمناء في مشاركتهم فيمن يلقون القبض عليهم لكي تمسهم الجريمة، ويلزموا بتأييد الثلاثين فيما بعد، وبطبيعة الحال سقط الثلاثون في النهاية وعادت الديمقراطية، بيد أنها لم تعد إلا بعد مقتل المئات من الرجال الأبرياء، وتحويل مئات آخرين يفوقونهم عددا إلى سفاكين قاتلين.
ولما بلغ الإرهاب ذروته، دعي سقراط مع أربعة رجال آخرين للمثول أمام الثلاثين وطلبوا إليه أن يقبض على رجل ما، وكان الثلاثون يجلسون كعادتهم في قاعة المدينة، حيث كانت مكاتبهم مجاورة لغرفة مجلس الخمسمائة، وقد أبقوا على هذا المجلس - مؤلفا من خاصة رجالهم - وحولوه إلى محكمة لمحاكمة الناس الذين يلقى القبض عليهم، إلا أنهم كانوا يحبون حضور هذه المحاكمات بأنفسهم حتى يتأكدوا أن أحدا منهم لا يبرأ، وقد مثل سقراط أمام الثلاثين مرة قبل هذه، وأمر أن يكف عن «تعليمه»، وهو أمر لم يفكر في طاعته؛ ولذا فلا بد أن يكون الشك قد ساوره هذه المرة، حينما دعاه الداعي، إن كان سوف يعود ذلك المساء إلى العشاء.
وكان سقراط يعرف بعض أفراد الثلاثين معرفة جيدة، عرف ثرامينس بطبيعة الحال في مشكلة القواد الستة، وكان أكثر معرفة بكرتياس ابن عم أم أفلاطون، الذي بدأ ينتزع الزعامة من ثرامينس الذي كان أكثر منه اعتدالا، وذلك كلما اشتدت الدكتاتورية عنفا، وكان كرتياس ينتمي إلى جماعة سقراط في وقت من الأوقات، منذ سنوات، وإن يكن من الجلي أن مهارة سقراط في الجدل هي التي اجتذبته ولم يجتذبه ما لديه من أفكار، وسر سقراط أن يرى أن أفلاطون لم يكن من بينهم، فإن كارميدس عم أفلاطون قد انضم إلى كرتياس، ولكن أفلاطون نفسه رفض ذلك.
وكانت الأوامر التي تلقاها سقراط والرجال الأربعة الآخرون من الثلاثين مماثلة للأوامر التي صدرت من قبل لكثيرين غيرهم من العاجزين، كان عليهم أن يهبطوا إلى الميناء ثم يعبروا البحر إلى جزيرة سلامس ليلقوا القبض على «الخائن» ليون ليحاكم أمام المجلس، وكان ليون رجلا غنيا، وإن كان الثلاثون لم يذكروا ذلك، ومما لا جدال فيه أنهم سيصمونه بالإثم، ثم ينفذون فيه الإعدام، وقد تم ذلك فعلا؛ لأن الرجال الأربعة الذين صدر إليهم الأمر بالتنفيذ اقتفوا أثر ليون وعادوا به إلى الثلاثين، وتوجه سقراط إلى بيته.
وقد حذر سقراط - كما حذر الآخرون - مما يحيق به لو أنه عصى الأمر، وكان هو وزانثب وأبناؤه يتوقعون وقع أقدام الحرس الإسبرطي عند الباب ساعة بعد أخرى، ولكنهم لم يحضروا لسبب من الأسباب، ولم ينقض وقت طويل بعد ذلك حتى أذهل ثرامينس الأثينيين جميعا بالمخاطرة بحياته في سبيل وقف أحكام الإعدام، ويعتقد زنفون - صديق سقراط الذي دون تاريخ هذه الفترة - أن موضوع ليون السلامسي كان في ذهن ثرامينس عندما قدم دفاعه أمام المجلس في نهاية الأمر، وفشل ثرامينس وقتله كرتياس، واستمر الإرهاب حتى قاتل الديمقراطيون المنفيون وشقوا طريقهم عائدين إلى المدينة.
غير أنه قد حدث بعد ذلك أمر عجيب مرة أخرى، وبقي سقراط دون مساس.
الفصل الحادي عشر
سقراط يتوجه إلى المحكمة
كان العام الأول من الأولمبياد الخامس والتسعين، وهو العام الذي سمي فيما بعد بعام ثلاثمائة وتسع وتسعين قبل ميلاد المسيح، وقد جاوز سقراط الآن عيد ميلاده السبعين، وعاش بعد عصر بركليز خلال الهزة المريعة: هزة الحرب مع إسبرطة وخلال الثورة والدكتاتورية، حتى كانت سنوات السلم الأولى من عهد الديمقراطية العائدة.
ولا يرى المرء في الظاهر كثيرا مما يذكره بالحرب وهو يتجول في أثينا في هذا العام، عام 399ق.م، فإن أربع سنوات من السفن المحملة بالحبوب والأسواق المترعة بالبضائع قد ملأت وجوه الناس، وإن أربع سنوات من السلام قد وارت خلفها ندوب قتال الشوارع في بيريس، حيث كان الديمقراطيون المنفيون يشقون طريقهم إلى المدينة بالقتال، وسلم قبل ذلك بعامين آخر حصن للثلاثين، وأضحت أثينا ديمقراطية مرة أخرى، وقد عين بها المحلفون بنزاهة وإخلاص، وعاد إليها مجلس السيادة، وأقسم المواطنون جميعا أن يحافظوا على السلام وينسوا الماضي، وكان أفلاطون الآن في الثامنة والعشرين من عمره، يتحرق شوقا إلى أمر يستحق أن يضحي في سبيله بحياته، فبدأ يفكر جديا في الزج بنفسه أخيرا في معمعان السياسة، وبدا له كأن المدينة قد نبذت حكم الرعاع والاستبداد، وأمست مكانا للرجال المهذبين مرة أخرى.
أما في حقيقة الأمر فإن الحرب الأهلية بطبيعة الحال لم تغب عن الذاكرة بهذه السرعة، ولم يكن أن يعود أي شيء حقا إلى ما كان عليه قبل الحرب، برغم أن كل امرئ تقريبا كان يود أن يحاول ذلك، فقد تشتت شمل الأسر، وطالب كثيرون باسترداد أملاكهم، أو بالانتقام لإخوة قتلوا أو أبناء، واستولت المرارة على النفوس، غير أن نصف المدينة قد شاطر الثلاثين في إثمهم، في حين أن النصف الآخر كان قد كابد النفي والحرمان، وإذا لم يستطع النصفان أن يعيشا معا فلن تكون هناك مدينة بعد زمن وجيز.
ولذا فإن الناس إن كانوا بحاجة إلى الشيء الكثير، فقد كانت خشيتهم أشد، وكان أكثر ما يخشون: أي أمر يعكر صفو السلام، وكان الوطنيون المخلصون المحافظون الذين تزعموا المدينة في السنوات الأولى بعد عودة الديمقراطية، متحدين مع أغلبية المواطنين في هذا، وقد عملوا من أجل السلام، وتحدثوا في أدب إلى الإسبرطيين، وتحملوا صابرين ضياع الإمبراطورية الأثينية، ودفعوا من خزينة هزيلة ما كانوا يدينون به لإسبرطة منذ عهد الثورة، وضحوا بمصالحهم الخاصة للاحتفاظ بالسلام في بلادهم ، وأثنت المدينة بأسرها على واحد منهم، هو أنيتس الوطني الغيور؛ لأنه رفض أن يسترد أملاكه التي بيعت خلال غيبته في المنفى.
وطلبت التضحية من الآخرين كذلك، وحكم المجلس الصغير بالإعدام على أول مواطن حنث في اليمين التي أقسمها لينسى أحزان الماضي، ونفذ فيه الحكم فورا، ولم يرض عن ذلك الكثيرون؛ لأن المحاكم والمجلس الكبير هما وحدهما اللذان يملكان حق الحكم بالإعدام، ولم يسمح بتكرار مثل هذا الحادث، ولكنه أظهر اتجاه النفوس، والتمس الشعراء الهزليون، مثل أرستوفان الناقد صديق سقراط، الذي كان يحب أن يناقش السياسة المعاصرة ويسخر من الساسة، التمسوا لمسرحياتهم موضوعات أخرى أشد من ذلك أمانا، ولم يعد النقد شعبيا في أثينا الآن، بل كان أمرا يتنافى مع الوطنية.
