فقال الأعزب العجوز: أنا درجتي السادسة من أيام مصطفى كامل؛ لذلك أحلت بها على المعاش إكراما لذكراه .. اسمعوا، أليس من الأفضل أن نسكر ونغني؟
فقال ياسين وهو يهم بإفراغ كأسه: لنسكر أولا يا والدي ..
لم يتمتع ياسين في حياته بنعمة الصداقة العميقة، ولكنه كان له في كل مجلس - قهوة أو حانة - أصحاب، وكان يألف بسرعة ويؤلف بأسرع من ذلك. ومنذ اتخذ هذه الحانة - تبعا لتطور حالته المادية - مجلسا ليليا مختارا عرف هذه الجماعة، وتوثقت أسباب السمر بينهم، غير أنه لم يقابل أحدا منهم في الخارج، ولم يسع إلى ذلك. جمع بينهم الإدمان والاسترخاص، وكان رئيس المستخدمين أرقاهم مركزا، ولكنه كان كثير العيال، أما المحامي فقد جاء هذه الحانة جريا وراء سمعة خمرها القوية، بعد أن لم تعد تؤثر فيه الخمور النظيفة إلا في النادر، ثم ألفها واعتادها، وجعل ياسين يشرب ويثرثر، قاذفا بنفسه في دوامة العربدة التي تجتاح المكان وترتطم بأركانه. وكان العجوز الأعزب أحب أفراد الجماعة إليه. ولم يكن يشبع من مداعبته خاصة فيما يتعلق بالرموز الجنسية، فكان الرجل يحذره من الإفراط، ويذكره بمسئولياته العائلية، فيقول له ياسين في استهانة ومباهاة: «نحن قوم خلقنا لهذا، هكذا أبي، وهكذا كان جدي من قبل.» وأعاد هذا القول في هذه السهرة، فتساءل المحامي مازحا: وأمك؟ .. أكانت كذلك أيضا؟
وضحكوا كثيرا، وضحك ياسين، غير أن قلبه غاص في صدره متوجعا، وأفرط في الشراب، وخيل إليه رغم نشوته أنه يتدهور، فلا المكان مكانه، ولا الخمر خمره، ولا اليوم يومه «وفي كل مكان يتغامزون علي، فأين أنا من أبي؟ ليس أتعس من أن يزيد عمرك وتنقص نقودك، بيد أن رحمة الشراب واسعة، تفيض عليك أنسا، أنسا رقيقا وعزاء جميلا يهون عنده كل خطب، فقل ما أعظم مسرتي، لن يعود العقار الذي ضاع، ولا الشباب الذي انقضى، ولكن الخمر تصلح أن تكون خير رفيق على مدى العمر، رضعتها شابا يافعا، وها هي تؤنس رجولتي، وسوف يهتز لها طربا رأسي المجلل بالمشيب، بذلك يفرح مني القلب رغم العناء، وغدا عندما يستوي رضوان رجلا وتتهادى كريمة عروسا ، أشرب أنخاب السعادة في العتبة الخضراء، فما أعظم مسرتي.»
وإذا بالجماعة تغني: «أسير العشق يا ما يشوف هوان» ثم غنت: «يا جارة الوادي» في جو صاخب وأصوات معربدة، فردد الغناء أقوام من سائر الحجرات والدهليز، ثم ساد صمت مرهق فعاد رئيس المستخدمين يتحدث عن استقالة توفيق نسيم، ويتساءل عن المعاهدة التي تهدف إلى حماية مصر من خطر إيطاليا؛ ذلك الجار الثقيل القائم في ليبيا، فما كان من الجماعة إلا أن رددت في صوت واحد: «ارخى الستارة اللي في ريحنا .. أحسن جيرانا تجرحنا» ورغم إفراط العجوز في الشراب والعربدة؛ فقد احتج على هذه الإجابة الماجنة، ورماهم بالهذر فيما يليق به الجد. فأجابوه في صوت واحد مرددين: «صحيح خصامك والا هزار» فلم يسع الشيخ إلا أن يضحك، وأن يعود إلى مشاركتهم بلا تحفظ.
وغادر ياسين الحانة عند منتصف الليل، فبلغ بيته في قصر الشوق حوالي الواحدة صباحا. وكعادته كل ليلة جعل يمر بحجرات شقته كأنما يقوم بجولة تفتيشية، فوجد رضوان في حجرته يذاكر، وقد رفع الشاب رأسه عن كتاب القانون؛ ليتبادل مع والده ابتسامة. وكان الحب بينهما عميقا، كذلك الاحترام رغم أن رضوان كان يعلم أن والده لا يعود هذه الساعة إلا ثملا. أما ياسين فكان يعجب بجمال ابنه أيما إعجاب، كما يعجب بذكائه واجتهاده، ويرى فيه وكيل نيابة المستقبل الذي سيرفع من شأنه، ويعز من كبريائه، ويعزيه عن أمور كثيرة، سأله: كيف تجد دروسك؟
وأشار إلى نفسه كأنما يقول له: «نحن هنا.» فابتسم رضوان، وابتسمت فيه عينا جدته هنية المكحولتان، فعاد أبوه يسأل: أيزعجك إذا درت الفونوغراف؟ - أما عني فلا. ولكن الجيران نائمون في هذه الساعة المتأخرة.
