السنة قبل التدوين
الدكتور محمد عجاج الخطيب
- عدد الأجزاء: 1.
- عدد الصفحات: 652.
أعده للمكتبة الشاملة / توفيق بن محمد القريشي، غفر الله له ولوالديه.
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي].
ناپیژندل شوی مخ
السنة قبل التدوين
الدكتور محمد عجاج الخطيب
رئيس قسم علوم القرآن والسنة بجامعة دمشق
أستاذ الحديث وعلومه في كلية الشريعة
الطبعة الثانية: رمضان 1408 - أبريل 1988 م
نشر مكتبة وهبة - مصر
ناپیژندل شوی مخ
بسم الله الرحمن الرحيم
ناپیژندل شوی مخ
السنة قبل التدوين:
تقديم:
بقلم فضيلة الأستاذ علي حسب الله
أستاذ الشريعة الإسلامية بكلية دار العلوم - جامعة القاهرة.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وأنزل عليه كتابه الكريم تبيانا للحق وهدى إلى الصراط المستقيم، وأمره ببيانه وتنفيذ أحكامه بأقواله وأعماله ليكون للأمة من ذلك دستور كامل، لا يغادر من أمور معاشهم ومعادهم صغيرة ولا كبيرة إلا وضع قواعدها، وقرر أصولها، وأضاء الوصول إلى الحق فيها.
فله الحمد والشكر على ما منح عباده من أسباب الهداية، وما ضمن لهم من حفظ كتابه، وما وفقهم إليه من العناية به، والاستشهاد في تفسيره وتطبيقه بقول رسوله - صلى الله عليه وسلم - وعمله.
أما بعد فقد اصطنع الله محمدا - صلى الله عليه وسلم - لنفسه، ورباه فأحسن تربيته، وكمل خلقه حتى قال فيه - وهو أصدق القائلين -: {وإنك لعلى خلق عظيم} (1)، ثم بعثه إلى الناس بشيرا ونذيرا: {يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا} (2).
[أ]
ناپیژندل شوی مخ
[ب]
ولقد افترض عليه ما افترض على الناس من طاعته والعمل بكتابه، فقال سبحانه: {يا أيها النبي اتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين إن الله كان عليما حكيما، واتبع ما يوحى إليك من ربك إن الله كان بما تعملون خبيرا} (1)، وقال تعالى: {اتبع ما أوحي إليك من ربك لا إله إلا هو وأعرض عن المشركين} (2)، وقال: {ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون} (3).
وأمره أن يبلغ ما أنزل إليه فقال: {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته} (4)، فبلغ - صلى الله عليه وسلم - ما أمره الله بتبليغه، وشهد الله تعالى له بذلك في قوله: {والنجم إذا هوى، ما ضل صاحبكم وما غوى، إن هو إلا وحي يوحى، علمه شديد القوى} (5)، وقوله: {وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم، صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض} (6)، ولو أنه قصر في تبليغ رسالته، أو بلغ ما لم يؤمر بتبليغه - لحلت به عقوبة ربه: {ولو تقول علينا بعض الأقاويل، لأخذنا منه باليمين، ثم لقطعنا منه الوتين، فما منكم من أحد عنه حاجزين} (7).
كما أمره أن يبين للناس ما خفي عليهم من مقاصده، ويشرح لهم طرق تنفيذه فقال: {بالبينات والزبر وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون} (8)، وقال سبحانه: {وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون} (9).
ناپیژندل شوی مخ
[ج]
هكذا أعد الله رسوله للقيام بأعباد رسالته، ثم أمر الناس بطاعته:
أمرهم بطاعته مقترنة بطاعته سبحانه فقال: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تولوا عنه وأنتم تسمعون} (1)، وقال تعالى: {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا} (2)، وقال سبحانه: {ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا} (3).
وأمرهم بطاعته استقلالا فقال سبحانه: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب} (4). وقال تعالى: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما} (5)، وقال سبحانه: {لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم} (6).
ثم قرر سبحانه أن طاعة رسوله طاعة له، فقال: {إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما} (7)، وقال سبحانه: {من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا} (8).