وواصل سقراط بطبيعة الحال عمله كالمعتاد، وكان دائما يريد مدينة نظامية، ويعتقد في طاعة القوانين، غير أنه لم يعتقد قط في كم أفواه الناس كي يبقى ظاهر الأمور مستقرا، وخلال سنوات عدة من العمل استطاع أن يرى حقيقة الخير كامنة في أغوار العقول، كما رأى أبوه من قبل رأس الأسد كامنا في الحجر، وقد ألف سقراط أن يشق السطح كي يبرز إلى النور ما يرى، شأنه في ذلك شأن النحات الماهر، وإذا كان الشق يزعج الناس في أول أمره، فقد اعتاد ذلك سقراط، إن الحق شائع بين الجميع، وبمجرد ظهوره تكون له قدرته الذاتية على فرض السلام والوفاق، وإذن فليستأنف بحثه عن الحق.
وربما لم يتنبأ سقراط بأية متاعب جدية، ولو أنه ما كان ليعيرها اهتماما لو تنبأ بها، وربما لم يساور الشك أقريطون ذاته، فلقد استطاع أن يتغلب هو وسقراط في كثير من أوقات العنف والشدة، وأثينا اليوم مدينة مسالمة تحترم القانون.
وهمس الناس ذات يوم بأمر، وتحول الهمس إلى نبأ يتنقل، ثم شاع النبأ في لحظة في جميع أرجاء المدينة؛ ذلك أن سقراط قد دعي للمحكمة لكي يحكم عليه بالموت.
ولو استبعدنا الشائعات؛ ألفينا الحقيقة كما يلي: لقد اتهم سقراط بأنه لا يعتقد في الآلهة التي تؤمن بها المدينة، ولكنه يعتقد في مقدسات أخرى، وأنه يفسد الشباب، ولا يعني هذا شيئا على وجه الدقة، ولكنه يمكن أن يحور فيعني أي شيء تقريبا لو تناوله خطيب ماهر، وكان ملتس هو المتهم الرسمي، وهو شاب لم يعرفه أحد حق المعرفة، برغم أنه قد رفع الدعوى من قبل هذا العام على رجل آخر متهما إياه بالزندقة، ورافقه في المحكمة مساعدان رسميان ذوا أهمية أكبر ذلكما هما ليكون الخطيب، ثم أنيتس السياسي، أنيتس الوطني النزيه، الذي كان مجرد ذكر اسمه بين المدعين سببا في إضعاف الفرصة أمام سقراط.
وكان مفروضا أن تعرض القضية خلال الشهر أمام إحدى المحاكم الكبرى التي تتألف من واحد وخمسمائة عضوا، ولكن لم يعرف أحد على وجه التحديد من هم الأعضاء حتى يحل يوم المحاكمة، وبمجرد بلوغ القضية ساحة المحكمة لا بد أن يقضي فيها في يوم واحد، والأغلبية - حتى لو كانت بفرد واحد - تكفي لإدانة سقراط والحكم عليه بالنفي أو بالموت أيا كانت العقوبة التي تحددها المحكمة، وإن كان ملتس لا بد أن يطلب عقوبة الموت، وكان أمام سقراط يوم واحد، وأقل من يوم بكثير، ثم ساعات قلائل بحساب الساعة المائية في المحكمة، لكي يبرهن لما لا يقل عن مائتي وخمسين من زملائه المواطنين على صحة حياته كلها.
وكانت القضية التي تعرض أمام المحكمة دائما مجالا طيبا للغو واللغط في أثينا، ولو استمعت إلى الأحاديث في السوق لوجدت اسم سقراط في كل مكان وإن لم يحضر بشخصه في ذلك الصباح.
يقول الرجل عند لوحات سوق السمك: «لست أعرف رأيك، ولكني كنت أنتظر أمرا كهذا منذ سنوات، ولقد أصاب أنيتس كبد الحقيقة، وليس هناك مدينة من المدن تستطيع أن تجعل شبابها ينقدون آباءهم، وكان ينبغي لنا أن نتعلم الدرس عندما رأينا ما صار إليه ألقبيادس دون أن ننتظر كرتياس وصحبه، إن هذا الرجل سقراط رجل خطر، إنه لا يمكن أن يبقى في إسبرطة أسبوعين اثنين.»
ويقول آخر عند دكان القصاب: «كلا، لم أكن هناك لما وقع هذا الأمر بطبيعة الحال، ولكنهم يقولون إن ابن أنيتس قد أصابه شيء من أسباب التعب، إنه لم يرد أن يلتحق بعمل أبيه في الصباغة - كما فهمت - وقد أبلغ سقراط أنيتس بذلك، فسقط المقبض من يد الشيخ، وقال: إن ابنه من شأنه، وعليه أن يصدع بما يؤمر به أو شيئا من هذا القبيل، ومهما يكن من شيء، فإن الفتى قد أدمن على الشراب من ذلك الحين، ويبدو أن أنيتس يعتقد أن وزر ذلك يقع على عاتق سقراط، وإن سألتني رأيي في هذا قلت: إن أنيتس قد يكون رجلا عظيما من رجال الدولة كما يقول الناس جميعا عنه ذلك، ولكني سعيد لأنه لم يكن أبي!»
وإن مررت إلى جوار مناضد رجال المال سمعت أحدهم يقول: «هل تحسب أن في قصة شجارهم مع ألقبيادس شيئا وهو في طريق عودته، لقد سمعت ...»
ويقول أحدهم عند بائعي الزيت: «ويقولون: إنه في السبعين من عمره، وله زوجة وثلاثة أطفال، كان بوسعهم أن يتركوا الشيخ آمنا، ثم إني تحدثت إليه ذات مرة، وكان يقف مكانك الآن تماما، ويتحدث في أمور بسيطة جدا، ولم يستخدم ألفاظا ضخمة كما كان يفعل السفسطائيون، ولم يتسع لنا الوقت في ذلك اليوم، إن الوقت لا يتسع لنا مطلقا، ولسوف أحضر محاكمته إذا أغلقت دكاني لأدركها.»
ويقول أحدهم وهو يسير جيئة وذهابا تحت قبة زيوس: «ماذا عسانا فاعلين يا أقريطون؟ لقد رأيت مسلكه حينما أردنا أن نأتي بثياب الحداد المألوفة لزانثب ولأطفاله كي يؤثروا بها على أعضاء المحكمة، وقد رفض أن يأخذ الحيطة كما تفعل عامة الناس، ثم لا تنس موضوع الخطاب الذي يلائم المقام، ربما كان مصيبا عندما رفض أن يحفظ الخطاب الذي أراد ليسياس أن يكتبه له، غير أني لم أره يعد لنفسه خطابا، ثم أرقب، سوف يهبط إلى الملعب كعادته بعد ظهر اليوم، وبعد غد، حتى تحين المحاكمة، وقد يضحي بنفسه من أجل هؤلاء الشباب، وهم لا يستحقون خنصره، بل إنا جميعا لا نستحقه ... آه يا أقريطون، ماذا عسانا فاعلين؟»
ويقول آخر عند بيت أنيتس الوطني: «استمع إلي يا ليكون: لا بد لنا أن نتجنب الخطأ في القضية، وخير لنا أن نتخلى عنها بتاتا من أن نلفقها ونخلق من الرجل بطلا، ولا تعتمد كذلك كثيرا على مليتس، فلو أن سقراط ساجله السؤال؛ لقلبه رأسا على عقب في لحظة واحدة.» «أليس توجيه السؤال من المتهم فيه شيء مما لم يألفه الناس يا أنيتس؟» «قد يكون الأمر كذلك، ولكن تلك طريقة سقراط، وسوف يلجأ إليها، إنك لا تعرف صلابة الرجل، ومع ذلك فإن هذه الطريقة عينها هي التي سوف تؤلبهم عليه، لو قمنا نحن بواجبنا، لندفعه قليلا بقولنا بأن الأغلبية في ديمقراطيتنا تعرف بالطبع خير المعرفة، ولو أنها خطأت تعاليمه فثق بأنه سوف يوافق على «ضرورة» خطئها، ثم ... أجل ... لقد قصدت أن أذكرك يا ليكون، لا تذكر بالاسم بطبيعة الحال ألقبيادس أو كرتياس، أو أية تهمة يرجع تاريخها إلى ما قبل سقوط الثلاثين، فأنت تعرف أن ذلك هو القانون.» «ولكن ألقبيادس وكرتياس أقوى ما لدينا من نقاط يا أنيتس، لا أظنك تعني ...» «آسف يا ليكون، إذ لا بد لي أن ألح في ذلك، اذكر بالتلميح ما شئت طبعا، ولكن هذا القانون قانون حسن، وهو أملنا الوحيد في تماسك المدينة بضع سنوات، إن اعتراضنا على رجل يحب أن يعكر صفو الأمن في المدينة لا يبرر أن نعكر صفوه نحن بأنفسنا، دعه يسق نفسه إلى المشنقة بكبريائه، ثم هل سمعت حديث الناس في السوق فوق ذلك؟ إن القوم يفكرون بالفعل في ألقبيادس وليسوا في حاجة إلى التذكير.»
