1
فتحت أسماء إدارية مختلفة، تضمن الاستعمار البريطاني الاستحواذ التدريجي على ما يعرف اليوم بالهند وباكستان وبنجلاديش، وماليزيا وسنغافورة، ونيجيريا والسودان والصومال، وزنجبار وكينيا، وأوغندا وجنوب أفريقيا، ومصر، ولفترة أقصر فلسطين والأردن. وتحت أسماء متنوعة مماثلة، تضمن الاستعمار الفرنسي الاستحواذ على الجزائر وتونس والمغرب، والسنغال وموريتانيا ومالي، وتشاد والنيجر، ولفترة أقصر سوريا ولبنان. وتضمن الاستعمار الهولندي غزو أرخبيل الجزر الشاسع الذي يضم إندونيسيا حاليا. وتضمن الاستعمار الروسي غزو شبه جزيرة القرم ومناطق الفولجا، والقوقاز (لا سيما الشيشان)، والتوسع الهائل في وسط آسيا فيما يشكل الآن جمهوريات كازاخستان، وتركمانستان، وأوزبكستان. علاوة على ذلك، عاشت أعداد أصغر من المسلمين تحت الحكم النمساوي المجري في البلقان، وتحت الحكم الإسباني في شمال وغرب أفريقيا، بينما شهد التوسع الغربي لإمبراطورية تشينج في وسط آسيا حكم أسرة هان الصينية للمسلمين في المنطقة التي ظلت حتى يومنا الحاضر منطقة سنجان أويغور ذات الحكم الذاتي، التي يسيطر عليها الصينيون. وفي عشرينيات القرن العشرين، كانت أفغانستان وإيران والدولتان القوميتان الجديدتان المتمثلتان في تركيا والسعودية، هي المناطق الكبيرة الوحيدة التي نجت من الحكم الاستعماري، وإن كانت القوة الأوروبية فيها أيضا محسوسة بقوة، وإن كان على نحو غير مباشر.
في الفصل الثالث رأينا كيف كانت الصوفية عند تكوين الدول الجديدة والأوسع نطاقا في أوائل العصر الحديث كامنة في عدة مستويات في الحياة الاجتماعية والسياسية. وهذا الإسلام الصوفي الذي لم يكن ظاهرة «تصوفية» محدودة النطاق، أصبح من الناحية المؤسسية والعقائدية أساس المجال الإمبراطوري والزراعي والتجاري والبيروقراطي بجانب الديني. ورأينا أيضا كيف أنه بعد قرنين من الألفية الإسلامية الجديدة في عام 1591 انتشرت حملة تصحيح تطالب بالتجديد الديني، استخدمت فيها السنة النبوية والشريعة لمواجهة عملية التنويع التي حدثت في القرون السابقة. في بعض الحالات (كما في حالة الإمبراطورية العثمانية)، حدث انتشار هذه الصوفية الأكثر التزاما بالشريعة داخل إطار مؤسسات الدولة القائمة، بينما في حالات أخرى (مثل حالة أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى)، أسهمت هذه الصوفية في تكوين دول حدودية جديدة. ولم يسفر تدهور أو انهيار الكثير من تلك الدول، وحلول الإمبراطوريات الأوروبية الممتدة عبر مناطق إقليمية متعددة محلها؛ عن تقليل النفوذ الصوفي على نحو فوري، بل على النقيض من ذلك، كانت التغيرات في السلطة مصحوبة بإعادة توزيع الموارد، وتكوين تحالفات جديدة؛ حيث سعت القوى الجديدة، سواء الاستعمارية أو المحلية، إلى كسب الشرعية النابعة من التعاون مع ورثة النبي الصوفيين. وفي فترة شهدت تغيرات اجتماعية وسياسية سريعة، اكتسبت استمرارية التقليد الذي يمثله الصوفيون رأسمالا رمزيا أكبر قدرا. وحتى عندما بدأ العلم الحديث يهدد مزاعم صحة أنماط المعرفة الإسلامية والمسيحية القديمة، كان يوجد الكثير من الصوفيين الذين رأوا فرصا في التقنية العملية للعلوم الجديدة. وفي مثالين من أبرز الأمثلة على ذلك ، أدى ظهور الطباعة في العالم الإسلامي منذ عشرينيات القرن التاسع عشر، والتوسع في السفر منذ خمسينيات القرن التاسع عشر عن طريق السفن والقطارات التي تعمل بالمحركات البخارية؛ إلى وصول الصوفيين إلى جماهير جديدة في أمريكا الشمالية وأوروبا، بالإضافة إلى مناطقهم القديمة.
