ارتفعت عينا عائشة عن المجمرة إلى وجه أم حنفي لحظة ولكنها لم تعلق بكلمة، قد علموا في حينه بهدم البيت الذي كان يوما بيت السيد محمد رضوان ثم إعادة بنائه عمارة مكونة من أربعة أدوار باسم عم بيومي الشرباتلي، تلك الذكريات القديمة، مريم وياسين، ولكن ترى أين مريم، وأم مريم وبيومي الشرباتلي الذي استولى على البيت بالوراثة والشراء، أيام كانت الحياة حياة، والقلب ناعم البال! وعادت أم حنفي تقول: أجمل ما فيها يا ستي دكان عم بيومي الجديدة؛ ثريات ودندرمة وحلوى، كلها مرايا وكهرباء، والراديو ليل نهار، يا عيني على حسنين الحلاق ودرويش بائع الفول والفولي اللبان وأبو سريع صاحب المقلى وهم ينظرون من دكاكينهم البالية إلى دكان زميلهم القديم وعمارته ..
فقالت أمينة، وهي تشبك الشال حول منكبيها: سبحان ربك الوهاب ..
فعادت نعيمة تقول وهي تحيط عنق أمها بذراعيها: سد جدار العمارة سطحنا من هذه الناحية، وإذا عمرت بالسكان فكيف نستطيع أن نمضي الوقت فوق السطح؟
لم يكن في وسع أمينة أن تتجاهل سؤالا توجهه حفيدتها الجميلة مراعاة لخاطر عائشة قبل كل شيء فقالت: لا يهمك السكان، امرحي كيف شئت ..
واسترقت النظر إلى عائشة؛ لترى وقع إجابتها اللطيفة؛ إذ إنها باتت من شدة الخوف عليها وكأنما تخافها، ولكن عائشة كانت مشغولة في تلك اللحظة بالتطلع إلى مرآة فوق نضد بين حجرة السيد وحجرتها. لم تزايلها عادة التطلع إلى المرآة، وإن لم يعد لها معنى، وبمرور الزمن لم يعد يروعها منظر وجهها الضحل، وكلما سألها صوت باطني «أين عائشة زمان؟» أجابت دون اكتراث «وأين محمد وعثمان وخليل؟» وكانت أمينة تلاحظ ذلك فينقبض قلبها، وسرعان ما يسري الانقباض إلى أم حنفي التي اندمجت في الأسرة حتى ورثت عنها همومها. ونهضت نعيمة إلى الراديو القائم ما بين حجرة الاستقبال وحجرة السفرة وأدارت مفتاحه وهي تقول: ميعاد إذاعة الأسطوانات يا ماما ..
وأشعلت عائشة سيجارة، وأخذت نفسا عميقا، وجعلت أمينة ترنو إلى الدخان وهو ينبسط سحابة خفيفة فوق المجمرة. وانبعثت من الراديو صوت يغني «يا عشرة الماضي الجميل يا ريت تعودي.» وعادت نعيمة إلى مجلسها، وهي تحبك الروب حول جسمها. كانت - كأمها في الزمان الخالي - تهوى الغناء. وهبت كيف تسمعه وكيف تحفظه وكيف تعيده بصوت حسن. لم ينل من هذا الهوى شعورها الديني الذي غلب على كافة مشاعرها؛ فهي تواظب على الصلاة، وتصوم رمضان مذ بلغت العاشرة. وتحلم كثيرا بعالم الغيب، وترحب بغبطة لا حد لها بزيارة الحسين إذا دعتها جدتها إليها، ولكنها في الوقت نفسه لم تقلع عن حب الغناء؛ فهي تغني كلما خلت إلى نفسها في حجرتها أو في الحمام. وكانت عائشة ترضى عن كل ما يصدر عن وحيدتها؛ الأمل المضيء في أفقها المظلم، تعجب بتدينها كما تعجب بصوتها؛ وحتى عن التصاق الفتاة بها - ذلك الالتصاق الذي بدا خارقا للحد - فهي تشجعه وتحبه ولا تطيق أن تسمع عنه أية ملاحظة، بل هي تضيق بالنقد عامة وإن هان وحسن القصد فيه. من ذلك أنه لم يكن لها من عمل في البيت غير القعود وحسو القهوة والتدخين، فإذا دعتها أمها إلى المشاركة في عمل - لا لحاجتها إلى مساعدتها ولكن لتخلق لها ما تتسلى به عن أفكارها - امتعضت وقالت جملتها المشهورة: «أف .. دعيني وشأني.» ولم تكن تسمح