هكذا كان الناس الطيبون في أثينا يتحدثون ويأملون ويخشون ويتعجبون ويرسمون الخطط، بعضهم بنية سيئة وبعضهم بنية طيبة، ولكن قليلا منهم من كان واسع الإدراك، ولما عاد سقراط من سماع القضية المبدئي، توجه إلى الملعب كعادته، ولما سأله أحدهم متى يعد خطابه الذي سوف يلقيه في المحاكمة، أجاب بقوله: «لقد كنت في سبيل إعداده طوال حياتي كلها.» فماذا يستطيع أي امرئ أن يقول بعد هذا ؟
وأشرق صباح يوم المحاكمة كما يشرق أي صباح، واجتمع أقريطون وابنه كريتوبيولس وأفلاطون وبقية هذه الزمرة مبكرين في البيت؛ لكي يصحبوا سقراط إلى المحكمة، ووجدوه في طبيعته المرحة المألوفة، أما زانثب التي بدت عليها قلة النوم فقد زعمت أنه قد طاب نوما، وتبادلوا الحديث وحاولوا المزاح الذي كان أيسر على نفسه منه على أصدقائه، ولحظ أقريطون أنه لزم الصمت قليلا وهو يخطو خارج البيت، ثم لزمه كذلك وهو في الطريق، كأنه يصغي إلى شيء لا يسمعه، ثم ابتسم تلك الابتسامة العريضة التي أحبوها بالألفة، والتي جعلتهم يتألمون في دخيلة أنفسهم ذلك الصباح، ودخلوا المحكمة سويا.
وكان المحلفون الآن في طريقهم إلى المحكمة، وهم أولئك المواطنون الأثينيون الذين يبلغ عددهم واحدا وخمسمائة منتخبين بالاقتراع ليمثلوا المدينة، يتدافعون لكي يحصلوا على شاراتهم من الحاجب، ويحاورون لكي يظفروا بخير المقاعد الأمامية، وكان القاضي الملك أركون على منصته، والمتفرجون - بعضهم متحمس وبعضهم يتطلع فحسب - يتزاحمون حتى قضبان ساحة المحكمة.
وافتتحت إجراءات المحكمة بطنين الصلاة المألوف، وبإعلان الملك أركون القضية إعلانا رسميا، ثم استدعى المنادي المتهمين والمتهم لكي يتقدموا، وقال أقريطون: «ابذل من جهدك ما تستطيع يا سقراط من أجل أصدقائك.» وأخجله أن يكون وجله في الواقع من خسارته الشخصية، ولكن تلك كانت الحقيقة.
وبدأ المتهمون بالكلام، وربما أخلصوا في كلامهم طبقا لمعتقداتهم ومقاييسهم، إلا أنهم لم يذكروا الحق، وأحس سقراط - وهو جالس على منصته ينتظر دوره - أنه لم يمس بما قيل، كانوا يتكلمون عن رجل آخر، رجل يحب الفوضى، رجل ليس لديه أساس لنفسه، ويحطم أسس الآخرين، هل يمكنهم حقا أن يعتقدوا فيما يقولون؟
وبرغم هذا، فإن سقراط في إصغائه إلى روح الخوف التي تكمن وراء الألفاظ أكثر من إصغائه إلى الألفاظ ذاتها، لا بد أن يكون قد فكر في عدة أمور، وأدرك عدة أمور، ربما لم يدركها بمثل هذا الوضوح من قبل، فقد أدرك الآن على الأقل - إن لم يدرك من قبل - ما يقصد بهذه المحاكمة حقا.
واهتم بما كان يخشاه هؤلاء الرجال ، وبالدافع إلى خشيتهم، لقد كانوا يخشون الخير، لم يكونوا على سوء، ولكن الحياة - كما مارسها سقراط - كانت شديدة الحيوية بالنسبة إليهم، والحق الذي نادى به كان قوي الإرغام عليهم، لقد أحبوا ألوان الخير اليسيرة التي كانت بحوزتهم: الأمن والدعة ومألوف الوسائل، وكانوا يخشون أن يفقدوها يا لهم من حمقى مساكين! لقد أراد سقراط أن يقول لهم: ألا تستطيعون أن تدركوا أنه ليس هناك خيار بين ألوان الخير اليسير والخير الكبير، إن هذا الخير هو مصدر كل شيء.
بيد أن سقراط قد فكر في أن يكون الخيار في ذلك اليوم إن كان هناك خيار، هذا هو السبب الذي من أجله ساقني الله إلى هذا المكان، ليكن هناك خيار حق في هذه المحكمة، لا بين أنيتس وسقراط - فماذا يهم ذلك؟ - ولكن بين المبدأ والعقيدة الواعية من ناحية والخوف والجمود الجاهل من ناحية أخرى، وليكن لأنيتس الخيار وكذلك لمليتس وليكون وأعضاء المحكمة ورجال أثينا جميعا، وفكر سقراط - وهو ينهض للكلام - أن الله ما دام قد أراد ذلك فليبدأ به الخيار.
وعلينا أن نستخرج مما ذكر سقراط فيما بعد ما كان يفكر فيه، ونستطيع أن نعرف ما ذكر؛ لأن أفلاطون كان ماثلا في المحكمة، مائلا إلى الأمام في ثبات لكيلا تفوته كلمة، ولديه ما يبرر تذكره كذلك؛ لأن ما سمع وما أحس ذلك اليوم سيغير حياته كلها ويجعل منه فيلسوفا بدلا من رجل سياسي.
ولذا فقد تذكر أفلاطون خطاب سقراط ودونه على ورق البردي في دقة وعناية، بينما كان أولئك الآخرون الذين استمعوا إليه لا يزالون على قيد الحياة، ولا يزالون يذكرون، وقد أطلق على هذا «دفاع سقراط»؛ لأن «دفاع» تعريب لكلمة يونانية طيبة معناها «خطاب للتبرير»، وإذا كان سقراط قد ألقى الخطاب كما دونه أفلاطون، إذن لقد كان أعجب دفاع سمع في ساحة القضاء.
الفصل الثاني عشر
الدفاع
بدأ سقراط دفاعه قائلا: «يا رجال أثينا»، فسرت في المحكمة أول هزة طفيفة، لماذا لم يقل كالمعتاد: «سادتي أعضاء المحكمة»، هل نسي الرجل أنه أمام المحاكمة؟ «يا رجال أثينا ، لست أعرف كيف أحسستم حينما كان متهمي يتكلمون، لقد كانوا يبعثون على الإقناع، وأوشكوا أن ينسوا من أي طراز من الرجال أكون.»
وكانت تلك فكاهة بطبيعة الحال، وقد استمتع بها ولم يره أصحابه من قبل أشد ارتياحا.
وأضاف إلى ذلك جادا، وقد صوب نظره نحو أنيتس وملتس وليكون على المنصة المقابلة، أضاف قائلا: «ومع ذلك فإنهم لم يكادوا يتفوهون بكلمة واحدة من الحق.»
