186

سبل ومناهج

سبل ومناهج

ژانرونه

هذا أوان الشد

إذا شئت أن تنجح أيها الطالب، فانظر إلى الزارع كيف يغدو إلى الحقل وتشبه به، إن ما تزرعه اليوم تحصده غدا، فاعمل ليكون بيدرك كبيرا وغلتك كثيرة، فأبوك أعد العدل وأمك هيأت الكوارة، وقدر ما تحط بالقدر تشيل في المغرفة. إن خلاصك بيدك، بحياة كل عزيز على قلبك قل لي: ما هي المدرسة؟ أليست المدرسة سجنا اخترناه أنا وأنت؟ فاعمل بكل ما عندك من قوى لتبارح هذا السجن الجميل، هذا القفص المذهب أيها البلبل الطري العود.

أنا وأنت لا تعنينا السياسة الجوفاء، إن السياسة كالنار تدفئك مجالسا وتحرقك ملابسا، فتمتع بمنظر ألسنتها المندلقة من فم موقدها الشبق. إن ثرثرتها ناعمة مغرية، ولكنها كالحب تكوي وتحرق، فحذار أن تمد يدك إليها، فإنها ألسن تلحس ومداعبتها التهام وهضم.

أنت سامع ضوضاء الانقلابات وأنباءها تنقلها إلى أذنيك محطات الإذاعات، فتتراءى لك على شاشة مخيلتك أشباحا لا تعلم من يتجسد منها أرواحا، لا بأس، تسل هنيهة يا عزيزي، ولكنني أرجو ألا تسد الطاقة التي بيننا. إصغاء هنيهة ونعود إلى عملنا، أعود أنا إلى مكتبي حيث أكتب قصة لبنانية عتيقة تحبل بها مخيلتي وذاكرتي، وألدها غصبا عني، أو مقال نقد وكيسي لا يعرف النقد، وتعود أنت إلى درسك لتتأهب للغد الذي ينتظرك.

أنت غدي أيها الفتى، أنت الفسيلة النابتة على أرومتي، وجنة الشرق تنتظرك، أجل لم يبق لي غد سواك، وهذا هو الخلود الملموس، خلود الآباء بالأبناء والأمة بالذرية. أتعلم كم قطعت أنا من الأشواط؟ اسمع فأخبرك، هذا سر بيني وبينك، لا تبح به لأحد يا عزيزي، ففي النفس آمال وفيك فطانة ... شيخك دعس في السابعة والستين بحسب الهوية، وفي التاسعة والستين كما في دفتر المعمودية. لا ترع يا ابني فالعقل ما زال في الرأس، والنفس طرية، وبكلمة ألذ وأطيب: النفس خضرا، وما نفع الحياة إذا يبست النفس؟ إنها لا تصلح إلا وقودا، وفي تلك الساعة نعوذ برب الفلق من شر ما خلق.

هذي مقدمة أحببت أن أسترعي بها انتباهك، بل قل إنها أحبولة أو طعم، فنحن المعلمين أشبه بالصيادين نضع ذبابة في الصنارة لنصطاد حفشا. ثق وتأكد أنني أحب أن أتحدث إليك؛ لأنني عاشرتك أربعين عاما وأكثر، والمثل يقول: «عاشر القوم أربعين يوما، فإما أن تصير منهم أو ترحل عنهم»، فما قولك بعشرة خمسين عاما إلا قليلا؟ لا تقل إنني صرت مثلك كما يتهم الجاحظ معلمي الصبية، فهذاك ماجن، وأنا ممن يكيفون وقلما يتكيفون. إن في نفسين: واحدة خصصتك بها، وأخرى أبقيتها للحياة، والحمل - والحمد لله - معدل، عدلان متوازيان، فسر معي حتى لا تقصر في العقبة. لا تقل ما أفضى باله! الحديدة حامية وهو يلهو ويلغو! لا يا أخا الكتاب، إنني أقول لك ما قاله المعلم الأكبر لذلك الرجل: «دع الموتى تدفن موتاها واحمل صليبك واتبعني!»

صليبك كتابك، ووطنك يترقب صعودك إلى الجلجلة ليرى أي رسالة تعلم، فهيئ لتلك الساعة عدتها.

أنت عمود الوطن، وللعمود صفتان أوليتان: المتانة والجمال الفني، فالمتانة هي الأخلاق الموروثة من دم سليم جرى في عروق الأجيال والدهور حتى انتهى إليك نقيا، فهل يليق بك وأنت أمل الأمة ورجاؤها ألا تحفظ الأمانة وتؤديها إلى الذرية كما تسلمتها نقية سليمة لا تشوبها شائبة؟ أما الجمال الفني فيك أيها العمود الحقيقي فهو الثقافة التي جئت المدرسة في طلبها، فهل تخرج منها مثل الشعرة من العجين؟ إن فعلت هذا فأنت يا عزيزي حرامي! وإن كنت لم تسرق غير نفسك، وسارق نفسه أجدر بالقصاص من غيره، أليس الأفضل أو الأجدى لك أن يبقى هذا المال في عبك فتعمل به عملا مثمرا؟

وبعد، فما المدرسة يا عزيزي؟ قل إنها حبس كما قلنا ولا تستح من ذقني، وأنت طرحت نفسك في ذلك الحبس بملء إرادتك، فاعمل إذن مريدا تكتسب علما، وإن كنت لا تريد فمن يعلمك. إن الوحي انقطع كما تعلم وتؤمن، والعلم لم يوفق حتى الساعة إلى اكتشاف مصل مدرسي، لم تخترع بعد أنابيب للغة العربية واللغات الأجنبية، وأنابيب للرياضيات والطبيعيات، وأنابيب للأدب والفلسفة، فتحقن بها شرايين دماغك لتأخذ العلم من أقرب طريق، العلم يتطلب كدا واجتهادا، ومهما قل ذكاؤك فأنت واصل إلى ما تبغي إن اجتهدت، فلا تقل هذا العلم لا يدخل عقلي، وذاك لا يلذ لي، يجب أن تعرف كل شيء لتتفوق فيما تميل إليه.

لا تحلم بالشهادة ولا تسع إلى إحرازها سعي جاهل، إنها ورقة ليس غير إذا لم يكن في صدرك علم، الشهادة تحيا بعلم صاحبها كما يحيا الكتاب وينطق بفهم صاحبه، إنها تظل حبرا على ورق ولا تدب الحياة فيها إلا منك ، فمنك تستمد حياتها، وبقدر معرفتك يرتفع قدر شهادتك، هب شهادتك سيفا يمنيا، فالسيف محتاج إلى زند ولا يقطع نائما في غمده. وبعد، فلو حزت الشهادة عن جدارة واستحقاق وزينت بها صدر القاعة ثم لم تعمل، تظل تلك الشهادة ورقة مزوقة، كقطع السلاح القديمة المزينة بها حيطان بيتك.

ناپیژندل شوی مخ