Springs of the Pulpit: A Collection of Sermons and Articles - Volume 1
ينابيع المنبر مجموعة خطب ومقالات المجموعة الأولى
ژانرونه
ينابيع المنبر مجموعة خطب ومقالات المجموعة الأولى
كتبها
د. صغير بن محمد الصغير
عضو هيئة التدريس بجامعة الملك سعود
1 / 1
ينابيع المنبر مجموعة خطب ومقالات المجموعة الأولى
كتبها
د. صغير بن محمد الصغير
عضو هيئة التدريس بجامعة الملك سعود
الطبعة الأولى ١٤٤٠ هـ / ٢٠١٩ م
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مقدمة إنَّ الْحَمْدَ لِلهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِىَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلاّ اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ (١). ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ (٢). ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (٧٠) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ (٣). أَمَّا بَعْدُ: _________ (١) [آل عمران: ١٠٢، ١٠٣]. (٢) [النساء: ١]. (٣) [الأحزاب: ٧٠، ٧١].
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مقدمة إنَّ الْحَمْدَ لِلهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِىَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلاّ اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ (١). ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ (٢). ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (٧٠) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ (٣). أَمَّا بَعْدُ: _________ (١) [آل عمران: ١٠٢، ١٠٣]. (٢) [النساء: ١]. (٣) [الأحزاب: ٧٠، ٧١].
1 / 2
فَإِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﵌، وَشَرَّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ، وَكُلَّ ضَلالَةٍ فِى النَّارِ.
أخي القاريء الكريم: بين يديك حصيلةُ سنوات من الخطب والمقالات في مواضيع شتَّى ..، حرصت على جمعها وتوثيقها، وتخريج الآيات والأحاديث فيها ..
وُضِعَت في كتاب واحد ليسهل على الخطيب أو الداعية أو المعلم أو الكاتب، الإفادة منها.
نسأل الله تعالى الإخلاص والبركة والتوفيق.
كما أنني أشكر كل مَنْ تفضلَّ عليَّ بعد الله تعالى، سواءً أمدني بمعلومة، أو اقترح موضوعًا، أو استفدت من خُطَبه وكتاباته، وأخص الأخوة القائمين على موقع الألوكة على حرصهم على الخطب ونشرهم لها .. كما أشكر أ. الشربيني بن فايق على صفه وترتيب الكتاب ..
والله أسأل أن يغفر لنا جميعًا ولوالدينا، ويبارك في نياتنا وأزواجنا وذرياتنا، وفيما نقول ونعمل .. إنه سميع مجيب.
كتبه
صغير بن محمد الصغير
salsoger@googlemail.com
1 / 3
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
أولًا: الخطب
من دعوات إبراهيم ﵇ ووصيته لابنيه (١)
إنَّ الحمد لله ..
أَيُّهَا الأخوة: حديث اليوم عن طَرَفٍ من دعواتِ ووصية أُمّةٍ من الرجال، خاشعٍ مطيعٍ حنيف، موحدٍ إمامِ هداية بل هو إمامُ الحنفاء ووالدُ الأنبياء خليلُ الرحمن إبراهيمُ ﵇، ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٢٠) شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٢١) وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (١٢٢) ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ (١).
آتاه الله في الدنيا حسنة، وأنعم عليه بنعم ظاهرة وباطنة، فقام بشكرها، فكان نتيجة هذه الخصال الفاضلة أن ﴿اجْتَبَاهُ﴾ ربه واختصه بخلته وجعله من صفوة خلقه، وخيار عباده المقربين.
_________
(١) [النحل: ١٢٠ - ١٢٣].
1 / 4
﴿وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ في علمه وعمله فعلم بالحق وآثره على غيره.
﴿وَآَتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا﴾ رزقًا واسعًا، وذرية صالحين، وأخلاقًا مرضيةً، ﴿وَإِنَّهُ فِي الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾ الذين لهم المنازل العالية والقرب العظيم من الله تعالى. ومن أعظم فضائله ﵇ أن الله أوحى لسيد الخلق وأكملهم أن يتبع ملة إبراهيم، ويقتدي به هو وأمته.