وأسند الملك أركون ظهره إلى مقعدة مستقرا، وكان الكاتب والمنادي كل منهما في مكانه، وأدار حفظة الوقت الساعة المائية، واستتب النظام في كل شيء، وكان جدول أعمال المحكمة في ذلك الحين مشحونا، إذ كانت تقدم إلى المحكمة قضية كل يوم من أيام العمل في العام تقريبا، وظن الناس أن هذه القضية سوف تكون كغيرها من القضايا، ولم يعلموا أن طريقة سقراط في الحق سوف تقلب الأمور رأسا على عقب، ومع ذلك فإن ظاهر خطابه لم ينم عن أي انقلاب، وإذا كان سقراط لم يعده هذا الإعداد من قبل، فإن الله كان الآن يصوغه في أدق تنسيق وأجمله، وكانت الألفاظ من البساطة بحيث يدركها الطفل كما يدركها الرجل الحكيم.
قال سقراط للناس: «لا تدهشوا ولا تقاطعوا، إذا كنتم تسمعونني أصوغ دفاعي في الألفاظ ذاتها التي ألفت استخدامها في السوق إلى جانب مناضد رجال المال، حيث أصغى إلي الكثيرون منكم، أو في مكان آخر، لا تأبهوا لأسلوب حديثي، فإنه يمكن أن يسوء عن ذلك أو أن يتحسن، ولكن وجهوا التفاتكم إلى شيء واحد فقط، وهو: هل ما أقول حق؟ لأن الخير عند القاضي هو في التفاته إلى ما هو حق، كما أن الخير عند المتكلم هو في ذكر الحق.»
وكان هناك الكثير مما يجب أداؤه في هذا الخطاب، ولكن الوقت قصير للأداء، كان على سقراط أولا أن يمهد السبيل، عليه أن يقتلع الأهواء القديمة والنكات العتيقة من مسرحية قديمة لأرستوفان مثلا، واللغط الدائر الذي لا يمكن استئصاله، وهو من أجل ذلك أشد خطرا، وبعض الناس في هذه المحكمة كانوا لا يزالون يعتقدون أن سقراط «عالم بغير إله» مثل أنكسجوراس، بل إن ملتس - الذي كان ينبغي أن يكون أكثر من ذلك علما - كان يحب أن يصمه بوصمة «الملحد» وبالنظريات القديمة المفزعة عن الشمس والقمر، وبعض الناس حسبوه معلما سفسطائيا، يدرب تلاميذه على أن يجعلوا الخطأ يبدو كالصواب. «وإذن، فإذا لم تكن عالما ولا سفسطائيا فما عملك يا سقراط؟ وفيم الارتياب في أمرك؟» ولذا فقد كان لا بد من رواية القصة القديمة عن كاهنة شيرفون، والرسالة التي صدرت عنها وسؤال الخبراء، وما أحس به حكماء الرجال من ضيق عندما أدركوا أنهم حمقى، إن الحق كان مزعجا، وكانت تلك هي المشكلة الحقيقية، ذلك ما كان يستتر تحت الأهواء القديمة وتهم ملتس الجديدة، وكان ملتس أحمق جاهلا، وقد رد عليه سقراط بالسؤال لكي يظهر فيه ذلك، ولكن كثيرين آخرين شاركوه أساس حماقته.
وقال سقراط في هدوء: «إن ما سوف يحطمني في النهاية - إن تحطمت - لن يكون ملتس أو أنيتس، ولكن حديث العالم السيئ وشعوره السيئ، الذي كان سببا في هدم كثير من الرجال الطيبين الآخرين فيما مضى، أجل وسوف يكون سببا في المستقبل كذلك فيما أحسب، ولن يكون الأمر معي على خلاف ذلك.»
وتمتم الناس عند ذلك، وقال أحد القضاة لجاره وهو غاضب: «استمع إلى هذا الحبيس الذي يمثل دور القاضي! فإذا كنا نحن الخمسمائة جميعا ندينه بالجريمة، ويموت كما يموت المجرم، فإنه يبقى مع ذلك «رجلا خيرا»، أليس كذلك؟ أية مادة هذه التي يعلمها الشباب في ديمقراطيتنا! إني أعرف من أية ناحية أعطي صوتي.»
وربما طرقت التمتمة أذني سقراط، وربما لم تطرقها.
ولكنه واصل حديثه رافعا صوته قليلا حتى أمكن سماعه بسهولة برغم ضجيج الجمهور، وقال: «ربما قال أحدكم: ألم تخجل يا سقراط لأنك ارتكبت أمرا أدى بك الآن إلى خطر الموت؟» وإني أقدم عن هذا إجابة مخلصة لأي امرئ يتوجه بهذا السؤال فأقول: «إنك تخطئ يا صاح إذا حسبت أن المرء يجب عليه أن يوازن بين فرص موته وفرص حياته، وأقصد المرء الذي له أي قدر، هل تظن أن أخيل أقام للموت والمخاطر وزنا؟» كلا، يا رجال أثينا، إنما الحقيقة في ضوء الحق هي هذه، حيثما يتخذ المرء مكانا - إما لأنه ارتآه بنفسه خير الأمكنة، أو لأنه وضع فيه بأمر رجل من رجال الحكم - فإني أعتقد أنه ينبغي له ألا يبرحه، وعليه أن يجابه المخاطر التي تعترضه، وينبغي له ألا يسمح للموت أو لأي شيء آخر أن يرجح الخجل وزنا. «إني كجندي يا رجال أثينا وقفت حيث أوقفني رؤسائي من الضباط، أولئك الضباط الذين اخترتموهم لكي يكون لهم علي سلطان، وقفت عند بوتديا وعند أمفيبوليس ودليم كما يقف أي إنسان، وعرضت لي فرصة الموت، أما الآن فإن الله هو الذي يوقفني، ذلك ما أعتقده وما أفهمه، إنه الإله الذي يأمرني أن أكرس حياتي لممارسة الفلسفة بالبحث في نفسي وفي غيري، وإني لأرتكب أمرا إدا يا رجال أثينا لو أني تخليت عن هذا الواجب خشية الموت أو أي شيء آخر، إن ذلك يكون أمرا مريعا، لو فعلته جاز لكم أن تتهموني بعدم الاعتقاد في الآلهة.»
وحتى أصدقاء سقراط الذين أحبوه لم يروه مثل ذلك قبل اليوم، وكانوا يفكرون بينهم وبين أنفسهم «بأنه على حق، وإنهم لم يفهموه، لقد كان طوال حياته يستعد لذلك، ولقد نما وأصبح أكبر مما عرفناه.»
وكان أمرا جليلا - وحتى أنيتس ربما أحس ذلك إلى حد ما - وكان كذلك أمرا يدعو إلى الاضطراب أن يؤتى بصغار الرجال ليواجهوا هذه الضخامة وجها لوجه، وكلما استمر سقراط في حديثه، استطاع أصدقاؤه أن يحسوا هزة المعارضة تعلو، تلك المعارضة التي أحسوها في أنفسهم بعض الأحيان قبل أن يتعلموا النظر إلى الأشياء بطريقته وأسلوبه، ولم يكن من الهين أن يرغم المرء باللفظ وبالمثل ضد مقياس لا يلين، على أن يخضع للحكم كل أفكاره وأعماله.
وكان سقراط يفعل ذلك الآن، لا متريثا بالسؤال والجواب كما قام لهم بذلك من قبل، مشاركا إياهم تقدمهم، ومتقهقرا عند ما لا يكونون مستعدين لمتابعته ، إن الوقت لا يتسع لتيسير الأمر على الناس في هذه المحكمة اليوم، وقد تكون هذه المرة آخر فرصة تسنح له لكي يخاطب الأثينيين، وكان عليه أن يقول في جرأة ما كان ينمو في نفسه طوال حياته كلها، ويأمل أن يفهم بعضهم مرماه.
ولذا فإنه لم يذكر لأعضاء المحكمة الأمور السارة التي توقعوا أن يستمعوا إليها تصدر من سجين في قبضتهم، وإنما ذكر لهم الحق الذي ظن أن لا بد لهم أن يعرفوه، ذكر لهم لماذا لم يقبل أن يأتي بأسرته تشفع له، ولديه زانثب وطفلها يبكون ويتوسلون إلى المحكمة أن تخلي سبيله، فتلك كانت التقاليد؛ لأن ذلك يعطي المحكمين إحساسا بالنفوذ وعمل الخير، ولكن سقراط لم يقبل على نفسه ذلك، ووضع الأسباب وذكر المحكمين بهذا القول: «إن القاضي قد أقسم ألا يقدم الفضل كما يشاء له الهوى، بل أن يقيم العدالة طبقا للقانون، ولا ينبغي لنا أن نعودكم الحنث في يمينكم، ولا ينبغي لكم أن تسمحوا لأنفسكم بالانزلاق في هذه العادة.»
