ومن هؤلاء فئة «هنج مين سان هوهوي» أو كما يسمون أحيانا بال «شيه كنج تانج»؛ الذين كانوا يحاربون المانشو ليأتوا بأسرة «منج» في مكانها، وكانوا ينطوون على حماسة وطنية قوية، ثم ظهرت الدعوة الملكية فأصبحوا ملكيين لا يبالون بغير «النقاء الطاهر» وهو الشعار الذي اتخذته الدعوة المانشوية لإعادة عاهلها إلى عرشه، وكفى بهذه النكسة دليلا على ما فقدته الصين من نخوتها الوطنية.
إننا خليقون أن نعرف إثارة من تاريخ هذه الجماعات الخفية حين نتكلم عنها، فقد بلغت غاية القوة خلال حكم العاهل المانشوي كانج هسي (1661-1722) وهب الموالون لأسرة منج يعارضون شان شي حين قضى على هذه الأسرة واستولى على زمام السلطان في أرجاء الصين بأسرها، واستمرت المقاومة إلى عهد كانج هسي فلم تذعن الصين كل الإذعان للمانشويين حتى ذل العهد، ولم تنطفئ شعلة المقاومة حتى يئس الجيل القائم بها من تدبير القوة الكافية للانتقاض فلجأ إلى الجماعات السرية.
وكان بقيتهم أناسا ذوي أصالة ونظر وخبرة بالمجتمع، فدأبوا على تنظيم الجماعات السرية إلى أن وضع العاهل المانشوي نظام الامتحان للمناصب فدخل في شبكته كثيرون من أساتذة عهد «منج» وعلم القائمون بحركة المقاومة أن الطائفة المتعلمة لا يعتمد عليها ... يومئذ انقلبوا إلى طبقات المجتمع الدنيا: إلى المشردين على ضفاف الأنهار والبحيرات، وراحوا يجمعونهم وينظمونهم ويبثون فيهم روح الغيرة الوطنية كي يتصل العمل بعدهم، ولكن هذه الطوائف لجهلها وسقوط بيئتها وجلافة تعبيرها وخشونة مسلكها لم تلق آذانا صاغية عند الطوائف المهذبة، ولا يمنع هذا أن حكماء أسرة منج أبانوا في عملهم عن دراية وحصانة حين لجأوا إلى تنظيم تلك الجماعات السرية لاستبقاء النزعة القومية، فلم يقو طغيان المانشو خلال القرنين الأخيرين على محو تلك النزعة وتوارث مصطلحاتها وتقاليدها طبقة بعد طبقة في تلك الجماعات السرية.
وظلت جذوة الوطنية حية منذ بدأت أسرة المانشو حكمها، ثم أخذ «تسو تسنجتانج» بناصية التنين الأعظم وعلم بخفايا الجماعات السرية، فحطم قيادتها الحربية وشتت شملها، فلما كانت الثورة الأخيرة لم نجد هيئة منظمة نعتمد عليها، فقد كانت جماعة ال «هنج مين» آلة مسخرة وآل الأمر بنخوة الصين الوطنية إلى الضياع.
إن الأمة إذا سادت أمة أخرى لم تسمح لها باستقلال التفكير، وهذه اليابان مثلا تسيطر على كورية وتعمل على توجيه أذهان الكوريين حيث تريد، فمحت مادة الوطنية من المدارس، ويوشك بعد ثلاثين سنة أن يكبر الأطفال الكوريون وهم لا يعلمون أنهم كوريون وأن هناك وطنا كان يسمى كورية، وقد مضى زمن كانت منشورية تحاول فيه معنا هذه المحاولة؛ إذ كان من دأب الأمة الغالبة أن تتلف هذه القنية النفيسة في ضمائر الأمة المغلوبة، وبهذه النية جعل المانشويون يحتالون شتى الحيل ويبتدعون مختلف الأساليب، فحرم كانج هسي بعض الكتب وجاء شيان لنج فكان أدهى منه في سحق الروح القومية، كان كانج هسي ينادي بأنه مختار السماء لولاية أمر الصين، فليس من التقوى أن يتمرد المتمردون على المشيئة السماوية، فلما قام شيان لنج بالأمر أزال كل فارق بين الصيني والمانشوي حتى أصبح المثقفون وقد خلت نفوسهم من وعي الوطنية، وانتقل هذا الوعي منهم إلى الطبقة السفلى، فكانوا يؤمنون بوجوب مكافحة التتار، ولكنهم لا يعلمون فيم يكافحونهم، وبهذه المثابة ضمرت روح الوطنية الصينية مئات السنين من جراء تدبير المانشويين.
