تذكر حكاية ابن حنا مرقص الذي قضى خمسة عشر عاما في المدرسة، ثم خرج منها مثل الشعرة من العجين، أظنك ما نسيت سهراتنا وضحكنا عليه، وكم كانت خيبته مرة حين قرأ على الناس في السهرة خبرا محليا في إحدى الجرائد، تذكر أسف شيوخ القرية على مال ضيعه أبوه وما أكل من العوسج تينا، فإذا أردت أن تكون مثله فالمسألة هينة، اسمع أعلمك: اضرب بالكتاب عرض الحائط وقل مثلما قال: حمار طيب خير من فيلسوف ميت.
فبالمحبة الأخوية أستحلفك وأسألك ألا تدع نسيم الكسل يطفي شمعة ذكائك، اجتهد ليكون هذا القبس نارا مضيئة تحرق وتنير. ثق أننا وضعناك في مدرسة معظم رجالها من أهل الخير والصلاح، فإذا خاب ظنك في واحد منهم فالكمال لله وحده. لا تنتقد ولا تذم، وبالعربي الفصيح: لا تطول لسانك، ففي كل أسرة أخيار وأشرار، فكيف بالمدرسة التي تلم من هنا وهناك؟
وأخيرا، وكأني أراك تبكي وتنوح وتكتم ذلك لأن وجه تشرين الأصفر حالك السواد في أعين التلاميذ؛ اصبر عليهم حتى ينسوا صفاء ليالي الصيف، ويشرعوا بالعمل بعد أن تمحي في عقولهم صور الغابة والنهر والوادي والبحر. لا تحسب أنك تاعس الجد، فأنا اليوم أتذكر مقعد المدرسة القاسي وأفضله على كرسيي الناعم الذي أجلس عليه بفضل العلم.
طمني دائما عنك، واطلب مني ما تشاء من حاجات لا بد لك منها، فأنت أمانة في رقبتي، قدرني الله على وفاء دين المرحوم والدي بتعليمك كما علمني!
وختاما أقبلك. وإلى اللقاء.
أفقره عقله
في ليلة ارتدت ثوب النسك والزهد، قرع بابي قرعا مزعجا فعرتني هزة وقلت: من يدق الباب؟
فأجابني صوت عريض أجش يتمطق بالكلام، قال: فقير ضربه الدهر كفا أطارت صوابه، ومسكين ضيع حظه فراح يفتش عنه في بيوت المحسنين الكرام، ضعيف يستجير بالأقوياء، وبائس ولا كالبؤساء.
فقلت في نفسي: أفي عصر بديع الزمان نحن؟! إن شحاذنا أستاذ محنك. ثم صحت مقاطعا: أشحاذ أنت أم خطيب؟! متى كان المتسول يلقي خطاب عرش؟! ومتى صارت الفصاحة من آلات الشحاذة؟! مضى يا رجل عصر الهمذاني والحريري، فلله أنت من فارس بيان! تفضل ادخل.
فدخل وهو يشخر وينخر، وبعدما مسح جبينه عرض علي رأسا كأنه بطيخة صفراء فيها عينان تبصان لم يطفئ البؤس لمعانهما، وقال: تنظر البشر إلى الفقير الضعيف نظرة هزء واحتقار، ويدوسون على جسمه ليصعدوا إلى عرش الغنى والرفعة، قرعت أبوابهم فكان رد الجواب: الله يعطيك، وعلى الله، دعاء جميل، ولكنه لم يشتر لي رغيفا أسد به ما في بطني من فراغ، ولا كساء عتيقا ألف به أعضاء لم يبق منها إلا ما يدل عليها دلالة غامضة ... وها هي ريح الشمال تهمهم وتزمجر، تدق الأبواب دقات أعنف من قرعي بابك.
ناپیژندل شوی مخ