أما السياسة الثانية فقد كانت سياسة تقوم على القمع، وتتطلب مصادرة المحصولات من الفلاحين بأثمان منخفضة، كما كانت تتطلب استعمال القوة ضد أثرياء الفلاحين الذين كان يطلق عليهم اسم «الكولاك»، وكان لهذه السياسة ميزتها؛ إذ كان في وسع الدول أن تجمع ثروة كبيرة دون أن تدفع ثمنا، وكان من مزايا هذه السياسة أيضا توجيه ضربة قاضية لطبقة من الناس كان زعماء الشيوعيين لا يزالون يعتبرونها «الطبقة المعادية» الوحيدة الباقية التي تعتبر خطرا على المذهب الجديد.
واختار ستالين لنفسه السياسية التي تتفق مع المذهب الماركسي، فكان لا بد من البحث عن أعداء وأكباش فداء، وانتحال أعذار؛ ولذلك فقد نسبت أزمة التموين في عام 1927-1928 - كما حدث في أزمة التموين في عام 1918 - إلى خيانة «الكولاك». إنهم أعداء الشعب الذين يريدون أن تخضع الحكومة السوفييتية لسيطرتهم عن طريق التموين. وكان العلاج هو إثارة حرب الطبقات في القرى، وكان الشعار هو نفسه الذي استعمل في حرب الشيوعية: اعتمدوا على فقراء الفلاحين، اكسبوا المتوسطين من الفلاحين، اعزلوا الكولاك واقضوا عليهم.
ولا شك أنها كانت أعظم سخرية في التاريخ عندما نجح ستالين في تحويل روسيا إلى ما يمكن أن يعتبر في التاريخ دولة من أعظم الدول الرأسمالية في جميع العصور؛ فقد كان من بين تعاليم كارل ماركس أن «عملية الجمع البدائية لرأس المال» وهي ألزم ما يكون لخلق المجتمع الصناعي ... لا يمكن أن تتم في ظل النظام الرأسمالي إلا باستغلال العامل الذي لا بد له أن يثور يوما ضد تزايد فقره، وبهذا يضع حجر الأساس للاشتراكية العالمية.
ولكن في ظل رأسمالية الدولة تابع الاتحاد السوفييتي سياسة «عملية الجمع البدائية لرأس المال»، وذلك بواسطة حكام أقوياء يستقل كل منهم برأيه، وكان الهدف الوحيد للشيوعية، كما لا يزال يعترف به زعماؤها، هو التوصل إلى اقتصاد يؤدي إلى تحويل راحة الفرد إلى نوع من وفرة الإنتاج لا يمكن أن يحلم به أحد، وإذا كان ستالين قد استمر في اعتناق هذه الفلسفة فلأنه كان مدفوعا بأطماعه في سبيل التفوق على الغرب؛ سواء من الوجهة الحربية أم الصناعية، وقد كان مدفوعا أيضا بإدراكه أن الأولوية للصناعات الثقيلة ومركزية التخطيط اللذين تعتمد عليهما هي أسهل طريق إن لم يكن الطريق الوحيد لكي يحتفظ الحزب الشيوعي باحتكار السلطة السياسية، وأن توزيع ثمار نجاح الشيوعية قبل الأوان سوف يؤدي إلى إضعاف هذه السلطة.
وباسم الشعب حرم الكرملين الشعب من كل شيء!
وكأن جوزيف ستالين يوم موته كان على موعد مع التاريخ وتم اللقاء في الموعد المحدد بالضبط؛ إذ قبيل موته بالضبط، وعلى وجه التحديد في شهر مارس من عام 1953 بدا أنه هو نفسه منشغل بحل بعض المشاكل المتضاربة التي خلقها بنفسه.
فقد كانت وصيته الأخيرة كما جاءت في كتابه «المشاكل الاقتصادية للاشتراكية في الاتحاد السوفييتي»؛ إذ قال في ذلك الكتاب: إن حل مشاكل السوفييت في ظل الشيوعية ليس سهلا، وقال: إن حل هذه المشاكل لا يتلخص في زيادة الاستثمار ولا في زيادة الاستهلاك، ولا في الضغط على الفلاحين، ولا في استجلاب رضاهم.
ولم يوضح بالضبط ما كان ينصح به لاستبقاء الحزب في الحكم.
وبقي على نيكيتا خروشيشيف خليفته في خطابه المشهور الذي ألقاه في شهر فبراير من عام 1956 واستنكر فيه حكم ستالين المطلق؛ نقول: بقي على خروشيشيف أن يوضح الحل الذي كان يقترحه ستالين، وهو مذبحة أخرى كبيرة ليحتفظ الحكم بسيطرته واحتكاره.
ولكن لم تحدث المذبحة وقد لا تحدث مطلقا، كما أن زعماء الكرملين لا يميلون إلى تنصيب ستالين جديد، ولما خلا مكان ستالين لم يكن هناك شخص يمكن أن يخلفه كحاكم مطلق له نفس سلطته، حاكم يمكنه أن يتخلص من أي معارض يبرز له، وهنا بدأت تنحل وحدة الدكتاتورية السوفييتية.
ناپیژندل شوی مخ