وكما هو الحال مع كثير من المفكرين الإسلاميين البارزين الآخرين في هذه الفترة، فقد كان الصوفيون الأوائل مهتمين كثيرا بالأفعال والتوجهات الصحيحة للبشر في هذا العالم الاجتماعي، أكثر من اهتمامهم بمعرفة البشر بما يكمن وراء ذلك العالم وتفاعلهم معه.
ربما يعد المحاسبي البغدادي (المتوفى عام 857) الأهم - وبالتأكيد الأكثر شهرة - بين هذه الشخصيات التي رفضت رياء الزهاد مفضلة سيادة الذات الأخلاقية على الذات الجسدية.
32
يرى البعض أن المحاسبي لا يمكن أن يكون صوفيا؛ لأنه كان عالم دين مهتما بالجانب الأخلاقي وليس متصوفا، وبالفعل في كتاباته التي وصلت إلينا لم يشر إلى نفسه مطلقا بلفظة صوفي.
33
إلا أن هذا يعد إغفالا لسياق الاهتمامات القوية بالاستقامة الظاهرة (إن لم تكن المرائية) الذي ظهر فيه الصوفيون واستمدوا منه معاشهم. علاوة على ذلك، فقد لعب المحاسبي دورا مهما في توفير المصادر الفكرية لتكوين التقليد الصوفي؛ حيث سيزعم صوفيو الأجيال التالية أنه كان واحدا منهم. كان هذا جزءا مهما جدا من العملية التي نتتبعها، الخاصة بتطور «التقليد» الصوفي الذي كان في بعض الأحيان عملية استرجاعية قائمة على الانتساب إلى أشخاص مرموقين وأفكار محترمة أو مفيدة على نحو ما. لهذه الأغراض، كان المحاسبي مهما في تطوير الممارسة الأساسية التي ستميز تدريجيا الصوفيين عن غيرهم من الصالحين الذين وضعناهم في مصافهم. وهذه الممارسة - أي المحاسبة التي منها اكتسب اسمه - تمثلت في المراقبة الدقيقة للذات الدنيا الجسدية التي أشار إليها القرآن باسم «النفس» (لاحظ اللجوء للمصطلحات القرآنية).
34
في هذا الصدد الخطابي والعملي يكمن «الالتفات الداخلي» الذي ميز الصوفيين عن منافسيهم الأكثر ميلا إلى الإظهار الخارجي، سواء أكان هؤلاء المنافسون هم الزهاد أم أهل الحديث المهتمون بالأخلاق. وكما سنرى الآن عندما نلتفت إلى تعاليم الصوفيين الأوائل على نحو كامل، فقد كان هذا التطوير لإطار مقنع لفهم الذات وطرق فعالة لاستكشافها هو ما أكسب الصوفيين الشهرة والتبعية اللتين ستنشران طريقتها الجديدة على نطاق واسع على مدار الأجيال القادمة. ونظرا لأن معتقدات صوفيي بغداد في القرن التاسع والقرن العاشر ستشكل أسس التقليد الصوفي اللاحق، فإن الصفحات القادمة سوف تتبع تلك المعتقدات بقدر من التفصيل؛ لأن المفاهيم الأساسية والمصطلحات العربية التي ارتبطت بها ستنتقل لاحقا إلى الصوفيين في أماكن بعيدة مثل واحات الصحراء الكبرى وجزر التوابل في المحيط الهندي. (4) الخراز البغدادي (المتوفى عام 899)
في منتصف القرن التاسع، في بغداد وكذلك جنوبا في البصرة، كان يوجد عدد كبير من الأشخاص الذين يطلق عليهم الصوفيون، إلا أن أبا سعيد الخراز كان من أهمهم من حيث الشهرة في عصره أو الاقتداء به بعد مماته.
35
ناپیژندل شوی مخ