فماذا كانت دعوات ووصية هذا النبي الإمام ﵇ لبنيه؟
جاءَ عند البخاريِّ: عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «أَوَّلَ مَا اتَّخَذَ النِّسَاءُ المِنْطَقَ مِنْ قِبَلِ أُمِّ إِسْمَاعِيلَ، اتَّخَذَتْ مِنْطَقًا لِتُعَفِّيَ أَثَرَهَا عَلَى سَارَةَ، ثُمَّ جَاءَ بِهَا إِبْرَاهِيمُ وَبِابْنِهَا إِسْمَاعِيلَ وَهِيَ تُرْضِعُهُ، حَتَّى وَضَعَهُمَا عِنْدَ البَيْتِ عِنْدَ دَوْحَةٍ، فَوْقَ زَمْزَمَ فِي أَعْلَى المَسْجِدِ، وَلَيْسَ بِمَكَّةَ يَوْمَئِذٍ أَحَدٌ، وَلَيْسَ بِهَا مَاءٌ، فَوَضَعَهُمَا هُنَالِكَ، وَوَضَعَ عِنْدَهُمَا جِرَابًا فِيهِ تَمْرٌ، وَسِقَاءً فِيهِ مَاءٌ، ثُمَّ قَفَّى إِبْرَاهِيمُ مُنْطَلِقًا، فَتَبِعَتْهُ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ فَقَالَتْ: يَا إِبْرَاهِيمُ، أَيْنَ تَذْهَبُ وَتَتْرُكُنَا بِهَذَا الوَادِي، الَّذِي لَيْسَ فِيهِ إِنْسٌ وَلا شَيْءٌ؟ فَقَالَتْ لَهُ ذَلِكَ مِرَارًا، وَجَعَلَ لا يَلْتَفِتُ إِلَيْهَا، فَقَالَتْ لَهُ: آللَّهُ الَّذِي أَمَرَكَ بِهَذَا؟ قَالَ نَعَمْ، قَالَتْ: إِذَنْ لا يُضَيِّعُنَا، ثُمَّ رَجَعَتْ، فَانْطَلَقَ إِبْرَاهِيمُ حَتَّى إِذَا كَانَ عِنْدَ الثَّنِيَّةِ حَيْثُ لا يَرَوْنَهُ، اسْتَقْبَلَ بِوَجْهِهِ البَيْتَ، ثُمَّ دَعَا بِهَؤُلاءِ الكَلِمَاتِ، وَرَفَعَ يَدَيْهِ فَقَالَ: رَبِّ ﴿رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ
1 / 5
يَشْكُرُونَ﴾ (١)
" وَجَعَلَتْ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ تُرْضِعُ إِسْمَاعِيلَ وَتَشْرَبُ مِنْ ذَلِكَ المَاءِ، حَتَّى إِذَا نَفِدَ مَا فِي السِّقَاءِ عَطِشَتْ وَعَطِشَ ابْنُهَا، وَجَعَلَتْ تَنْظُرُ إِلَيْهِ يَتَلَوَّى، أَوْ قَالَ يَتَلَبَّطُ، فَانْطَلَقَتْ كَرَاهِيَةَ أَنْ تَنْظُرَ إِلَيْهِ، فَوَجَدَتِ الصَّفَا أَقْرَبَ جَبَلٍ فِي الأَرْضِ يَلِيهَا، فَقَامَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ اسْتَقْبَلَتِ الوَادِيَ تَنْظُرُ هَلْ تَرَى أَحَدًا فَلَمْ تَرَ أَحَدًا، فَهَبَطَتْ مِنَ الصَّفَا حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ الوَادِيَ رَفَعَتْ طَرَفَ دِرْعِهَا، ثُمَّ سَعَتْ سَعْيَ الإِنْسَانِ المَجْهُودِ حَتَّى جَاوَزَتِ الوَادِيَ، ثُمَّ أَتَتِ المَرْوَةَ فَقَامَتْ عَلَيْهَا وَنَظَرَتْ هَلْ تَرَى أَحَدًا فَلَمْ تَرَ أَحَدًا، فَفَعَلَتْ ذَلِكَ سَبْعَ مَرَّاتٍ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «فَذَلِكَ سَعْيُ النَّاسِ بَيْنَهُمَا» فَلَمَّا أَشْرَفَتْ عَلَى المَرْوَةِ سَمِعَتْ صَوْتًا، فَقَالَتْ صَهٍ - تُرِيدُ نَفْسَهَا -، ثُمَّ تَسَمَّعَتْ، فَسَمِعَتْ أَيْضًا، فَقَالَتْ: قَدْ أَسْمَعْتَ إِنْ كَانَ عِنْدَكَ غِوَاثٌ، فَإِذَا هِيَ بِالْمَلَكِ عِنْدَ مَوْضِعِ زَمْزَمَ، فَبَحَثَ بِعَقِبِهِ، أَوْ قَالَ بِجَنَاحِهِ، حَتَّى ظَهَرَ المَاءُ، فَجَعَلَتْ تُحَوِّضُهُ وَتَقُولُ بِيَدِهَا هَكَذَا، وَجَعَلَتْ تَغْرِفُ مِنَ المَاءِ فِي سِقَائِهَا وَهُوَ يَفُورُ بَعْدَ مَا تَغْرِفُ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «يَرْحَمُ اللَّهُ أُمَّ إِسْمَاعِيلَ، لَوْ تَرَكَتْ زَمْزَمَ - أَوْ قَالَ: لَوْ لَمْ تَغْرِفْ مِنَ المَاءِ -، لَكَانَتْ زَمْزَمُ عَيْنًا مَعِينًا».
