وفي حين أننا يجب ألا نتجاهل أهمية التجربة الروحانية الفردية ومحاولات التفسير الإبداعي، فقد كانت عمليات الكتابة «الخطابية» بالغة الأهمية؛ لأن الصوفيين الأوائل حرصوا عند بناء معتقدهم الصوفي على المصطلحات والنصوص التي كانت مفهومة للمسلمين الآخرين في هذه الفترة، على أن تكون تعاليمهم محترمة ومن الممكن فهمها على نحو كاف كي تستمر في الأجيال المستقبلية، وتكون مرتبطة بفروع المعرفة المعترف بها الأوسع نطاقا. وعندما دخلت التجربة إلى المعادلة، لم يكن مسموحا لها أن تظل نقية وغير قابلة للوصف، بل كان لزاما تفسيرها وفهمها من خلال المصطلحات الخاصة التي صاغها الصوفيون الأوائل في كتاباتهم وكان مصدرها القرآن بصفته وحيا معبرا عنه بالكلمات.
59
إن هذا التطوير المبكر للمصطلحات الخاصة بالمعتقد والممارسة التي تكتسب قوتها من كونها شرعية، سنرى أهميته الصرفة لاحقا في عملية «الازدواجية اللغوية» المتكررة، التي من خلالها اقترضت المصطلحات العربية الأصلية هذه ، واستمرت في كثير من اللغات الأخرى التي سيتحدث ويكتب بها الأجيال اللاحقة من الصوفيين. إن الإنتاج النصي للصوفيين الأوائل في بغداد، سواء أخذ ككتب كاملة أو كعناصر مكونة من خلال المصطلحات الشرعية الواسعة النطاق، قد أوجد أحد المصادر الأساسية التي من خلالها ستكون الأجيال اللاحقة من الصوفيين «تقليدا»؛ أي مجموعة من المعتقدات والممارسات تستمد الشرعية والمكانة من علاقتها بالماضي المقدس. وإذا كانت النصوص هي أحد المصادر، فإن شخصية منتجي هذه النصوص تعد مصدرا آخر، وكما سنرى لاحقا، فسوف تستخدم الأجيال اللاحقة من الصوفيين حياة الصوفيين الأوائل في العراق لتكوين سلاسل تراجم نسبية، من خلالها يمكن لأي صوفي من الأجيال اللاحقة أن يزعم أنه وريث لواحد أو أكثر من شيوخ بغداد والبصرة؛ لذلك، فإن الصوفيين في العراق في القرن التاسع لم يكونوا مهمين بسبب ما قدموه في عصرهم فقط، بل لأنهم كانوا أيضا مصادر لتكوين التقليد الصوفي؛ ومن ثم، كانوا مهمين نظرا لما تركوه للعصور التالية عن طريق النصوص وهيئة الأسلاف.
بالنظر إلى الاتجاه الزمني المعاكس ومقارنة صوفيي هذه الفترة بحركة الزهاد في القرن السابق، يمكننا أن ندرك أيضا أن إضفاء الطابع الاجتماعي على الزهد كان على الأرجح أهم إنجازاتهم الأخرى، إلى جانب بحثهم عن طريقة تعبير مشروعة. فمن خلال تقديم طريق مقنع إلى الله بدلا من تعذيب الجسد والانصراف عن الحياة الاجتماعية والزواج وحيازة الأملاك، الذي كان يروجه «الزهاد»؛ قدم الصوفيون منتجا دينيا لديه فرصة أكبر كثيرا للتكرار والبقاء. ولم يكن الأمر هكذا فقط بسبب البديهيات العامة المتمثلة في أن أي مجتمع لا يستطيع إعالة سوى عدد محدود من الزهاد غير المنتجين اقتصاديا، وأن حياة الزهد لن تلقى إلا قبولا اجتماعيا محدودا؛ بل كان الأمر كذلك نظرا لسبب محدد ثقافي على نحو أكبر؛ ففي هذه الفترة وهذا المكان كانت «سنة» النبي محمد آخذة في تشكيل أساس النظرية الاجتماعية والأخلاقية، وبدأت تتضاءل مشروعية حياة الزهد الانعزالية من المنظور الإسلامي. لقد كان النبي محمد رب أسرة، وقائدا لمجتمعه ، وتاجرا ناجحا، ولم يمنع أي من ذلك اختياره ليكون نبي الله. وعلى مدار القرون اللاحقة، أثبت التراث الذي خلفته عملية إضفاء الطابع الاجتماعي على الصوفية المبكرة هذه - والتي منحت الصوفيين القدرة على محاكاة النبي من خلال زعم أنهم أولياء لله، مع الاحتفاظ في الوقت نفسه بالفرص التي أتاحتها لهم حيازة الأملاك، وتكوين العلاقات الاجتماعية، والتناسل - أنه كان ضروريا في منحهم القدرة على ترسيخ أنفسهم في كل جانب تقريبا من جوانب الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية لمجتمعاتهم.
