ربما كان يوجد في هذه الفترة أشخاص كثر كانت لهم حالات تواصل مباشرة مع الله لم تكن لها علاقة بالقرآن، وكان يوجد بالتأكيد بين الصوفيين الأوائل من زعم أن مسعاهم التجريبي المعروف باسم «التحقيق» قد جعل مزاعمهم المعرفية مقدمة على تلك المعتمدة فقط على النص القرآني. وباستثناء شخصية بارزة سوف نتناولها في القسم القادم، فإننا إلى حد كبير لا نعلم إلا قليلا عن مثل هؤلاء الشخصيات، إما لأنهم لم يكونوا ضمن أعضاء الطبقة المنتجة للنصوص، وإما لأنهم كانوا غير قادرين على كسب دعمهم.
عند وضع الصوفيين الأوائل في سياق زمنهم «الأفقي»، سنحتاج إلى إدراك أن ظهورهم ينتمي إلى عملية تكوين طبقة علماء أوسع نطاقا، لم تكن مزودة فحسب بمعرفة القرآن والحديث والمهارات الخاصة بتفسيرهما، بل كانت أيضا تكتسب نفوذا اجتماعيا متزايدا بسبب امتلاكها لهذه المعرفة النصية أو الشفهية وتطبيق نموذجها القويم. ونظرا لعيشهم في المدن الكبرى، فإنهم لم يكونوا هؤلاء الزهاد المنعزلين ساكني الجبال أو المناطق الحدودية. ولم يكونوا من ساكني الأبراج العاجية المنعزلين عن الواقع في المدينة نفسها؛ لأن معرفة الحلال والحرام والقدرة على إقناع الآخرين من خلال الفتوى أو السلطة الأخلاقية الشخصية كانت لهما تأثيرات عملية هائلة. وعلى الرغم من وجود استثناءات، فإن الحكم العام سيظل كما هو في الأجيال التالية، وهو يتمثل في أن الصوفيين الناجحين، سواء أكانوا علماء أم شعراء أم علماء في الماورائيات أم علماء في الأخلاق، نادرا ما كانوا بمعزل عن العلم والتأليف أو عن الحديث والقرآن؛ تلك الأمور التي وضعت أسس التعلم الإسلامي. وبالرغم من ذلك، فإن الصوفيين الأوائل لم يكونوا مؤلفين فحسب، ويجب أن نرى أن مزاعمهم حول المعرفة التجريبية لا تجعلهم مختلفين بالكامل عن طبقة علماء الدين الناشئة، بل تجعلهم مجموعة فرعية خاصة أو حتى مجموعة منشقة تشترك في الكثير مع هؤلاء العلماء، باستثناء زعم واحد يتمثل في سلطة التواصل المباشر مع العوالم الإلهية.
إذا كان القرآن والحديث هما مصدرا الأشخاص الذين يسمون بالصوفيين، فكيف إذا استخدموا هذين المصدرين في تكوين معتقداتهم وممارساتهم وفي فهم تجاربهم؟ باختصار، فعلوا ذلك عن طريق الحفظ والتطبيق؛ فقد حفظوا كل آيات القرآن عن ظهر قلب، وطبقوا كل ما جاء في الحديث من أخلاق في سلوكهم.
25
والأهم أنهم تبنوا أيضا ألفاظا من القرآن لخلق مصطلحات يجيزها النص القرآني لوصف الممارسات وأشكال التجربة الروحانية التي أضافوها إلى الطقوس الدينية للأعضاء الآخرين في طبقة العلماء؛ لذلك فهذا النوع من المعرفة ليس سلبيا، وإذا كنا قد أكدنا على علاقة الصوفيين بالكتب، فإننا يجب أن نوضح طريقتهم في استخدامها؛ فالكتب بالنسبة إليهم أدوات للتأمل من ناحية، والعمل من ناحية أخرى.
26
وعلى الرغم من أننا أوضحنا أنه بظهور الورق تزايد على نحو كبير إنتاج الكتب في بغداد مقارنة بما كان يحدث في العالم الغربي، فإن هذه الكتب كانت لا تزال تكتب بخط اليد، وتعتبر من المقتنيات الثمينة. وهذه العوامل المادية أثرت على ثقافة القراءة التي نشأت بسببها، لكن كان يوجد عائق واحد يتمثل في أن النصوص الدينية كانت تستغرق وقتا أطول في كتابتها على الورق أكثر مما تستغرقه النصوص غير الدينية؛ كالقصائد والأعمال العلمية وكتب الطهي. وكما هو الحال في مجتمعات المخطوطات الأخرى التي وجد فيها استخدام الكتب داخل إطار أشكال تعلم شفهية أوسع نطاقا، كانت الكتب تقرأ بتعمق وعلى نحو متكرر، وهي عملية كانت تتعقد في بعض الأحيان بالحاجة إلى أن يكتب المرء نسخته الخاصة من الكتاب، أو أن يحفظه عن ظهر قلب كي يحصل عليه. وفي حين كان العلماء أنفسهم يجيدون القراءة والكتابة، فإن بعض أتباعهم لم يكونوا كذلك؛ ومن ثم كانوا يستمعون إلى الكتب في كل مرة تقرأ فيها. وبدلا من تمييز صفحة بقلم تظليل، كان هؤلاء القراء السمعيون معتادين على حفظ واستيعاب المحتويات ذهنيا. وكما سنرى لاحقا، فإن ثقافة القراءة الجهرية للكتب أثرت أيضا على شكل المحتويات؛ فبعد عدة قرون لاحقة كانت معظم كتب الصوفية تشتمل على السرد القصصي الشخصي، أو ذكر النقاط الرئيسية للموضوع بطريقة مسجوعة؛ بحيث يتمكن السامعون من تذكرها بسهولة. إلا أنه قبل اعتياد الصوفيين على تدوين كتبهم، فإنهم كانوا يقرءون القرآن والحديث بهذه الطريقة النشطة والذاتية مثل بقية المتعلمين في هذه الفترة.
هذا المعنى للقراءة باعتباره نوعا من التفاعل النشط مع النص القرآني يمكننا من تناول أحد الجدالات الرئيسية الأخرى المثارة حول أصول الصوفية. إن فكرة نشأة الصوفية عن القرآن لاقت أكبر قدر من المؤيدين لها بين الباحثين الفرانكوفونيين، ومؤخرا بين الأمريكيين، ورأوا غالبا أنها نظير «النزعة الداخلية» لروايات «النزعة الخارجية» التي ترجع أصول الصوفية إلى مؤثرات مسيحية أو غير مسلمة.
27
أظهر تتبع أصول المفردات الخاصة أو المعجم الصوفي الذي طورته الأجيال الأولى من الصوفية في كتاباتها؛ أنها كانت إلى حد هائل مفردات مردها القرآن. واستخدم ذلك بدوره في القول بأن الصوفية كانت منتجا إسلاميا «داخليا» يتميز بالتماسك والترابط، وليست نتيجة لمؤثرات خارجية.
ناپیژندل شوی مخ