قَالَ: فَشَرِبَتْ وَأَرْضَعَتْ وَلَدَهَا، فَقَالَ لَهَا المَلَكُ: لا تَخَافُوا الضَّيْعَةَ، فَإِنَّ هَا هُنَا بَيْتَ اللَّهِ، يَبْنِي هَذَا الغُلامُ وَأَبُوهُ، وَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَهْلَهُ، وَكَانَ البَيْتُ مُرْتَفِعًا مِنَ الأَرْضِ كَالرَّابِيَةِ، تَأْتِيهِ السُّيُولُ، فَتَأْخُذُ عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ، فَكَانَتْ كَذَلِكَ حَتَّى مَرَّتْ بِهِمْ
_________
(١) [إبراهيم: ٣٧] ..
1 / 6
رُفْقَةٌ مِنْ جُرْهُمَ، أَوْ أَهْلُ بَيْتٍ مِنْ جُرْهُمَ، مُقْبِلِينَ مِنْ طَرِيقِ كَدَاءٍ، فَنَزَلُوا فِي أَسْفَلِ مَكَّةَ فَرَأَوْا طَائِرًا عَائِفًا، فَقَالُوا: إِنَّ هَذَا الطَّائِرَ لَيَدُورُ عَلَى مَاءٍ، لَعَهْدُنَا بِهَذَا الوَادِي وَمَا فِيهِ مَاءٌ، فَأَرْسَلُوا جَرِيًّا أَوْ جَرِيَّيْنِ فَإِذَا هُمْ بِالْمَاءِ، فَرَجَعُوا فَأَخْبَرُوهُمْ بِالْمَاءِ فَأَقْبَلُوا، قَالَ: وَأُمُّ إِسْمَاعِيلَ عِنْدَ المَاءِ، فَقَالُوا: أَتَأْذَنِينَ لَنَا أَنْ نَنْزِلَ عِنْدَكِ؟ فَقَالَتْ: نَعَمْ، وَلَكِنْ لا حَقَّ لَكُمْ فِي المَاءِ، قَالُوا: نَعَمْ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «فَأَلْفَى ذَلِكَ أُمَّ إِسْمَاعِيلَ وَهِيَ تُحِبُّ الإِنْسَ» فَنَزَلُوا وَأَرْسَلُوا إِلَى أَهْلِيهِمْ فَنَزَلُوا مَعَهُمْ، حَتَّى إِذَا كَانَ بِهَا أَهْلُ أَبْيَاتٍ مِنْهُمْ، وَشَبَّ الغُلامُ وَتَعَلَّمَ العَرَبِيَّةَ مِنْهُمْ، وَأَنْفَسَهُمْ وَأَعْجَبَهُمْ حِينَ شَبَّ، فَلَمَّا أَدْرَكَ زَوَّجُوهُ امْرَأَةً مِنْهُمْ، وَمَاتَتْ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ، فَجَاءَ إِبْرَاهِيمُ بَعْدَمَا تَزَوَّجَ إِسْمَاعِيلُ يُطَالِعُ تَرِكَتَهُ، فَلَمْ يَجِدْ إِسْمَاعِيلَ، فَسَأَلَ امْرَأَتَهُ عَنْهُ فَقَالَتْ: خَرَجَ يَبْتَغِي لَنَا، ثُمَّ سَأَلَهَا عَنْ عَيْشِهِمْ وَهَيْئَتِهِمْ، فَقَالَتْ نَحْنُ بِشَرٍّ، نَحْنُ فِي ضِيقٍ وَشِدَّةٍ، فَشَكَتْ إِلَيْهِ، قَالَ: فَإِذَا جَاءَ زَوْجُكِ فَاقْرَئِي ﵇، وَقُولِي لَهُ يُغَيِّرْ عَتَبَةَ بَابِهِ، فَلَمَّا جَاءَ إِسْمَاعِيلُ كَأَنَّهُ آنَسَ شَيْئًا، فَقَالَ: هَلْ جَاءَكُمْ مِنْ أَحَدٍ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، جَاءَنَا شَيْخٌ كَذَا وَكَذَا، فَسَأَلَنَا عَنْكَ فَأَخْبَرْتُهُ، وَسَأَلَنِي كَيْفَ عَيْشُنَا، فَأَخْبَرْتُهُ أَنَّا فِي جَهْدٍ وَشِدَّةٍ، قَالَ: فَهَلْ أَوْصَاكِ بِشَيْءٍ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، أَمَرَنِي أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْكَ السَّلامَ، وَيَقُولُ غَيِّرْ عَتَبَةَ بَابِكَ، قَالَ: ذَاكِ أَبِي، وَقَدْ أَمَرَنِي أَنْ أُفَارِقَكِ، الحَقِي بِأَهْلِكِ، فَطَلَّقَهَا، وَتَزَوَّجَ مِنْهُمْ أُخْرَى، فَلَبِثَ عَنْهُمْ إِبْرَاهِيمُ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ أَتَاهُمْ بَعْدُ فَلَمْ يَجِدْهُ، فَدَخَلَ عَلَى امْرَأَتِهِ فَسَأَلَهَا عَنْهُ، فَقَالَتْ: خَرَجَ يَبْتَغِي لَنَا، قَالَ: كَيْفَ أَنْتُمْ؟ وَسَأَلَهَا عَنْ عَيْشِهِمْ وَهَيْئَتِهِمْ، فَقَالَتْ: نَحْنُ بِخَيْرٍ وَسَعَةٍ، وَأَثْنَتْ عَلَى اللَّهِ، فَقَالَ: مَا طَعَامُكُمْ؟
قَالَتِ اللَّحْمُ، قَالَ فَمَا شَرَابُكُمْ؟ قَالَتِ المَاءُ. قَالَ: اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمْ فِي اللَّحْمِ وَالمَاءِ.