وأنبهم كذلك على انعدام المبادئ في الحياة السياسية في مدينتهم، مرددا قصة القواد الستة - القصة التي كانوا يمقتون ذكراها - وقال لهم: إنه من الخطر على المرء أن يقف في معارضة نزيهة سواء تحت الحكم الديمقراطي أو تحت دكتاتورية الثلاثين. «إن الرجل المخلص لا يكاد يستطيع أن يخدمكم في وظيفة عامة مع بقائه حيا!»
ولذا فقد قام برسالة خاصة لكي يعينهم «وتلك أكبر نعمة حبت بها الآلهة هذه المدينة» كما قال، وحتى لو وعدوا أن يخلوا سبيله مقابل التزامه الصمت لرفض أن يلزمه.
وقال في جد مجيبا عن السؤال الذي عرف أنه يتردد في فؤادهم: «يا رجال أثينا، إني صديقكم، وإني أحبكم، ولكني برغم هذا سأطيع الآلهة بدلا من أن أطيعكم، ما دام في صدري نفس يتردد وفي قلبي قوة فلن أكف عن ممارسة الفلسفة، وسوف أشجع كل رجل ألاقي وأوجهه إلى الحقيقة، وسوف أسأله وأختبره وأفحصه، ولو وجدت أنه لا يملك الخير، وإنما يزعم أنه يملكه وحسب، لمته على ذلك، وسوف أقول له : إنه يقدر بأبخس الأثمان أجل الأمور، وبأعلى الأثمان ما هو أقل منها قيمة، وإذن أيها الأثينيون فإنه سواء لدي أن تطلقوا سراحي أو لا تطلقوه، ولكن أيا ما تفعلون، فلتفعلوه وأنتم تعلمون أني لن أغير مسلكي، حتى لو حكمتم علي بالموت عدة مرات!»
وإن المرء ليكاد يعتقد أنه أراد أن يدان، وقد ظن ذلك بعض من سمع بالخطاب فيما بعد، وقد كان رجلا عجوزا، وربما مل الحياة، ولكن صوته لم ينم عن تعب أو ملل، وكان يدافع عن حياته بأسلوبه الأمين المثير.
قال لهم: «إن أنيتس لا يستطيع إيذائي، ولست أظن أنه يسمح لرجل أفضل أن يؤذى من رجل أسوأ. (ربما استطاع أن يقتل الرجل الخير أو أن ينفيه، وقد يحسب أن القتل والنفي من الشرور الكبرى، ولكني لا أعتقد ذلك، إنما أعظم من ذلك شرا أن يفعل مثلما يفعل الآن)؛ ولذا فإني لا أدافع من أجل نفسي، وإنما أدافع من أجلكم»، ثم قص القصة التي ظلت تروى عنه فيما بعد دائما، وإنها لنكتة - كما سماها - ولكنها صادقة: قصة الجواد العظيم النبيل الكسول الذي يسمى أثينا، والذبابة التي تلدغ: وهي سقراط، الذي أرسله الله لكي تبقى أثينا متيقظة، وليس من شك في أن الأثينيين كانوا ساخطين على الذبابة، كما يسخط النيام حين يوقظون، وظنوا أنهم يستطيعون سحقها بضربة واحدة، ثم يغطون في النوم إلى الأبد، بيد أنه حذرهم قائلا: «خير لكم أن تستبقوني، فلن يتيسر لكم أن تجدوا رجلا آخر مثلي!»
وكانت تلك بالتأكيد نكتة كبرى، ولا أعني الجواد والذبابة فحسب، وإنما أعني الموقف بأسره، وكان ألقبيادس يدرك هذا اللون من فكاهة سقراط الذي يسبب الاضطراب أكثر مما يدركه أكثر الناس، وربما كان يقول في ذلك: «إن سقراط وصدقه قد قلب هذه المحاكمة رأسا على عقب، إنه وصدقه قد اكتسح هذه المحكمة، وإنه يرغم القضاء على أن يقاضوا أنفسهم، إن السجين هو السيد في هذه المحكمة؛ لأنه يعرف خيرا أسمى، ولأنه لا يخاف، قد يقتلونه الآن - وكثيرا ما تمنيت موته - غير أن هذا نوع من الأذى لا يعترف به، ولو فعلوا فإن روحه لن تريحهم، فأنا نفسي لم أجد الراحة قط.»
وأخيرا، ناشد سقراط الإله والمحكمة في هدوء أن يحكموا بما هو خير لنا كلينا، وانتهى بذلك فجأة الخطاب الذي جاوز حدود المعقول، وجلس سقراط وعاد مرة أخرى الاضطراب والتمتمة التي كان قد كبتها من قبل، وأعلن المنادي أن القضية معروضة للتصويت.
واستمرت إجراءات المحكمة المألوفة، وأعدت أوعية التصويت، وتسلل الواحد والخمسمائة الرجل من المحكمين في أناة مارين بها للإدلاء بأصواتهم، ونقلت الأوعية إلى مناضد العد، هل هو مذنب أو غير مذنب؟ ستعرف النتيجة بعد لحظات ولن يكون بعدها استئناف، إنما العقوبة فقط هي التي يمكن تعديلها، وقد طلب الادعاء عقوبة الموت، ولكن المحكمة قد تقبل النفي لو اقترحه سقراط، وربما كان أنيتس لا يزال يأمل أن يقترح سقراط ذلك.
وهنا جاء المنادي، وقد صدر قرار المحكمة بأغلبية صغيرة فإن ثلاثين صوتا في الجانب الآخر كانت تقلب القرار، وسجل كاتب المحكمة حكمها، ومس المنادي سقراط بعصاه، إشارة إلى أنه وجد مذنبا.
وكان أصحابه يتوقعون هذا، ومع ذلك فقد كان وقعه شديدا عند إعلانه، وحتى في الصفوف البعيدة من المحتشدين، حيث كان يقف عامة المستمعين، كنت تستطيع أن تحس موجة العاطفة تعلو وترتفع، وقد انهمر باكيا ذلك الرجل الصغير الذي جاء من سوق الزيت.
ونهض سقراط، وأخذ يتحدث مرة أخرى - طبقا لقواعد المحكمة - حديثه عن العقوبة.
لم يدهش سقراط لنتيجة التصويت - كما قال لهم - إلا لأنها كانت جد متقاربة، أما الآن وقد جاء دوره لأن يقترح العقوبة التي يراها عادلة، وما دام لم يقدم إساءة، وإنما كان في الواقع يفعل الخير للمدينة، فلا بد له أن يطلب جزاء فاعل الخير: «قدموا لي الطعام بغير مقابل ما دمت حيا في ملجأ المدينة» قال ذلك جادا وإن كان المزاح قد بدا على وجهه: «إنكم بذلك تكافئون الظافرين في أولمبيا، وقد فعلت أكثر جدا من أن أفوز لكم في سباق ، ثم إني - فوق ذلك - رجل فقير في حاجة إلى معونتكم كي أواصل عوني لكم.»
وقد جعلت هذه الكلمات موته أكيدا - وعرف ذلك أصدقاؤه كما عرفه هو نفسه - وصوب نظره نحو وجوههم حينما علا ضجيج الغضب من جانب المحكمين، ثم كف عن المزاح، وقد عرف أنهم كانوا يريدونه أن يقترح النفي، وأنه لو اقترحه، والأصوات ضده أغلبية ضعيفة، لكان الأرجح أن ينقذه هذا الاقتراح، بل إنه من الجائز أن ينقذه الآن.