على الرغم من ذلك، كانت توجد على المدى الطويل عدة نتائج للتغيرات الاجتماعية والسياسية الهائلة التي صاحبت الاستعمار التدريجي لمعظم أجزاء العالم الإسلامي. لقد كان الاستعمار مشروعا خطابيا إلى جانب كونه مشروعا مؤسسيا؛ ومن ثم تضمن مواجهة عنيفة مع أشكال المعرفة المحلية التي قابلها الأوروبيون. ولم تكن أشكال المعرفة الصوفية - بما في ذلك أسسها المعرفية القائمة على الرؤى والطقوس والوساطات - استثناء في هذا الشأن. وفي هذا السياق الاستعماري صاغ الإنجليز لأول مرة المقابل الإنجليزي لمصطلح «صوفية»، وذلك عندما زاد تفاعل الأوروبيين مع المسلمين في أماكن مثل البنغال.
2
في البداية كانت التعريفات والصفات التي أعزيت لهذا المصطلح إيجابية؛ وذلك بين ورثة التنوير المتحمسين أمثال السير ويليام جونز (1746-1794)، ويوهان فولفجانج فون جوته (1749-1832)؛ حيث كان يعتبر الصوفيون واحديين متسامحين لديهم ذوق رفيع في الشعر والموسيقى والخمر.
3
وحتى المسيحيون الإنجيليون أمثال المبجل هنري مارتن (1781-1812) - الذي يعد أول المبشرين في إيران - رأوا الصوفيين بطريقة إيجابية؛ إذ اعتبروهم متنورين على نحو كاف، يجعل تحولهم إلى المسيحية ممكنا. إلا أنه مع توسع الاستعمار مع مرور القرن التاسع عشر، أصبح من المحتمل وجود التفاعلات الأوروبية مع الصوفيين في ساحة المعارك، مثلما من المحتمل وجودها على صفحات الشعر الفارسي؛ ونتيجة لذلك، اكتسب مصطلح «الصوفية» - وبصفة خاصة المصطلحات المقترضة الدالة على المنتسبين لها مثل «فقير»، و«درويش» و«مرابط» و«مريد»، التي دخلت لغات مثل الإنجليزية والفرنسية والروسية - دلالات سلبية تمثلت في التعصب والاحتيال.
4
وعلى الرغم من ذلك، حتى في أوج العصر الاستعماري لم تكن التوجهات الأوروبية تجاه الصوفية سلبية على نحو موحد، وفي أواخر القرن التاسع عشر، أسفرت الاختلافات بين مختلف الأوروبيين حول الإسلام عن خلق تعريف للصوفية استمر حتى يومنا الحاضر. والسبب في ذلك يرجع إلى أنه بينما نظر السواد الأعظم من ممثلي الاستعمار إلى المسلمين كمتعصبين ، استخدم الجناح الأكثر ليبرالية - المتمثل في مفكري أواخر العصر الفيكتوري والعصر الإدواردي - خطاب التصوف الجديد الرائج لتصوير الصوفيين على أنهم المقابل الإسلامي لحكماء اليوجا والبوذية الأكثر مسالمة. وبهذا الأسلوب، سلط هؤلاء الباحثون الاستعماريون المتعاطفون الاهتمام على الأمور محل المقارنة والعامة، بدلا من التركيز على الأمور السياقية والخاصة. بالإضافة إلى ذلك، سعوا في ظل البيئة الجدلية المناهضة للإسلام التي كانوا يكتبون فيها إلى إثارة التعاطف مع المسلمين من خلال تهميش الأبعاد الإسلامية في الصوفية على نحو ينطوي على التناقض، وهذا التركيز على الجانب التصوفي والمتسامي في الصوفية تضمن أيضا تهميش الطقوس والمؤسسات الصوفية التي بدت «مرتبطة بالخرافات» أو «باباوية» على نحو مستهجن في عين البروتستانت أو غيرهم من الأوروبيين المناهضين للمؤسسات الدينية. وعلى نحو ينطوي على مفارقة، كانت العوامل التي همشها هؤلاء المدافعون عن الصوفية بنية حسنة لجعل الصوفية أكثر استحسانا لدى الجمهور الأوروبي والأمريكي، هي نفسها بالضبط تلك التي أبرزها في الوقت نفسه المصلحون المسلمون المناهضون للصوفية كأسباب تدفع المسلمين أنفسهم للتخلي عن التقليد الصوفي. والسبب في ذلك هو أنه في بداية القرن العشرين وجد كل من البعد المنتقد للصوفية والبعد المدافع عنها في التصور الاستعماري للصوفية صداه بين المصلحين المناهضين للصوفية من ناحية، وبين المجددين الصوفيين المحدثين من ناحية أخرى.
ناپیژندل شوی مخ