1 / 7
قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ يَوْمَئِذٍ حَبٌّ، وَلَوْ كَانَ لَهُمْ دَعَا لَهُمْ فِيهِ».
قَالَ: فَهُمَا لا يَخْلُو عَلَيْهِمَا أَحَدٌ بِغَيْرِ مَكَّةَ إِلَّا لَمْ يُوَافِقَاهُ، قَالَ: فَإِذَا جَاءَ زَوْجُكِ فَاقْرَئِي ﵇، وَمُرِيهِ يُثْبِتُ عَتَبَةَ بَابِهِ، فَلَمَّا جَاءَ إِسْمَاعِيلُ قَالَ: هَلْ أَتَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، أَتَانَا شَيْخٌ حَسَنُ الهَيْئَةِ، وَأَثْنَتْ عَلَيْهِ، فَسَأَلَنِي عَنْكَ فَأَخْبَرْتُهُ، فَسَأَلَنِي كَيْفَ عَيْشُنَا فَأَخْبَرْتُهُ أَنَّا بِخَيْرٍ، قَالَ: فَأَوْصَاكِ بِشَيْءٍ، قَالَتْ: نَعَمْ، هُوَ يَقْرَأُ عَلَيْكَ السَّلامَ، وَيَأْمُرُكَ أَنْ تُثْبِتَ عَتَبَةَ بَابِكَ، قَالَ: ذَاكِ أَبِي وَأَنْتِ العَتَبَةُ، أَمَرَنِي أَنْ أُمْسِكَكِ، ثُمَّ لَبِثَ عَنْهُمْ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ جَاءَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَإِسْمَاعِيلُ يَبْرِي نَبْلًا لَهُ تَحْتَ دَوْحَةٍ قَرِيبًا مِنْ زَمْزَمَ، فَلَمَّا رَأَىهُ قَامَ إِلَيْهِ، فَصَنَعَا كَمَا يَصْنَعُ الوَالِدُ بِالوَلَدِ وَالوَلَدُ بِالوَالِدِ، ثُمَّ قَالَ يَا إِسْمَاعِيلُ، إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي بِأَمْرٍ، قَالَ: فَاصْنَعْ مَا أَمَرَكَ رَبُّكَ، قَالَ: وَتُعِينُنِي؟ قَالَ: وَأُعِينُكَ، قَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أَبْنِيَ هَا هُنَا بَيْتًا، وَأَشَارَ إِلَى أَكَمَةٍ مُرْتَفِعَةٍ عَلَى مَا حَوْلَهَا، قَالَ: فَعِنْدَ ذَلِكَ رَفَعَا القَوَاعِدَ مِنَ البَيْتِ، فَجَعَلَ إِسْمَاعِيلُ يَأْتِي بِالحِجَارَةِ وَإِبْرَاهِيمُ يَبْنِي، حَتَّى إِذَا ارْتَفَعَ البِنَاءُ، جَاءَ بِهَذَا الحَجَرِ فَوَضَعَهُ لَهُ فَقَامَ عَلَيْهِ، وَهُوَ يَبْنِي وَإِسْمَاعِيلُ يُنَاوِلُهُ
الحِجَارَةَ، وَهُمَا يَقُولانِ: ﴿رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ العَلِيمُ﴾ (١)، قَالَ: فَجَعَلا يَبْنِيَانِ حَتَّى يَدُورَا حَوْلَ البَيْتِ وَهُمَا يَقُولانِ: ﴿رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ العَلِيمُ﴾ (٢) (٣).
_________
(١) [البقرة: ١٢٧].
(٢) [البقرة: ١٢٧].
(٣) صحيح البخاري (٣٣٦٤).
1 / 8
ربَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، وتب علينا إنّك أنت التواب الرحيم، أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، فاستغفره إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه.
وأشهد أن لا إله إلا الله تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله يا عباد الله ..
أَيُّهَا الأخوة: ثم يقول تعالى إخبارًا عن تمامِ دعوةِ إبراهيم ﵇ لأهلِ الحَرَمْ: ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ (١).