حتى الآن لا نعلم إلا القليل عن النسق التنظيمي للصوفيين في هذه الفترة المبكرة، الذين يبدو أنهم تجمعوا في حلقات صغيرة حول شيوخهم على نحو مثل انعكاسا لتجمعات العلماء المسلمين الآخرين في هذا الوقت.
60
ولا نرى دليلا على التحول من «حركة» صوفية تضم شيوخا ومريدين متشابهين في التفكير - والتي تكونت بحلول القرن الحادي عشر في العراق - إلى «تنظيم» صوفي يمتلك قواعد جماعية مميزة، وهياكل بنيوية خاصة به؛ إلا عند الالتفات إلى التطورات التي حدثت في أقصى الشرق. (9) البدائل الشرقية: التنافس والاندماج في خراسان
لم يكن الصوفيون على الإطلاق المسلمين الوحيدين الذين طوروا أساليب معرفية باطنية وتصوفية في العراق، إلا أن ما شاهدناه كان بداية صعودهم التدريجي والمحسوب هناك عندما حلوا محل حركة زهدية هامشية (كانت تستمد سلطتها من السيطرة على الجسد)، وانحازوا إلى حركة العلماء السائدة (التي تستمد سلطتها من الفهم الصحيح للكتاب والسنة). وعندما نلتفت إلى المنطقة الشرقية من الدولة العباسية، المعروفة باسم خراسان (وهي كلمة تعني «الأرض التي تشرق منها الشمس»)، سنرى الاحتكاك التدريجي بين ما كان في البداية مجموعة من التطورات الدينية المتوازية والمنفصلة تماما، وبين الحركة الصوفية النابعة من مركز الإمبراطورية في العراق، واستحواذ الصوفية على تلك التطورات في نهاية المطاف. ومن المهم أن نميز بين تلك الحركات المختلفة، وأن ندرك عمليات التنافس والتوافق التي تفاعلت خلالها تلك الحركات، وإلا فسنقع في الفخ نفسه الذي قاد الكثير من الأعمال السابقة التي تناولت الصوفية إلى تصوير أنها ظهرت في الوقت نفسه تقريبا ، في نطاق عريض من الأماكن المتباينة جغرافيا. وعلى غرار الأعمال الحديثة الأخرى التي تحدثت عن بدايات الصوفية، فإن الصورة المقدمة في هذا الكتاب هي عموما صورة انتشار الأفكار والممارسات والمؤسسات الدينية (وفي هذا الصدد قدمت خراسان إسهامها الخاص).
وقعت خراسان - التي تضم مناطق تقع اليوم في شرق إيران وأفغانستان وجمهوريات آسيا الوسطى - في أيدي المسلمين خلال العقود الأولى من الفتوحات التي أعقبت وفاة النبي محمد عام 632. وعلى النقيض من العديد من المناطق الغربية من الدولة العباسية الإسلامية التي كانت في السابق واقعة تحت الحكم المسيحي البيزنطي؛ فقد كانت خراسان خاضعة للحكم الزرادشتي الفارسي، وضمت أيضا جيوبا ذات وجود بوذي ومسيحي. وكما هو الحال في الغرب، فقد كانت عملية التحول إلى النظام الإسلامي وإعادة الاستيطان طويلة، وعلى الرغم من وصول نخبة حاكمة جديدة من المسلمين، فقد احتفظ كثير من ملاك الأراضي الناطقين بالفارسية الكبار في الريف بنفوذهم. ومع انهيار القوة المركزية لبغداد في القرن العاشر، شعرت بعض المدن أيضا بهذا التأثير الثقافي الفارسي.
61
ناپیژندل شوی مخ