ولا خفاء بعد هذا في أن كتاب الله هو أصل دينه، وأن سنة نبيه -
ناپیژندل شوی مخ
[د]
قولية كانت أو فعلية - هي الموضحة لأحكامه، والمفصلة لإجماله، والهادية إلى طرق تطبيقه، فهما صنوان لا يفترقان، ومنبعان للتشريع متعاضدان، ولا شبهة في أن طاعة الرسول طاعة لله، ومخالفة أمره معصية لله تعالى، ومن عمل بالقرآن على غير المنهج الذي انتهجه الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا يكون عاملا بالقرآن.
وقد جرت سنة الله تعالى في خلقه أن يختلف الناس في تقبل دعوات الرسل، والأخذ بأسباب الهداية والصلاح مهما قامت الدلائل ووضحت البينات؛ {ولا يزالون مختلفين، إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم} (1)، فمنهم من يستجيب لداعي الخير مسرعا مطمئنا، ويتجنب مزالق الجهل والخسران، ومنهم من يركب رأسه ويتبع هواه ويضل عن سواء السبيل: {ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة} (2). {وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون} (3)، {يا حسرة على العباد ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون} (4).
وقد ابتلي المسلمون في كل العصور بمن يحاول صرفهم عن الإسلام، تارة بالطعن في كتابه، وأخرى بمحاولة انتقاصه من أطرافه، بالطعن في السنة التي تفصل ما أجمل منه، وتوضح ما خفي، وكأنهم حين وقفوا من القرآن أمام جبل شامخ لا يلين، ورجعوا بعد العناء بخفي حنين - ظنوا أنهم قادرون على
ناپیژندل شوی مخ
[ه]
النيل منه بتوهين السنة التي هي عماد بيانه، فسلكوا لذلك طرقا، وتكلفوا شططا، فمنهم من تجنى على الرواة وطعن في عدالتهم وصدقهم، ومنهم من طعن في متن الحديث فأنكر منه ما لم يوافق هوه، ومنهم من ادعى انقطاع الصلة بين الرسول وما يروى عنه وتعذر تمييز الصحيح منه من السقيم، لإهمال تدوينه نحو قرنين من الزمان، وانتشار وضع الحديث انتصارا لرأي أو إبطالا لمذهب، فدعا إلى إهمال الحديث جملة والاكتفاء بالقرآن الكريم، ومن المؤسف حقا أن يقول بهذا الرأي من يزعم أنه من المسلمين.
ولكن العلي القدير الذي تكفل بحفظ كتابه وأصول دينه بقوله: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} (1) كان يمنح معونته وتوفيقه دائما للمتقين المخلصين، ويخذل أعداءه المعاندين: {ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون} (2)، {وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم} (3)، {ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين، إنهم لهم المنصورون، وإن جندنا لهم الغالبون} (4).
فلهذا هيأ لدينه في كل العصور من يرد كيد الطاعنين في نحورهم، وهيأ لسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - من السلف الصالح ومن تبعهم بإحسان من عني بالدفاع عنها بعد البحث في سندها ومتنها، يتعرف أحوال رواتها، وتمييز صحيحها من سقيمها، ثم حفظها تارة في الصدور، وأخرى في السطور.
لقد كان المسلمون بين أن يدفعهم الحرص على سنة نبيهم إلى تقبل كل
ناپیژندل شوی مخ
[و]
ما يروى حتى لا يفوتهم ما صح منها، وأن يتأثروا بشبه المضللين فيرفضوه كله حذرا من الأخذ بالموضوع والوقوع في الباطل، ولكن الله جنبهم الخطتين وعصمهم من الوقوع في الورطتين، ووفقهم إلى الطريقة الوسطى، طريقة الاعتدال البعيدة عن التعصب الأعمى والتحامل الذميم، طريقة الفحص والتمحيص للسند والمتن، ووضع القواعد العلمية الصحيحة لمعرفة من يقبل ومن لا يقبل من الرواة، وما يقبل وما يرد من الأحاديث، وبهذا ميزوا الخبيث من الطيب، ونالت السنة بجهودهم ما لم يعهد في شريعة من الشرائع، ولا في نص من النصوص غير الكتاب الكريم.
