9
لاح بيت عبد الرحيم باشا عيسى على ناصية شارع النجاة بحلوان آية في البساطة والأناقة. فيلا سمراء مكونة من دور واحد يعلو عن الأرض بمقدار ثلاثة أمتار تكتنفه حديقة أزهار، ويستهل بسلاملك. وكان البيت والطريق والمنطقة المحيطة به غارقة في صمت مريح. وكان يجلس على أريكة عند الباب البواب وسائق السيارة، بواب نوبي بارع القسمات ممشوق القوام، وسائق في ريق الشباب مورد الخدين. وهمس حلمي عزت في أذن رضوان وهو يمد بصره نحو السلاملك: صدق الباشا فيما وعد، فلا زائر اليوم غيرنا!
وكان حلمي عزت معروفا لدى البواب والسائق، فوقفا لاستقباله في أدب، ولما داعبهما ممازحا انطلقا يضحكان دون كلفة. وكان الجو قارص البرودة رغم جفافه، فدخلا بهو استقبال آية في الفخامة، تتصدره صورة كبيرة لسعد زغلول في بذلة التشريفة. ومال حلمي عزت إلى مرآة ممتدة طولا حتى السقف تتوسط الجدار الأيمن، فألقى على صورته نظرة متفحصة طويلة، فلم يتردد رضوان أن يلحق به، وأن يمتحن منظره بنظرة مثلها، حتى قال حلمي باسما: قمران يرتديان بذلة وطربوشا، واللي يعشق جمال النبي يصلي عليه!
وجلسا متجاورين على كنبة مذهبة ذات غطاء أزرق وثير. ومرت دقائق ثم سمعت حركة آتية من وراء الستار المسدل على باب كبير تحت صورة سعد، فاتجه ناحيتها رأس رضوان وقلبه يخفق باهتمام. وما لبث أن تراءى الرجل في بذلة سوداء أنيقة، تنتشر بين يديه رائحة زكية، وقد بدا داكن السمرة، حليق الوجه، نحيل الجسم، مائلا إلى الطول نوعا، ذا قسمات دقيقة براها الكبر، وعينين صغيرتين ذابلتين، أما طربوشه فقد مال إلى الأمام حتى كاد يمس حاجبيه، وكان يتقدم هادئا وقورا في خطوات متقاربة وبطيئة معا، فانعكس منه إلى قلب الشاب إجلالا وطمأنينة. ولازم الصمت حتى وقف أمام الشابين اللذين وقفا لاستقباله، ثم تفحصهما بنظرة ثاقبة ثبتت على رضوان طويلا حتى اختلج جفناه، ثم ابتسم فجأة، فشاع في الوجه القديم إيناس وجاذبية قربت المسافة التي تفصل بينه وبينهما حتى لم تعد شيئا. ومد حلمي يده فتناولها الآخر واستبقاها في يده، ثم مد بوزه وانتظر، فأدرك حلمي غرضه وسرعان ما عرض له خده فقبله. ثم نظر صوب رضوان قائلا بصوت رقيق: لا تؤاخذني يا بني، فهذه هي طريقة السلام عندي ..
ومد رضوان يده في حياء، فتناولها الرجل وهو يتساءل ضاحكا: وخدك؟
فتورد وجه رضوان، وهتف حلمي مشيرا إلى نفسه: المخابرة يا سعادة الباشا مع ولي الأمر!
فضحك عبد الرحيم باشا واكتفى بمصافحة رضوان، ثم دعاهما إلى الجلوس ، وهو يجلس على مقعد كبير على كثب منهما، وقال باسما: ولي أمرك هذا ملعون يا رضوان، أليس هذا هو اسمك؟ أهلا وسهلا. لقد رأيتك في صحبة هذا الولد الشقي، فراقني أدبك وتمنيت لقاءك، وها أنت لم تضن علي به .. - إني سعيد بالتشرف بمعرفتك يا سعادة الباشا.
فقال الرجل وهو يدير خاتما ذهبيا كبيرا في بنصر يسراه: استغفر الله يا بني، لا تستعمل عبارات التعظيم وألقاب التفخيم، إنني لا أحب شيئا من هذا كله، الذي يهمني حقا هو الروح اللطيف والنفس الصافية والإخلاص، أما سعادة الباشا وسعادة البك فكلنا أبناء آدم وحواء، الواقع لقد راقني أدبك فوددت لو أدعوك إلى بيتي، فأهلا بك وسهلا، أنت زميل حلمي في كلية الحقوق، أليس كذلك؟ - نعم يا افندم، إننا زملاء من عهد خليل أغا الابتدائية ..
فرفع الرجل حاجبيه الأشيبين في إعجاب قائلا: زمالة صبا! .. (ثم وهو يهز رأسه): جميل، جميل، لعلك مثله من حي الحسين؟ - نعم يا سيدي، ولدت في بيت جدي السيد محمد عفت بالجمالية وأقيم الآن بمنزل والدي بقصر الشوق ..
فقال الرجل في سرور بلغ حد النشوة: أحياء مصر الأصيلة، البقاع الطيبة، ما رأيك لقد عشت فيها دهرا مع المرحوم أبي في بيرجوان، كنت وحيد أبوي، وكنت عفريتا، وطالما جمعت الصبيان في شبه زفة ومضينا من حارة إلى حارة نعاكس طوب الأرض، ويا ويل الدنف لو رماه القدر إلى طريقنا، وكان أبي يثور غضبه فيجري ورائي بالعصا، .. قلت يا بني إن جدك هو محمد عفت؟
ناپیژندل شوی مخ