وأدرك عيسى من يعنيهم بقوله «الآخرين» فتحفز لمعركة. وغادرت الأم لتصلي المغرب، وقال عيسى منذرا : أنت تعلم بمنزلة الآخرين في نفسي فحذار!
فقال حسن بتحد باسم: إن كل شيء ينهار بسرعة، ومن الخير أن ندعه ينهار، هذا القديم كله يجب أن يجتث من جذوره!
فتساءل عيسى في حدة: وقضيتنا الوطنية من يبقى لها؟ - أتظن أن هؤلاء الشيوخ المخرفين الفاسدين هم الذين سيحلونها؟ - أنت لا تستطيع أن تراهم على حقيقتهم. - الحقيقة أنني أراهم على حقيقتهم. - أنت تردد باستمرار أقوال الصحف المعادية!
فقال بثقة مثيرة للحنق: أنا لا أومن إلا بالواقع، وعلى الشباب أن يعتمد على نفسه!
فدارى عيسى حنقه قائلا: دعوة هدم خطيرة، لولا الخونة لأوقفنا الملك عند حدوده الدستورية ولحققنا الاستقلال.
أتى حسن على القدح وابتسم بغية تلطيف الجو، ثم قال برقة: أنت رجل مخلص، وإخلاصك يحملك على الولاء لأناس لا يستحقون الولاء. صدقني، لقد عم الفساد، لا هم لأحد من أصحاب السلطات اليوم إلا الإثراء المحرم، إننا نستنشق الفساد مع الهواء، فكيف تأمل أن يخرج من المستنقع أمل حقيقي لنا؟!
وترامى إليهما صوت الأم وهي تكبر، وخفف عيسى من حدته مراعاة للضيافة، ولم تكن قوة تستطيع أن تحمله على التسليم بما يقول غريمه ولو معاندة له، ولكن اجتاحه حزن عميق، الدنيا تتغير، وآلهته يتفتتون بين يديه. وحسن من جانبه غير الحديث، فتكلم عن خسائر الحريق وتقدير التعويضات وموقف الإنجليز والاعتقالات المستمرة، ولكن ما لبث أن عاد يقول: دلني على ركن واحد لم ينضح بالفساد؟
ما أبغض أفكاره! محنق حاد مثير للكدر، وحادثة قديمة برزت في وعيه بلا مناسبة، وكان بصحبة أبيه في زيارة لبيت علي بك سليمان، فوجد نفسه وحيدا في حجرة السفرة، ولمح قطعة شيكولاتة في درج نصف مفتوح فدس يده فسرقها. حدث ذلك منذ حوالي ربع قرن، فيا للذكرى، أما حسن فلا يكف عن الهجوم كعادته دائما فتبا له. وسأله بفتور: ماذا تريدون؟ - دما جديدا طاهرا. - من أين؟
فضحك عن أسنان لؤلؤية صارخة بالصحة والعافية وقال: البلد لم يمت بعد.
فتساءل عيسى بحدة: دلني على ركن يستحق الثقة غير حزبنا!
ناپیژندل شوی مخ