وكان مما أثلج صدورنا، وفتح باب الأمل في شباب عصرنا - أن الطالب المؤمن بربه، والغيور على دينه، والمحب لسنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - السيد «محمد عجاج الخطيب» - سار على توفيق من الله، وهدى من السلف الصالح ، فاختار لنيل درجة الماجستير في العلوم الإسلامية من كلية دار العلوم بجامعة القاهرة - موضوع «السنة قبل التدوين»، ليدفع ببحثه ما أثاره المضللون من انقطاع الصلة بين الرسول وما بين أيدينا من سنته في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وبعضها في عهد الصحابة والتابعين، قبل أن تدون التدوين الرسمي المعروف.
وقد رجح أن التدوين الرسمي بدأ في منتصف العقد الهجري الثامن من القرن الأول حين طلب أمير مصر: عبد العزيز بن مروان بن الحكم من كثير بن مرة الحضرمي - الذي أدرك سبعين بدريا من الصحابة في حمص - أن يكتب إليه بما سمع من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا حديث أبي هريرة فإنه كان عنده. ولا يظن بكثير إلا أن يستجيب لطلب الأمير، فيجتمع له بهذا ما كان عنده من حديث أبي هريرة وما كان عند كثير، وحسبك هذا تدوينا
ناپیژندل شوی مخ
[ز]
رسميا لقسط كبير من سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك العصر، ويكون ما فعله عمر بن عبد العزيز بعد هذا - من العناية بالحديث ومطالبة العلماء في الأقطار المختلفة بكتابته والجلوس لمدارسته - ليس إلا امتدادا لما شرع فيه أبوه من قبل. وهو رأي يرجحه ما عرف عن السلف من الحرص على حفظ السنة والعمل بها.
وقد اقتضاه البحث أن يتكلم عن الوضع وأسبابه، وجهود الصحابة والتابعين ومن بعدهم في مقاومته وتطهير السنة من أوضاره، وأن يتحدث عن آراء بعض المستشرقين ومن انخدع بهم من المسلمين، ففند مزاعمهم، ورد الحق إلى نصابه في مفترياتهم، وبين فضل الصحابة وعدالتهم، وحرصهم على العمل بالسنة وحفظها، وتثبتهم في روايتها، واقتداء من جاء بعدهم بهم في ذلك، كما تعرض لما أثر حول بعضهم من شبهات فنفاها عنهم.
ولا نعدو الحقيقة إذا قلنا: إن الطالب كان أصيلا في بحثه، لم يعوزه توجيه وإرشاد؛ بل جمع بجده كل ما استطاع الوصول إليه من مراجع، وتناول منها كل ما يلائم بحثه، ثم عرض ذلك على مقاييس صحيحة في نزاهة وصدق وإيمان، وبهذا نطم نفسه في سلك المحبين للسنة، الذين بشرهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالجنة فيما روى الترمذي عن أنس - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من أحب سنتي فقد أحبني، ومن أحبني كان معي في الجنة».
والله المسؤول أن ينفع الإسلام والمسلمين برسالته، وأن يجعل من شبابنا شبابا صالحا لا تخدعه مظاهر المدنية الكاذبة، فيعكف على دراسة الدين القويم، والتراث المجيد، ويدفع عنهما تهم المبطلين، وضلال المضلين، وهو الهادي إلى الصراط المستقيم.
المحرم 1383 ه - يونية 1963 م
علي حسب الله
ناپیژندل شوی مخ
الكتاب:
المقدمة:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وسيد المرسلين وعلى آله وصحبه، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
وبعد، فإن القرآن الكريم هو المصدر التشريعي الأول في الإسلام، والسنة هي المصدر الثاني، لأنها مبينة له، مفصلة لأحكامه، مفرعة لأصوله، وهي التطبيق العملي للإسلام على يد رسول الإنسانية محمد - صلى الله عليه وسلم -، دان المسلمون لأحكامها من لدن الرسول الكريم إلى يومنا هذا، وستبقى إلى جانب القرآن مصدر الأحكام، ومعين الآداب والأخلاق، حتى يرث الله الأرض ومن عليها، فقد كان التمسك بهما سر نجاج الأمة الإسلامية، وتقدمها، مصداقا لقوله - صلى الله عليه وسلم - «تركت فيكم شيئين، لن تضلوا بعدهما: كتاب الله , وسنتي».