لنعيمة بأن تمد للعمل يدا، كأنما كانت تخاف عليها أقل حركة، ولو أمكن أن تصلي نيابة عنها لفعلت وكفتها جهد الصلاة، وكم من مرة حدثتها أمها في هذا الشأن قائلة: إن نعيمة أصبحت «عروسا» وينبغي لها أن تلم بواجبات «ست البيت»! فكانت تقول لها بصوت ينم عن الضجر: «ألا ترينها كالخيال؟! أن ابنتي لن تتحمل أي جهد فدعيها وشأنها، لم يعد لي من أمل في الدنيا سواها.» ولم تكن أمينة لتعيد القول. كان قلبها يتقطع حزنا عليها، وتنظر إليها فتجدها مثالا مجسما لخيبة الأمل، وترى وجهها التعيس الذي فقد كل معنى للحياة فتذهب نفسها حسرات؛ لذلك أشفقت من مضايقتها؛ ولذلك اعتادت أن تتحمل ما قد ينم عنها من جفاء في الرد أو قسوة في الملاحظة بصدر رحيب وعطف سمح. لم يزل الصوت يغني: «يا عشرة الماضي الجميل ...» وجعلت عائشة تدخن سيجارتها وتصغي إليه. هذا الغناء الذي كانت تحبه، وما زالت تحبه، فالحزن واليأس لم يقتلا الإحساس به، بل لعلهما قوياه في نفسها بما يردده عادة من معاني الشجن والحسرات، ولو أن شيئا في الوجود ليس بمستطيع أن يعيد عشرة الماضي الجميل، بل إنها لتتساءل أحيانا أكان هذا الماضي حقيقة لا حلما ولا خيالا؟ إذن أين البيت العامر؟ وأين الزوج الكريم؟ وأين عثمان وأين محمد؟! وهل لا يفصلها عن ذلك الماضي إلا ثمانية أعوام؟ ولم تكن أمينة ترتاح إلى هذه الأغاني إلا في النادر. إن فضيلة الراديو الأولى في نظرها أنه أتاح لها سماع القرآن الكريم والأخبار، أما الأغاني فكانت تجزع عند تلقي معانيها الحزينة وتشفق على ابنتها من سماعها حتى قالت مرة لأم حنفي: «أليس هذا هو النواح؟» كانت لا تني عن التفكير في عائشة حتى كادت تنسى ما أخذ ينتابها هي من أعراض الضغط ومتاعبه، ولم تكن تجد فرجة إلا في زيارة الحسين وغيره من الأولياء، وشكرا للسيد الذي لم يعد يحجر عليها فتركها تنطلق إلى بيوت الله كما تحب. لم تعد - هي أيضا - أمينة العهد الماضي. غيرها كثيرا الحزن والتوعك. وقد فقدت مع الزمان مثابرتها العجيبة على العمل وطاقتها الخارقة في التنسيق والتنظيف والتدبير؛ ففيما عدا شئون السيد وكمال لم تكن تعنى بشيء. عهدت بحجرة الفرن والمخزن لأم حنفي، قانعة بالإشراف وحده، وحتى الإشراف كانت تتهاون فيه. وكانت ثقتها في أم حنفي لا حد لها؛ فليست هي بالغريبة عن الدار وأهلها، ثم إنها شريكة العمر ورفيقة السراء والضراء، وقد اندمجت في الأسرة حتى صارت قطعة منها، وتمثلت بكل قلبها مسراتها وأحزانها. وساد الصمت حينا كأنما استأثر الغناء بوعيهم، حتى قالت نعيمة: لمحت في الطريق اليوم صديقتي سلمى، كانت معي في الابتدائية، وستتقدم العام المقبل في امتحان البكالوريا ..
فقالت عائشة بامتعاض: لو سمح جدك لك بالاستمرار في الدراسة لتفوقت عليها .. ولكنه لم يسمح!
وفطنت أمينة لما أوحت به جملة: «ولكنه لم يسمح» من الاحتجاج فقالت: جدها له آراؤه التي لا ينزل عنها، ترى أكنت ترحبين باستمرارها في التعليم رغم ما في ذلك من تعب وهي العزيزة الرقيقة التي لا تحتمل التعب؟! ..
فهزت عائشة رأسها دون أن تنبس. أما نعيمة فقالت بحسرة: وددت لو أتممت تعليمي، كل البنات يتعلمن اليوم كالصبيان ..
فقالت أم حنفي باحتقار: يتعلمن لأنهن لا يجدن العريس، أما الجميلة مثلك ..
ناپیژندل شوی مخ