وعاد الرجل متجهم الوجه، ولكنه ما كاد يرى وجه رضوان حتى عاوده الانشراح فواصل حديثه قائلا: نعم يا سيد رضوان، تعارفنا وما أجمل التعارف! أنصحك بالاجتهاد، أنصحك بألا تتخلى عن الواجب والمثل الأعلى، بعد ذلك أحدثك عن الطرب والهناء ..
وهنا نظر رضوان في ساعته، فلاح الجزع في وجه الباشا وقال: إلا هذا! الساعة عدو مجالس الأنس.
فتمتم رضوان في شيء من الارتباك: ولكنا تأخرنا يا سعادة الباشا. - تأخرنا! أتعني أنه تأخر بي العمر! أخطأت يا بني، ما زلت أحب السهر والجمال والغناء بعد الساعة الواحدة، السهرة لم تبدأ بعد، لم نقل إلا بسم الله الرحمن الرحيم، لا تعترض. السيارة تحت أمركما حتى الصباح، وبلغني أنك تبيت خارج البيت للمذاكرة، فلنذاكر، لم لا؟ ما أحلى أن أعود إلى المدخل في القانون العام أو شيء من الشريعة، بهذه المناسبة من يدرس لكم الشريعة؟ الشيخ إبراهيم نديم، مساه الله بالخير، إنه كابتن عظيم، لا تدهش، سنؤرخ يوما لكل رجال العصر، يجب أن تفهم كل شيء، ليلتنا ليلة محبة وصداقة، خبرني يا حلمي، ما أنسب شراب لمثل هذه الليلة؟
فقال حلمي باطمئنان: ويسكي وصودا وشواء.
فتساءل الباشا ضاحكا: وهل الشواء شراب يا شقي؟
10
عقب الغداء من يوم الخميس يلتئم شمل أسرة خديجة على نحو لا يكاد يتغير. وهكذا جمعت الصالة بين الأب إبراهيم شوكت وعبد المنعم وأحمد. ولما كان من النادر أن تبقى خديجة دون عمل فقد جلست بينهم وهي تطرز غطاء مائدة، وقد بدا الكبر أخيرا على إبراهيم شوكت بعد مقاومة طويلة جبارة، فشاب شعره وترهل بعض الشيء، وإن حافظ فيما عدا ذلك على صحة يحسد عليها. وكان يدخن سيجارة، ويأخذ مكانه بين ابنيه في هدوء وطمأنينة، تعكس عيناه البارزتان نظرة الخمول واللا مبالاة التقليدية، على حين لم ينقطع الشابان عن الحديث، فيما بينهما حينا، أو مع الأب أو الأم التي شاركت في الحديث دون أن ترفع رأسها عن عملها، وقد بدت كتلة عظيمة من الشحم واللحم. لم يعد في الجو ما ينغص على خديجة صفوها؛ إذ لم يبق من ينازعها السيادة على بيتها مذ توفيت حماتها. كانت تقوم بواجباتها بهمة لا تخذلها أبدا، وترعى سمانتها بعناية فائقة وهي جوهر جمالها كله، وتحاول فرض رعايتها على الجميع، الأب والابنين، فيطاوع الرجل؛ وأما عبد المنعم وأحمد فيشق كل سبيله كما يرى مستعيذين بحبها من سطوتها. وقد نجحت منذ سنوات في حمل زوجها على احترام تقاليد الدين، فمارس الرجل الصلاة والصوم واعتادهما، وكان عبد المنعم وأحمد قد شبا على ذلك من قبل، غير أن أحمد توقف عن أداء الفريضة منذ عامين، وجعل يتهرب من استجواب أمه كلما استجوبته أو يتعلل بعذر أو بآخر. وكان إبراهيم شوكت يحب ابنيه حبا جما، ويعجب بهما أشد الإعجاب، وينوه في كل فرصة بنجاحهما المتواصل الذي بلغ بعبد المنعم كلية الحقوق وبأحمد نهاية المرحلة الثانوية، وفي ذلك كانت خديجة تقول في مباهاة: كل هذا ثمرة اهتمامي أنا، لو ترك الأمر لك ما فلح أحدهما ولا كان له شأن ..
وقد ثبت أخيرا أنها نسيت مبادئ القراءة والكتابة لعدم الاستعمال مما جعلها هدفا لسخرية إبراهيم، حتى اقترح ابناها أن يذكراها بما نسيت ردا لجميلها الذي تباهي به، فغضبت قليلا وضحكت كثيرا، ثم لخصت الحال في كلمة قائلة: لا حاجة بامرأة إلى الكتابة والقراءة ما دامت لا تكتب رسائل غرام!
بدت في أسرتها سعيدة راضية ، ولعل شهية عبد المنعم وأحمد لم تكن تعجبها كثيرا، كما أن نحافتهما كانت تغيظها، فقالت باستياء: قلت ألف مرة إنه يجب أن تغيرا ريقكما على البابونج ليفتح شهيتكما، يجب أن تأكلا جيدا، ألا تريان أباكما كيف يأكل؟
وابتسم الشابان وهما ينظران نحو أبيهما، فقال الرجل: ولماذا لا تضربين المثل بنفسك، وأنت تأكلين كالطاحونة؟
ناپیژندل شوی مخ