ولكنه لم يرق لأعداء الإسلام قديما وحديثا، أن يروا ازدهار الأمة الإسلامية وتقدمها، فعملوا على هدم أسس الإسلام، وتشكيك المسلمين في دينهم، وكان من الصعب أن ينالوا من القرآن الكريم، فوجهوا سهامهم إلى السنة، وحاولوا تشويهها، فوضعوا الأحاديث، وطعنوا في بعض الصحيح منها، واتهموا بعض الرواة الثقات، ولكن هذا لم ينل من السنة أمام يقظة الأمة وعلمائها الذين ذبوا عنها وحافظوا عليها.
وسلك أعداء الإسلام سبلا مختلفة لإنكار السنة جملة بعد التشكيك فيها ,
مخ ۱
فادعى بعضهم أن السنة أهملت بعد الرسول - صلى الله عليه وسلم - أكثر من قرنين إلى أن جمعها بعض المصنفين في كتب السنن في القرن الثالث الهجري، فلم تحفظ كالقرآن الكريم منذ ظهور الإسلام، ولهذا تسرب إليها الوضع ، وأصبح من الصعب تمييز الحديث الصحيح من الموضوع ... !! وادعى بعض المستشرقين أن جانبا من الحديث قد وضعه الفقهاء ليدعموا مذاهبهم الفقهية!!! وادعى آخرون أن السنة كانت أحكاما مؤقتة لعصر النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأصبحت الآن عديمة الجدوى، وتسربت هذه الفكرة إلى بعض البلاد الإسلامية، وأخذت شكلا منظما، فظهر في الهند جماعة تنادي بعدم الاحتجاج بالسنة، سمت نفسها (أهل القرآن)، وألفت كتبا ورسائل كثيرة لنشر أفكارها (1).
هذه بعض دعاوى أعداء الإسلام، الذين أرادوا من ورائها إبعاد المسلمين عن دينهم، وخلخلة العقيدة في نفوسهم، ليتمكنوا من نشر مبادئهم في بلادنا الإسلامية الطيبة، والسيطرة عليها ماديا بعد السيطرة عليها فكريا، ومما يؤسف له أن بعض شبابنا الذين لم يتح لهم أن يتثقفوا بثقافة الإسلام قد اعتنقوا هذه الأفكار التي تخدم أعداءنا، وتفرق صفوفنا، في وقت نحن أحوج ما نكون فيه إلى التمسك بما جاء في السنة من أحكام وأخلاق وآداب وتوجيه وإرشاد، كما تعتز الأمم بتراثها وتفخر به، ويشهد المنصفون من علماء الأمم الأخرى
مخ ۲
بعظمة تراثنا التشريعي، فكيف يتنكر له بعض المسلمين، ونحن أحوج ما نكون إلى التمسك به، بعد أن عانى المسلمون وطأة الإستعمار فترة طويلة، وذاقوا مرارة التفرقة والهوان، بعد أن كانوا سادة العالم.
نحن - في نهضتنا - بحاجة إلى الرجوع إلى شريعتنا، إلى قرآننا وسنة رسولنا، بعد أن حطمنا القيود، ونقضنا غبار الجهالة، ومزقنا عصابة العماية عن العيون، فلا بد لإتمام تحررنا من أن نتخلص من هذه الأفكار التي تسربت إلى صفوفنا، وحملها بعض إخواننا وأبنائنا، سواء أكان هذا عن حسن نية منهم أم عن سوء نية، لأنها تخدم أعداءنا الذين لا يسرهم اجتماع كلمتنا وسعادتنا.
ولما كانت السنة مبينة للقرآن الكريم، ولا يمكن الاستغناء عنها، ولما كان الواقع في حفظ السنة يخالف ما ادعاه المغرضون، كان لا بد من تناول السنة بدراستها وبحث تاريخها، وقد بين الأصوليون وبعض المحدثين مكانة السنة من التشريع الإسلامي، وبقي أن تبين الحقيقة التاريخية للسنة وكيف اعتنى السلف الصالح بها وحفظها ونقلها قبل أن تصلنا في كتبها المشهورة.
