ونظرا لانتساب سيدي محمد بن أبي القاسم للطريقة الرحمانية الجديدة نسبيا، فإنه لم يكن مجرد أحد الصوفيين الآخرين الذين ارتفعت مكانتهم في الحراك السياسي؛ فقد مثل أيضا اتجاهات جديدة في نقل التقليد الصوفي، فبدلا من نقل التراث الصوفي من خلال الطباعة أو كتابة الروايات، تمثل الاتجاه الجديد هنا في الزعامة النسائية؛ فعندما سمح سيدي محمد بن أبي القاسم لابنته لالة زينب (تقريبا 1850-1904) بخلافته كرئيسة للزاوية، اتخذ خطوة عملية، إن لم تكن كبيرة، في تحدي أنماط الزعامة الأبوية الصوفية القديمة. ومن خلال نقل هذا التوارث النسائي من الحدود إلى مركز الثقافة الاستعمارية الفرنسية، نقلت لالة زينب بدورها تعاليم صوفية معينة إلى الفنانة الرحالة السويسرية إيزابيل إيبرهارت (1877-1904)، التي مثلت القصص القصيرة التي كتبتها بالفرنسية النظير الأوروبي لروايات قوت القلوب الدمرداشية.
50
لم تكن لالة زينب وإيزابيل إيبرهارت على الإطلاق المثال الوحيد في الإمبراطورية الفرنسية على نقل المعتقدات الصوفية إلى المتعاطفين الأوروبيين مع الصوفية أو المتحولين منهم إليها؛ ذلك أن الحداثة الرأسمالية أنتجت متحمسين جددا للرسالة الصوفية في العواصم العالمية في أوروبا وفي الموانئ الصناعية المطلة على المحيط الهندي، ومثلما تحولت وسيلة نقل الرسالة الصوفية إلى الكتب المطبوعة القابلة للشراء في الهند، لعبت صناعة النشر في أوروبا أيضا دورا مهما في هذه العملية من خلال مكتبات مثل «مكتبة الروائع»، التي كان يديرها في باريس السويدي إيفان آجيلي (1869-1917)، الذي تحول إلى الصوفية، وأصبح اسمه الشيخ عبد الهادي عقيلي؛ فقد تجمع حول مكتبة آجيلي في أوائل القرن العشرين مجموعة رومانسية من السالكين الأوروبيين، الذين وجدوا تعاليم الصوفيين متشابهة مع تعاليم الفيدانتا الهندوسية والتاو تي تشينج. ومن خلال تأملاتهم الكونية والمشوشة في بعض الأحيان، ظهر هناك نوع من الصوفية يتسم بأنه هجين و«منسلخ عن الإسلام» في بعض الحالات ، نقل التقليد القديم إلى جمهور غربي جديد.
51
في بعض الحالات، كان يوجد نوع من النقل المباشر للتقليد إلى الأوروبيين، كما في حالة اللقاءات التي تمت بين إيبرهارت ولالة زينب، وبين مروج الصوفية السويسري فريتجوف شوان (1907 -1998) والصوفي الجزائري أحمد العلاوي (1869 -1934). وفي حالات أخرى أشهرها حالة الكاتب الفرنسي التابع للمدرسة «التقليدية» رينيه جينو (عبد الواحد يحيى 1886-1951)، كان التفاعل المباشر مع الصوفيين غير الأوروبيين قليلا جدا، ومثلت الكتب المطبوعة مصادر فكره الصوفي الأساسية. في جزء لاحق من هذا الفصل سنناقش مسارات هذه «الصوفية الغربية» في فترة ما بعد الاستعمار، أما النقطة الأساسية هنا فهي كيف أسفر دمج المجتمعات الإسلامية والمسيحية، في ظل الاستعمار الفرنسي في الأراضي التي سيطر عليها في شمال أفريقيا، عن زيادة الوعي بالصوفيين في أوروبا، من خلال إتاحة فرص جديدة تمثلت في السفر والتفاعل. وإذا كان يوجد قدر كبير من الرومانسية (وحتى «الاستشراق») في توجهات السالكين الأوروبيين، فقد كان يوجد أيضا قدر كبير من الصدق، وفي بعض الحالات التعاطف السياسي المناهض للاستعمار؛ فالرسام السويدي آجيلي لم يعتنق الإسلام اعتناقا كاملا فحسب، بل أيضا عندما انتقل إلى القاهرة التي كانت واقعة تحت الاستعمار البريطاني في أوائل القرن العشرين، انضم إلى اللاسلطوي الإيطالي إنريكو إنساباتو، وأحد القوميين المصريين الموالين للثائر الجزائري عبد القادر الجزائري يسمى عبد الرحمن عليش، وأسسوا مجلة ثنائية اللغة تصدر باللغتين العربية والإيطالية سموها «النادي»، وعلى صفحاتها الممنوعة، امتزجت تعاليم ابن عربي مع النظرية اللاسلطوية والسياسات المناهضة للبريطانيين.
52
وفي غرب أفريقيا الذي كان تحت الاستعمار الفرنسي، كان أحمدو بامبا مباكي (1853-1927) في السنغال المثال الأكثر إثارة على هذا التفاعل بين المقاومة والتوافق؛
53
فنظرا لأن مباكي ولد في أسرة صوفية تنتمي للطريقة القادرية في منطقة رأينا في الفصل الثالث كيف أسس فيها الصوفيون سلسلة من دول الجهاد، في العقود نفسها التي كان الفرنسيون يوسعون فيها سيطرتهم على الداخل السنغالي؛ فقد اكتسب ولاء مجموعة من الزعماء القبليين والأكابر المحليين. وفي أعقاب الثورة الجزائرية ونظام جمع المعلومات السرية المشبوه الذي اتبعه الحكم الفرنسي ، تعود المسئولون الاستعماريون على رؤية القادة «المرابطين»، قادة الطرق الصوفية الوراثية في الغالب، في صورة أعداء لدودين للحكم الفرنسي؛ ونتيجة لذلك، نفي مباكي في تسعينيات القرن التاسع عشر إلى موريتانيا، وفي العقد الأول من القرن العشرين إلى الجابون،
54
ناپیژندل شوی مخ