﴿رَسُولًا مِنْهُمْ﴾ أي من ذرية إبراهيم. وقد وافقت هذه الدعوةُ المستجابةُ قدَرَ الله السابقَ في تعيينِ محمدٍ صلواتُ الله وسلامه عليه رسولًا في الأميين إليهم، إلى سائر الأعجمين، من الإنس والجن (٢)، وفي مسند الإمام أحمد عَنْ أَبَي أُمَامَةَ
_________
(١) [البقرة: ١٢٩].
(٢) تفسير ابن كثير (١/ ٤٤٣).
1 / 9
﵁ قَالَ: قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللهِ، مَا كَانَ أَوَّلُ بَدْءِ أَمْرِكَ؟ قَالَ: «دَعْوَةُ أَبِي إِبْرَاهِيمَ وَبُشْرَى عِيسَى، وَرَأَتْ أُمِّي أَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْهَا نُورٌ أَضَاءَتْ مِنْهُ قُصُورُ الشَّامِ» (١).
أَيُّهَا الأخوة: ومن يرغب ﴿عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ﴾ بعد ما عرف من فضله.
﴿إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ﴾ أي: جهلها وامتهنه، ورضي لها بالدون، وباعها بصفقة المغبون، قال الله تعالى: ﴿وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا﴾ أي: اخترناه ووفقناه للأعمال، التي صار بها من المصطفين الأخيار.
﴿وَإِنَّهُ فِي الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾ الذين لهم أعلى الدرجات.
﴿إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ فامتثل لطاعة ربِّه إخلاصًا وتوحيدًا، ومحبة، وإنابة فكان التوحيد لله نعتَه (٢).
﴿وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ﴾ قال بعض المفسرين: "يعني بكلمة الإخلاص لا إله إلا الله"، قال أبو عبيدة: "إن شئتَ رددتَ الكنايةَ إلى الملة، لأنّه ذكرَ ملةَ إبراهيم، وإن شئتَ رددتهَا إلى الوصية: أي وصى إبراهيمُ بنيه الثمانية".
﴿يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى﴾ اختار، ﴿لَكُمُ الدِّينَ﴾ دين الإسلام، ﴿فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ مؤمنون، وقيل: مخلصون، وقيل: مفوضون (٣).
_________
(١) إسناده حسن لشواهده؛ حسنه الألباني في "الصحيحة" (٤/ ٦٢)، أخرجه أحمد (٣٦/ ٥٩٥)، وغيره.
(٢) تفسير السعدي (٤٥٢، ٤٥٣).
(٣) مختصر من تفسير البغوي: نسخة الكترونية: http://quran.ksu.edu.sa/tafseer/baghawy/sura ٢ - aya ١٣٢.html#baghawy
1 / 10
قال البغوي: "والنهي في ظاهرِ الكلام وقعَ على الموت، وإنما نُهوا في الحقيقةِ عن ترك الإسلام، داوِمُوا على الإسلام حتى لا يصادِفَكُم الموتُ إلا وأنتم مسلمون، وعن الفضيل بن عياض أنه قال: ﴿إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ أي محسنون بربكم الظن" (١).
لا إله إلا الله .. كلمةُ التوحيد لها فضائلُ عظيمة لا يمكن ها هنا استقصاؤها؛ فهي كلمةُ التقوى، وهي كلمةُ الإخلاص، وشهادةُ الحق، ودعوةُ الحق، وبراءةٌ من الشرك، ونجاةُ هذا الأمر، ولأجلها خُلق الخلق.
ولأجلها أرسلتِ الرسلُ وأنزلت الكتبُ، ومن قالها ومات عليها كان من أهلِ دارِ الثواب، ومن ردَّها كان من أهلِ العقاب.
ومن أجلها أُمرتِ الرسلُ بالجهاد، فمن قالها عُصِم مالُه ودمه، ومن أباها فماله ودمه (هَدَرٌ) وهي مفتاح دعوة الرسل، وبها كلَّم الله موسى كفاحًا، وهي مفتاحُ الجنة وثمنُها، وهي توجبُ المغفرة، وهي تجدِّدُ ما دُرِسَ من الإيمان في القلب، وهي التي لا يعدِلهُا شيء في الوزن، فلو وزنت بالسماوات والأرض رجحت بهن، بكُلِّ ذلكَ وردت أحاديثُ وآثار (٢).
وشروطُ «لا إله إلا الله» سبعةٌ وهي: العلمُ بمعناها نفيًا وإثباتًا المنافي للجهل،
_________
(١) تفسير البغوي (١/ ١٥٤).
(٢) مختصر من مجموع رسائل ابن رجب (٣/ ٧٤).
1 / 11
واليقيُن المنافي للشك والريب، والإخلاصُ المنافي للشرك والرياء. والصدقُ المنافي للكذب، والمحبةُ المنافية للبغض والكره، والانقيادُ المنافي للترك، والقبولُ المنافي للرد (١).