وقد رأيت أن أتناول هذا الجانب من البحث في فترة ما قبل التدوين، وأقصد بالتدوين هنا التدوين والتصنيف المشهور، الذي كان في مطلع القرن الهجري الثاني تمشيا مع عرف علماء الحديث، والذي يعود الفضل فيه إلى الخليفة عمر بن عبد العزيز، فليكن هذا هو التدوين الرسمي، ذلك لأنه قد ثبت تدوين جانب من السنة في عهده - صلى الله عليه وسلم - وعهد الصحابة.
تلك أسباب لاختيار هذا الموضوع، وسبب آخر هو أنه لم يسبق لأحد أن بحث كيف اجتازت السنة تلك الحقبة بحثا دقيقا وافيا، إنما كان بحث السلف في هذه الناحية لا يعدو ذكر لمحات عن تلك الحقبة، لاقتناعهم واقتناع المسلمين بأن
مخ ۳
السنة قد حفظت على أحسن وجه، بفضل حفاظها وعلمائها، لهذا توزعت مادة البحث في مراجع كثيرة، في كتب الحديث وشروحها، وكتب مصطلحه وعلومه، وفي تراجم الرواة، وكتب التاريخ والأصول وغيرها، وإذا كانت هذه النتف تشكل معظم مادة الموضوع، فإنها لا تعطي - كما هي - صورة كاملة عن حقيقة السنة وحفظها آنذاك.
هكذا أقدمت على دراسة السنة في تلك الفترة، من خلال أمهات المصادر، المخطوط منها والمطبوع، قديما وحديثا، ويممت شطر أمهات دور الكتب العامة والخاصة، في دمشق وحلب والقاهرة .. ورجعت إلى مخطوطات نادرة، كما صورت بعض المخطوطات من البلاد التي لم تتيسر لي زيارتها، فكان البحث شاقا من جهة، ويتطلب الدقة من جهة أخرى، واضحا حينا، ومعقدا أحيانا، ومع هذا تابعت البحث بروح علمية، يحدوني الصبر، وتعللني ومضات الأمل. وكان لإشراف فضيلة الأستاذ علي حسب الله وتشجيعه، أثر طيب في إخراج هذا الموضوع بثوب جديد، يصور السنة في تلك الفترة تصويرا دقيقا، من حيث عناية الأمة بها وحفظها، والاهتمام بنقلها، والتثبت في روايتها على أسلم القواعد العلمية، وكتابتها ونشاط العلماء في تبليغها، وحرصهم على صيانتها، وعوامل انتشارها، ودراسة الأسباب التي كادت تسيء إليها، وجهود العلماء في سبيل حفظها.
وقد تعرضت لكثير من الشبهات والآراء، وناقشتها، ورددت عليها، وبينت وجه الحق مدعما بالأدلة والبراهين، فكان الموضوع في تمهيد وخمسة أبواب وخاتمة.
مخ ۴
التمهيد، وفيه:
أولا: التعريف بالسنة لغة وشرعا.
ثانيا: موضوع السنة ومكانتها من القرآن الكريم.
الباب الأول: السنة في العهد النبوي.
وفيه تحدثت عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - من حيث هو معلم ومرب، وبينت موقفه - عليه الصلاة والسلام - من العلم، ومنهجه في التبليغ، وتعليم أصحابه - رضي الله عنهم -، وكيف كان الصحابة يتلقون السنة عنه - عليه الصلاة والسلام -.
الباب الثاني: السنة في عصر الصحابة والتابعين، وفيه فصلان:
الفصل الأول، وفيه أربعة مباحث:
المبحث الأول: تأسي الصحابة والتابعين بالرسول - صلى الله عليه وسلم - وتمسكهم بسنته.
المبحث الثاني: احتياط الصحابة والتابعين وورعهم في رواية الحديث.
المبحث الثالث: ثتبت الصحابة والتابعين في قبول الحديث.
المبحث الرابع: كيف روي الحديث في ذلك العصر باللفظ أم بالمعنى؟
الفصل الثاني، وفيه ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: النشاط العلمي في عصر الصحابة والتابعين.
