فنشأ سن ياتسن في صباه وهو يحلم بتأليف جماعة من هذه الجماعات ... ولو لم تكن هذه الجماعات وأمثالها حلم طفولة لقد كان الأحرى بإخفاقها أن يثنيه عن محاولاتها وجرائرها. •••
وكان مولده في قرية سيانجشان بإقليم كوانتنج، وقيل: إن أباه كان من أعضاء جماعة التايبنج المسيحيين الذين يؤمنون بمذهب زعيم الجماعة في المسيحية، ومنه ادعاؤه أنه أخ صغير للسيد المسيح، وقيل غير ذلك إنه كان من أعضاء الجماعة ولم يؤمن بنحلتها الدينية.
وكان مولد سن ياتسن في الجنوب ترشيحا آخر للمطالبة بالحرية؛ إذ كان الجنوب يعادي الأسرة المالكة التي كان فريق من أهل الشمال يتعصبون لها، لمجيئها من الشمال ومقام ذويها وأتباعها في عواصمه وقراه، وإذ كان الجنوب أقرب إلى الحرية والحضارة الحديثة وأكثر اختلاطا بأمم العالم واطلاعا على شئونها، إما بمعاملة الوافدين إلى الموانئ الجنوبية وإما بالرحلة إلى الديار الخارجية.
ونحن نستصغر اليوم أثر هذه النشأة في مستقبل طفل صغير؛ لأننا نتوهم حالة الصين يومئذ كأنها حالة عصرية يطلع فيها القارئ على أخبار الصحف والإذاعة حيث كان، ولكننا نصحح هذا الوهم في أخلادنا متى ذكرنا أن الصحافة لم يكن لها وجود بين الشماليين، وأن الاطلاع هناك على أخبار الخارج ممتنع بغير حاجة إلى مانع من الحكومة، وهذا هو الفارق البعيد بين اطلاع الناشئ في الجنوب على شئون العالم وبين اطلاع أبناء الشمال على تلك الشئون، وحسبنا أن نراجع تواريخ هون سيوتسوان زعيم التايبنج، وكانج يووي زعيم النهضة الأدبية، وليانج شيكاو زعيم المدرسة الدستورية الملكية، وأن نراجع تراجم تلاميذهم العاملين، لنذكر معنى النشأة الجنوبية في ذلك الجيل.
وقد لاحظ المؤرخ جرين صاحب كتاب «قصة ثورة الصين» أن التنافس بين الشمال والجنوب ظاهرة مألوفة بين أمم كثيرة شرقية أو غربية ... فهو مألوف بين أبناء الشمال والجنوب في الولايات المتحدة، ومألوف بينهم في إيطاليا، ومألوف بينهم في بروسيا وألمانيا الجنوبية، ويحدث هذا التنافس تارة لأسباب عنصرية وتارة لأسباب سياسية أو اقتصادية، كما يحدث أحيانا لمجرد الولع بالمفاخرة وميل الإنسان عادة إلى تفضيل مكانه وعشيرته وجيرته وكل منسوب إليه على حسب درجاته من القربى. •••
ومن تمام الموافقة في نشأة سن ياتسن، بعد مولده في الجنوب، وعلى أعقاب ثورة التايبنج، أن تعليمه المدرسي كان تعليما عصريا رشحه لقيادة الجيل المعاصر من نابتة المدرسة الحديثة من خريجي الغرب واليابان والمعاهد الصينية المترقية.
كان والده فلاحا وأخوه تاجرا من أصحاب المعاملات في الخارج، فدرج وهو يعرف متاعب الفلاح الصيني ومتاعب التجارة الصينية أمام المزاحمة الأجنبية مستغنيا بالمشاهدة عن التعليم، وأراد أبوه وأخوه أن يعداه لحياة غير حياة الزراعة والتجارة، وكان أخوه يتجر في هنولولو فطلب إلى أبيه أن يرسله إليه تخفيفا عن الأسرة وتمكينا للصبي الصغير من تعليم أصح وأوفى من التعليم الذي يتهيأ لمثله في بلاده، فوصل إلى هنولولو وهو يناهز الثالثة عشرة وانتظم بمدرسة حديثة يديرها الآباء الإنجيليون، وقضى ثلاث سنوات قيل: إنه اطلع خلالها على بعض الكتب المسيحية فمال إليها وأبلغ أخاه رغبته في التنصر، فبادر هذا وأعاده إلى بلده ولم يشأ أن يتسلمه من أبيه على دين أجداده وأن يعيده إليه وقد صبأ إلى دين آخر، إلا أن الصبي كان شديد المراس من صغره وكان أساتذته يشكون من عناده ويعاقبونه على مخالفاته، فلم يكن جنوحه إلى المسيحية بتلقينهم وتشجيعهم، بل بمحض مشيئته واعتقاده، فلما قفل إلى قريته أصر على عقيدته وتعمد الجهر بمخالفة العقيدة الموروثة عسى أن يقصيه أبوه عن القرية إلى مدينة يتمم فيها دروسه على المناهج العصرية.
فهجر القرية فعلا إلى كانتون ورآه هناك طبيب من أعضاء البعثة البروتستانتية الأمريكية فنصح له بدراسة الطب، وأرسله إلى هونج كونج ليتعلم الطب في مدرستها الكلية، فتخرج منها سنة 1892، وانتقل إلى مكاو وهي تابعة للحكومة البرتغالية، لمزاولة الصناعة فيها، فلم تمهله حكومتها أن أمرته بمغادرتها متذرعة بما اتصل بها عن نشاطه السياسي، وكارهة في الواقع أن تفتح على أطبائها باب المنافسة من طبيب صيني متخرج من مدرسة إنجيلية، ولم يلبث بعد أن عاد إلى كانتون أن ابتدأ دعوة الإصلاح بعريضة مفصلة اقترح فيها على حكومة بكين تعميم المدارس الزراعية على النمط الحديث، فطوت الحكومة هذه العريضة ولم يكسب منها الفتى المصلح إلا أنهم أضافوا اسمه إلى السجل الأسود، وفرضوا الرقابة على حركاته وعلاقاته. •••
هذه الموافقات المتجمعة من مولده ونشأته وتعليمه لم تكن من عمله ولا تحسب له من جهوده.
ولكنها موافقات يشاركه فيها مئات الناشئين في تلك الفترة، كلهم من أهل الجنوب، وكلهم من أبناء الشطر الأخير من القرن التاسع عشر، وكلهم متعلمون في المدارس الحديثة.
ناپیژندل شوی مخ