ولعلك ممن يسمعون بكرامويل قائد الثورة الإنكليزية، فهذا الجبار الطائر الصيت ظل فلاحا مزارعا حتى اكتهل، ولما دنت ساعة دعوته غير وجه إنكلترا ودعي حاميا للجمهورية.
وبسكال أوجب عليه والده أن يتعلم اللغات الميتة، ولكن ميله إلى العلوم الرياضية تغلب على الغراماطيق، فكان منه ذلك المفكر الحر.
وميكالنج احتمل العقوبات المرة من والديه لأجل ما كان يخربشه على جدران البيت وأمتعته، ولكن العبقرية أبت إلا أن تنتصر، فخلد ذكره بآثاره الباقية على جدران كنيسة القديس بطرس وفيها.
وأمين الريحاني كم دق بابا من أبواب الحياة ولم يفتح له إلا باب الأدب! فكتب «ملوك العرب» وغيره من التآليف الباقية.
فالمصيبة يا صاحبي هي أن أكثر البشر يحترفون ما لم يخلقوا له، فكم من فتى خلق ليكون معلما نراه خادما في مخزن! وكم من أناس خلقوا مزارعين ونراهم أطباء ومحامين! وكم من غلمان يعملون في المعامل وكان الأجدر بهم أن يكونوا علماء! وكم من طلاب في الجامعات كان أحرى بهم أن يكونوا حراثين! وكم من رسامين كان أولى بهم أن يكونوا طيانين ودهانين! وكم من رجال خلقوا ليكونوا سياسيين فإذا هم أساكفة أو باعة جوالون ! وكم من سياسيين يجب أن يكونوا في الإصطبلات لا في الندوات! وكم من جراحين حقيقيين نراهم بين المدية والساطور، بينا نرى غيرهم جراحين وما هم غير جزارين يبقرون البطون ويساعدون عزرائيل على تأدية واجبه! ...
إن حب الجاه والمجد هو الذي يحولنا عما خلقنا له، فصرنا نرى السواد الأعظم من الناس يختارون لأولادهم المهن الحرة، أو يعدونهم للجلوس على الكراسي، وقد فاتهم ما قاله ذلك الحكيم: «إن الحراث الواقف على قدميه في العراء تحت عين الشمس لهو أرفع شأنا من سيد جاث على ركبتيه.»
فانظر يا صاحبي، أو دع ابنك ينظر إلى أين تنتهي يده، فأنت وهو تعرفان ما عنده من مواهب، فليتكما تعرفان أن حدادا ماهرا خير من صانع يضيع بين يديه لمعان الذهب وبريق الألماس!
الحيوان لا يحاول القفز فوق حفرة لا يستطيع تجاوزها، أما الإنسان والإنسان وحده من دون جميع المخلوقات فيحاول أن يقاوم الطبيعة؛ يريد الألثغ أن يكون خطيبا، والأعرج راقصا، والثقيل السمع موسيقيا، والأبهر مصورا! فإذا رأيت ابنك يعمل ما تظنه أنت عبثا فلا تهزأ به، دعه وشأنه، إنها بشائر خير لا يحق لك أن تتذمر منها.
فالنابغ يفتش عن ذاته، ومتى وجدها عثر على الكنز الذي كتب له أن يقع عليه ويسعد.
لا تسأل أحدا ماذا تعمل لابنك حتى تحالفه السعادة، فهذا سر لا أعرفه أنا وتجهله أنت، لا يعرفه إلا واحد فقط، أتعرف من هو؟ إنه ابنك، فدعه وشأنه، ولا توصه إلا بشيء واحد: الإخلاص لعمله مهما كان نوعه.
ناپیژندل شوی مخ