المبحث الثاني: انتشار الحديث في عصر الصحابة والتابعين.
المبحث الثالث: الرحلة في طلب الحديث.
مخ ۵
الباب الثالث: الوضع في الحديث، وفيه أربعة فصول:
الفصل الأول: ابتداء الوضع وأسبابه.
الفصل الثاني: جهود الصحابة والتابعين ومن تبعهم في مقاومة الوضع وحفظ الحديث.
الفصل الثالث: آراء بعض المستشرقين وأشياعهم في السنة ونقدها.
الفصل الرابع: أشهر ما ألف في الرجال والموضوعات، وهو ثمار جهود العلماء في المحافظة على الحديث.
الباب الرابع: متى دون الحديث؟ وفيه ثلاثة فصول:
الفصل الأول: حول تدوين الحديث، وفيه أخبار حول كتابة السنة، وأخرى حول كراهية كتابتها، ومناقشة الأخبار وخلاصة هذه المناقشة.
الفصل الثاني: ما دون في عصر الرسول - صلى الله عليه وسلم - وفي صدر الإسلام.
الفصل الثالث: آراء في التدوين.
الباب الخامس: بعض أعلام رواة الحديث من الصحابة والتابعين، وفيه فصلاة:
الفصل الأول: بعض أعلام الرواة من الصحابة.
وفيه تعريف الصحابي، وعدالة الصحابة، ثم ترجمة المكثرين من الحديث منهم وهم:
1 -
أبو هريرة.
2 -
عبد الله بن عمر.
3 -
أنس بن مالك.
4 -
عائشة أم المؤمنين.
5 -
عبد الله بن عباس.
6 -
جابر بن عبد الله.
7 -
أبو سعيد الخدري.
مخ ۶
الفصل الثاني: بعض أعلام الرواة من التابعين:
1 -
سعيد بن المسيب.
2 -
عروة بن الزبير.
3 -
محمد بن مسلم بن شهاب الزهري.
4 -
نافع مولى ابن عمر.
5 -
عبيد الله بن عبد الله.
6 -
سالم بن عبد الله بن عمر.
7 -
إبراهيم النخعي.
8 -
عامر الشعبي.
9 -
علقمة النخعي.
10 -
محمد بن سيرين.
وقد يتبادر للوهلة الأولى أنه يمكننا الاستغناء عن الباب الخامس، بما جاء في كتب التراجم، ولكني رأيت من الأهمية بمكان أن أدرس بعض رجال الحديث من الصحابة والتابعين، لأقدم نموذجا عظيما عن القلوب الواعية التي حفظت السنة، والأيدي الطاهرية التي نقلتها بأمانة وإخلاص، على أسلم قواعد التثبت العلمي، وبخاصة أن بعض أهل الأهواء والمستشرقين، كانوا قد طعنوا في مشاهير الرواة منهم، فرأيت إتماما للبحث أن أفند طعونهم وافتراءاتهم حين أترجم لهم، وأبين الحق من الباطل، بعد أن أصحبت أمهات كتب تراجم رجال الحديث في عصرنا نادرة جدا، وقد يعسر على طلاب العلم الرجوع إليها، فرجح عندي الإقدام على ضم هذا الباب إلى الموضوع، وبهذا أكون قد بينت حياة السنة في هذه الحقبة، ودرست مشاهير حفاظها ونقلتها.
وكانت الخاتمة خلاصة عامة للبحث.
وإني لأرجو الله الكريم أن أكون قد وفقت لعرض الموضوع بشكل يحقق الغاية منه، فإني لم آل جهدا، ولم أدخر وسعا للوصول إلى الحقيقة، وأنا مع هذا لا أدعي الكمال في بحثي، وكل ما قمت به لا يعدو محاولة علمية لدراسة السنة وتاريخها في فترة معينة على منهج علمي يسهل الرجوع إليه.
مخ ۷
وأسأل الله - عز وجل - أن يوفق الأجيال إلى دراسة الشريعة الإسلامية الخالدة، وفهمها وتطبيقها، وأن يجمع العرب والمسلمين جميعا على كتاب الله وسنة رسوله، ليهتدي بهديه، وتعيد للعالم نضارته، وتحقق سعادته، كما حققها أسلافنا العظام.
