9
بعبارة أخرى، إن هذا التفسير يقدم نموذجا تطوريا للتاريخ لا يكون فيه الزهد غاية في حد ذاته، بل لا بد أن ينضج ويتحول إلى تصوف، وهذا التصوف هو ما يقول المؤلف إن الصوفيين يمارسونه. إن هذا الانهيار للاختلافات (وبالطبع التعارض المحتمل) بين فئة الزهاد وفئة المتصوفين يقدم - نوعا ما - سردا خاليا من الصراع؛ ومن ثم، يعتبر الزهاد المسلمون القدماء الذين بدوا متأثرين بممارسات جيرانهم المسيحيين هم المسئولون المباشرون عن ظهور الصوفيين الذين احتاجوا بدورهم مرة أخرى - أثناء تطويرهم للنماذج الماورائية الأكثر تعقيدا للتفاعل البشري والإلهي الذي يتطلبه «التصوف» - إلى الأخذ عن المسيحيين الذين كانوا موجودين من قبلهم، وكانوا متقدمين عن المسلمين في المسعى العالمي نفسه للتطور الروحاني.
شكل 1-1: أساليب حياة الزهد: كشكولان (أي وعاءان للتسول)؛ أحدهما مصنوع من الخشب، والآخر من جوز الهند البحري (تصوير: نايل جرين).
تتمثل المشكلة في أنه عند النظر إلى الأدلة الموجودة في الجانب الإسلامي لا يبدو هذا التحول المبكر من الزهد إلى التصوف مباشرا على نحو واضح؛ لذلك، بدلا من رؤية الزهاد المسلمين باعتبارهم الأسلاف الطبيعيين للصوفيين، سيكون من الأفضل رؤيتهم باعتبارهم منافسين لهم؛ ففي العقود الحديثة، أثار الفحص الأكثر دقة للمناقشات المتعلقة بالزهد الإسلامي المبكر شكوكا جادة حول هذه الفكرة المتعلقة بوجود تدفق مباشر بين «الزاهد» و«الصوفي»، من خلال إظهار إلى أي مدى أدين تعذيب الجسد، والانعزال، وفوق كل ذلك التبتل، باعتبارها انحرافات عن السنة النبوية.
10
وكما سنرى عند تناول أقدم الأدلة الواضحة المتعلقة بآراء الأشخاص الذين يطلق عليهم الصوفيون، فإن كثيرا منهم كانوا واضحين في إدانة ممارسات الزهد ، واصفين إياها بأنها مظاهر علنية غير ضرورية لما يعد من قبيل التقوى الزائفة. (وعلى الرغم من الاستحسان الكبير الذي لاقاه العديد من زهاد العصور القديمة المتأخرة، فقد كانت النتيجة المثيرة للسخرية هي أن هؤلاء الزهاد كانوا في الواقع يتخذون الزهد حرفة ويتعالون به على غيرهم.) وللتعبير عن الأمر بمزيد من الوضوح، فإنه حتى لو كان الزهاد المسلمون قد قلدوا أسلوب الزهاد المسيحيين، فهذا لا يشير بالضرورة إلى وجود «أصل» مسيحي للصوفيين؛ لأنه نظرا لكون الصوفيين أبعد ما يكونون عن كونهم ورثة مباشرين للزهاد، فإنه من الأفضل فهم الصوفيين على أنهم منافسون ومنتقدون لهم. و«الزاهد» لا يتطور وينضج ليصبح «صوفيا»، بل لقد أخرست أصوات «الزهاد» من خلال تهميش الصوفيين الأكثر نجاحا لهم، وحلولهم محلهم في نهاية المطاف.
حتى الآن شككنا في أهمية أوجه التشابه في المسميات والممارسات بين الزهاد المسيحيين والصوفيين المسلمين. المشكلة الرئيسية في مثل هذه الدراسات الهادفة إلى تتبع الأثر هي أنه على الرغم من وجود الكثير من الأدلة على أوجه التشابه وحتى عمليات التواصل بين المسلمين والمسيحيين، فإنه لا يكاد يوجد أي دليل مباشر على «الاقتباس» الفعلي المفترض أن يكون أساسا لأوجه التشابه. يمكن القول إن هذا ليس بالأمر المفاجئ؛ فنظرا لأن المسلمين كانوا يدركون جيدا ثراء الفكر والممارسة المسيحية في القرون الأولى للإسلام، فقد كان من غير المحتمل أن يعلنوا عن حاجتهم إلى اقتباس أفكار وأساليب من دين من المفترض أن دينهم قد حل محله. ويمكن قول الأمر نفسه عن الأدلة الخاصة بالانتقال الأكثر غموضا للمعتقدات الماورائية والكتابات التي تسرد سير الأشخاص. في هذه المنطقة الأكثر ضبابية، اقترحت طريقة بديلة لتقييم التأثير المسيحي المحتمل، والتي لم تكن تبحث عن تكرار مسألة الانعزال أو اقتراض الكلمات، بل تبحث عن إعادة إنتاج «نسق أو تركيب أو بنية»، وهذا أمر أكثر تعقيدا، ولذلك يقل احتمال كونه عشوائيا.
11
فمن خلال نوع من البنيوية التاريخية، قيل إن تأثر الصوفيين بالمسيحية النسطورية يمكن تتبعه عبر تكرار أنماط العقيدة أو السير الموجودة أولا في الأعمال المسيحية، ولاحقا في الكتابات الصوفية.
12
ناپیژندل شوی مخ