ثم سأل المحكمة قائلا: «ولكني إن كنت لا أستطيع أن أقول الحق في مدينتي الخاصة أثينا، فكيف يسمحون لي بقوله في أي مكان آخر، وأنا لا أستطيع أن ألزم الصمت؛ لأن الله قد أمرني أن أتكلم، وإن كنت أعرف أنكم لا تؤمنون بذلك، وإذا قلت: إن الواقع أن أعظم خير يصيب الإنسان هو أن يتحدث كل يوم عن الخير، وعن الأمور الأخرى التي سمعتموني أناقشها، باحثا في نفسي وفي غيري، لو قلت: إن الحياة التي لم تبحث لا تستحق أن يعيشها إنسان، لو قلت ذلك لكان إيمانكم به أقل، ولكن الحق هو ما أقول يا رجال أثينا.»
والآن في الختام اقترح عليهم بغتة ما يمكن أن يسموه عقوبة - غرامة يسيرة - تساوي أربعة جنيهات، شيئا يثير فيهم السخرية والضحك، ولكنه كل ما يستطيع أن يدفعه، وأعاد عليهم قوله بأنه لا يستطيع أن يتقدم بعقوبة تؤذيه، ولكن تقديم المال لا يعود عليه بالأذى، ولما ضاعف أصحابه المبلغ ثلاثين مثلا، وهب أقريطون وكريتوبيولس وأبولودورس وأفلاطون صائحين بأنهم يتعهدون بدفع كل ما يستطيعون من جيوبهم الخاصة؛ قابلهم بابتسامة وقبل الهبة منهم، وقال للمحكمة: «إن أصحابي سيدفعون المال، ويمكن لكم أن تثقوا فيهم.»
ولم يبد عجيبا لمن عرفوه أن تخصص بقية الخطاب للحق، في حين أن نهايته كانت لأصحابه.
ولم تحدث بعد ذلك أمور كثيرة، ثم كان التصويت يتبعه الحكم كما توقعه كل إنسان الآن، وحكم على سقراط بالموت، وكان ينبغي أن يبعد توا، ولكنه - بسبب تأجيل لم يكن في الحسبان - وجد فرصة من الوقت يلقي فيها على المحكمة كلمة أخيرة.
قال للرجال الذين أدانوه: «لا تحسبوا أني زللت لأني لم أجد من اللفظ ما يقنعكم؛ لأن المرء حينما يحيق به أي لون من ألوان الخطر يستطيع أن يلتمس كثيرا من الحيل التي تنجيه من الموت، ولكن الأمر الذي يشق على المرء ليس فراره من الموت، وإنما أشق منه أن تفر من فعل السوء.» «إن الموت بطيء، وقد لحق بي، وأنا شيخ مسن بطيء، أما الشر فسريع، وقد لحق بكم برغم مهارتكم، لا بد لي أن أعاني حكمي، ولكن لا بد لكم كذلك أن تعانوا حكمكم.»
ثم توجه بالعزاء لأصدقائه الذين أرادوا نجاته، وأخذ طيلة النهار يقول لهم: إنه كان يتأهب لشارة التحذير من الآلهة، ولكنها لم تنزل؛ ولذا فقد كان من الخير له أن يتوجه إلى المحكمة، ومن الخير له أن يذكر لهم ما ذكر، سوف تكون النتيجة خيرا كذلك، فإما أن يكون الموت نوما فحسب، أو يستطيع أن يؤدي عمله هناك كما يؤديه هنا.
وأكد لهم «أن هناك أمرا واحدا يجب عليهم أن يدركوا صدقه بقلوبهم، إنه لا يوجد للرجل الخير شر، حيا كان أو ميتا، فإن الآلهة لا تهمل له أمرا.»
وكان عليهم أن يذكروا ذلك بعد لحظات عندما جاء ضباط السجن ليبعدوه.
الفصل الثالث عشر
أقريطون يروي النهاية
أنا أقريطون صديق سقراط سأروي لكم نهاية قصته:
إننا نحن الأثينيين نبعث كل ربيع بسفينة تحمل رسالة إلى ديلوس، تلك الجزيرة الصغيرة التي ولد فيها الإله أبولو، ونحن نفعل ذلك احتفالا بذكرى نجاتنا من خطر عظيم، وذلك حينما تمكن بطلنا ثيسيس - بمعونة الإله - من قتل مينوتور الكريتي صاحب الثور، الذي كان يفرض علينا ضحية من شبابنا كل عام، وهذه البعثة التي كنا نرسلها كل ربيع هي فرصة للتطهر في المدينة، وما دامت السفينة غائبة - وكثيرا ما كانت الرياح المضادة تطيل غيابها برغم قصر رحلتها - كان لا يجوز أن ينفذ حكم الموت في سجين من سجناء الدولة، ومن أجل هذا طال مقام صديقنا سقراط معنا أكثر مما توقع أو توقعنا، ولو سارت الأمور سيرها الطبيعي لتناول سم النبات المخدر في اليوم الذي أعقب صدور الحكم عليه مباشرة، ولكن السفينة المقدسة كانت قد كللت بالزهر - وهذا هو الاحتفال الرسمي بافتتاح البعثة - في اليوم الذي سبق المحاكمة، من أجل ذلك ولأن السفينة في غضون إبحارها وعودتها ستهب الرياح مضادة لها يوما بعد يوم، قضى صديقنا في السجن شهرا بأكمله ...
ولست أدري إن كان الانتظار أثر في سقراط، كنا نلازمه كل يوم، ولم نلحظ عليه تغيرا، بالرغم من أن الأصفاد لا بد أن تكون قد آلمت ساقيه، كما أنه لم يعتد أن يحبس عن ضوء السماء، وكان السجان رحيما به على قدر ما يستطيع في هذه الظروف، واعتقد من مسلكه في النهاية أنه أحب سقراط بعض الشيء.
وحرصت أن أصادق السجان أيضا، وأعتقد أن في ذلك نفعا، وقد أوشك جدا أن يكون فيه.
وكما قلت: يظهر أن الانتظار لم يؤثر في سقراط، ولم يكن بوسعه - بطبيعة الحال - إلا أن يمعن في التفكير في الموت، وكان من قبل مشتغلا دائما بالحياة، ولم أعرف في حياتي امرأ يمتلئ كمثله حيوية، ولكنه الآن يجابه مشكلة جديدة، وقد عالجها بما يليق به، فإن شيئا لم يمت قط بين يديه، حتى الموت ذاته، وقد أثقلنا عليه كذلك في ذلك الشهر الأخير، وكان لا بد له من حيوية كافية يشد بها أزرنا جميعا.
ومن العسير أن أوضح لكم كيف كان الأمر معنا، ولقد خلصنا في نفوسنا أثناء محاكمته، وكنت راغبا جدا بإطلاقه في ذلك الحين إن كان لا بد من ذهابه، فلقد كان كبيرا جدا، ورأيت ألا يستصغر نفسه من أجلنا، ولكنك فيما بعد ترى الناس يتحدثون فتعجب؛ لأن الحياة حياة والموت موت مهما يكن من الأمر، وإن المرء ليساوره الشك في حصافة نفسه، وربما كان سقراط كذلك من الغافلين، في نظر الدنيا على الأقل، والدنيا هي كل ما يهم الإنسان.
ثم عاد سمياس - أحد أصدقائنا - من طيبة يحمل مبلغا جسيما من المال ، وقال صديقه سيبيز الذي صحبه كعادته: إنه كان يستطيع أن يحصل على أكثر من ذلك لو دعت إليه الحاجة، وكان هناك كثيرون آخرون متحمسون للمساعدة، وكانت خطتنا أن نرشو السجان والحرس، وأن نطلق سراح سقراط ليلحق برفاقي في تسالي، ونعني نحن هنا في أثينا بالأطفال إن أراد أن يتركهم، وما كنت أظن أنه يرضى أن ينتزعهم الآن من حقوقهم كمواطنين أثينيين، وما زالت حياتهم كلها أمامهم.
وفي الحق لم أكن متفائلا جدا في الخطة بأسرها، حقا كنا نستطيع أن نرشو السجان، ولم يكن التنكر مشكلة، وكان لدى رجل آمن يصاحب البغال، ولكن الأمر كان يتوقف كله على موافقة سقراط، وكنت من أصدقائه حينما كان سمياس وسيبيز لا يزالان طفلين في مهدهما، وكنت أعرفه حق المعرفة، وكنت أعرف أنه لا يخجل البتة من الموت ولا يخشاه إلا قليلا، وقد تلقاه كضرب من ضروب المغامرة التي ليس منها مفر، ولن يقف الآن ويفر منه إلا إن استطعنا أن نبين له أنه من الخير له أن يفر.