فلنحرص - أَيُّهَا الأخوة - على لا إله إلا الله قولًا وعملًا ولنرَّبِ عليها أنفُسَنا ومن نعول .. هذا شيءٌ من دعوات ووصية إبراهيم الخليل ﵇ فسبحان من جعلها كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ، جعلنا الله وإياكم من الموحدين المؤمنين المتقين.
* * *
_________
(١) انظر في شرحها مقال للدكتور عبد المحسن البدر: https://al-badr.net/muqolat/2575
1 / 12
دعوات إبراهيم ﵇ ووصيتِه لبنيه (٢)
ويليها عن فضل عشر ذي الحجة
إنَّ الحمد لله ..
أَيُّهَا الأخوة: كان الحديثُ في الجمعة الماضية عن طَرَفٍ من دعواتِ ووصية إمامِ الحنفاء ووالدِ الأنبياء خليلِ الرحمن إبراهيمَ ﷺ ..
فعندما ودَّعَ أمَتَه وابنَه دَعَا بِهَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ التي لا تقتصر عليهما فحسب، بل عمَّتِ المكانَ الطاهرَ والذريةَ الطيبةَ والمؤمنين جميعًا، وبَقِيَتْ بركاتُ إجابةِ اللهِ تعالى لهُ ما بَقِيَتْ الدنيا فسبحانَ من ألهمَه جوامع الدعاء.
قَالَ: ﴿رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ (٣٥) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ (١).
فهنا رَبطَ بين الأمن وتوحيدِ الله تعالى فهما متلازمان .. وهذه سُنَّة كونية وشرعيَّة. قال الله تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ﴾ (٢) - يعني بشرك (٣) - ﴿أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ (٤).
_________
(١) [إبراهيم: ٣٥، ٣٦].
(٢) [الأنعام: ٨٢].
(٣) ورد تفسير ذلك بحديث ابن مسعود ﵁: قالَ: «لَمَّا نَزَلَتْ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ شَقَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَقَالُوا أَيُّنَا لَا يَظْلِمُ نَفْسَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لَيْسَ هُوَ كَمَا تَظُنُّونَ إِنَّمَا هُوَ كَمَا قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ». متفق عليه، صحيح البخاري (١/ ١٥ - ٣٢)، ومسلم واللفظ له (١/ ١١٤ - ١٢٤).
(٤) [الأنعام: ٨٢].
1 / 13
قال ابن كثير: أي: "هؤلاء الذين أخلصوا العبادة لله وحده لا شريك له، ولم يشركوا به شيئًا هم الآمنون يوم القيامة، المهتدون في الدنيا والآخرة" (١).
ولقد أكدَّ الخليل ﷺ هذه القضية المصيرية في سورة الشعراء، فقال مخاطبًا أباه وقومَه: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ (٦٩) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (٧٠) قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ (٧١) قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (٧٢) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (٧٣) قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (٧٤) قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (٧٥) أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (٧٦) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ﴾ (٢).
وهنا تأتي عقيدة الولاء والبراء: ﴿الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ﴾ (٣)، نعم هو المنفرد سبحانه بنعمة الخلق، ونعمة الهداية للمصالح الدينية والدنيوية، (٤)، ﴿وَالَّذِي
_________
(١) تفسير ابن كثير (ص ٥٧٢).
(٢) [الشعراء: ٦٩ - ٧٧].
(٣) [الشعراء: ٧٨].
(٤) تفسير السعدي (ص ٥٩٣).
1 / 14
هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (٧٩) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (٨٠) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (٨١) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ﴾ (١).
فيجب أن يُفْرَد اللهُ بالعبادة والطاعة والخوف والرجاء، ويُتَعَلَّقَ به وحده سبحانه، وتُتْرَكَ هذه الأصنامُ وغيرُها من المخلوقاتِ المعظمّة، التي لا تخلق، ولا تهْدي، ولا تمُرض، ولا تَشفي، ولا تُطعم ولا تَسقي، ولا تُميت، ولا تُحيي، ولا تَنفعُ عابدِيها، بكشفِ الكروب، ولا مغفرةِ الذنوب (٢).
فإذا رُمْتَ أيها المُبارك أمنًا في الرزق وأمنًا في النفس والمال والولد والبلد وراحة وطمأنينةً فعليك بـ"لا إله إلا الله" قولًا وعملًا.
وفي دعواتِ الخليل ﷺ وقصته مع أمَتَهِ وابنه يتجلّى التوكلُ على الله ﷿، في الصحيح: قالت هاجر ﵍: «يَا إِبْرَاهِيمُ، أَيْنَ تَذْهَبُ وَتَتْرُكُنَا بِهَذَا الْوَادِي الَّذِي لَيْسَ فِيهِ إِنْسٌ وَلَا شَيْءٌ، فَقَالَتْ لَهُ ذَلِكَ مِرَارًا وَجَعَلَ لَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهَا، فَقَالَتْ لَهُ: آللَّهُ الَّذِي أَمَرَكَ بِهَذَا قَالَ: نَعَمْ قَالَتْ إِذَنْ لَا يُضَيِّعُنَا، ثُمَّ رَجَعَتْ، فَانْطَلَقَ إِبْرَاهِيمُ حَتَّى إِذَا كَانَ عِنْدَ الثَّنِيَّةِ حَيْثُ لَا يَرَوْنَهُ اسْتَقْبَلَ بِوَجْهِهِ الْبَيْتَ، ثُمَّ دَعَا بِهَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ وَرَفَعَ يَدَيْهِ ..» وقال: ﴿رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ﴾ (٣) (٤)، وفي قوله: ﴿فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ﴾ (٥) آية عجيبة!
