على الرغم من أن التستري أوضح صراحة أنه توجد أربعة مستويات لفهم معاني القرآن (الحرفي، والرمزي، والأخلاقي، والأخروي )، فإن أولياء الله فقط هم من يستطيعون حقا فهم القرآن. وفي حين نرى مرة أخرى الاهتمام بالترتيب والإحصاء الذي ميز أيضا كتابات الخراز؛ فقد حاز أولياء الله بلا شك على حيز كبير في عالم التستري. وفي الوقت الذي كان يشكل فيه الكثير من العلماء المسلمين إسلاما يتسم بالمساواة (أو على الأقل قائم على الجدارة)، كانت فيه المعرفة والسلطة تكتسبان من خلال الفهم الصحيح للقرآن واتباع السنة النبوية؛ فإننا نرى في دائرة التستري ظهور الإسلام الهرمي القديم مرة أخرى، الذي أودعت فيه المعرفة والسلطة في عدد صغير من الناس؛ من خلال الاختيار الإلهي. ونظرا لأن أولياء الله ليسوا نخبة محددة بالنسب كما هو الحال في تكوين السلطة لدى الشيعة المحصور في أولئك المنحدرين من نسل النبي محمد، فقد مثلوا نموذجا أكثر تغيرا، ومن ثم أكثر قابلية للتحوير، كان من المحتمل أن يجذب عددا أكبر من المؤيدين نتيجة لذلك. ولأن أولياء الله هم وحدهم من يعلمون أنهم أولياؤه، فلم توجد من الناحية النظرية طريقة للتأكد مما إذا كان من يزعم أنه من أولياء الله وليا له فعلا أم لا. وكما هو متوقع، فقد زعم التستري أنه نفسه «قطب» الكون الذي يقف في قلب الهرمية الكونية هذه لأولياء الله الذين اختارهم الله منذ الأزل.
على الرغم من أن تفسير التستري للقرآن يعج بالرؤى والاستنباطات الغريبة، فقد مثلت تعاليمه أيضا مصدرا عقائديا للتوجهات البالغة التسلط، التي سنشهد كيف أنها ازدهرت مع سعي الصوفيين إلى كسب مزيد من النفوذ في القرون التالية. وفي زمن التستري، أكسبه زعم كونه من أولياء الله استحسان الآخرين ودعمهم، ويبدو أنه اضطر للهروب من مدينة واحدة على الأقل نتيجة لذلك. وبينما تمكن التستري من كسب عدد كبير من الأتباع في البصرة، انتقل أتباعه بعد وفاته إلى اتجاهات مختلفة، وأسس بعضهم مدرسة عقائدية مميزة أكثر من كونها مدرسة صوفية، تسمى السالمية، وانتقل البعض الآخر إلى بغداد للالتحاق بالحلقة المتجمعة حول الصوفي التالي الذي سوف نتطرق إليه، وهو الجنيد صاحب فكرة «الصحو »؛ ومن ثم، فما نشهد لم يصبح بعد حركة صوفية متماسكة على نحو كامل، بل مجموعة من الحلقات المتمايزة، لكن المتقاطعة المجتمعة حول شيوخ منفردين. وكما نرى في حالة أتباع التستري والجنيد، ففي العراق على أقل تقدير كانت تحظى هذه الحلقات بقدر معقول من التفاعل الاجتماعي بعضها مع بعض، وهذا التفاعل سيخلق تدريجيا على مدار القرنين التاسع والعاشر حركة صوفية أكثر تماسكا، تتشارك في بعض الأفكار والممارسات.
بحلول القرن العاشر، نكون قد تجاوزنا بالتأكيد المرحلة التي كان يمثل فيها مصطلح صوفي مجرد لقب لخليط متنوع من السالكين، وأصبح كثير من الأفكار والمصطلحات والممارسات الأساسية التي ستكون تقليدا صوفيا خاصا قيد التكوين. إلا أننا سنرى من خلال تناولنا للشخصيات القليلة التالية أن وجود الجدالات والخلافات يوضح أننا لم نصل بعد إلى وجود حركة متماسكة، وأنها ما زالت لا ترقى لمنزلة التقليد. (6) الجنيد البغدادي (المتوفى عام 910)
على النقيض من الخراز والتستري اللذين سافرا كثيرا على الرغم من قضاء أكثر فترات حياتهما المهنية نشاطا في العراق، فقد كان الجنيد إلى حد كبير مواطنا طويل الإقامة في بغداد عاصمة الخلافة الإسلامية.
46
اشتهر الجنيد بلقب الخزاز، وهذا يخبرنا أنه كان يكسب قوته من العمل كتاجر للحرير، وهذا يشير مرة أخرى إلى الخلفية المهنية الحضرية. إن دراسته المبكرة للفقه الإسلامي - الذي كان فرعا معرفيا ناشئا في ذلك الوقت - جعلته بحق في قلب الاتجاه الفكري السائد في بغداد في زمنه أكثر من غيره من الشخصيات التي تناولناها. وتتضح هذه المؤهلات العلمية من عدد الرسائل التي كتبها - التي تزيد عن ثلاثين بحسب إحدى الروايات - ومعرفته بالنقاشات الواسعة النطاق التي كشفتها. سعى الجنيد مثل الخراز والتستري إلى بناء تعاليمه (واستقائها في واقع الأمر) من المصدرين أنفسهما اللذين استخدما لوضع قواعد الشريعة، وهما القرآن والحديث.
47
ومثلما يؤكد الكثير من كتابات الصوفيين المتأخرين الذين أتوا من بعده على التناغم بين البعد «الباطني» أو الداخلي، والبعد «الظاهري» أو الخارجي للوجود، فقد كانت تعاليم الجنيد المتعلقة بطبيعة الروح متممة لقواعد الشريعة، وليست بديلة لها . فبالنسبة إليه، لم تكن «الطريقة» أو المنهج سوى التحقيق الكامل للمبدأ الأساسي في الإسلام المعلن في أذان الصلاة، ألا وهو: «لا إله إلا الله.» ذلك المبدأ المعروف بمبدأ «التوحيد» - أي وحدانية الله في مقابل «التثليث» عند المسيحيين - الذي يعد المبدأ الأكثر أساسية في المبادئ الإسلامية، والذي كان في نظر الجنيد أساس مسعى كل الصوفيين. ولم يكن كافيا مجرد الشهادة بوحدانية الله باللسان، أو القبول بها بالعقل، بل كان لازما العيش بها واختبارها كواقع.
48
واعتمادا على الفكرة القرآنية نفسها القائلة بوجود الميثاق، التي ناقشها التستري في البصرة في الوقت نفسه، زعم الجنيد أن الأرواح البشرية تتوق إلى حالة الوجود الأصلية؛ حيث كانت في حالة وجود سابق لفرديتها في الله.
ناپیژندل شوی مخ