فابتعد عن الحجرة وهو يقول هازئا: نوم العافية!
ومر بحجرة نوم «الأولاد» فوجد كريمة تغط في نومها على فراش صغير، على حين بقي فراش رضوان في الجانب الآخر من الحجرة خاليا ينتظر فراغه من مذاكرته. وخطر له لحظة أن يوقظها ليداعبها، ولكنه ذكر ما يصحب إيقاظها في تلك الساعة من تذمر فعدل عن خاطرته . واتجه صوب حجرته. أجمل الليالي في هذا البيت حقا هي ليلة الجمعة، تلك العطلة المقدسة. فإذا عاد إلى بيته ليلة الجمعة - بصرف النظر عن الساعة التي يعود فيها - فإنه لا يتردد في أن يدعو رضوان إلى مجلسه بالصالة، ثم يوقظ كريمة وزنوبة، ويدير الفونوغراف، ويمضي في محادثتهم وممازحتهم حتى الهزيع الأخير من الليل. كان مغرما بأسرته - خاصة رضوان - أجل لم يكن يشغل نفسه - أو لم يكن لديه الوقت - ليتابعهم برعايته وتوجيهه، تاركا أمرهم لعناية زنوبة وحكمتهم الفطرية! ومهما يكن الأمر فإنه لم يطق لحظة واحدة أن يمثل حيالهم الدور القاسي الذي مثله أبوه حياله، وكره من صميم قلبه أن يخلق في قلب رضوان شعور الرهبة والخوف الذي كان يجده نحو أبيه! والحق أنه لم يكن يستطيع ذلك حتى لو أراده. وعندما كان يجمعهم حوله بعد منتصف الليل كان يفصح عن ولعه بهم دون تحفظ، وهو في نشوة من الخمر والحب، كان يمازحهم ويسامرهم، وربما قص عليهم نوادر السكارى الذين صادفهم في الحانة، غير عابئ بأثر ذلك في الأنفس البريئة، مستهينا باحتجاجات زنوبة التي تومئ بها إليه من وراء وراء، فيبدو وكأنما نسي نفسه وجرى على سجيته دون حذر أو مبالاة.
وفي حجرته وجد زنوبة - كالعادة - نائمة وليست بنائمة. هكذا كانت أبدا، فقبل أن يلج الحجرة يترامى إليه شخيرها، حتى إذا توسطها تحركت وفتحت عينيها وقالت بلهجتها الساخرة: «حمدا لله على السلامة.» ثم تنهض لمعاونته على خلع ثيابه وترتيبها. وقد بدت في صورتها الطبيعية أكبر من سنها، وكثيرا ما ظنها تماثله سنا، ولكنها باتت أليفته واشتبكت جذورها بجذوره؛ تلك الغانية القديمة التي نجحت في معاشرته فيما لم تنجح فيه سيدة من قبل، فأرست حياته الزوجية على أساس متين، نعم لقد انتابت حياتهما في أول الأمر معارك وعلا بها زئير ولكنها بدت دائما حريصة على حياتهما الزوجية كل الحرص. ومع الأيام صارت أما، ومنيت بالثكل، فلم يبق لها إلا كريمة، غير أن ذلك دعاها إلى مضاعفة الاستمساك بحياتها الزوجية، خاصة بعد أن تهددها الذبول وناوأها الكبر المبكر، ثم علمتها الأيام أن تتحلى بالصبر والمهادنة، وأن تتمرس بدور «السيدة» بكل معنى الكلمة، وغالت في ذلك إلى حد أنها لم تكن تتبرج خارج بيتها حتى فازت أخيرا باحترام بين القصرين، والسكرية إلى حد ما! وكان من حسن سياستها أن تحمل نفسها على معاملة رضوان معاملة كريمة بالغة الرقة والمودة، على الرغم من أنها لم تكن تجد نحوه حبا، خاصة بعد أن ثكلت في الذكر الوحيد الذي أنجبته لياسين، وكانت رغم تغيرها شديدة العناية بحسن هندامها وأناقتها ونظافتها، وقد لاحظها ياسين باسما وهي تعيد ترتيب شعرها أمام المرآة، ومع أنه كان يضيق بها أحيانا إلى حد الضجر، إلا أنه كان يشعر بحق بأنها أصبحت شيئا ثمينا في حياته لا يمكنه الاستغناء عنه بحال. وجاءت بشال فتلفعت به وهي تقفقف من البرد، وقالت متشكية: ما أشد البرد! هلا رحمت نفسك من السهر في الشتاء؟!
ناپیژندل شوی مخ