واختاروني لكي أحدثه، وكان لسمياس الحق لو أراد ذلك، ويكادون جميعا أن يفضلوني في الحديث ولكنهم اختاروني، ولم يتسع لي الوقت لكي أفكر في الأمر، وفي تلك الليلة وفدت إلى أثينا جماعة من السفينة المقدسة قادمة من رأس سوينم، وذكرت أن السفينة إنما تنتظر هدوء الريح كي تدور حول الرأس، وأنها سوف تصل في اليوم التالي، وسيلاقي سقراط بالطبع موته في اليوم الذي يليه.
وكان السجان صديقي كما ذكرت، وقد سمح لي بالدخول في وقت مبكر في صبيحة اليوم التالي، وكان لا بد أن يعرف بوجه عام ما كنت أرمي إليه، وتركني في الغرفة وحدي، وكان ذلك قبل بزوغ الفجر، وسقراط لا يزال نائما.
وجلست إلى جواره برهة أراقبه وهو نائم، وقد استلقى ساكنا لا حراك به، ثم تيقظ من تلقاء ذاته، وتولى أمر نفسه توا، وسألني لماذا أتيت، وعن الوقت، ولماذا أذن لي السجان بالدخول، ولماذا لم أوقظه فور وصولي، وعرف في اللحظة الأولى نبأ السفينة، ولم يكن إخطاره بالنبأ أمرا سيئا، إنما كنت أخشى النوع الآخر من السؤال.
ثم قص علي قصة حلم رآه قبيل يقظته: رأى امرأة ترتدي الثياب البيضاء تتفوه بالألفاظ التي استخدمها أخيل عندما كان يفكر في الفرار من طروادة، وقالت له: إنه سوف يعود إلى بيته في اليوم الثالث، وقد فسر ذلك بأنه سيموت بعد غده ولن يموت في غده، ومهما يكن من الأمر فقد اتضح ما كان يدور في رأس سقراط.
ثم شرعت في الحديث، وذكرت له على عجل ما اعتزمت أن أخبره به، قلت: إنه يسيء إلى سمعة رفاقه أولا، وقلت: إننا سنبدو جميعا جبناء، أو كأن حبنا له لا يكفي أن ننفق في سبيل إطلاقه قليلا من المال، وكان في ذهني كما تعلمون أنه لا يريد الفرار من أجل ما قد يصيبنا من أخطار، قلت له إنه لا يجب أن يحسب لذلك حسابا، فإن من حقنا أن نخاطر، وذكرت له ما كان من أمر سمياس وما جاء به من مال، وأصدقائه الآخرين جميعا الذين يودون أن يقدموا له المعونة، وقلت: إننا نستطيع أن نخرج أنفسنا من المأزق بالرشوة لو لزم الأمر، وإن أصدقائي في تسالي سوف يقابلونه بالحب ويوفرون له مكانا آمنا.
وأخيرا لجأت إلى نوع الجدل الذي كنت أعلم أنه كان في انتظاره؛ وذلك أنه ليس من الصواب له أن يستسلم هكذا، ويسمح للمخطئين أن ينتصروا، ويترك أطفاله يتامى، وذكرت له ما سوف يقوله كل امرئ عن قضيته: ما كان ينبغي أن تبلى المحكمة، وما كان ينبغي أن تنقلب إلى ما انقلبت إليه، والآن نراه ونرى أنفسنا جميعا جبناء ضعفاء لا نبرم بشأنها أمرا، وقلت له: إن وقت التفكير قد انقضى، وعلينا أن نعمل، وأن نعمل في تلك الليلة.
ولم يسخر مني - وقد تدفقت مني الكلمات تدفقا كما يحدث لي أحيانا في حالات الانفعال - ولم يقاطعني، ولما فرغت من حديثي قال: إن حماستي أمر له قيمته لو أنها اتجهت وجهة صحيحة، واقترح أن نبحث في صواب الموضوع وخطئه معا، وأحسست كأني سأختنق عندما ذكر ذلك، فقد كان الوقت ضيقا جدا، والخطر عظيما جدا لو وصلنا إلى قرار خاطئ، ومع ذلك فقد كنت أعرف أنه سوف يقول ذلك، وكنت لسبب ما أريده أن يقوله.
ثم سار قدما ووضع أسس قرارنا، مذكرا إياي بالمبادئ التي اتفقنا عليها عدة مرات من قبل، وبدأ أولا بالنقطة التي ذكرتها عما سوف يقوله الناس، وجعلني أقر أن المرء لا يستطيع أن يحكم بالصواب أو الخطأ بمجرد ما يحكم به الرأي العام، وإن المرأ ليفسد روحه لو اتجه هذا الاتجاه، كما يفسد الرياضي جسمه لو أصغى لكل امرئ سوى مدربه.
وتعرض بعد ذلك للنقطة الثانية وهي أن مجرد الحياة لا يهم، وإنما تهم الحياة التي تلتزم الصواب، ولم يكن لي مناص من أن أقر ذلك أيضا.
والنقطة الثالثة التي تناولها هي أن الشر لا يرد بالشر، وكنت في الماضي البعيد أعتقد أن تلك فكرة مضحكة، وذلك عندما أثارها أولا، ولكني بدأت أدرك أنه كان على صواب، إن الشر لا يمكن أن يصدر عن إنسان خير؛ ولذا فقد اتفقت معه مرة أخرى، وإن يكن قد اشتد علي في ضغطه لكي يرى إن كنت على ثقة تماما مما أقول.
قال: «أعرف أن قليلا من الناس من يعتقد في ذلك، وقليل من سوف يعتقدون فيه في مستقبل الأيام، ومن يعتقد فيه ومن لا يعتقد لن يستطيعوا الاتفاق فيما بينهم على أي أمر من الأمور»، ولكنني اتفقت معه.
ثم تنحى عن الجدل وجعل قوانين مدينتنا تتحدث - وعندئذ عرفت أني قد هزمت، ذكر لي ما تنص عليه القوانين لو لاذ بالفرار - قال: إنها قد عنيت به منذ ولادته، ولما شب وأدركها خضع لها كذلك، ولم يحاول قط أن يفر منها إلى مدائن أخرى أحسن قانونا، كيف يستطيع أن يهدمها الآن؟! ولو هدمها فكيف يستطيع أن يتكلم عن الخير بعد ذلك؟
وختم حديثه بقوله: «هذا هو الصوت الذي يرن في أذني يا أقريطون، يا صديقي العزيز، ورنين هذه الكلمات موسيقى يخرس معها كل صوت آخر، فلو أنك عارضتها بالأسلوب الذي أحسه الآن فسوف يكون حديثك عبثا، ومع ذلك فإن كنت ترى أن حديثك سيؤدي إلى الخير فلتتكلم!»
وأجبته بقولي: «ليس لدي ما أقول يا سقراط»، وحقا ما قلت، بيد أن إبلاغ الآخرين بذلك كان أمرا عسيرا.
ووصلت السفينة، وعرفنا ذلك في المساء، ومن ثم فقد كنا بالسجن صباح اليوم التالي مبكرين، ولم يأذن لنا حارس الباب بالدخول بادئ الأمر، وقال إن ضباط السجن مع سقراط يفكون قيده، ويصدرون الضروري من الأوامر، ولما انصرفوا أدخلنا.
وألفينا سقراط على فراشه وسلاسله مفكوكة، وزانثب تجلس إلى جواره تحمل رضيعها، وقد لازمته طوال الليل، ولكنها بدأت الآن تبكي لما ذكرت أن ذلك اليوم كان آخر أيامه، وطلب إلي سقراط أن أبعث بأحد رجالي معها إلى البيت.
ولذا فقد بقينا وحدنا معه، وجلس على سريره يدلك ساقه حيث خدرتها الأصفاد، وقلبنا في أحاديثنا شتى الموضوعات، وقال إنه حاول أن يقرض قليلا من الشعر، بسبب حلم كثيرا ما انتابه في حياته، وطلب إليه أن يؤلف ألحان الموسيقى، وكان يعتقد أن «الموسيقى» ربما تعني ممارسة الفلسفة، وهي بالتأكيد أرقى لون من ألوان النغم الموسيقي، ولكنه وضع نشيدا لأبولو، وروى بعض حكايات أيسوب نظما لمجرد الشعور بثقته من نفسه.