_________
(١) [الشعراء: ٧٩ - ٨٢].
(٢) تفسير السعدي (ص ٥٩٣).
(٣) [إبراهيم: ٣٧].
(٤) صحيح البخاري (٤/ ١٤٢ - ٣٣٦٤).
(٥) [إبراهيم: ٣٧].
1 / 15
كيف لمكةَ هذا البلدِ الصحراوي الحار أن يستقبل تلك الوفود كلَّ عام بعد دعوة هذا النبي الكريم دهورًا طويلة!؟ ﴿فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ﴾ (١).
ذكر ابن كثير عند قوله تعالى: ﴿وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ﴾ (٢)، أي: ناد في الناس داعيًا لهم إلى الحج إلى هذا البيت الذي أمرناك ببنائه، فذُكِرَ أنه قال: يا ربِّ، وكيف أبُلِّغ الناسَ وصوتي لا يُنفذِهم؟ فقيل: نادِ وعلينا البلاغ.
"فقام على مقامه، وقيل: على الحجر، وقيل: على الصفا، وقيل: على أبي قبيس، وقال: يا أيها الناس، إنّ ربكم قد اتخذ بيتًا فحُجوه، فيقال: إنَّ الجبال تواضَعتْ حتى بلَغَ الصوتُ أرجاءَ الأرض، وأسَمع من في الأرحامِ والأصلاب، وأجابَه كُلُّ شيءٍ سَمِعه من حجرٍ ومَدَرٍ وشجرٍ، ومن كتبَ الله أنه يحُجُ إلى يوم القيامة: "لبيك اللهم لبيك ". هذا مضمون ما روي عن ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، وسعيد بن جبير، وغير واحد من السلف" والله أعلم (٣).
ثم قال: "وهذه الآية كقوله تعالى إخبارًا عن إبراهيمَ ﷺ، حيث قال في دعائه: ﴿فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم﴾ فليس أحدٌ من أهل الإسلام إلا
_________
(١) [إبراهيم: ٣٧].
(٢) [الحج: ٢٧].
(٣) تفسير ابن كثير (ص ١٠٦٣).
1 / 16
وهو يحِّنُّ إلى رؤية الكعبة والطواف، فالناسُ يقصدونها من سائر الجهات والأقطار (١).
ثمَّ قال الخليل ﷺ داعيًا: ﴿رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ﴾ (٢)، وفي هذه الجملة تعليم لأهله ﵇ وأتباعه بعموم علم الله تعالى حتى يراقبوه في جميع الأحوال، ويخلصوا النية إليه (٣).
لقد أوتي إبراهيمُ ﷺ بفضل الله تعالى ثم دعواته الحكمة، ومن أوتي الحكمة فقد أوتي خيرًا كثيرًا، فكان من دعواته ﷺ: ﴿رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (٨٣) وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِي﴾ (٤)، فاستجاب الله دعاءه، فوهب له من العلم والحكم، ما كان به من أفضل المرسلين، وألحقه بإخوانه المرسلين، وجعله محبوبًا مقبولًا معظمًا مثنًى عليه، في جميع الملل، في كل الأوقات (٥).
فلله ما أجملَ الدعوات حينما يجملّها صاحبُها بتوحيدٍ وإخلاصٍ وتوكلٍ ويقينٍ وتذللٍ بين يدي الخالق، وولاءٍ وصدق وما أعظمَ أثرَها! ! ولا يُغْفِلُ عنها الحمدَ ولا الثناءَ على الله المُنْعم المُتَفضّل .. فالصالحون مجابوا الدعوة لا تفتُرُ ألسنَتُهم ولا قلوبُهم عن الشكر والحمد والثناء، قال الخليل ﷺ: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي
_________
(١) المرجع السابق.
(٢) [إبراهيم: ٣٨].
(٣) تفسير ابن عاشور "مرجع إلكتروني".
(٤) [الشعراء: ٨٣، ٨٤].
(٥) تفسير السعدي (ص ٥٩٣).