وأخيرا أشكر فضيلة أستاذي المشرف، الذي شملني بعطفه وتوجيهاته، مع كثرة واجباته وتبعاته، وضيق وقته، كما أشكر كل من ساعدني من أساتذتي وإخواني، وسهل مهمتي.
وختاما أرجو كل من يطلع على هذ البحث فيجد ما يحتاج إلى تعديل أو تبديل، أن يفيدني بما عنده، والله أسأله الرشاد والسداد.
...
29 جمادى الأولى 1382 ه
28 أكتوبر (تشرين الأول) 1962 م
محمد عجاج الخطيب
مخ ۸
تمهيد:
- التعريف بالسنة لغة وشرعا ...
- موضوع السنة ومكانتها من القرآن الكريم.
ختم الله - عز وجل - رسالات السماوات العلا إلى الأرض، برسالة الإسلام، فبعث محمدا - صلى الله عليه وسلم - رسولا هاديا، مبشرا ونذيرا، {وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا} (1).
ونبأه بذلك عام 610 من ميلاد عيسى - عليه السلام - بعد أربعين سنة من مولده - صلى الله عليه وسلم -، فشرفه الله - عز وجل - بحمل الرسالة السامية الخالدة، إلى الناس كافة {قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا الذي له ملك السماوات والأرض لا إله إلا هو يحيي ويميت فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون} (2).
وأمره أن يبلغ أحكام الإسلام وتعاليمه فقال: {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدي القوم الكافرين} (3).
وأمره أن يدعو أهله وعشيرته إلى الإسلام فقال: {وأنذر عشيرتك الأقربين، واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين} (4). ليهدي قومه إلى سبيل الرشاد، فيحملوا عبء تبليغ الرسالة إلى الأمم الأخرى،
مخ ۹
فيكون لهم شرف المبلغ الهادي، ويخلد اسمهم أبد الدهر كما أراد الله للرسول الكريم - عليه الصلاة والسلام -، وللأمة العربية التي انطلقت تحرر العالم من الظلم والطغيان، وتوجه مركب الإنسانية إلى شاطئ السلام، وتخرجه من الظلمات إلى النور سالكة سبيل الهداية والحق بعد أن تنكب الناس الصراط المستقيم، وتخبطوا في غياهب الجهالة والضلال. تتقاذفهم أمواج الأهواء كما تشاء، وتحملهم أعاصير الجبابرة كالهباء.
إلا أن هداية العرب لم تكن سهلة، بل تحمل السلو الكريم - عليه الصلاة والسلام - في سبيلها المشاق الكثيرة، وأوذي في جسمه وماله وأهله وأصحابه ووطنه، وكان يدعو ليلا ونهارا وسرا وإعلانا، ويسأل الله السداد والرشاد، متطلعا إلى هداية قومه ليتحملوا الرسالة ويؤدوا الأمانة.
لقد أحي إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وقومه على دين آبائهم، وثنية وأصنام، يسودهم النظام القبلي، وتربط بينهم صلة القرابة والدم، لا يحكمهم نظام عام، بل يخضعون للعادات والأعراف، يدفعهم الشرف والمفاخرة بالأنساب إلى المنافسة في المكارم والمروءات، يعيشون في حلقة القبيلة والأسرة، في إطار الجزيرة العربية.
وكان لهذا أثر بعيد في صفاء نفوسهم ومحافظتهم على أمجادهم وعاداتهم، وتفانيهم في سبيل مثلهم الأعلى، حتى كانوا يسرفون في ذلك، فهم كرام يبذلون ما يستطيعون للضيف، فيبلغون في ذلك حد الإسراف.
ويأبون العار ولو أدى بأعز ما لديهم إلى الردى، ولهذا وأدوا بناتهم خشية الفقر والزلل. ويحبون تحقيق الأمجاد والبطولات، ولكنهم ضلوا الطريق وحرموا العقيدة الموصلة إلى ذلك، ترى العفة والكرامة من أخلاقهم،
مخ ۱۰