ثم اتجه الكلام إلى الحديث عن الموت ومعناه، وعلى أية صورة سوف يكون فيما بعد، وخجلنا قليلا من التعرض للموت في الحديث، وإن كنا قد أحببنا الخوض فيه، وكان أكثرنا حكمة وكنا متعبين، وكانت تلك فرصتنا الوحيدة في السؤال، ولكنه لم يبد البتة خجلا من الخوض في هذا الحديث، فقد اعتقد أن الموت لن يكون نهايته أو نهاية أي إنسان، ولكنه عرف أنه ربما كان متحيزا في رأيه - في تلك الظروف - وفي اعتقاده فيما أراد أن يعتقد فيه، فسره أن يبحث الأمر معنا.
وأذكر أننا لما جفلنا مرة من معارضته لأن المعارضة قد تؤذيه، حثنا على أن نفكر في الحق أكثر مما نفكر فيه، وقال: «اتفقوا معي إن ظهر لكم أني أقول الحق، أما إذا لم يظهر لكم ذلك فعارضوني ما وسعتكم المعارضة، وتأكدوا من أني لا أخدعكم وأجرفكم معي في تيار حماستي، ثم أنصرف عنكم كما تنصرف النحلة وقد أودعت فيكم لدغتي.»
ولا أستطيع أن أطيل عليكم فيما حدثنا به، وسيحدثكم أفلاطون عما سمع منه، برغم أنه كان في ذلك اليوم مريضا ولم يستطع مغادرة الفراش لكي يأتي إلى سقراط، بيد أنه سمع من بقيتنا، وأعتقد أن الحديث نما في ذهنه فيما بعد، وذلك ما كان يريد سقراط في النهاية لكل منا: لونا من ألوان النمو، وربما نما ذلك اليوم في ذهني كذلك، ولكن ما أذكره هو صديقنا دون حواره، وكان دائما خير محاور، وأعتقد حتى الرمق الأخير أن الموت لن يقضي عليه، وكلما فكرت فيه أعتقد ذلك أيضا.
وأذكر مظهره حينما تكلم عن الإوز العراقي، وقد ذكرنا بغناء الإوز الحلو عند موته - من أسفها كما تعتقد كثرة الناس، وإن كانت الطيور لا تغني من الألم - وقال: إنها طيور أبولو كما أنه خادم أبولو، كما قال: إن خدام أبولو لديهم موهبة التنبؤ، فهم يرون الأشياء الطيبة في العالم الآخر، ويغنون من فرط السرور.
وحدث في الختام كذلك أمر لن أنساه، فقد أخذ يقص علينا قصة مؤداها أن العدالة والطهارة التدريجية قد تدركانه وتدركان كلا منا بعد الموت، ولم يستطع أن يلح في تفصيل ذلك، ولكنه قال: إنها مخاطرة حسنة، وإنه يجب علينا أن نتشجع وأن نرعى أرواحنا خير رعاية، فنحليها بجمالها الخاص بها، من انسجام واستقامة وشجاعة وكرم وصدق، ثم سألته ماذا نستطيع أن نؤديه له؟ وأجاب: لا جديد، ويكفي أن نرعى أنفسنا. إن الألفاظ الكثيرة الآن لن تغير شيئا من الأمر، وإنما المهم هو الأسلوب الذي نعيش على غراره.
ثم سألته أخيرا كيف يريد أن يدفن، وإني لأكاد أذكر ما قال حرفيا: «على أية طريقة تحبون، إذا لحقتم بي ولم أفر منكم!» ثم ابتسم لي ابتسامة رقيقة، ووجه نظره نحو الآخرين وقال: «لا أستطيع أن أقنع أقريطون أني نفس سقراط الذي كان يتكلم منذ لحظة ويدلي بالحجج، إنه يعتقد أني ذلك الجسم الميت الذي سوف يراه بعد برهة، وهو يسألني كيف يدفنني؟» «وها أنا ذا في هذا المكان، لبثت أتحدث وقتا طويلا معزيا إياكم ومعزيا نفسي، وقائلا إني لن أبقى معكم ما أتناول السم، بل سوف أذهب إلى جهة تبعث في النفس السرور بين المباركين، ومع ذلك فالظاهر أني لم أحدث بكلامي كله أي أثر في أقريطون؛ ولذا فإني أريدكم أن تضمنوني لدى أقريطون - كما ضمنني أمام المحكمة - ولكن في اتجاه آخر، لقد وعد أن أمكث في أثينا، وعليكم أن تعدوا أني لن أمكث بعد مماتي، بل سوف أختفي، حينئذ لن تسوء مشاعر أقريطون، وحينما يرى جسمي محروقا أو مدفونا لن يحزن من أجلي كأني أكابد مشقة كبرى، ولن يقول في جنازتي: «هذه جنازة سقراط.»
لأن الألفاظ الكاذبة ليست متنافرة في حد ذاتها يا أقريطون، وإنما هي تبعث على الشر في نفوسنا، فابتهج إذن وقل: إنك تدفن جسمي، وافعل به ما بدا له، وما تحسب أنه يتفق مع التقاليد أشد اتفاق.»
وبعد ذلك ترك الآخرين برهة من الزمن، وأبقاني معه بينما كان يستحم ويعود إلى الحديث مع الأطفال ومع زانثب وقريباته اللائي صحبنها، واستغرق ذلك بعض الوقت، ولما عدنا إلى الأصدقاء الذين كانوا بانتظارنا في الغرفة الخارجية، كادت الشمس أن تغيب.
فجالسنا بعض الوقت، لا يتكلم كثيرا، حتى جاء السجان ليقول إن الوقت قد حان، ويستأذنه في هذا، ويبكي وينعته بأنبل وأرق وخير إنسان أتى إلى ذلك المكان، وتحدث إليه سقراط في رفق.
وذكرت لسقراط آنئذ أن الشمس ما برحت فوق الجبال، وأنه ليس بحاجة إلى تناول السم بعد، وكنت أخشى الحديث، ولكنه لم يخش شيئا، وطلب إلي أن أصدر أمري؛ ولذا فقد جاء الرجل بالكأس.
وسأله سقراط: «ماذا تقول؟ هل أصب قليلا داعيا أني الله؟» وقال الرجل: «لا.» فأجابه بقوله: «لقد فهمت، ولكني أستطيع ذلك بالتأكيد، ولا بد أن أدعو الآلهة أن تكون الرحلة من هنا إلى هناك رحلة سعيدة، ذلك هو دعائي اللهم آمين.» ورفع الكأس وشرب ما بها.
ولم أستطع أن أحتمل المشهد بعد ذلك، فنهضت وسرت إلى الجانب الآخر من الغرفة، لكي أبكي هناك، وجاء معي فيدو الصبي، أما أبولودورس الذي بكى قليلا طوال النهار فقد أطلق صرخة كادت أن تحطمنا جميعا كل التحطيم، لولا أن سقراط قد أوقفها.
وقال في ثبات: «ما هذا الأمر العجيب الذي تفعلون؟! لقد كان ذلك سببا من الأسباب الكبرى التي حفزتني إلى إبعاد النساء؛ كي لا يقعن في هذا الخطأ، لقد سمعت أن الرجل ينبغي أن يموت في صمت، فالزموا السكون وتمسكوا بالصبر.»
فانتابنا الخجل واستطعنا أن نكف عن ذرف الدموع، ومشى سقراط إلى الخارج برهة طبقا لما أمر به، ثم استلقى على السرير، وبعد برهة أزال الغطاء عن وجهه - وكانوا قد ألقوه فوقه - وقال - وكان ذلك آخر ما قال: «نحن مدينون يا أقريطون لإله الشفاء بديك، فهلا قدمته؟ لا تنس ذلك.»
وضحيت بالديك في اليوم التالي، وسوف يدرك إله الشفاء أي خير قصد من وراء ذلك سقراط، ودفنا جثته، وأظن أن سقراط نفسه لم يكن هناك، وأظن أن الخاتمة كانت خيرا على أية صورة بات سقراط.
ناپیژندل شوی مخ