1 / 17
عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ﴾ (١)، ثم دعا ﷺ لنفسه ولذريته، فقال: ﴿رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ﴾ (٢)، ومن هنا يجب أن يعِيَ المسلم أهمية الصلاة إذ هي صلة العبدِ بربه كيف لا؟ ! وهي الركن الثاني من أركان الإسلام، ثم لنتأمل رَبْطَ الخليلِ ﷺ ذريتَه بها والإلحاح على الله بقبول الدعاء، وكأنَّه في هذه الآية يُشيرُ إلى أنّ المحافظ على الصلاة بإذن الحي القيوم مجابَ الدعوة، بل والمحافظة على الصلاة من أسباب حفظ الذرية كذلك.
ومع الدعاء للذريّة فلا يجوز أن ننسَى حقَّ الوالدين، ولذا قال الخليل ﷺ في دعائه: ﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ﴾ (٣)، فاستجاب الله له في ذلك كلِّه إلا أن دعاءَه ﷺ لأبيه إنما كان عن موعدةٍ وعده إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه (٤)، ومنها قوله في سورة الشعراء: ﴿وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ﴾ (٥)، وقيل المراد بوالديه: أراد آدم وحواء، وقد روي أنَّ العبدَ إذا قال: اللهم اغفر لي ولوالدي، وكان أبواه قد ماتا كافرين انصرفت المغفرة إلى آدم وحواء لأنهما والدا الخلق أجمع (٦)، وهذا بعيد لما سبق.
_________
(١) [إبراهيم: ٣٩].
(٢) [إبراهيم: ٤٠].
(٣) [إبراهيم: ٤١].
(٤) تفسير السعدي (ص ٤٢٧).
(٥) [الشعراء: ٨٦].
(٦) تفسير القرطبي "نسخة الكترونية".
1 / 18
ومدارُ تلك الأدعية النبوية من الخليل ﷺ كي ينالَ فوزَه وذريتَه وأتباعَه يوم الدين، ولذا قال ﷺ داعيًا وفي نفس الوقت معلمًا: ﴿وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (٨٥) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ (٨٦) وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (٨٧) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (٨٨) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ (١)، ثمَّ تتكررُ القضية المهمّة وهي قضية التوحيد قضية لا إله إلا الله فالقلب السليمُ معناه: الذي سَلِمَ من الشركِ والشكِّ، ومحبةِ الشر والإصرارِ على البدعة والذنوبِ، ويلزمُ من سلامته مما ذُكِرَ اتصافُه بأضدادِها من الإخلاصِ والعلمِ واليقينِ ومحبة الخيرِ وتزيينِه في قلبِه، وأن تكون إرادتُه ومحبتُه تابعةً لمحبةِ الله وهواه تابعًا لما جاءَ عن الله تعالى (٢).
ربَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ وتب علينا إنّك أنت التواب الرحيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله.
الخطبة الثانية:
الحمد لله ...
أَيُّهَا الأخوة: يتفضل الكريمُ علينا بين الفينةِ والأخرى بسحائبَ من رحمته وأوقات فاضلة، ومن هذه السحب والمزن الكريمة أيامُ عشرِ ذي الحجة إذ فضّل العملَ فيها على العملِ في غيرها، واختصها بأمهات الأعمال والعبادات، والله يخلق ما يشاء ويختار.
_________
(١) [الشعراء: ٨٥ - ٨٩].
(٢) تفسير السعدي (ص ٥٩٣).
1 / 19
وفضّل الذكر فيها والإكثار منه بالذات، فقال سبحانه: ﴿وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ﴾ (١).
قال ابن عباس: «أيَّام العشر؛ يعني: عَشر ذي الحجَّة، مع يوم عرَفَة والعيد» (٢).
وعن ابن عبَّاسٍ قال: قال رسولُ الله ﷺ: «ما من أيَّامٍ أعظمُ عند الله ولا أحبُّ إليه العملُ فيهنَّ من أيام العشر؛ فأكثروا فيهنَّ التَّسبيح والتَّكبير» (٣).
ومن الذكر المستحب في هذه العشر التكبير: «وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ وَأَبُو هُرَيْرَةَ ﵄ يَخْرُجَانِ إِلَى السُّوقِ فِي أَيَّامِ الْعَشْرِ يُكَبِّرَانِ، وَيُكَبِّرُ النَّاسُ بِتَكْبِيرِهِمَا» (٤).
كان سعيد بن جبير إذا دخلت أيام العشر اجتهد اجتهادًا شديدًا، حتى ما يكاد يقدر عليه (٥).
وكان مجاهد ومحمد بن سيرين -رحمهما الله- يصومان العشر، عشر ذي الحجة كلها (٦).
_________
(١) [الحج: ٢٨].
(٢) تفسير ابن كثير (ص ١٠٦٣).
(٣) أخرجه الطبراني وهو حديث حسن وله شواهد. انظر تفصيل ذلك في "إرواء الغليل" (٣/ ٣٩٨).
(٤) صحيح البخاري تعليقًا (٢/ ٢٠).
(٥) حسن؛ حسنه الألباني في "إرواء الغليل" (٣/ ٣٩٨)، أخرجه الدارمي (٢/ ٢٦).
(٦) مصنف ابن أبي شيبة (٢/ ٣٠٠).
1 / 20