ويصعب علينا أن نوضح كيف تم هذا التدبير وكيف تخلف منه ضمور الروح الوطنية، فلعل ذلك يتضح لنا من قصة شهدتها بنفسي في هونج كونج تفيد في تقريب ما أعنيه، وخلاصة هذه القصة أن أجيرا كان يعمل في حمل البضائع من البواخر ولا معول له في هذه الصناعة على غير حبله وعموده، وكانت أجرة الحمل كافية لمؤونة يومه، ثم ادخر على مر الزمن عشرة ريالات فاشترى بها ورقة نصيب ووضعها في جوف عموده وحفظ رقمها لكيلا يحتاج إلى إخراجها من حين إلى حين لينظر فيها، ثم جاء يوم السحب فعلم من كشف اليانصيب أن ورقته ربحت الجائزة الأولى وقدرها مائة ألف ريال ... فكاد أن يجن من فرحته وألقى بالعمود والحبلين إلى الماء لأنه أراد أن يستقبل حياة الثراء، وأن يطمئن إلى استغنائه عن حمل البضائع مدى الحياة.
إن عمود الحمال قد يشبه بالوطنية التي تعين الأمة على البقاء، وقد تشبه الجائزة المكسوبة بالعصر الذهبي الذي أقبلت عليه الصين حين اتسعت أطرافها وشملت العالم كله في نظر أبنائها، فليس للسماء غير شمس واحدة وليس للأمة غير ملك واحد، وما من أمة على الأرض إلا وهي تسجد أمام تاجه ولآلئه، فلن يعرف العالم بعد إلا السلام والوئام وأداء الجزية لملك الأنام، فقذفت الأمة بوطنيتها إلى البحر كما قذف الأجير بعموده وحبليه، ثم ابتليت بحكم المانشو فلن يكن قصاراها أنها عجزت عن سيادة العالم بل ساءت بها الحال حتى عجزت عن حماية حدودها، لقد ضاعت الوطنية كما ضاع العمود في الماء!
ولو أن أسلافنا حفظوا العمود لأخذوا الجائزة الأولى، ولكنهم قذفوا به ونسوا أن الورقة مخبوءة فيه، وحبذا لو استطعنا أن نعود إلى عمودنا أو نعيده إلينا، فما علينا إذن من ضير إن تجهمت لنا القوة الأجنبية وتنكرت لنا فرص العيش، فإننا لنصمد لكل ما نلقاه.
إن السماء قد وضعت على عواتقنا نحن أبناء الصين تبعات جساما، وإننا لخارجون عن مشيئة السماء إن لم نحبب نفوسنا، وها قد حان الوقت الذي يشعر فيه كل صيني بالتبعة على عاتقه، فإن كانت السماء لا تبغي القضاء علينا فهي تدخرنا لصلاح العالم وارتقائه، وإذا هلكت الصين فسوف تهلك على أيدي الدول العظمى، وسوف تقيم هذه الدول العقبات في سبيل العالم.
وبالأمس قال لي أحد الروسيين: ما بال لينين عرضة للهجمة عليه من كل دولة؟ إنه عرضة لهجماتها ؛ لأنه اجترأ على أن يقول: إن أبناء العالم قسمان: ألف ومائتان وخمسون مليونا في جانب، ومائتان وخمسون مليونا في الجانب الآخر، والأولون مسخرون للآخرين ... وهؤلاء الذين يسخرونهم لا يمشون مع الطبيعة بل يعارضونها ويناجزونها، وإنما نمشي مع الطبيعة حين نتصدى للقوة ونكبحها.
ناپیژندل شوی مخ